شلل تام يصيب منظومة الحكم في العراق بعد 19 عاماً من سقوط صدام

صراعات داخل البيت الشيعي وخلافات كردية - كردية

العراق يعيش انسداداً سياسياً كاملاً بعد 19 سنة من سقوط نظام صدام حسين (رويترز)
العراق يعيش انسداداً سياسياً كاملاً بعد 19 سنة من سقوط نظام صدام حسين (رويترز)
TT

شلل تام يصيب منظومة الحكم في العراق بعد 19 عاماً من سقوط صدام

العراق يعيش انسداداً سياسياً كاملاً بعد 19 سنة من سقوط نظام صدام حسين (رويترز)
العراق يعيش انسداداً سياسياً كاملاً بعد 19 سنة من سقوط نظام صدام حسين (رويترز)

في ذكرى سقوط بغداد بأيدي الجنود الأميركيين، عام 2003، يبدو العراق غارقاً اليوم في انسداد سياسي تام، في ظل عجز مكوناته السياسية المختلفة على انتخاب رئيس جديد للجمهورية، وكذلك فشلها في الاتفاق على من هو الطرف الذي يشكل الغالبية النيابية التي تسمح له بتحديد الشخصية التي ستوكل لها مهمة تشكيل الحكومة الجديدة خلفاً لحكومة مصطفى الكاظمي الحالية.
كيف تبدو العلاقة بين الأطراف المتصارعة داخل البيت الشيعي؟ ما مصير مهلة الأربعين يوماً التي منحها زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر لخصومه الشيعة في الإطار التنسيقي لتشكيل الحكومة الجديدة؟ ما وضع الخلاف بين الأكراد أنفسهم على منصب رئيس الجمهورية؟ هذه جولة على تطورات المشهد السياسي العراقي في ذكرى سقوط النظام السابق...
لم تنجح منظومة الحكم السياسية في العراق، بعد مرور 19 عاماً على سقوط نظام صدام حسين على أيدي الأميركيين، في الاتفاق على عقد سياسي جديد. قال ذلك صراحة الرئيس العراقي برهم صالح في الذكرى التاسعة عشرة لسقوط بغداد، محذراً من استمرار الأزمة السياسية الحالية التي تمر بها البلاد بعد نحو 6 شهور على إجراء الانتخابات النيابية في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
قال صالح، وهو أحد 40 مرشحاً يتنافسون على منصب رئيس الجمهورية، في بيان بمناسبة ذكرى سقوط نظام صدام: «في يوم سقوط صنم الاستبداد، الحاجة مُلحة لتلبية مطلب العراقيين بحكم رشيد، ومعالجة الخلل البنيوي في منظومة الحكم». وأضاف: «بعد عقدين من التغيير، يمر بلدنا بظرف حساس وسط انسداد سياسي وتأخر استحقاقات دستورية عن مواعيدها المُحددة، وهو أمر غير مقبول بالمرة بعد مضي أكثر من خمسة أشهر على إجراء انتخابات مُبكرة استجابة لحراك شعبي وإجماع وطني لتكون وسيلة للإصلاح وضمان الاستقرار السياسي والاجتماعي وتصحيح المسارات الخاطئة وتحسين أوضاع المواطنين والاستجابة لمطالبهم».
وجدد صالح الدعوة إلى «عقد سياسي واجتماعي ضامن للسلم الأهلي، يقوم على مراجعة موضوعية لأخطاء الماضي». لكن واقع الحال يشير إلى أن لا أحد يريد مراجعة أخطاء الماضي. فبعد شهور على إجراء الانتخابات البرلمانية التي وصفت بأنها مبكرة (أبكر بشهور فقط من موعدها المبدئي)، لا يزال الشلل التام يصيب كل منظومة الحكم في العراق الذي دخل مرحلة الفراغ الدستوري.
