«حرية التفكير»... تهديد شركات التقنية للفكر الحر

«حرية التفكير»... تهديد شركات التقنية للفكر الحر
TT

«حرية التفكير»... تهديد شركات التقنية للفكر الحر

«حرية التفكير»... تهديد شركات التقنية للفكر الحر

في كل مرة تسمع شركات التقنية تدعي الاهتمام بـ«الأخلاقيات» عليك أن تشك في الأمر
كثيراً ما يقال إن من حق الناس أن تكون لهم آراؤهم المستقلة. لكن هل هم كذلك حقاً؟ هل منحك الله حقّاً بأن تعتقد أن التعذيب أمر طيب، أو أن الهبوط على سطح القمر كان خدعة؟ بالقدر الذي تتجاوز فيه الآراء حدود أن تكون مجرد ممتلكات سرية، وإنما تصبح ميولاً لفعلٍ ما في المجتمع، فإنها تقع ضمن الاهتمام الجماعي. لذا فإنك لا تملك حقاً أصيلاً بالاحتفاظ بآرائك السرية.
لسوء الحظ، ذلك أيضاً كان موقف محاكم التفتيش الإسبانية ومطاردي الساحرات، الذين بحثوا عن كل الطرق الممكنة للكشف عن الكُفر المختبئ. لذا نميز هذه الأيام، بصفة عامة، الأفكار (أو المعتقدات) عن التعبير عنها. التعبير قابل للتنظيم، في حالة التحريض على الكراهية، مثلاً، لكن الرأي مقدس. إنها حرية أساسية، لكنها تتعرض في كل مكان للهجوم.

