بينما تستمر الحرب بين روسيا وأوكرانيا على خلفية صراع بين الشرق الأوروبي وغربه مدعوماً بحلفاء للجانبين، توالي السينما الأوكرانية تقديم أفلام مختلفة المواضيع وإن كان عدد كبير منها يصب في الأحداث التي أدّت إلى حرب 2014 بين الطرفين.
لا يعني ذلك أن كل الأفلام الأوكرانية التي خرجت ما بين مطلع 2021 وحتى اليوم كانت حول الحرب والوضع السياسي. بعضها، يتحدّث عن مسائل أخرى لا علاقة لها بالحرب كحال فيلم «ستوب - زمليا» (Stop - Zemlia) للمخرجة كاترينا غورنوستاي ذات الخلفية التسجيلية عادة التي تستخدمها هنا لكي توفر نظرة على عالم الفتيات والشبّان الذين ما زالوا يتلقون دروسهم في الكليات وكلهم نشوة لاكتشاف الذات والمستقبل.
تنتقل وجهة النظر هنا من شخص لآخر في الوقت الذي تبقى شخصية المسؤولية ماشا (ماريا فيدورشنكو) هي المحور الذي نعود إليه كل قليل. هناك يانا (يانا أيزانكو) وسنيا (أرسيناي ماركوف). سنيا شاب جميل المحيا، ناعم السلوك ويواجه شائعة إنه مُثلي بسبب ذلك، لكنه ليس مثلياً ولو أن التهمة تؤدي به إلى شيء من البحث عن الهوية.
في تقديم المخرجة للفيلم عندما عُرض في العام الماضي في قسم Generation 14plus في مهرجان برلين (فاز بالجائزة الثالثة في هذا القسم) قالت إن نظرتها ومعالجتها للفيلم هي «أصلية وحسّاسة وراديكالية». لكن بينما لا يفي الفيلم بكثير من الأصالة في أسلوب عمله ومعالجة المخرجة لموضوعها لا يمكن القول كذلك إن الفيلم «جذري» مطلقاً. هو فيلم مستساغ ينتمي إلى ذلك النوع الخفيف من أفلام الشباب البريء الذي يريدك التودد والإعجاب بمعظم شخصياته. ربما هذا ما قاد الفيلم للفوز بمعظم الجوائز الرئيسية في الحفل السنوي الخاص بالسينما الأوكرانية التي أقيم في كييف مطلع هذا العام.
وفي يناير (كانون الثاني) من هذا العام عرضت المخرجة مارريا غورباخ فيلمها Klondike: دراما حول زوجين متحابّين يعيشان في منزلهما الواقع في أحد الأقاليم التي أعلنت انفصالها عن الحكومة الأوكرانية في عام 2014. في البيت كل شيء آمل والزوجة حبلى والزوج بعيد عن زج نفسه في أي سياسات باستثناء ما يتفوه به من مواقف. لكن المرأة (والفيلم يدور حولها ونظرتها هي لما يدور) هي التي تطالب بالسلام وتخشى أن تصل نار الحرب إليهما. تلك النار تصل فجأة والبيت يُهدم والرجل يُقاد بعيداً عن زوجته.
الجهة التي دمّرت المنزل والمستقبل الآمن معه كانت تلك الثورية - الانفصالية لكن المخرجة تعرض أن التدمير لم يكن مقصوداً. لكنها تطرح أسئلتها عن الحرب على لسان بطلتها ومن خلال ما تعرضه من مظاهر الدمار والفوضى والمستقبل الغامض للمنطقة.
- في المعتقل
فيلم أوكراني آخر من إنتاج 2021 تم عرضه في «صندانس» هذا العام («كوندايك» هو «بيت من الشظايا» لسيمون ولمونت (خارج المسابقة). ليس فيلماً مباشراً عن الحرب لكنه فيلم مباشر عن الوضع. لا مشاهد قتال ولا نسف أو مشاهد لمسلّحين، لكن الوضع يشي بما تمر به منطقة دونباس في ذلك الحين.
