عودة كاميرون

بعد انتخابه رئيسًا لوزراء بريطانيا.. الزعيم المحافظ يواجه معركتي الحكم بأغلبية بسيطة.. وأوروبا

عودة كاميرون
TT

عودة كاميرون

عودة كاميرون

تعود الأنظار إلى رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون ليس فقط لأنه أعيد انتخابه رئيسًا لوزراء المملكة المتحدة بعد انتخابات 7 مايو (أيار) الأخيرة بنتائج فاجأت الأحزاب السياسية بقدر ما فاجأت الإعلام، إلا لأنه ينوي خوض معركة داخل الاتحاد الأوروبي من شأنه أن يحدد مستقبل الاتحاد نفسه

«إنه أحلى انتصار».. بهذه الكلمات وصف رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون فوزه التاريخي في انتخابات 7 مايو الحالي ليتولى رئاسة الحكومة لولاية ثانية. الفوز يعتبر تاريخيًا ليس لأنه جاء كاسحًا، بل لأن من النادر جدا أن يستطيع رئيس وزراء بريطاني زيادة عدد مقاعد حزبه في البرلمان بعد ولاية أولى في الحكومة. وهذه الزيادة، جعلت كاميرون يقود حكومة أغلبية بعد أن قاد ائتلافا حكوميا بين عامي 2010 و2015. وفعلها كاميرون بعدما عجز غيره، ما عدا قدوته السياسية رئيسة الوزراء الراحلة مارغريت ثاتشر. وبينما يشبه كثيرون كاميرون بثاتشر من حيت الاتجاه الذي يتخذه حزب المحافظين الحاكم، فإن البعض يشبه وضعه الحالي بكونه أقرب إلى جون ميجور، رئيس الوزراء الذي خلف ثاتشر.
ويشرح البروفسور ريتشارد ويتمان، وهو بروفسور علوم سياسية في جامعة «كينت» أن «وضع كاميرون أقرب إلى ميجور من ثاتشر.. فلديه أغلبية 330 مقعدًا فقط، مما يعني أن بإمكان عدد قليل من النواب أن يزعجوا حكومته مثلما حدث مع ميجور».
ويحتاج رئيس الحزب الحاكم إلى 326 مقعدًا على الأقل في مجلس العموم لتشكيل الحكومة، مما يعني أن كاميرون بات مطالبًا اليوم بإرضاء جميع النواب. ويذكر أن حكومة ميجور عام 1992 كان لديها أغلبية ضئيلة في البرلمان مما جعل ميجور حينها ضعيفا أمام حزبه ورهينة للنواب المستقلين، إذ كانت له أغلبية 10 مقاعد برلمانية فقط. ولكاميرون اليوم أغلبية 4 مقاعد فقط.
من رأى فوز كاميرون ونتائج الانتخابات تعلن ليل 7 - 8 مايو قد لا يصدق أنه نفس الرجل الذي خسر مقعد حزبه عام 1997 عندما ترشح للمرة الأولى للبرلمان واكتسح حزب «العمال» حينها مجلس العموم. وقصته السياسية، المرتبطة بحياته الشخصية وخلفيته العائلة، تعكس عودة حزب «المحافظين» للواجهة بعد سنوات من الاضطرابات الداخلية بعد إخراج ثاتشر من الحكم. ويشرح الباحث في معهد «ديموس» الفكري في بريطانيا لوي رينولدز لـ«الشرق الأوسط»: «كاميرون السياسي المحنك استطاع أن يخطف فوزا للمحافظين، لكنه يواجه صراعات داخل حزب المحافظين حول مستقبل البلاد وحول مستقبل أوروبا». ولكن رينولدز لفت إلى أن قدرة كاميرون على بناء التحالفات داخل الحزب، معتمدًا على صداقات قديمة والموازنة بين المعتدلين والمتشددين في قضايا جوهرية مثل مصير المملكة المتحدة في الاتحاد الأوروبي، تجعله قادرًا على خوض هذه المرحلة.
يعكس كاميرون التنوع داخل حزب «المحافظين» اليوم، فهو يريد أن يظهر بأنه رجل عائلة حريص على القيم الأسرية، وهو من عائلة عريقة في البلاد، لديها روابط مع الطبقة الحاكمة وهو الموقع التقليدي لحزب المحافظين البريطاني. ولكن في نفس الوقت، يحاول كاميرون الظهور على أنه رجل قريب من عامة الشعب، ومن ضمن هذه المساعي يتحدث كاميرون عن عشقه لموسيقى «الإيندي» بدلا من الكلاسيكية. إلا أن فشله خلال حملة الانتخابات في الحديث بحماس عن كرة القدم وتحديد فريقه المفضل للعبة الوطنية البريطانية أظهرت ابتعاده بعض الشيء عن الرجل «العادي» في البلاد. ومثل غيره من الساسة في الأنظمة الديمقراطية الليبرالية في الغرب، واجه كاميرون انتقادات من الصحافة على مدار رئاسته للحكومة لأسباب مختلفة، ولكن ربما أبرزها اعتباره من فئة اجتماعية عليا لا تشعر بما يعانيه الشعب.