هكذا تبدأ مؤلفة هذا الكتاب المثير للمدافعة عن حقوق الإنسان، سوزي أليغري، الذي يستعرض تاريخاً موجزاً للحريات القانونية منذ قانون حمورابي، ويفسر الصراعات المفاهيمية الكامنة خلف الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي ظهر عام 1948. في ذلك الإعلان دفاع عن حرية «الفكر» و«الرأي»؛ فهمت بعض الوفود أن «الفكر» يعني الاعتقاد الديني، في حين رآه البعض الآخر إضافة لا ضرورة لها إلى «الرأي»، كان السوفيات هم من أصرَّ على بقائها «احتراماً لأبطال العلم وشهدائه».
لكن إذا كان «الرأي» مجرد مسألة داخلية شخصية؛ فلماذا كانت حريته بحاجة إلى الحماية أساساً؟ كان ذلك، حسب أليغري، بناء على طلب البريطانيين الذين «أصروا على أنه (من المؤكد أن الآراء في البلدان الشمولية تخضع للسيطرة من خلال القيود الدقيقة على مصادر المعلومات)، مؤكدين على أن التدخل قد يحدث حتى قبل تشكيل الآراء». كان البريطانيون، بما كان لديهم من مكتب للدعاية، وبعد ذلك وزارة الإعلام، إلى جانب أنهم أنتجوا شخصاً اسمه جورج أورويل، يعرفون عمّا يتحدثون.
لكن إن تمكنت الدعاية من تقويض حق الحرية في الرأي، فستكون تلك مشكلتنا جميعاً. وتلك إحدى المسائل الرئيسية التي تتابعها أليغري. بيئة الإنترنت الحديثة، الملوثة بالأخبار الكاذبة، تنتهك حقنا في التوصل إلى أفكار يُعتمد عليها. من هذه الزاوية يكون أولئك الذين اقتحموا مبنى الكونغرس في يناير (كانون الثاني) 2021، مدفوعين، كما يبدو، بالاعتقاد الصادق بأن الانتخابات سرقها جو بايدن، كانوا ضحايا، كما هم الملايين من الروس العاديين الذين يعتقدون بما تقوله لهم وسائل الإعلام التي تسيطر عليها الدولة حول ما تُسمى «العملية الخاصة في أوكرانيا».
عالم الإنترنت، كما تقول أليغري، يؤذي حرياتنا بطرق عديدة، وهو متسق مع التاريخ القاسي الذي تصفه لفراسة الدماغ وجراحات فصوص الدماغ وتجارب «سي آي إيه» للسيطرة على المخ. وقد نقل مؤخراً أن نادين دوريس، الوزيرة البريطانية لحروب الثقافة، اقتحمت فجأة اجتماعاً لـ«مايكروسوفت» وطالبت بمعرفة متى سيتخلصون من «اللوغاريتمات»، وليس ذلك بالإمكان طبعاً بالنسبة لشركة حاسب، لأن كل برامج الحاسب تتكون من لوغاريتمات، لكن القصة تعكس الشكوك المتزايدة لدى كثيرين حول الطرق التي تُستعمل بها الآلات للتأثير فينا.
الباحثون في التعرف على الملامح بأنظمة الذكاء الاصطناعي، مثلاً، يدّعون أنهم قادرون على قراءة الانتماء السياسي من الصورة، وشركات التواصل الاجتماعي تحلل ما يُنشر بحثاً عن مؤشرات على سمات الشخصية، متتبعو اللياقة يحاولون الانتقال إلى تتبع الأمزجة، وفي المحاكم الهندية استعمل المدعون العامون «كاشفات الكذب» المكلّفة التي تعمل عبر مسح المخ، الأمر الذي يمكن القول إنه تعدٍ على الحق في تفادي التجريم الذاتي. حتى لو كانت الدعاوى المتعلقة بتقنيات كهذه مبالغاً بها، فإنها جميعاً تمثل محاولات جديدة لاقتحام ما يُنظر إليه عادة على أنه فضاء ذهني خاص.
تقتبس أليغري هنا ببراعة من رواية «1984» والمناقشة التي تتضمنها للتوأمة التي تناقش بصورة أقل بين جريمة وفكر في عبارة «جريمة فكر» thought crime التي يسميها أورويل «جريمة وجه» facecrime: «من الخطورة الشديدة أن تسمح لأفكارك بالابتعاد حين تكون في مكان عام وضمن نطاق جهاز تفحّص عن بعد. يمكن لأصغر الأشياء أن تخونك: نبضة عصبية، نظرة قلق لا واعية، عادة، همهمة ذاتية - أي شيء يحمل معه ما يوحي بالخروج عن المألوف، وجود شيء مخبأ».
من «جريمة وجه» (فيس كرايم) إلى «فيسبوك» وما يسميه أورويل «برولفيد» (الترفيه التافه والأخبار الزائفة التي يوزعها الحزب على الجماهير) إلى أخبار «تويتر»، تمتد مسافة قصيرة ومقلقة.
من الطريف أن يكون في الإعجاب بصفحة «فيسبوك» تُسمى «أن تكون مرتبكاً بعد الصحو من إغفاءات» تنبؤ بالنزوع الجنسي الذكوري إلى الجنس الآخر، لكن الأمر يغدو مدعاة للكآبة حين نعلم أن وثيقة مسرَّبة من «فيسبوك» تضمنت تفاخراً بأنها قادرة على استهداف «لحظات يكون فيها صغار السن بحاجة إلى دفعة من الثقة بالنفس» نيابة عن المعلنين. كل معلومة نغذي بها حوت التواصل الاجتماعي الذي يلتهم كل شيء، حسب أليغري، «ستُحلل ليكشف عن سمات نفسية أو حالات عقلية عابرة ستُستعمل بدورها للتأثير في سلوكنا، أو ليقال للآخرين كيف يحبون أن يعاملونا». ويصير هذا فظيعاً، حين يكون الأطفال هم المستهدفين بتتبع السلوك.
في كل مرة تسمع شركات التقنية تدعي الاهتمام بـ«الأخلاقيات»، تقول أليغري محذرة، عليك أن تشك في الأمر. «ليس من الضروري أن تكون ساخراً لترى السبب الذي يجعل القواعد الإرشادية المتعلقة بالأخلاق أكثر جاذبية لشركات التقنية الضخمة من القوانين الفعلية. الأخلاقيات اختيارية»، لذا يصير العلاج القانوني مطلوباً. العلاج الأهم، كما ترى، متطرف جداً وعلى نحو مثير: منع صريح لـ«الدعايات الاستكشافية» - النوع الذي يعتمد على المتتبعات وسجلات التتبع (الكوكيز) التي ترسل معلوماتك الشخصية لمئات الشركات، كلما حمّلت صفحة على الإنترنت. لم نطلبها ولا نحبها. فقط اجعلوها مخالفة للقانون، هي والأجزاء الأخرى المهمة من «البانوبتيكون» الرقمي، مثل تقنية «التحليل العاطفي» في الأماكن العامة، أو أجهزة «أليكسا» لدى «أمازون» التي يمكن تشغيلها صوتياً. تقول أليغري وبقوة: «حين سألتْ ابنتي لماذا لا يمكنها شراء جهاز (أليكسا) مثل صديقاتها، قلت لها: لأن (أليكسا) يسرق أحلامك ويبيعها».
لقد مشينا جميعاً إلى هذه الحكاية الكئيبة كما لو كنا نائمين، وقد حان الوقت للاستيقاظ. لكن مع ذلك تتبقى أسئلة حول المدى الذي ينبغي أن تصل إليه القوانين، لأنه من المستحيل كما يبدو مراقبة كل التهديدات المضاعفة لاستقلالنا الإدراكي التي تحددها أليغري. بعض تلك غير محصورة فعلاً بالعصر الرقمي ككل. تقول: «إذا كان من الممكن التوصل إلى استنتاجات حول عالمنا الداخلي على أساس مظهرنا؛ فليس من المهم ما تفكر به أو تشعر. حريتك بأن تكون ما تريد تتضاءل نتيجة حكم المجتمع عليك». ربما يكون ذلك صحيحاً، لكنه حتمي للأسف إذا كنت تريد أن تعيش في المجتمع أساساً.
لكن إذا كان من الضروري في تلك الأثناء عدم السماح لـ«الحكومات والشركات أو الناس» بأن يسعوا إلى «التلاعب بآرائنا»، على أساس أن هذا يخالف حقنا بأن نفكر بحرية، فإن المرء يتساءل عن نوع الخطاب الإقناعي الذي سيسمح به في عالم شجاع كذلك العالم. أليست الحجاجات بأنواعها - السياسي والعلمي والفني - محاولات للتلاعب بآراء الآخرين؟ كيف يمكن لنا تمييز التلاعب الجيد من التلاعب السيئ؟ لو كان هناك فيلسوف – ملك كريم فسيكشف لنا ذلك، لكن في غيابه المؤسف لا يبدو من المحتمل أن يرغب كثير من الناس في أن يتركوا الأمر للسلطة القانونية، سواء سميناها وزارة الحقيقة أو غير ذلك.
* عن صحيفة «الغارديان»
31 مارس (آذار) 2022