وكان زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر، قائد تحالف الأغلبية الوطنية، قد فاجأ خصومه في البيت الشيعي (الإطار التنسيقي)، حين رمى الكرة في ملعبهم بشأن ما إذا كانوا قادرين على تشكيل حكومة أغلبية وطنية بدلاً منه، أم لا. ويعرف الصدر وخصومه، بالطبع، أن المعادلة فيها اختلال كبير. وقوام هذا الاختلال أنه في الوقت الذي يملك فيه الصدر أغلبية «الثلثين المعطلين» فإن «الإطار التنسيقي» الذي يضم القوى الشيعية التي سبق لها أن رفضت نتائج الانتخابات يملك «الثلث المعطل».
وكانت المعادلة السياسية في العراق تقوم على مبدأ التوافقية التي تعني توزيع المناصب بما فيها السيادية والوزارية، وسواها طبقاً لمبدأ المحاصصة. لكن الذي حصل بعد ظهور نتائج الانتخابات الأخيرة، في أكتوبر (تشرين الأول) 2021، هو خروج زعيم التيار الصدري عما كان إجماعاً يحكم البيت الشيعي، حين أصر على تشكيل حكومة أغلبية وطنية ألحقها بشعاره المعروف «لا شرقية ولا غربية». إصرار الصدر على تشكيل حكومة الأغلبية الوطنية يستلزم مشاركة قوى أخرى خارج البيت الشيعي الذي بات منقسماً بين طرفين: الكتلة الصدرية التي تملك 75 مقعداً في البرلمان العراقي مقابل قوى الإطار التنسيقي (تضم تحالف الفتح بزعامة هادي العامري، ائتلاف دولة القانون بزعامة نوري المالكي، عصائب أهل الحق بزعامة قيس الخزعلي، تيار الحكمة بزعامة عمار الحكيم، ائتلاف النصر بزعامة حيدر العبادي، عطاء بزعامة فالح الفياض، السند الوطني بزعامة أحمد الأسدي)، التي تملك كلها نحو 81 مقعداً مع اختلاف كبير في حجومها داخل هذه التركيبة.
- فيتو... لا فيتو
ففي الوقت الذي حصل فيه ائتلاف دولة القانون بزعامة نوري المالكي، رئيس الوزراء الأسبق، على 34 مقعداً وهو ما جعله الثاني في البيت الشيعي بعد الصدر بعد أن كان المالكي يملك 24 مقعداً في انتخابات 2018، فإن تيار الحكمة بزعامة عمار الحكيم الذي كان عدد مقاعده في الانتخابات الماضية 22 مقعداً لم يحصل في الانتخابات المبكرة سوى على مقعدين اثنين. وفي الوقت نفسه، فإن زعيم ائتلاف النصر حيدر العبادي الذي كان يملك أكثر من 12 مقعداً في الانتخابات السابقة، لم يحصد في الانتخابات الأخيرة إلا مقعداً واحداً. والأمر نفسه ينطبق على منظمة بدر التي يتزعمها هادي العامري ضمن تحالف الفتح الذي كان يملك 21 مقعداً، إذ لم يحصل إلا على 7 مقاعد.
فاجأت النتائج تماماً قادة هذه الأحزاب الشيعية العراقية، الأمر الذي جعلهم يرفضونها ويصفونها بأنها مزورة. وبرغم أنهم قدموا عدة طعون إلى المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، ومن ثم إلى المحكمة الاتحادية العليا بشأن ذلك، فإن النتائج جاءت مطابقة للنتائج المعلنة في البداية. كما أن المحكمة الاتحادية أقرت النتائج النهائية للانتخابات، مؤكدة بذلك أن التيار الصدري يتقدم وبفارق كبير عن أقرب منافسيه من الأحزاب والتيارات الشيعية.