وبينما يمثل حزب المحافظين مصالح الطبقة العليا في بريطانيا، كانت ثاتشر المنحدرة من عائلة بسيطة تمثل تغييرا في خلفيات رؤساء الأحزاب. إلا أن كاميرون أعاد الحزب إلى اقترابه من الطبقية، إذ إن الكثيرين يعتبرونه وُلد و«معلقة من فضة» بفمه. فهناك 3 نواب برلمانيون من حزب المحافظين سبقوا كاميرون إلى مجلس العموم، كما أن شجرة العائلة لديها قرابة، ولو بعيدة، من العائلة المالكة. أما زوجته سامانثا، فهي ابنة السير ريجينالد شيفيلد، وهو مالك أراض يحمل رتبة وراثية ذات ثقل بين الطبقة الأرستقراطية البريطانية، إذ إنه من سلالة الملك تشارلز الثاني.
وبعد أربعين عاما من اختيار حزب المحافظين زعماء من خلفيات بسيطة، خرج كاميرون ليتولى زعامة الحزب.
ولد ديفيد ويليام دانكون كاميرون يوم 9 أكتوبر (تشرين الأول) 1966 في لندن ووالده إيان كاميرون الذي كان يعمل في البورصة في شركة «بانموير» الذي عمل فيها جد كاميرون ووالد جده أيضا. وبينما ترعرع في سنواته الأولى في لندن، انتقل مع عائلته للريف الإنجليزي، حيث عاش حياة عائلية هادئة.
وهو أول رئيس لحزب المحافظين يدرس في مدرسة «إيتون» العريقة منذ زعيم الحزب السير إليك داغلوس هيوم في الستينات من القرن الماضي. أكمل كاميرون دراسته الجامعية في جامعة أوكسفورد العريقة، حيث درس «الفلسفة والسياسة والاقتصاد» وهو من أهم الاختصاصات في العلوم الإنسانية في المملكة المتحدة. وهذه من النقاط التي يثيرها معارضوه التي تجعله «من الطبقة المخملية»، وبعيدًا عن الاحتياجات الواقعية للشعب البريطاني. وخلال فترة دراسته الجامعية، كان كاميرون عضوا في «نادي بولينغدون»، وهو ناد معروف بـ«طيش» أعضائه من الطلاب. وبعد أن نشرت صورة له ولعمدة لندن بوريس جونسون وهما في وضع غير لائق وظاهر عليهما أنهما ثمالى، رفض كاميرون الحديث عن شبابه وسحبت الصورة من النشر تحت قانون الخصوصية، إذ كانت الصورة خاصة وحقوق النشر غير متوفرة للصحافة.
ومن أكثر المقولات المعروفة عن كاميرون تعود لأستاذه في جامعة «أكسفورد» فيرنون بوغدانور الذي وصف كاميرون بأنه «من بين أكثر الطلبة قدرة» في الجامعة التي تستقطب أذكى الطلاب من حول العالم، وقد تخرج كاميرون بدرجة امتياز في الجامعة. كما أن بوغدانور شخص آراء طالبه كاميرون السياسية بأنها «معتدلة ومحافظة بعقلانية». ولقد التزم ديفيد كاميرون بآراء «معتدلة» ولكن الراسخة في مبادئ «المحافظين»، مما جعله قادرا على إعادة إحياء الحزب بعد سنوات من المشكلات الداخلية وتقلبات في القيادة خلال منتصف التسعينات من القرن الماضي وبداية القرن الحالي، حينما كان رئيس الوزراء العمالي توني بلير قادرًا على استقطاب الناخبين وتقوية قاعدته الحزبية.
بعد تخرجه من الجامعة، دخل كاميرون المخاض السياسي وكان من فريق المساعدين لجون ميجور خلال ترأسه للحكومة، حيث التقى بوزير الخزانة الحالي جورج أوسبورن. ومنذ ذلك الوقت، نمت صداقة «سياسية» استمرت لليوم. واكتسب كاميرون معرفة بالسياسة المالية عندما عمل مستشارا سياسيا لوزير الخزانة في حكومة ميجور، نورمان لامونت. ولكن سرعان ما قرر كاميرون أنه يريد أن يكون نائبا برلمانيا نفسه، متأكدا من أن مصيره أن يعمل في مجال السياسة. لكنه قرر أن يحصل على الخبرة المهمة