إرفين ومارلين يالوم في رقصة الحياة الأخيرة

مارلين يالوم
مارلين يالوم
TT

إرفين ومارلين يالوم في رقصة الحياة الأخيرة

مارلين يالوم
مارلين يالوم

قد تكون العلاقة العاطفية التي جمعت بين كلّ من الكاتب والمعالج النفسي الأميركي إرفين يالوم، ومواطنته مارلين كونيك، الباحثة في شؤون الأدب المقارن والمرأة والحب، واحدة من أنجح العلاقات التي جمعت بين باحثين كبيرين في القرن المنصرم، وبداية القرن الحالي. على أن ثبات العلاقة بين الطرفين في وجه الزمن لم يكن ليتحقق لولا تصميمهما الراسخ على تخليص ارتباطهما الزوجي من طابعه النمطي الرتيب، وجعله مساحة للصداقة والتكامل الفكري وتشاطر النجاحات والخيبات.

الأرجح أن العامل الحاسم في نجاح العلاقة بين الطرفين المولودين في مطلع ثلاثينات القرن المنصرم، واللذين جمعهما الحب في سن مبكرة، يتمثل في دعم كل منهما للآخر في تحقيق طموحاته وأهدافه ومشروعه الفكري والإبداعي. ففي حين عملت مارلين في جامعة ستانفورد الأميركية، باحثةً في شؤون المرأة والحب وتاريخ النساء والأدب المقارن، عمل إرفين في الجامعة نفسها، منصرفاً إلى التعليم والطب النفسي والكتابة الروائية. والأهم في كل ذلك أن أحدهما لم ينظر إلى الآخر بوصفه خصماً أو منافساً ينبغي تجاوزه، بل بوصفه شريكاً عاطفياً وإبداعياً، ومحفزاً على المزيد من التنقيب المعرفي والإيغال في طلب الحقيقة.