وبعد إعلان النتائج، أعلن الصدر، المتصدر، برنامجه لتشكيل حكومة أغلبية وطنية خارج البيت الشيعي الذي أصبح بيتين: بيت يتزعمه مقتدى الصدر ويملك الأغلبية، وبيت بعدة رؤوس لم يعد عملياً يملك الأغلبية. وفي محاولة من الإطار التنسيقي لإجراء مفاوضات مع الصدر لتأمين الكتلة الأكبر وبقائها ضمن البيت الشيعي، فإن المفاوضات التي أجريت بين بغداد والحنانة بمدينة النجف، حيث مقر الصدر، لم تسفر عن نتيجة بسبب الفيتو الذي وضعه الصدر على نوري المالكي زعيم ائتلاف دولة القانون والخصم الرئيسي للصدر منذ ما سمي عملية «صولة الفرسان» التي قادها المالكي عام 2007 حين كان رئيساً للوزراء آنذاك ضد «جيش المهدي» الذي شكله الصدر بعد احتلال أميركا للعراق عام 2003 بهدف مقاومة الأميركيين. استمرت المفاوضات بين الطرفين واستمر فيتو الصدر على المالكي، حتى قام الصدر بنفسه برفع هذا الفيتو عبر اتصال هاتفي مفاجئ بالمالكي. وفي الوقت الذي بدا فيه أن هذا الاتصال الهاتفي مثّل بداية انفراجة داخل البيت الشيعي، فإن المفاجأة سرعان ما انتهت أو استوعبها المالكي حين عرض الصدر على المالكي القبول بابن عمه جعفر الصدر (سفير العراق الحالي لدى المملكة المتحدة) مرشحه لرئاسة الوزراء طالباً من خصومه في البيت الشيعي قبول هذا الترشيح.
- إشكالية الكتلة الأكبر
لا أحد من الشيعة يرفض من حيث المبدأ مرشحاً مثل جعفر محمد باقر الصدر لترؤس الحكومة. فالصدر الابن هو في النهاية نجل أحد أكبر مراجع الشيعة ومفكريهم في القرن العشرين، فضلاً عن كونه المؤسس والمرجع الأول لحزب الدعوة. لكنه في ظل بناء نمط جديد من التحالفات، فإن المشكلة التي واجهت الجميع هي الكتلة الأكثر عدداً التي تملك حق تكليف رئيس وزراء لتشكيل الحكومة. وطبقاً لما تسرب من معلومات حول المكالمة الهاتفية بين الصدر والمالكي، أبلغ الأخير الصدر بأنه لا يوجد اعتراض من حيث المبدأ على شخصية جعفر الصدر، لكن السؤال يتعلق بكيف يمكن تقديمه لرئاسة الوزراء طالما أن الأمر مرهون بالكتلة الأكبر التي تقدمه. وهنا تساءل المالكي: هل يقدم جعفر الصدر من قبل كتلة شيعية أكبر تمثل التيار الصدري والإطار التنسيقي؟ أم يقدم من قبل كتلة الصدر التي تضم تحالف السيادة السنّي بزعامة محمد الحلبوسي والحزب الديمقراطي الكردستاني بقيادة مسعود بارزاني؟ عند هذا الحد، انتهت المكالمة الهاتفية وعادت الأمور بين التيار الصدري والإطار التنسيقي إلى المربع الأول. فالصدر بقي مصراً على أن تقدم كتلته (تحالف إنقاذ وطن) المكلف بتشكيل الحكومة، بينما رأى الإطار التنسيقي أنه في حال تم اللجوء إلى هذا الخيار فإن المكون الشيعي الذي يملك أغلبية السكان والبرلمان سيتحول إلى أقلية للمرة الأولى منذ عام 2003.
- عقدة الرئيس
طوال الدورات البرلمانية الأربع الماضية، لم يكن منصب رئيس الجمهورية عقدة بحد ذاته، إذ إن المناصب السيادية العليا (الرئاسات الثلاث) توزع عرفاً على المكونات (رئاسة الجمهورية للكرد، رئاسة البرلمان للعرب السنة، رئاسة الوزراء للشيعة). وطالما أن الحزبين الكرديين الرئيسيين في إقليم كردستان (الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود بارزاني والاتحاد الوطني الكردستاني برئاسة بافل طالباني) كانا متفقين على تقسيم المناصب بينهما بين بغداد وأربيل، فإنه لم تكن هناك مشكلة في منصب رئيس الجمهورية. حتى عندما حصلت المشكلة المعروفة بين الحزبين عام 2018 ودخلا البرلمان بمرشحين اثنين، فإن الفضاء الوطني داخل البرلمان هو الذي حسم الموقف حين تم انتخاب الرئيس الحالي برهم صالح بأغلبية كبيرة ضد خصمه مرشح الحزب الديمقراطي الكردستاني فؤاد حسين وزير الخارجية الحالي.