في القطاع الخاص، ضمن جهوده للتقارب من أقطاب القطاع الخاص لاحقا، فانضم إلى شركة «كارلتون» الإعلانية المرتبطة بقناة «إي تي في» التلفزيونية الخاصة. ويقول رجل أعمال بريطاني نافذ، وهو عضو في «مجلس الأعمال» البريطاني الذي يقدم استشارات لكاميرون إن «هذه الخبرة كانت مهمة، جعلت كاميرون يفهم، جزئيا على الأقل، متطلبات القطاع العام». وعمل كاميرون سبع سنوات في «كارلتون»، يترأس العلاقات العامة للشركة آنذاك مايكل غرين ورافقه بزيارات حول العالم وسعت من أفقه وتطلعاته. وقال غرين في مقابلة مع صحيفة «ذا إندبندنت»: «حاولت إقناعه بأنه قد يتمتع بمستقبل جيد جدا في هذا القطاع، ولكنه (كاميرون) كان مصرا على العودة إلى السياسة».
وفي عام 1997، تمنى كاميرون لو استمع لنصيحة مديره غرين. لأنه خاض الانتخابات عام 1997 سعيا لكسب مقعد «ستافورد» البرلماني، ليخسر أمام خصمه العمالي. إلا أن تلك الخسارة زادت كاميرون عزما، وبنى علاقات داخل الحزب وانتقل إلى أكسفورد حيث خاض الانتخابات لمقعد «ويتني» عام 2001 ليفوز به وبعد 14 عاما ما زال يمثل المقاطعة.
عندما تلتقي كاميرون، يحرص كأي سياسي ماهر في الزمن المعاصر، على أن يبدي اهتمامه بك وخلفيتك. ويحرص على الاجتماع بشكل غير رسمي مع الفئات المؤثرة، إذا كان رجال الأعمال أو ممثلي الأقليات من الآسيويين والمسلمين. وكان خطابه أمام «منتدى الاقتصاد العالمي» في دافوس عام 2011، في أول خطاب له أمام نخبة السياسة والاقتصاد العالمية، حرص كاميرون على الحديث دون منصة أو خطاب معد مسبقا. وهو كثيرا ما يحاول أن يقلد أسلوب الساسة الأميركيين، لكنه ليس بمفرده، إذ بات ذلك شبه تقليدي في الساحة السياسية البريطانية.
ويشرح البروفسور ويتمان أن كاميرون اليوم بحاجة إلى «العمل على برنامج حكومي يبقي حزبه متحدا، ولن يكون الأمر سهلا، خاصة فيما يخص أوروبا». وبعد أن جعل كاميرون موضوع عضوية الاتحاد الأوروبي، والمطالبة بإعادة التفاوض مع الأوروبيين أمرًا جوهريًا خلال الانتخابات، عليه خوض عملية التفاوض و«تقديم نتيجة تبقي حزبه متحدا»، بحسب ويتمان. واليوم أمام كاميرون تحد لأنه في الأخير يريد إبقاء المملكة المتحدة ضمن الاتحاد الأوروبي ولكن بناء على أسس جديدة يتم التفاوض عليها، ومن ثم طرح الأمر للناخب البريطاني في استفتاء أعلن كاميرون أنه سيكون عام 2017 «أو أقرب». وطرح الأمر للاستفتاء مغامرة من كاميرون، ضمن أسلوبه المختلف بعض الشيء عن أسلافه.
وفي إشارة دالة على استعداد كاميرون للقيادة بطريقته الخاصة، اتخذ خطوة نادرة في إفصاحه خلال مقابلة تلفزيونية مع هيئة الإذاعة والتلفزيون «بي بي سي» في أبريل (نيسان) الماضي، وخلال الحملة الانتخابية، عن قراره عدم الترشح مجددا لرئاسة الحكومة بعد هذه الانتخابات. وبذلك، جعل كاميرون الكثير من الناخبين المتأرجحين يصوتون لصالحه بهدف منحه «إنهاء العمل الذي بدأه»، مما أوصله إلى حكومة أغلبية بعد أن كانت جميع التوقعات تدل على بروز «برلمان معلق». ولكن النتيجة الأخرى من تصريح كاميرون حول عدم الترشح هي فتح المجال إلى جيل جديد من القيادات للحزب من موقع قوة، بدلا من موقع خسارة، مثلما يشهده حزب العمال والحزب الليبرالي الديمقراطي بعد هزائم الانتخابات الأخيرة. فيرغب كاميرون في ترك قيادة الحزب دون أن يعني ذلك خسارة الحزب قيادة البلاد. وفي حال نجح في هذا الانتقال، المرتقب بعد خمس سنوات من الآن، سيذكر التاريخ كاميرون بأنه سياسي بارع بخض النظر من تقييمه كرئيس وزراء دولة تمر بتقلبات اقتصادية واجتماعية جسيمة.