دونباس هي المنطقة الشاسعة التي تقع فيها أحداث «انعكاس» (Reflection) لفلنتين فاسيانوفيتش. الذي أخرج فيلم Atlantis سنة 2019 وعرضه في مهرجان فينيسيا آنذاك. وهو عاد إلى المهرجان ذاته عبر فيلمه الجديد واضعاً نصب أعين المشاهدين حكاية حول الطبيب الجرّاح سرهاي (رومان لوتسكي) الذي كان يعيش في دعة في ذلك الوقت العصيب من حرب 2014 إلى أن تطوّع للخدمة مع القوات الوطنية العاملة ضد الروس. ذات ليلة يقود سيارته بالخطأ إلى حاجز روسي في تلك البرية (لا نرى تفاصيلها كون المشهد ليلياً) فيُلقى القبض عليه ويُساق للتحقيق.
من هنا وصاعداً رصد عين خبيرة بما تريد عرضه لمشاهد التعذيب والاستنطاق والقتل وحرق الجثث والمباني الملوّثة بالدماء والغرف القابعة في ظلمة الحياة. المحقق الروسي هادئ الطباع حتى عندما يغرس سكينة في قلب رجل عذّبه رجال المحقق حتى قضوا عليه. يسأل وينتظر الإجابة الصحيحة. لا يعامل الطبيب بخشونة لكن يُعلمه بأنه قد يلقى ذات المصير لأترابه.
في مشهد دال، يترك المحقق الطبيب مع أوكراني معتقل على حافّة الموت. لقد تم تعذيبه حتى الرمق الأخير. ها هو ما زال مُعلّقاً إلى أعلى والدماء تسيل منه. يقوم الطبيب بقطع الحبال التي تربطه ويضعه مستلقياً فوق طاولة. كان الطبيب سمع المحقق وهو يقول لرجاله معاودة تعذيبه في الغد وإن لم يعترف يمكن التخلّص منه. نتابع هنا كيف يقرر الطبيب خنق مواطنه لكي ينقذه من التعذيب المقبل.
في هذا المشهد وفي العديد من المشاهد الأخرى يحرص المخرج فاسيانوڤيتش على كاميرا بعيدة وظيفتها المتابعة. عن حسن إدارة، لا تطرح نفسها شريكاً يلعب دور الراصد، بل تعرف كيف تخلق من خلال تلك المشاهد البعيدة التعبير الصحيح للوضع بأسره.
وكما كان مقرراً، بوشر في نيويورك في الأول من هذا الشهر عرض فيلم سيرغي لوشنيتزا الجديد Babi Yar. يستخدم لوشنيتزا السينما غير الروائية للكشف عن أوجاع التاريخ، خصوصاً تلك التي تتعامل وما تعرّض إليه اليهود. «بابي يار» هو المكان الذي قامت فيه القوّات النازية بإبادة 33 ألف يهودي بمعاونة مؤيدين أوكرانيين وذلك في أواخر شهر سبتمبر (أيلول) سنة 1941. لكن لوشنيتزا لا يكتفي بالعودة إلى ذلك التاريخ البعيد، بل ينتقل منه إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية مظهراً أن الحكومة الأوكرانية في الخمسينات لم تكترث للاحتفاء بالموقع كمزار تاريخي ولا الروس اعترفوا بتحويله إلى مزبلة نفايات صناعية.
«بابي يار» هو واحد من فيلمين حققهما سيرغي لوشنيتزا في العام الماضي. الآخر (لم يُشاهد بعد) عنوانه «مستر لاندزبيرغيز» (Mr. Landsbergis) وثائقي من 4 ساعات حول مرحلة الاستقلال من التبعية السوفياتية (ما بين 1989 و1991) والتاريخ السابق لذلك الاستقلال مع الحرص على ذكر وضع اليهود الإجمالي خلال تلك الحقب.
كل هذه الأفلام صوّرت قبل الحرب المستعرة حالياً، لكن لا ريب أن هناك من يقوم حالياً بتصوير مواقع الحرب في أنحاء شتّى من البلاد. في هذا الإطار تتقدّم السينما التسجيلية على الروائية في توفير الأعمال التي تعكس الواقع والوقائع كون كل شيء جاهزاً على الأرض من مظاهر الدمار والعنف. الأفلام الروائية ستلي حين تنتهي الحرب لتتحدث بدورها عنها.
طبعاً كل ذلك سيكون من وجهة نظر واحدة هي وجهة نظر الأوكرانيين. مما سيكون مثيراً ما قد تأتي به الإنتاجات الروسية من أفلام لتقدّم وجهة نظرها في هذا الموضوع الشائك.