وتكررت مشكلة الحزبين الآن، ولكن في ظل ظروف مختلفة قوامها تغيير نمط التحالفات. فالحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود بارزاني انضم إلى التحالف الثلاثي بزعامة مقتدى الصدر. كما انضم إلى هذا التحالف تحالف السيادة السني. وطالما أن منصب رئيس الجمهورية، طبقاً للدستور العراقي، يحتاج أغلبية الثلثين الذي تم تكريسه عبر التفسير الذي قدمته المحكمة الاتحادية العليا التي اشترطت أن تكون أغلبية الثلثين قائمة عبر كلتا الجولتين، فإن منصب رئيس الجمهورية تحوّل إلى العقدة الكبرى الآن بسبب النص الدستوري وتفسير الاتحادية. ففي هذه الحالة، فإن تحالف الصدر الثلاثي لا يملك أغلبية الثلثين اللازمة لانتخاب مرشحه لرئاسة الجمهورية وهو مرشح الحزب الديمقراطي الكردستاني ريبر أحمد. وريبر أحمد جاء ترشيحه من قبل الحزب الديمقراطي بعد إقصاء المرشح السابق وزير الخارجية الأسبق هوشيار زيباري من قبل المحكمة الاتحادية العليا. وقد حصلت إشكاليات تتعلق بفتح باب الترشح لمنصب رئيس الجمهورية بعد نهاية المهلة الدستورية للترشح، ذلك أن الديمقراطي الكردستاني، بعد إقصاء زيباري، كان يواجه خطر الحرمان من الترشح لهذا المنصب، وهو ما يعني فتح الطريق أمام مرشح الاتحاد الوطني الكردستاني الرئيس الحالي برهم صالح لمنصب رئيس الجمهورية. وقد قبلت المحكمة الاتحادية العليا الطعن الذي قدمه أحد نواب البرلمان العراقي بشأن عدم دستورية فتح باب الترشيح لمنصب رئيس الجمهورية للمرة الثانية بعد إقصاء المرشح السابق للحزب الديمقراطي الكردستاني هوشيار زيباري. وبينما بدا موقف الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود بارزاني في غاية الصعوبة نظراً لغموض مصير مرشحه البديل ريبر أحمد البارزاني وزير داخلية إقليم كردستان، فقد اتخذت المحكمة الاتحادية قراراً بدا بمثابة حل وسط مثّل حبل إنقاذ للديمقراطي الكردستاني. فبعد أن اتخذت رئاسة البرلمان قراراً بفتح باب الترشيح لمدة ثلاثة أيام بهدف إتاحة الفرصة للديمقراطي الكردستاني ترشيح بديل لزيباري، فإن المحكمة الاتحادية التي طعنت بهذا القرار منحت في الوقت نفسه البرلمان، بالأغلبية البسيطة وليس نتيجة قرار من رئاسة البرلمان، الحق في إعادة فتح باب الترشيح لمرة واحدة وأخيرة. ونظراً لامتلاك كل من التحالفين («الثلاثي» و«الإطار التنسيقي») ما بات يسمى «الثلث المعطل»، فقد بدا من الصعوبة المضي ببقية الاستحقاقات الدستورية التي تتمثل بانتخاب رئيس جديد للجمهورية ومن ثم تحديد ما هي الكتلة الأكبر التي ستختار مكلفاً بتشكيل الحكومة.