> عمره 49 عاما، ولد 9 أكتوبر (تشرين الأول) 1966.
> لديه شقيق وشقيقتان.
> تزوج من سامانثا شيفيلد 1 يونيو (حزيران) 1996 ورزقا بأربعة أطفال، لكن ابنهما الأكبر إيفان الذي ولد عام 2002 توفى عام 2009 بعد صراع طويل مع المرض.
> أصبح نائبا في البرلمان البريطاني عام 2001.
> تولى رئاسة حزب المحافظين عام 2005.
> تولى رئاسة الحكومة عام 2010 – كان عمره 43 عاما حينها ليصبح أصغر رئيس وزراء سنا منذ اللورد ليفربول الذي أصبح رئيسا للوزراء عام 1812.
> فاز حزبه مجددا بانتخابات 7 مايو (أيار) 2015 ليعلن الفوز رسميا 8 مايو ويشكل الحكومة البريطانية.
> عمل 7 سنوات في شركة «كارلتون» للإعلانات قبل دخول الحكومة.
> تقدر ثروة كاميرون بنحو 4 ملايين جنيه إسترليني بحسب صحيفة «ذا تلغراف» البريطانية.
> لدى كاميرون 1.06 مليون متابع على موقع «تويتر».



موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
TT

موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)

لم تُخفِ موسكو ارتياحها للهزيمة القاسية التي مُنيت بها الإدارة الديمقراطية في الولايات المتحدة. إذ في عهد الرئيس جو بايدن تدهورت العلاقات بين البلدين إلى أسوأ مستوياتها منذ تفكّك الاتحاد السوفياتي السابق، وجرى تقويض كل قنوات الاتصال السياسية والدبلوماسية والأمنية. وحتى «الخط الساخن» الذي طالما عوّل عليه البلدان لمواجهة الظروف الطارئة وتجنّب الانزلاق إلى احتكاكات مقصودة أو غير مقصودة، جرى تجميده كلياً. كانت تلك، وفقاً لمسؤولين روس، أسوأ أربع سنوات في العلاقات، ولقد تحوّلت فيها الولايات المتحدة إلى خصم مباشر، و«شريك رئيس في الحرب الهجينة ضد روسيا». ولم ينعكس التدهور فقط في ملفات أوكرانيا والأمن الاستراتيجي والوضع في أوروبا - وهي القضايا المركزية التي تشغل بال الكرملين - بل أيضاً امتد في تأثيره بعيداً عن الجغرافيا الحيوية لروسيا... ليصل إلى الملفات الإقليمية الساخنة في الشرق الأوسط التي شهدت تصعيداً متواصلاً فاقم تأجيج الأزمة في العلاقات.

