يعيش الخليج العربي على وقع خطرين رئيسيين متعلقين بالأمن الإقليمي المباشر لجغرافيته السياسية. فمن جهة، تطورت صور نشاطات الجماعات الإرهابية وارتقت ببروز «داعش» إلى هاجس أمني، يضاف إليه توسّع رقعة التطرّف الشيعي بظهور تنظيمات راديكالية طائفية تستعمل العنف كأداة من أدواة النشاط الحركي السياسي. ومن جهة أخرى يواجه الأمن الجماعي الخليجي تطورًا من نوع جديد من تهديد تقليدي تمثله إيران؛ إذ لم تعد إيران تهدد الاستقرار الخليجي بوصفها دولة لها أطماع استراتيجية بالمنطقة فحسب، بل تحولت هذه الدولة إلى قوة إقليمية مسلحة بميليشيات «ما فوق الدولة»، التي يمثلها حزب الله بلبنان، و«فيلق بدر» بالعراق، والحوثيين باليمن. كل هذه الميليشيات تستعمل الطائفية في التعبئة والصراع السياسي، مما يكسب جماعات التطرّف الديني تعاطفا أكبر من ذلك التي تحظي به الأحزاب وجمعيات المجتمع المدني. كما يجعل من الأقليات تكتلات ذات ولاءات متناقضة، تخرق أسس ما هو وطني، وتنظر لطبيعة الصراع الدولي بشكل مذهبي، يفسح المجال لاستعمال الطائفية في الصراعات الإقليمية والدولية.
وتأتي هذه المخاطر وانعكاساتها على بلدان مجلس التعاون الخليجي، في الوقت الذي تحوّلت السياسة الخارجية الأميركية تجاه الشرق الأوسط بهدف تحقيق نوع من الانسحاب الاستراتيجي من المنطقة، والحفاظ على مصالحها بتغير التحالفات التقليدية القائمة منذ 1945.
عبرت التصريحات الرسمية الأميركية الاخيرة عن تموجات حقيقية لرؤية «الصبر الاستراتيجي» التي انتهجتها واشنطن ضد تنظيم داعش، منذ عام 2013؛ وقد كانت واشنطن تعتقد أن القضاء على «داعش» أمر غير ممكن. وبالتالي فإن تبني استراتيجية إضعافه وتحجيمه هي السياسية المعقولة سياسيا وعسكريا، كما أن سياسة «الصبر الاستراتيجي» ستؤدي إلى إنهاك التنظيم، ومحاصرته وعزله عن محيطه المجالي والإقليمي، ومن ثم تحجيم قوته بشكل طبيعي.
من أجل ذلك تعاملت الاستراتيجية الأميركية مع تهديد أمن الخليج وفق رؤية تنطلق أساسًا من رؤية واشنطن لأمنها القومي، ولم تنطلق من كون الإرهاب وتطوّره لجماعات «ما فوق الدولة» يشكل تهديدًا حقيقيًا للنظام الإقليمي الخليجي. وتبعًا لذلك، خضعت عملية مواجهة الإرهاب الشيعي الجديد لتأثيرات الإرهاب «الداعشي» الممتد على منطقة صراع دولي بين كل من إيران وروسيا من جهة؛ والولايات المتحدة وتركيا من جهة ثانية، أخذا بعين الاعتبار أن التحالف بين العرب الخليجيين والولايات المتحدة أخضعته واشنطن للأجندة والحسابات الأميركية الجديدة، الخاصة بأولوية الاتفاق النووي مع إيران. ويمكن القول إن هذا السياق الصراعي الدولي، دفع المملكة العربية السعودية لاستعجال استضافة مؤتمر عالمي لمواجهة الإرهاب عام 2014، والذي أفضى فيما بعد لتعيين الجنرال جون آر آلن منسقًا للتحالف الدولي للحرب ضد «داعش»، الذي ضم 60 دولة.