إرفين يالوم

وإذا لم يكن بالمستطاع التوقف المتأني عند أعمال مارلين المهمة، وبينها «شقيقات الدم» و«تاريخ الزوجة » و«ميلاد ملكة الشطرنج»، فلا بد من الإشارة إلى أن هذه الأعمال قد لاقت رواجاً واسعاً في أربع رياح الأرض، وتمت ترجمتها إلى أكثر من 20 لغة عالمية، فيما نال كتابها الشيق «كيف ابتكر الفرنسيون الحب» جائزة المكتبة الأميركية في فرنسا.

أما كتاب مارلين المميز «القلب العاشق»، فهو واحد من أفضل الكتب التي تصدت لموضوع القلب، سواء من حيث كون هذا الأخير عاصمة الجسد ومركزه ومنظم شؤونه، أو من حيث اعتباره عبر التاريخ منزل الحب ومقر الروح، والدريئة التي يسدد إليها كيوبيد سهام الحب، وفق الأسطورة اليونانية. ولأنه كذلك فقد تم تكريس دوره العاطفي المركزي في مختلف الأديان والفلسفات والمجتمعات، واحتفى به الشعراء والفنانون، وبات الشفرة الموحدة لعيد العشاق وهدايا المحبين. وفيما حرص إرفين من جهته على استثمار شغفه بالطب النفسي في الانغماس بالكتابة الروائية، فقد آثر عدم الابتعاد عن دائرة اختصاصه، ليصدر أعمالاً عميقة وفريدة في بابها، من مثل «علاج شوبنهاور» و«مشكلة سبينوزا»، ولينال جوائز عدة أهمها «جائزة سيغموند فرويد للعلاج النفسي».

وإذا كانت رواية إرفين المميزة «حين بكى نيتشه» قد حققت قدراً عالياً من الذيوع والانتشار، فليس فقط لأن مؤلفها تصدى لأحد أبرز فلاسفة الغرب النابغين بالقراءة والتحليل، بل لأن ذلك العمل دار على محورين بالغي الأهمية، محور العلاقة العاطفية الأحادية واليائسة التي جمعت بين نيتشه والكاتبة الروسية الجميلة على ذكاء مفرط لو سالومي من جهة، ومحور اللقاء الافتراضي بين صاحب «غسق الأوثان»، الغارق في تصدعه النفسي وآلامه الجسدية ويأسه الانتحاري، والطبيب النفسي اللامع جوزف بروير من جهة أخرى. وإذ عثر عالم النفس الشهير في مريضه الاستثنائي على واحد من أبرز فلاسفة الغرب وأكثرهم فرادة وجرأة، فقد عرض عليه صفقة رابحة للطرفين، تقضي بأن يعمل الطبيب على شفاء الفيلسوف من آلام الجسد، فيما يعمل الفيلسوف على شفاء الطبيب من آلام الروح.

وفي كتابه «التحديق في الشمس» الذي يستهله بمقولة دو لاروشفوكو حول تعذر التحديق في كلٍّ من الشمس والموت، يقدم إرفين لقرائه كل الحجج والبراهين التي يمكنهم من خلالها تجاوز مقولة الفيلسوف الفرنسي، والتغلب على رعبهم من الموت بوسائل عديدة ناجعة. وفي طليعة هذه الحجج تأتي حجة أبيقور ذات المنطق المحكم، ومفادها أن خوفنا من الموت لا معنى له، لأننا لا نوجد معه في أي زمان أو مكان، فحيث نكون لا يكون الموت، وحيث يكون الموت لا نكون نحن.

ويطرح يالوم في السياق نفسه فكرة الموت في الوقت المناسب، وعيش الحياة بالكامل، بحيث «لا نترك للموت شيئاً سوى قلعة محترقة»، كما فعل زوربا اليوناني. وإذ يذكّرنا المؤلف بقول هايدغر «إن الموت الحقيقي هو استحالة وجود احتمالية أخرى» يدعونا في الوقت نفسه إلى فتح أبواب الحياة أمام ضروب كثيرة من احتمالات العيش وخياراته، وعدم حصر الحياة في احتمال واحد. كما يخصص إرفين الجزء الثاني من كتابه للحديث عن الجهود الشاقة التي بذلها في مساعدة مرضاه، بخاصة أولئك الذين طعنوا في المرض والعمر، على التخلص من رهاب الموت وفكرة العدم، مشيراً إلى أنه حقق نجاحات ملموسة في بعض الأحيان، وأخفق في أحيان أخرى.