بمجرد اتضاح نتائج الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة، بدأ محللون روس في وضع «سيناريوهات» للتقارب مع الإدارة الجمهورية الجديدة في واشنطن. ولطالما كان ينظر في موسكو للرئيس المنتخب دونالد ترمب على أنه «قادر على إعادة تشغيل العلاقات مع موسكو»، والتوصل إلى تسويات أو «صفقات» حول القضايا الأكثر خلافية.

بيد أن الكرملين كان قد خاض تجربة مريرة مع ولاية ترمب الأولى، عندما بدا الرئيس - المتهم بالتعاون سرّاً مع روسيا - عاجزاً عن مواجهة تركة باراك أوباما الثقيلة في العلاقة مع موسكو. لذلك لم ينجح التفاؤل الروسي في حينه، ولا الخطوات المحدودة التي انتهجها ترمب في تحسين العلاقات جدياً، ووضع «سيناريوهات» للتعاون في ملفات دولية أو إقليمية. بل بالعكس من ذلك، فقد واجهت روسيا في ولاية ترمب السابقة أضخم رُزم عقوبات فرضتها واشنطن. ومن ناحية ثانية، فشل الطرفان أيضاً في تحسين شروط التعاون حيال ملفات إقليمية مهمة، فتدهور الوضع حول إيران بعد انسحاب ترمب من الاتفاقية النووية، وتراجع الأخير عن تنفيذ تعهد الانسحاب من سوريا.

ثلاثة أفخاخ

بناءً عليه، بدت موسكو أكثر حذراً هذه المرة وهي تستقبل أنباء فوز ترمب الساحق. وحقاً، تجنّبت تعليق آمال جدية، بانتظار ما ستقدم عليه الإدارة الجديدة من خطوات عملية فور تسلم الرئيس منصبه رسمياً في يناير (كانون الثاني) المقبل.

لكن هذا لم يمنع التوقّعات المتشائمة، التي غلبت على العلاقة، من البروز بشكل مباشر أو غير مباشر. والحال أن موسكو تبدو حالياً ضعيفة الثقة بقدرة «ترمب الجديد» على تجاوز التغيّرات الكبرى التي شهدتها الأوضاع الإقليمية والدولية خلال السنوات الأخيرة. وفي هذا الإطار، أجمل أليكسي بوشكوف، عضو مجلس الشيوخ الروسي وأحد خبراء السياسة المقربين من الرئيس فلاديمير بوتين، المأزق الذي يواجه ترمب بأنه يشتمل على «ثلاثة أفخاخ صعبة».

الفخ الأول، بطبيعة الحال، هو ملف أوكرانيا: فلقد استثمرت الولايات المتحدة بالفعل الكثير في أوكرانيا لدرجة أنها ما عادت تعرف كيفية الخروج من هذه الأزمة. وهنا لا تتوقف موسكو كثيراً عند الوعود الانتخابية لترمب بإنهاء الحرب في 24 ساعة. ويتساءل بوشكوف: «هل ستتخلى واشنطن عنها مثل أفغانستان؟ لم يعد يمكنها ذلك». أو تكمل ما بدأته الإدارة الديمقراطية؟ عندها... وكما حذّر ترمب بحق، فإن هذا قد يؤدي إلى صراع نووي مع روسيا. تدرك موسكو حجم الصعوبات التي تواجه ترمب في هذا الملف.

أما الفخ الثاني، فهو شرق أوسطي. وهنا - حسب بوشكوف - «لا يمكن لترمب التراجع عن دعم إسرائيل بسبب وجود لوبي قوي جدّاً مؤيد لإسرائيل في الولايات المتحدة. لكنه لا يستطيع دعم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو علناً في كل ما يفعله، لأن هذا يضرّ بمكانة الولايات المتحدة في العالم العربي (...) ولأن المخطط الأميركي لمصالحة إسرائيل مع جيرانها ما زال موضع شك. لقد حاولت الولايات المتحدة إخراج إسرائيل من عزلتها في المنطقة... لكن هذا المدخل لم يعد يعمل. وعلاوة على ذلك: يُصرّ العالم العربي على إقامة الدولة الفلسطينية، وهو ما ترفضه إسرائيل بشكل قاطع. إذن فهذا أيضًاً فخ».

