الرواية العراقية من منظور علم اجتماع الأدب

الرواية العراقية من منظور علم اجتماع الأدب
TT

الرواية العراقية من منظور علم اجتماع الأدب

الرواية العراقية من منظور علم اجتماع الأدب

في محاولة أكاديمية نقدية جديدة، تحاول الدكتورة لاهاي عبد الحسين، الأستاذة في جامعة بغداد، في كتابها الجديد الصادر عام 2020 (من الأدب إلى العلم. دراسة في علم اجتماع القصة والرواية العراقية للفترة من 1920 – 2020) تقديم مقاربة سوسيولوجية حديثة لتجليات التجربة القصصية والروائية العراقية عبر قرن من الزمن، هو العمر الافتراضي لنشوء الأجناس الأدبية المستحدثة في الثقافة العراقية. ومن الجلي أن هذه المقاربة تحاول أن تبتعد عن كثير من الدراسات الشكلانية أو التقليدية التي تؤكد غالباً على الجوهر المحايث للخطاب الأدبي بعيداً عن جذوره وامتداداته وتجلياته داخل البنية الاجتماعية، في الخطاب السردي. في ضوء هذا المنظور، فالخطاب الأدبي ليس مجرد بنية لسانية محايثة، بل هو بنية اجتماعية وتاريخية وسيكولوجية، وفي الوقت ذاته تحمل وشم العصر والواقع الاجتماعي ورؤيا منتج الخطاب السردي. ولا يمكن الزعم بأن هذه المقاربة هي الأولى من نوعها في الثقافة العراقية، فقد سبقتها دراسات كثيرة لنقاد وباحثين معروفين، لكنها تنفرد بكونها الدراسة الأكاديمية المنهجية الأولى التي تستند إلى أطروحات علم الاجتماع بشكل عام، وعلم اجتماع الأدب بشكل أخص. فقد سبق لكثير من الدراسات النقدية المتأثرة بالنقد الماركسي أن درست الطبيعة الاجتماعية للنتاج الأدبي، ومنها السردي، بشقيه الروائي والقصصي. كما أن الدراسات الثقافية، ومنها دراسات النقد الثقافي، قد أولت اهتماماً خاصاً لهذا الجانب، ربما آخرها دراسة الدكتور سمير الخليل الموسومة «الرواية سرداً – ثقافياً» وبشكل خاص من خلال طرحه لمفهوم السرد الثقافي الذي يذهب إلى أن الأعمال السردية تكشف عن الأوجه الاجتماعية المختلفة للخطابات السردية، فضلاً عن كونها تحمل المنظورات الثقافية والسياسية لكتّابها. وقد أكد منظور السرد الثقافي على الارتباط العميق بالأفكار والعادات والتقاليد الفرعية أو المهيمنة المتعلقة التي تمثل واقعة ثقافية أو متخيلة، وقد يكون لها أكثر من زاوية نظر تمثل كل منظورات شخوص الرواية أو بعضها، كما تعيّن أفراد ثقافة ما لخلق معنى للحياة داخل أروقة الثقافة. ويمكن أن نقول إن الباحثة قد قدمت قراءة مغايرة لسيرورة السرد العراقي وصيرورته معاً، من خلال منهجية أكاديمية منضبطة تستند إلى المعطيات الأساسية التي وفّرتها مناهج سوسيولوجيا الأدب التي سبق لعلماء اجتماع بارزين تقديمها أمثال كارل ماركس، وسيجموند فرويد، وجورج لوكاس، وماكس فيبر، وكارل مانهايم، وإميل دوركهايم، وغيرهم. ولم تهمل الباحثة مساهمة عالم الاجتماع العراقي الدكتور علي الوردي في هذا المجال. يمكن القول إن الباحثة قد بذلت مجهودات كبيرة لتأطير بحثها نظرياً، وكشف أدوات التحليل السوسيولوجي التي اعتمدتها تطبيقاً، ثم عكفت على دراسة 7 عينات أنموذجية من سفر القصة والرواية في الثقافة العراقية، بدءاً من تجربة «محمود أحمد السيد» الريادية، وانتهاءً بالتجارب الحديثة في هذا العقد. وأشارت الباحثة إلى أنها حاولت عقد لقاء بين ميدانين مهمين من ميادين المعرفة الإنسانية، علم الاجتماع العام، والأدب القصصي والروائي، من خلال ما اصطلح على تسميته مهنياً وأكاديمياً علم اجتماع الأدب. وهي ترى أن الكاتب الروائي ابن بيئته الاجتماعية والثقافية، يتأثر سلباً وإيجابياً بهما، كما أن القصة أو الرواية قد تكون مصدراً للتعرف على التوجهات الفكرية والفلسفية حتى الأخلاقية للكاتب أو الروائي. وتقول الباحثة إن الكتّاب السبعة الذين درستهم قد وضعوا أعمالهم ضمن بيئة اجتماعية عراقية، أحسنوا في محاولة توصيفها زمنياً ومكانياً وسياسياً، ما جعلهم يقدمون شهادة لوضع عايشوه، من خلال التركيز على عموم العراقيين، وخاصة أولئك الذين يقعون في قاع المجتمع، وعدم الاقتصار على أولئك الذين يقفون على قمة التل. قدّمت الباحثة استدراكاً مهماً ترى فيه أن أياً من هذه الروايات العراقية التي تناولتها بالدرس لا تصلح لتكون مادة سوسيولوجية يمكن الاعتماد عليها واعتبارها وثيقة لكونها أقرب إلى تسجيل تجارب اجتماعية شخصية ومعارف ومشاعر مرّوا بها أو خبروها، لكنها عادت إلى القول إن هذه الملاحظات لا تقلل من قيمة أي من هذه الأعمال، وهي تخرج من قلب المجتمع وتسجل له.
إن هؤلاء الروائيين، كما تقول د. لاهاي حسين، كتبوا في سياق ما أسماه جورج لوكاش بالواقعية الأدبية، من خلال اهتمامهم بالشأن الاجتماعي العام. وهي ترى مثلاً أن رائد القصة العراقية محمود أحمد السيد قد اعتمد على الأسلوب الأخلاقي الوعظي، وهو ما فعله أيضاً القاصّ عبد الحق فاضل، كما قدّم غائب طعمة فرمان صفحات اتسمت بلمسات تاريخية اجتماعية تجعل منه مؤرخاً روائياً حيث اختصت كل رواية بمرحلة زمنية ومكانية محددة كاشفاً عن قناعاته الآيديولوجية حولها. أما فؤاد التكرلي، حسب رأيها، فيعتمد أسلوباً مقارباً، ولكن بنزعة أقرب إلى الواقعية. وهي تلاحظ أن التكرلي لم ينحُ منحًى أخلاقياً في كتاباته وكشف عن مظاهر لتدخل الحزب الحاكم آنذاك (حزب البعث) وميله لفرض هيمنته الشاملة على الناس والحياة والفكر. أما الروائية إنعام كجه جي فقد دوّنت في أعمالها الروائية وبشكل خاص في «طشاري» مراحل مختلفة من تاريخ العراق من خلال بطلتها وردية شماس. ونوّهت الباحثة إلى نجاح الروائي فلاح رحيم في تقديم مسح لسنوات التعبئة والتحشيد للانتساب إلى الحزب الحاكم. وتخلص إلى أن هؤلاء الكتّاب قد عملوا على وفق فكرة المفكر الفرنسي «بيير بورديو» حول الهـابيتوس، فضلاً عن إفادتهم من فروع علم الاجتماع العام. يمكن القول إن الباحثة الكريمة تُعدّ رائدة في مجال فحص النتاج القصصي والروائي العراقي من منظور علم اجتماع الأدب.



شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور

شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور
TT

شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور

شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور

لم تكن بلدة الخيام، الواقعة على التخوم الشرقية للجنوب اللبناني، مجرد تفصيل هامشي في خارطة جبل عامل، وتاريخه المحكوم بالقلق العاصف وصراعات الدول والمصالح، بل كانت ولا تزال واسطة عقد القرى المحيطة بها، بقدر ما كان لها النصيب الأوفر من كل حرب تقع، أو سلام يتحقق، أو ربيع ينشر ملاءات جماله على الملأ. والأرجح أن الأهمية التي اكتسبتها البلدة عبر الزمن، تتراوح أسبابها بين سحر موقعها الجغرافي، وعراقة تاريخها الحافل بالأحداث، وتعدد القامات الأدبية والشعرية التي أنجبتها البلدة عبر القرون.

ولعل في تسمية الخيام أيضاً، ما يعيد إلى الأذهان منازل العرب الأقدمين، والمساكن التي كانت تقيمها على عجل جيوش الفتوحات، والخيم المؤقتة التي كان الجنوبيون ينصبونها في مواسم الصيف، عند أطراف كروم التين، بهدف تجفيف ثمارها الشهية وادّخارها مؤونة للشتاء البخيل. وإذا كان الدليل على ذلك حاضراً في ذاكرة سهل الخيام المترعة بآلاف الأشجار والنصوب والكروم، فإن الشعر بدوره كان جاهزاً للتحول إلى مدونة كبرى لذلك العالم الزراعي، الذي كادت تطيح به عشوائيات عمرانية مرتجلة وبالغة الفظاظة.