العامل الحاسم في نجاح العلاقة بين الطرفين المولودين في مطلع ثلاثينات القرن الماضي دعم كل منهما للآخر في تحقيق طموحاته وأهدافه

إلا أن إصابة مارلين بسرطان نقي العظم بدت بمثابة الحدث الزلزالي الذي كان إرفين يظن نفسه بمنأى عنه، كما هو حال البشر جميعاً، حتى إذا وقع في بيته وإلى جواره، بدت المسافة بعيدة بين النظرية والتطبيق، وأوشك بناؤه البحثي على التهاوي. وفي أوج الوضع الحرج للطرفين، اقترحت مارلين على زوجها، وبضربة ذكاء حاذقة، أن يقوما بمراوغة الكوابيس السوداء للمرض، من خلال القيام بوضع عمل سردي مشترك، يعرضان فيه ليوميات المواجهة الضارية مع السرطان، فيما يتكفل العمل من ناحية أخرى بحفظ اسميهما وتجربتهما العاطفية المشرقة في ذاكرة الأجيال.

وإذا كانت أهمية الكتاب المذكور الذي وضعا له عنوان «مسألة موت وحياة»، قد تجسدت في ما أثاره الزوجان من أسئلة وهواجس متصلة بقضايا الحب والصداقة والحياة والمرض والموت، وصولاً إلى معنى الوجود على الأرض، فإن المفارقة الأكثر لفتاً للنظر في الكتاب، لا تتمثل في تناوبهما الدوري على إنجاز فصوله فحسب، بل في الطريقة الهادئة والعقلانية التي تقبّلت بها الزوجة المريضة فكرة الموت، مقابل حالة الهلع والإنكار التي بدت على إرفين، وهو الذي طالما نصح مرضاه بأن يتقبلوا الزائر الثقيل بروح رياضية وتفكير رصين.

وفيما يتابع الزوجان في الكتاب ما تكابده مارلين من آلام، وما يطرأ على وضعها من تغيرات، يعمدان في بعض الأحيان إلى الهروب مما يحدث على أرض الواقع، عبر نقل المشكلة إلى إطار آخر يتعلق بمشكلات نظرية شائكة، أو الانكفاء باتجاه الماضي بحثاً عن الأطياف الوردية لسنوات زواجهما الأولى. كما يتبدل عصب السرد وأسلوبه تبعاً لحالة الزوجة، التي تقع فريسة القنوط القاتم في بعض الأحيان، فيما تحاول تجاوز محنتها أحياناً أخرى، عبر اللجوء إلى الدعابة السوداء والسخرية المُرة، فتكتب ما حرفيته «إننا نشكل زوجاً جيداً، فأنا مصابة بالسرطان النقوي، وهو يعاني من مشكلات في القلب واضطراب التوازن. فنحن عجوزان في رقصة الحياة الأخيرة».

أما المفارقة اللافتة في الكتاب، فلا تتمثل في سعي الزوجة المتألمة إلى إنهاء حياتها بواسطة ما يعرف بالموت الرحيم، أو بمكاشفة إرفين لمارلين برغبته في إنهاء حياته معها، وهو المصاب ببعض أعراض النسيان وبمرض في القلب، بل في رد مارلين المفعم بالدعابة والتورية اللماحة، بأنها «لم تسمع في كل أنحاء أميركا عن تابوت تقاسمه شخصان اثنان». والأرجح أن الزوجة المحتضرة، التي ما لبثت أن رحلت عن هذا العالم عام 2019، كانت تهدف من خلال إجابتها تلك لأن توصل لزوجها الخائف على مصيره رسالة مبطنة مفادها أنه لن يلبث أن يفعل إثر رحيلها ما يفعله الرجال في العادة، وهو الارتباط بامرأة أخرى تخفف عنه أثقال الوحشة والعجز والتقدم في السن. ومع أن الزوج الثاكل قد برر تراجعه عن فكرة الانتحار، برغبته في عدم خذلان مرضاه أو خيانة مسيرته المهنية، فإن لجوءه بعد رحيل زوجته إلى الزواج من الطبيبة النفسية ساكينو ستيرنبرغ، وهو في الثالثة والتسعين من عمره، كان سيقابل من قبل مارلين، لو قُدِّر لها أن تعلم، بأكثر ابتسامات النساء اتصالاً بالحيرة والإشفاق والدهشة الساخرة.