وأما الفخ الثالث فهو تايوان. ووفقاً لبوشكوف: «من الممكن أن تصبح قضية تايوان فخاً كبيراً للولايات المتحدة. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل ستدعم أوروبا الأميركيين إذا دخلت الولايات المتحدة في صراع مع الصين؟ لقد قوّضت أوروبا نفسها اقتصادياً بشدة بالفعل بسبب انفصالها عن روسيا. وإذا فتحت أيضاً معركة مع الصين، التي يبلغ حجم تجارة الاتحاد الأوروبي معها تريليون دولار أميركي، فمن المرجح أن ينهار الاقتصاد الأوروبي ببساطة».

قنابل موقوتة

السياسي الروسي يرى أن «الأفخاخ الثلاثة» تمثل قنابل موقوتة بالنسبة إلى دونالد ترمب... مهما كانت طبيعة التركيبة النهائية لفريقه الرئاسي، أو خطواته الأولى على صعيد السياسة الخارجية.

فضلاً عن ذلك، يرى بوشكوف، أن ترمب الذي تعهد بإيلاء القدر الأكبر من الاهتمام للإصلاح الداخلي، سيواجه صعوبة كبرى في إيجاد توازن بين الانكفاء إلى الداخل من أجل تحسين الأداء الاقتصادي ومواجهة الهجرة و«إعادة أميركا عظيمة» بقدراتها واقتصادها ومستوى المعيشة لشعبها، وبين العمل بسرعة لتنفيذ وعود انتخابية بإنهاء حروب وتقليص التوتر في أزمات خارجية. ويضيف متسائلاً: «كيف يمكن أن تكون أميركا عظيمة مجدّداً... وهي تنكفئ في السياسة الدولية؟».

تبدو موسكو حالياً ضعيفة الثقة بقدرة «ترمب الجديد» على تجاوز

التغيّرات الكبرى التي شهدتها الأوضاع الإقليمية والدولية خلال السنوات الأخيرة

تباين حيال التسوية في الشرق الأوسط

لا يبدو أن موسكو تثق كثيراً بقدرة ترمب على لعب دور نشط لإنهاء الحرب على غزة ولبنان، ودفع الإسرائيليين إلى التوصّل لحلول سياسية تعيد الهدوء - ولو نسبياً - إلى الشرق الأوسط.

وهنا، يذكر خبراء أن المدخل الأميركي السابق قام على أساس تعزيز اتفاقات تطبيع وفرض سلام من نوع خاص، لا يؤدي إلى تسوية سياسية حقيقية تنهي العنف في المنطقة وتنزع ذرائعه.

وترمب نفسه أعرب خلال فترة ولايته الرئاسية الأولى عن نيته التوسط في حل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، لكنه أظهر لاحقاً التقارب مع إسرائيل من أجل كسب دعم المانحين الرئيسيين والناخبين الرئيسيين، وخاصة الصهاينة المسيحيين الإيفانجيليين.

بحسب خبراء، هذا الموقف يتوافق مع النهج القائل: «أميركا تفعل ما تريد، وبالتالي أصدقاء أميركا يفعلون ما يريدون». مع الإشارة هنا إلى أن هذا النهج المائل إلى عقد «صفقات» ينصّ على «امتيازات خاصة للحلفاء كدفعة مقابل الأمن». غير أن موسكو ليست مقتنعة بأن هذا المدخل سيعزّز طريق الحلول النهائية للمنطقة.

ومقابل القناعة الروسية بالعودة إلى الآليات التي توافر عليها نوعٌ من الإجماع الدولي، كإحياء «الرباعية الدولية» وتوسيعها بضم بعض الأطراف الإقليمية المهمة (المملكة العربية السعودية ومصر وجامعة الدول العربية)، وأيضاً العودة إلى مبادئ التسوية القائمة على أساس رفض التوسّع الجغرافي للاحتلال، وإعلاء «مبدأ حل الدولتين» ووضع خرائط طريق جديدة بينها «المبادرة العربية للسلام»، فإن مدخل ترمب يقوم على عقد صفقات سريعة للتهدئة، وترك المناطق أمام «برميل بارود» قابل للانفجار مجدداً في أي وقت.