- انغلاق أم انسداد سياسي؟
في هذه الأثناء، زاد المشهد تعقيداً بعد إخفاق البرلمان في انتخاب رئيس جديد للجمهورية وإخفاق الأكراد في الاتفاق على مرشح متفق عليه بينهم. في كل الأزمات السياسية السابقة، كانت الأطراف المتنازعة تخرج من عنق الزجاجة في الوقت بدل الضائع ونتيجة ضغط إقليمي في الغالب من إيران، وكان كل واحد منها يخرج وهو راضٍ بالغنيمة التي حصل عليها وبالحصص الوزارية التي نالها. لكن الأمر اختلف في هذه الانتخابات، حيث وصل المشهد السياسي إلى ما بات يصنف على أنه «انسداد سياسي» كامل.
حاول الزعيم الكردي مسعود بارزاني أن يفتح كوة في جدار الانغلاق السياسي حين أطلق مبادرة تهدف إلى إقناع الصدر برفع الفيتو عن المالكي، قبل اتصال الصدر بالمالكي فيما بعد. كان الهدف من مبادرة بارزاني التي لم يتعامل معها الصدر، برغم أن بارزاني حليفه، محاولة لحلحلة الأزمة بين التيار الصدر والإطار التنسيقي. وطبقاً لما بدا مشهداً جديداً في العملية السياسية في العراق بعد عام 2003، فإن المتغير الرئيسي هو أن الصدر دخل بنفسه وبكل ثقله بهدف تغيير المعادلات السياسية. وطبقاً لما أبلغ به «الشرق الأوسط» سياسي قريب من الكواليس، فإن الصدر ألغى دور «العراب» الذي كان يقوم في الماضي بترتيب الأمور، ومن ثم يتم التوافق بين الجميع بصرف النظر عما إذا كان هذا العرّاب خارجياً أم داخلياً، بحيث بات اليوم هو الذي يتصرف ويفاوض، بدليل مجيئه إلى بغداد أكثر من مرة واتصالاته الهاتفية من الأطراف السياسية المختلفة. ورداً على سؤال بشأن رفع فيتو الصدر عن المالكي، يقول هذا السياسي إن «هناك أموراً كثيرة حصلت خلال الفترة الأخيرة من بينها تراجع العلاقة بين الصدريين والحزب الديمقراطي الكردستاني، التي تكاد تكون وصلت إلى حافة حرجة، لا سيما بعد قرارات المحكمة الاتحادية وعدم اعتراف السيد بارزاني وحكومة الإقليم بقراراتها»، مضيفاً أن «الأمر نفسه انسحب على الموقف من تحالف السيادة، خصوصاً أن الصدر انزعج كثيراً من الصورة التي جمعت زعيمي تحالف السيادة الحلبوسي وخميس الخنجر مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان بحضور مدير مخابراته». ويمضي المصدر السياسي بالقول إنه «بعد هذه الأمور، بالإضافة إلى تصاعد النقمة الشعبية بعد ارتفاع الأسعار وتأخير تشكيل الحكومة نتيجة للفشل في انتخاب رئيس للجمهورية، قرر الصدر قلب المعادلة على الجميع وإعادة بناء التحالفات».
مع ذلك، بقي الانسداد السياسي قائماً، لا سيما مع الفشل المستمر في انتخاب رئيس جديد للجمهورية. وفي هذا السياق، أكد قيادي في «الإطار التنسيقي» لـ«الشرق الأوسط»، أن «مواقف الصدر لم تعد واضحة بالنسبة لهم قدر وضوحها بالنسبة لشركائه في التحالف الثلاثي»، مبيناً أنه «في الوقت الذي يحترم فيه الصدر تعهداته مع الأكراد والسنة إلى الحد الذي وصل فيه الأمر حد إعلان الدفاع عنهم بدعوى تعرضهم إلى تهديدات، فإنه اعتمد سياسة غير واضحة مع من يفترض أنهم الركن الآخر في البيت الشيعي حتى بافتراض وجود مشاكل داخل هذا البيت». وأضاف أن «الشروط التي طرحها الصدر لمفهوم الأغلبية الوطنية بدت موجهة ضد الأطراف الشيعية، وأولهم زعيم دولة القانون نوري المالكي، بينما لم يضع أي شرط لمشاركة الآخرين، لا سيما الأكراد والسنة بشأن ما يتبناه على صعيد حكومة الأغلبية الوطنية».