«البيرق.. هبوب الريح»... اشتباك مع الموروث الشفاهي العماني

«البيرق.. هبوب الريح»... اشتباك مع الموروث الشفاهي العماني
TT

«البيرق.. هبوب الريح»... اشتباك مع الموروث الشفاهي العماني

«البيرق.. هبوب الريح»... اشتباك مع الموروث الشفاهي العماني

تستحضر الكاتبة العمانية شريفة التوبي في روايتها «البيرق... هبوب الريح»، التي وصلت مؤخراً إلى القائمة الطويلة لجائزة بوكر العربية 2026، التاريخ بوصفه عنصراً رئيساً في مجمل أعمالها، مستلهمة الكثير من الحكايات التراثيّة، وقد أُعيد تشكيلها وبثّ الروح فيها من جديد.

تسبر التّوبي، في روايتها الجديدة، وهي خاتمة ثلاثية بعنوان البيرق، أغوار السّرد الشفاهي العُمانيّ، وتبحث في دهاليزه وعوالمه عن حكايات تتواءم مع الأفكار التي تريد مشاركتها مع القارئ، مقدمة نموذجاً في اشتباك الروائي المعاصر مع التاريخ والموروث الشفاهي.

في هذه الرواية التي صدرت هذا العام عن «الآن ناشرون وموزعون»، في عمّان، وجاءت في نحو 600 صفحة، بغلاف من تصميم الفنانة العُمانية بدور الريامي، تعود التّوبي إلى تلك الحكايات التي كان يرويها جدّها عن ذلك التاريخ القديم لعُمان.

تصوّر الروائيّة في الجزء الأول مقاومةَ سكّان حارة الوادي للوجود البريطاني الذي كان يفرض سيطرته على البلاد، في خمسينات القرن الماضي، ومناصرتَهم لحكم الإمام، في صراع غير متكافئ، تمخّضت عنه معاناة قاسية لأهل الوادي. ولأن هذه الحكاية لم تُذكر في كتب التاريخ، فقد نسجت الروائيّةُ خيوطها، وقدّمت أبطالها برؤية سردية أضاءت المناطق المعتمة في الحكاية، مازجةً الواقع بالخيال الفنيّ فقدمت وصفاً لطبيعة الحياة الشعبية وتفاصيل العلاقات الاجتماعية بين الناس.

وتتناول التّوبي في الجزء الثاني أحداث الفترة التي سمَّاها المؤرخون «حرب الجبل»، التي دارت في المرحلة الزمنية «1956- 1959». إذ تقوم حبكة هذا الجزء على وقع الحرب التي دارت رحاها في خمسينات القرن العشرين وستيناته، بكل ما دفعه البسطاء من ثمن وتضحية.

وتستكمل التّوبي في الجزء الثالث «هبوب الرِّيح» أحداثَ هذا المسار التاريخي الذي شهد ولادة مقاومة وطنية ذاتِ توجهات ثورية (قومية وماركسية)، وهي مواجهة انتهت أيضاً إلى الهزيمة والنكوص لأسباب تتعلّق باختلال موازين القوى بين الطرفين. فقد بدت الحركة الوطنية وكأنها تحمل مزيجاً آيديولوجيّاً أُملِيَ من الخارج، ولم تنتجه خصوصية الواقع الاجتماعي والثقافي العماني.

تعتني التّوبي في روايتها الجديدة بالجانب الاجتماعي، بالمرأة، بالعائلة، بزوجة السجين أو المناضل وأمه، في النصف الثاني من عمر القرن الماضي، وقد سلّطت الضوء على المشاعر الداخلية التي يعيشها ذلك الإنسان الفقير الذي تغرّب في بقاع الأرض، باحثاً عن لقمة العيش وعن التعليم، وتفاجأ أن الحياة خارج الحدود لا تشبه داخل الحدود.