في هذا الإطار لا يتوقّع خبراء روس أن تكون التسوية في الشرق الأوسط بين أولويات الحوار المنتظر مع الإدارة الأميركية الجديدة، بالنظر إلى أن هذا الموضوع فيه تباعد واسع في وجهات النظر، ولا يدخل ضمن الملفات التي قد يكون بوسع الطرفين التوصل إلى صفقات حولها.

وفي الوقت ذاته، ترى موسكو - وفقاً لتحركات محدَّدة برزت في سوريا، ومن خلال حوارات مكثفة أجريت غالباً خلف أبواب مغلقة مع الجانب الإسرائيلي - أن بوسعها لعب دور أساسي في تأكيد دورها بضمان أمن إسرائيل من جهة سوريا وإيران مستقبلاً. وهو ما يعني أن هذا الموضوع قد يكون جزئياً على طاولة حوار روسي - أميركي في وقت لاحق.

تأهب للحوار حول سوريا

في هذه الأثناء، لدى الأوساط الروسية نظرة إيجابية، ولكن حذرة، بشأن احتمالات سحب ترمب القوات الأميركية من سوريا إبان ولاية ترمب الجديدة.

موسكو تتذكر الإرادة الأميركية في الانسحاب من سوريا إبان ولاية ترمب السابقة، لكن يومذاك كان التهديد الإرهابي ما زال نشطاً، والخطوط الفاصلة ومناطق النفوذ لم تكن قد تبلورت بشكل شبه نهائي. لذا يرى خبراء روس أن ترمب عندما يتكلّم عن سحب القوات حالياً فهو ينطلق من واقع ميداني وسياسي جديد. وبالتالي، سيكون حذراً للغاية عند مناقشة هذه المشكلة مجدداً.

أيضاً، ونظراً لوعود ترمب الانتخابية المتكررة، يُرجح أن ترغب واشنطن في سحب قواتها من سوريا، لكن لا يبدو لموسكو أن هذه القضية ستكون مُدرجة على جدول الأعمال ضمن أولويات التحرك الأميركي حالياً.

لقد قوبلت خطط ترمب لسحب القوات في السابق بمقاومة مفتوحة، خاصة من «القيادة الوسطى» الأميركية وشخصيات، مثل بريت ماكغورك، الذي عمل مبعوثاً خاصاً لمكافحة «داعش» حتى أواخر عام 2018، واستقال قبل شهرين من انتهاء فترة ولايته، مباشرة بعد قرار إدارة ترمب سحب القوات من سوريا في 19 ديسمبر (كانون الأول) 2018. بعدها عيّن جو بايدن، الرئيس الأميركي المنتخب، عام 2020، ماكغورك منسقاً لمجلس الأمن القومي الأميركي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، واكتسبت سياسة واشنطن في سوريا لدعم حزب العمال الكردستاني «وحدات حماية الشعب» زخماً.

حالياً يعود الملف إلى دائرة النقاش، ولقد برز بشكل واضح خلال اجتماعات «جولة آستانة للحوار» التي انعقدت أخيراً. وأكد المبعوث الرئاسي الروسي ألكسندر لافرنتييف إلى سوريا في ختام الاجتماعات أن موسكو منفتحة على الحوار مع الإدارة الأميركية الجديدة فور تشكيلها، لبحث الملفات المتعلقة بسوريا. وقال الدبلوماسي الروسي: «إذا كانت هناك مقترحات، فإن الجانب الروسي منفتح، ونحن على استعداد لمواصلة الاتصالات مع الأميركيين».

وفي هذا المجال، تنطلق موسكو من قناعة بأنه لا يمكن التوصل إلى بعض الحلول الوسط إلا من خلال المفاوضات المباشرة. وهي هنا مستعدة للاستماع إلى وجهات النظر الأخرى، وربما تقديم بعض الضمانات التي تحتاج إليها واشنطن لتسريع عملية الانسحاب ودعم التسوية في سوريا برعاية روسية تضمن مصالح الأخيرة.