ومع أن الولايات المتحدة تقود فعليًا عملية «العزم المتأصل»، ومن خلالها محاربة «داعش»؛ فإن سياسة «الصبر الاستراتيجي»، لم تؤدِّ حسب تحليلات مراقبين كثر وتقارير عدة لمراكز بحثية محترمة إلى محاصرة تنظيم «داعش»، أو إضعافه بالشكل الذي يجعل منه تنظيمًا إرهابيًا في طريقه للزوال. ذلك أن التنظيم لم يفقد بعد أكثر من خمسة في المائة من الأراضي التي يسيطر عليها بالعراق، التي تبلغ نحو 40 في المائة من إجمالي مساحة هذا البلد، بينما يسيّر التنظيم شؤون نحو 10 ملايين عراقيا في الجغرافيا العراقية السورية. ويمكن أن نلمس من تصريح باتريك رايدر، الناطق باسم القيادة العسكرية المركزية، التي أكد فيها أنه: «في حين قد تعطي التقارير الأولية انطباعًا بأن (داعش) في وضع هجومي، فإننا لا نلمس أية أدلة تفيد أنه قادر على أن يكون كذلك». ولقد عزز المسؤول الأميركي موقفه بالإشارة أن «داعش» لم تعد تسيطر على أراض شاسعة.
يدعم هذا ما صدر بتاريخ 23 أبريل (نيسان) الماضي عن وزارة الدفاع الأميركية، حيث أوضحت أن خسائر «داعش» من الأسلحة والذخيرة والأمور اللوجيستية، تتمثل في 6097 هدفا، منهم 77 دبابة، و287 عربة همفي، و416 مناطق إطلاق، و1757 بناية تابعة للتنظيم، و1330 موقعا قتاليا، و152 مصفاة ومحطة لتجميع النفط، و2078 من الأهداف الأخرى؛ في حين نفذ التحالف الدولي أكثر من 1400 ضربة جوية ضد لـ«داعش» في سوريا.
وما يلاحظ على هذا التقرير، غياب أي عدد محدد لقتلى في صفوف «داعش»؛ كما يمكن القول إن التفاؤل الذي تشير إليه هذه المعطيات يخفي الاستراتيجية العسكرية لتنظيم «داعش» والتي تعتمد منذ معركة عين العرب على سياسة قتالية انتشارية، توسّع من دائرة الجبهات وتخلق أخرى؛ وفي الوقت نفسه تركّز على مناطق استراتيجية حيث يظهر التنظيم بقوة فيها، ثم يختفي ليظهر من جديد، فيها أو في غيرها، وهذا الأسلوب اعتمد في منطقة مصفاة بيجي النفطية وجبل سنجار وغيرهما.
ونشير هنا إلى أن هذه السياسة يطلق عليها التنظيم، الذي يتزعمه أبو بكر البغدادي، مسمى «سمكة الصحراء»، وتعبر عن تطوير لإمكانية للمراوغة الحربية التي تمتلكها «داعش»؛ واستمرار استعمالها إلى اليوم على الأراضي العراقية والسورية، يؤكد صعوبة التسليم بأن التنظيم يعيش في حالة دفاع، غير مصحوب بهجمات تحتل أماكن استراتيجية حربية.
الردع وتجديد التحالفات الخليجية والاتصال بسياسة «الصبر الاستراتيجي»، و«سمكة الصحراء»؛ يمكن القول إن المجهودات الخليجية، وتحركاتها على المستوى الإقليمي والدولي قد شهدت تحولاً يكاد يكون جذريًا منذ بداية 2014. حيث تبنت المنظومة الخليجية استراتيجية المواجهة الشاملة للجماعات الإرهابية «الما فوق الدولة»، في العراق وسوريا، ولاحقًا في اليمن. إذ لعبت دول الخليج دورًا مهمًا في مواجهة «داعش» تحت مظلة التحالف الدولي، كما أدمجت كل من المغرب والأردن في سياستها باعتبارهما شركائها الاستراتيجيين؛ لتتحول فيما بعد هذه السياسة إلى شكل أكثر تنظيما، في عمليتي «عاصفة الحزم «و«إعادة الأمل».