تحكي الرواية عن ذلك الإنسان الحالم بالتغيير في مرحلة زمنية كانت تعج بالأفكار الثورية التي سيطرت على مختلف أنحاء العالم، في مرحلة صعبة عاشها مجتمعنا العُماني، مرحلة لاقى فيها الفكر الشيوعي لدى الشباب العربي والخليجي قبولاً في تلك الفترة، وكان من السهل انسياق هؤلاء الشباب المغتربين لهذه الأفكار الجديدة.

وترصد الرواية الأسباب التي دفعت ثلّةً من الشباب للانضمام إلى «الفكر الجديد»، والتي كانت نابعة من حلمهم بالتغيير، فضلاً عن أن لكلٍّ منهم أسبابه الخاصة به. كما أوجدت الكاتبة في هذا الجزء شخصيات جديدة؛ مثل: «أحمد سهيل»، و«عبد السلام»، و«أبو سعاد»، و«باسمة»، و«طفول» الثائرة في وجه العادات والتقاليد والأعراف والرافضة للاستغلال والتهميش.

ويجد المتلقي نفسه يخوض في «هبوب الريح» تفاصيل الأحداث المفصلية كما خاضها الأبطال مع مجتمعهم وعائلاتهم وأنفسهم، وسيعيش أحداث تلك المرحلة من تاريخ عُمان، وسيعثر على إجابات لأسئلة حول مصائر الشخصيات التي التقاها في الجزأين، الأول (حارة الوادي)، والثاني (سراة الجبل).


كؤوس فخارية من موقع مليحة في الشارقة

كؤوس فخارية من موقع مليحة الأثري في إمارة الشارقة
كؤوس فخارية من موقع مليحة الأثري في إمارة الشارقة
TT

كؤوس فخارية من موقع مليحة في الشارقة

كؤوس فخارية من موقع مليحة الأثري في إمارة الشارقة
كؤوس فخارية من موقع مليحة الأثري في إمارة الشارقة

كشفت أعمال المسح والتنقيب المتواصلة منذ بضعة عقود في دولة الإمارات العربية المتحدة عن سلسلة من المواقع الأثرية، من أبرزها مستوطنة مليحة التي تمتد في سهل داخلي إلى الغرب من سلسلة جبال الحجر، وتبعد نحو 50 كيلومتراً شرق مدينة الشارقة. بدأ استكشاف هذه المستوطنة في منتصف ثمانينات القرن الماضي، وتواصل في العقود التالية، حين عمدت بعثة أثرية فرنسية إلى إجراء سلسلة من الحفريات، ساهمت في إلقاء الضوء على تاريخ هذه المنطقة التي شكّلت في الماضي مركزاً تجارياً وسيطاً، كما تشهد مجموعات اللقى المتنوّعة التي خرجت من بين أطلالها، ومنها كؤوس فخارية برتقالية اللون، قيل إنّها مستوردة من إيران.

أجرت البعثة الأثرية الفرنسية في مطلع عام 2010 حملة تنقيب في مليحة مدى أربعة أسابيع، وكان الهدف الأساسي لهذه الحملة العمل على توثيق الدور النهائي للاستيطان في هذا الموقع الاستثنائي خلال القرون الميلادية الأولى. حسب تقرير خاص بهذا الموسم من التنقيب نُشر في العدد 13 من «حولية آثار الشارقة»، خرجت من بين أطلال مليحة مجموعة من الحلى الذهبية بدت غير مألوفة في طبقات الاستيطان الخاصة بهذا الموقع، ومجموعة من المسكوكات منها قطعة محلية، وختم مصنوع من عجينة زجاجية، صيغ على شكل أسد مضطجع، مع نقش بالخط الآرامي، إضافة إلى العديد من اللقى الخشبية والعاجية التي تعود إلى قطع مهشّمة. في هذا السياق، خرجت الحملة بمجموعة كبيرة من اللقى الفخارية، منها قطع محلية الصنع، وقطع مصدرها وادي السند، و«كأس إيرانية ذات طينة برتقالية مصبوغة، وُجدت مبعثرة مع كُسر تعود لكأس أخرى».