ويتضح مما يراه هذا القيادي في «الإطار التنسيقي» أن أزمة الثقة لا تزال عميقة بين الطرفين، حتى بعد اتصال الصدر بالمالكي. فالمعلومات التي حصلت عليها «الشرق الأوسط» من أكثر من مصدر تفيد بأن «هناك انزعاجاً من وجود قادة سنّة ضمن اجتماع لبحث الأزمة داخل البيت الشيعي في حين لم يتدخل الشيعة في الحوارات بل والسجالات التي كانت تدور بين القادة السنّة والتي لم تحسم الإ خارج العراق، ومن قبل الرئيس التركي تحديداً». وترى مصادر مطلعة أن «الاجتماع كان منذ البداية غير محدد بمناقشة الأزمة داخل البيت الشيعي، خصوصاً بين التيار الصدري والإطار التنسيقي، إنما كان بهدف مناقشة مفهوم حكومة الأغلبية الوطنية بين التحالف الثلاثي بحضور الصدر وتحالف السيادة بغياب الحزب الديمقراطي الكردستاني الذي لا أحد يعرف لماذا لم تتم دعوة ممثل عنه لحضور هذا الاجتماع».

أحد مؤيدي مقتدى الصدر في مدينة الصدر شرق بغداد (أ.ف.ب)

- الصواريخ على خط الأزمة
> على الرغم من الجهود التي حاول القيام بها قائد «فيلق القدس» بـ«الحرس الثوري» الإيراني، إسماعيل قآني، على صعيد إمكانية حلحلة الأزمة داخل البيت الشيعي، حتى لو أدى ذلك إلى الضغط على حلفاء الصدر من الأكراد والسنة، فمن الواضح أن تلك الجهود باءت بالفشل. وفي هذه الأثناء، دخلت الصواريخ على خط الأزمة من أوسع أبوابها، عندما قصفت إيران ما قالت إنه موقع لـ«الموساد» الإسرائيلي في أربيل. وقد بلغ تبادل الأدوار بين إيران وأذرعها في العراق أوجه مؤخراً. فإيران «الحرس الثوري» أعلنت ضرب أربيل بـ12 صاروخاً باليستياً بدعوى وجود مقر للاستخبارات الإسرائيلية هناك. وبينما أعلنت إيران أنها يمكن أن تواصل قصف مواقع جديدة في إقليم كردستان تنطلق منها هجمات تستهدف إيران، فإن فصيلاً مجهولاً لم يعلن عن نفسه كالعادة أمطر قاعدة بلد الجوية بأربعة صواريخ كاتيوشا، بحجة وجود جنود أميركيين داخل هذه القاعدة التي تضم طائرات «إف 16» حصل عليها العراق من الولايات المتحدة.
لم تغيّر الصواريخ في المعادلة كثيراً، كما أنها لم تجعل الصدر يعيد حساباته. لكن القوى السياسية العراقية أدركت مجتمعة، كما يبدو، أنها وصلت إلى طريق مسدودة بشأن إمكانية التوصل إلى حل لأزمة انتخاب رئيس الجمهورية. ولم يعد أمام الصدر سوى أن يعيد رمي الكرة في مرمى خصومه في البيت الشيعي، حين منحهم فرصة تشكيل الحكومة خلال فترة أربعين يوماً تبدأ من اليوم الأول من شهر رمضان وتنتهي في التاسع من شوال، طالما هم يملكون الثلث بينما هو يملك الثلثين. وبين الثلث والثلثين تبقى الأنظار متجهة الآن نحو ما يمكن أن تقوله المحكمة الاتحادية العليا بعد تجاوز كل المدد الدستورية التي منحتها لانتخاب رئيس الجمهورية.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.