ولكن النتائج الإيجابية التي حققتها السياسة الجديدة لدول مجلس التعاون الخليجي، تحتاج لمزيد من العمل الجماعي لمنظومة التعاون المكونة للمجلس. فهذه المنظمة الإقليمية تملك من الإمكانيات الذاتية ما يؤهلها للتأثير الجدي على السياسات الدولية والتحالفات الجديدة (بما فيها تحالفات الإرهابيين)، التي تتشكل في الشرق الأوسط. ومن هنا أصبح لزاما على دول مجلس التعاون الخليجي تطوير الإرادة السياسية الساعية لتحقيق التكامل وبناء «قوة دفاع مشترك» تعوض تدريجيا الاعتماد التقليدي على الدور الخارجي في المحافظة على الأمن القومي الخليجي؛ وفي الوقت نفسه بناء مؤسسة أمنية موحدة، قادرة على مواجهة الأخطار المهدّدة للأمن الداخلي. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن التهديد الموجه ضدها لا يأتي فقط من إيران والميليشيات الطائفية المتحالفة معها؛ بل يأتي كذلك من الخطر النووي الإسرائيلي الأقدر على تهديد النظام الإقليمي القائم حاليًا.
ولذلك فإن استثمار الإمكانيات العسكرية في ظل مؤسسة مهيكلة جامعة، أصبح شرطًا لازمًا لتحقيق معادلة «الردع الاستراتيجي الخليجي»، خصوصا، وأن إمكانية تحقيق ذلك متوافرة من الناحية المادية، والنوعية.
لقد أشار التقرير الأخير لمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية الأميركي الصادر الشهر الماضي، إلى أن «الإنفاق العسكري الخليجي جد متفوق على إيران كمًا ونوعًا. كما تشير بيانات المركز إلى أن دول مجلس التعاون الخليجي تتفوق بفارق ضخم على إيران في واردات الأسلحة. وبالتالي، فإن تنظيم العنصر البشري المشترك عبر بناء القوة العسكرية الإقليمية سيقلّص الفجوة بين إيران ودول مجلس التعاون الخليجي، وسينتقل بهذه الأخيرة من الهم الدفاعي المسنود من الخارج، إلى قوة عسكرية إقليمية منسجمة، بعقيدة قتالية موحدة وسلاح نوعي، يؤهلها للدفاع عن الأمن الإقليمي الخليجي، بشكل استباقي.
مجمل القول، إن اعتماد سياسة «الردع الاستراتيجي الخليجي»، وتحويلها إلى مؤسسات قائمة، من شأنه كذلك أن يوسّع ويجدد دائرة التحالفات العربية والدولية، عبر اتفاقيات للدفاع المشترك وغيرها من الأساليب التي يمكن مأسستها بين شركاء مجلس التعاون الخليجي من الناحية العسكرية والأمنية
.إن الصراع الاستراتيجي بين الولايات المتحدة والصين وروسيا أخذ يشتد على الممرات المائية الدولية، وعلى دول المجلس الخليج العربي التنبه لذلك والعمل على التأثير في مجريات هذا الصراع القائم، لا سيما أن إيران تستثمر هذا التنافس في مفاوضاتها، وفي حماية سياسة الميليشيات الشيعية المسلحة ودورها العسكري المهدّد للأمن الإقليمي الخليجي.
ومن هنا وجب استثمار المُعطى الجيو - استراتيجي، والطاقي، للتخفيف من الاعتماد على الخارج، عبر بناء تكامل اقتصادي ودفاعي، يؤهل دول مجلس التعاون الخليجي للعب دور المحرك الأول لمواجهة الميليشيات الإرهابية، وحماية البنية الأمنية ذاتيًا، عبر تجديد طبيعة التحالف المتميز القائم حاليا مع الولايات المتحدة بما يتوافق وطبيعة الصراع الدولي الجديد، وفي الوقت نفسه يضمن المصالح الحيوية لدول المجلس، والاستقرار في منطقة الخليج العربي.
* أستاذ العلوم السياسية
في جامعة الملك محمد الخامس