حمل هذا التقرير صورة لهذه الكأس «المستوردة من إيران»، وهي كأس تمّ ترميمها لاحقاً بشكل دقيق، وتتميّز بحلّة زخرفية مطلية باللون الأسود، تجمع بين التقاسيم الهندسية المجرّدة وصورة حيوانية محوّرة تمثّل كما يبدو وعلاً يقف ثابتاً على قوائمه الأربع، في وضعية جانبية تخلو من أي حركة. يزين قمّة هذه الكأس شريطان زخرفيان تختلف المفردات التشكيلية الخاصة بكلّ منهما. يتبنّى الشريط الأعلى زينة قوامها سلسلة من الدوائر اللولبية تحلّ بين خطين أفقيين، ويتبنّى الشريط الموازي شبكة من الخطوط الملتوية تحلّ بين خطّين مشابهين. يقابل هذين الشريطين شريط ثالث يُزّين قاعدة هذه الكأس، وقوامه كذلك سلسلة من الدوائر اللولبية، تُماثل في تكوينها تلك التي تُكلّل هذه القطعة الفخارية. يظهر وسط هذه الشرائط الزخرفية وعل يقف بثبات تحت قوس عريضة، تزيّنه شبكة من الخطوط العمودية المرصوصة كأسنان المشط.

صُوّر هذا الوعل بشكل تحويري في وضعية جانبية، مجرّداً من أي تفاصيل مادية توحي بالثقل. الرأس صغير، ويعلوه قرنان ضخمان مقوّسان يبلغان طرف الظهر. العنق طويلة، وهي كذلك مقوّسة، وتشكّل امتداداً للصدر النحيل. القوائم الأربع ظاهرة، وهي مجرّدة من المفاصل، وتبدو أشبه بأربعة خطوط متوازية. قمّة الظهر مدبّبة، وتوازي في استدارتها قوس العنق. يتكرّر هذا التأليف على كأس مشابهة، حيث يعود الوعل ويحلّ وسط مساحة مجرّدة غاب عنها القوس المزخرف بخطوط عمودية. يظهر الحيوان هنا مع قرنين طويلين متوازيين حدّدا بشكل مغاير، ويبدو وجهه أكبر حجماً، وعنقه أعرض. الحلّة الزخرفية واحدة، وتتمثّل في ثلاثة شرائط صيغت بشكل مماثل.

نقع على كأس ثالثة تتبع هذا الطراز الخاص، وفيها يتحوّل الوعل إلى عقرب، كما يوحي ذيله اللولبي الكبير الملتف من خلف رأسه. تزيّن قمة هذه الكأس سلسلتان متوازيتان من الدوائر اللولبية، وتزيّن قاعدته سلسلة ثالثة مماثلة في التكوين. يقف العقرب بثبات على شريط مكوّن من ثلاثة خطوط أفقية متوازية، وسط قوس عريض زُيّن بشبكة من الخطوط المتقاطعة على شكل مكعبات صغيرة متراصة.

تتشابه كؤوس مليحة الثلاث من حيث التكوين، ويبلغ طول كل منها نحو 16 سنتيمتراً، وقطرها نحو 15 سنتيمتراً. تتبع هذه القطع الفخارية طرازاً فنياً راسخاً في القدم، تحوّل إلى طراز جامع عابر لحدود أقاليم الشرق القديم. تعود أقدم شواهد هذا الطراز المعروفة إلى الألفية الرابعة قبل الميلاد، ومصدرها مدينة شوشان العريقة التي تُعرف اليوم باسم سوسة، وتتبع في زمننا محافظة خورستان، حيث تقبع في أسفل جبال زاغروس، بين نهر دجلة ونهر كرخة ونهر دز. بقي هذا التقليد الفني حياً على مدى عصور من الزمان، وبلغ نواحي متباعدة من أقاليم الشرق القديم، ودخل نواحي عديدة من الجزيرة العربية.

تعود كؤوس مليحة كما يبدو إلى القرن الميلادي الأوّل، وتمثّل من هذا المنظار آخر تجليات هذا الطراز الفني العريق. يأخذ هذا الطراز هنا شكلاً متقشّفاً متواضعاً يخلو من الرهافة، غير أنه يحافظ على الجاذبية التي تميّز بها أسلوبه في أشكالها المتعدّدة العابرة للأزمان.