ورغم أن جغرافيا البلدة التي تشبه ظهر الفرس، بهضبتها الطويلة المطلة على الجولان والجليل وجبل حرمون، هي التي أسهمت في تحولها إلى واحدة من أكبر بلدات جبل عامل، فإن هذه الجغرافيا بالذات قد شكلت نعمة الخيام ونقمتها في آن، وهي المتربعة عند المفترقات الأكثر خطورة لخرائط الدول والكيانات السياسية المتناحرة. وفي ظل التصحر المطرد الذي يضرب الكثير من الدول والكيانات المجاورة، تنعم البلدة ومحيطها بالكثير من الينابيع، ومجاري المياه المتحدرة من أحشاء حرمون لتوزع هباتها بالتساوي بين ربوع إبل السقي، التي أخذت اسمها من سقاية الماء، والخيام التي يتفجر عند سفحها الغربي نبع الدردارة، ومرجعيون، أو مرج العيون، التي ترفدها في أزمنة الجدب والقبح بئر من الجمال لا ينضب معينه.

وإذا كانت الشاعريات والسرديات والفنون العظيمة هي ابنة المياه العظيمة، كما يذهب بعض النقاد والباحثين، فإن هذه المقولة تجد مصداقيتها المؤكدة من خلال البلدات الثلاث المتجاورة. إذ ليس من قبيل الصدفة أن تنجب إبل السقي قاصاً متميزاً من طراز سلام الراسي، وتنجب مرجعيون قامات من وزن فؤاد وجورج جرداق وعصام محفوظ ومايكل دبغي ووليد غلمية وإلياس لحود، فيما أنجبت الخيام سلسلة الشعراء المتميزين الذين لم تبدأ حلقاتها الأولى بعبد الحسين صادق وعبد الحسين عبد الله وحبيب صادق وسكنة العبد الله، ولم تنته حلقاتها الأخيرة مع حسن ومحمد وعصام العبد الله وكثيرين غيرهم.

ومع أن شعراء الخيام قد تغذوا من منابت الجمال ذاتها، ولفحهم النسيم إياه بمهبه الرقراق، فإن الثمار التي جنتها مخيلاتهم من حقول المجاز لم تكن من صنف واحد، بل كانت لكل منهم طريقته الخاصة في مقاربة اللغة والشكل والرؤية إلى الأشياء. فحيث جهد عبد الحسين عبد الله، في النصف الأول من القرن المنصرم، في تطعيم القصيدة التقليدية بلمسة خاصة من الطرافة والسخرية المحببة، حرص حبيب صادق على المزاوجة بين المنجز الشعري الحداثي وبين النمط العمودي الخليلي، مع جنوح إلى المحافظة والالتزام بقضايا الإنسان، أملته شخصية الشاعر الرصينة من جهة، وانتماؤه الفكري والسياسي الذي دفعه من جهة أخرى إلى الانصراف عن الكتابة، وتأسيس «المجلس الثقافي للبنان الجنوبي» الذي شكل الحاضنة الأكثر حدباً لكوكبة الشعراء الذين عرفوا في وقت لاحق بشعراء الجنوب اللبناني.

حبيب صادق

لكن الكتابة عن الخيام وشعرائها ومبدعيها يصعب أن تستقيم، دون الوقوف ملياً عند المثلث الإبداعي الذي يتقاسم أطرافه كلُّ من عصام ومحمد وحسن العبد الله. اللافت أن هؤلاء الشعراء الثلاثة لم تجمعهم روابط القرابة والصداقة وحدها، بل جمعهم في الآن ذاته موهبتهم المتوقدة وذكاؤهم اللماح وتعلقهم المفرط بالحياة.

على أن ذلك لم يحل دون مقاربتهم للكتابة من زوايا متغايرة وواضحة التباين. فعصام الذي ولد وعاش في بيروت ودُفن في تربتها بعد رحيله، والذي نظم باللغة الفصحى العديد من قصائده الموزونة، سرعان ما وجد ضالته التعبيرية في القصيدة المحكية، بحيث بدت تجربته مزيجاً متفاوت المقادير من هذه وتلك.

إلا أن الهوى المديني لصاحب «سطر النمل» الذي حوّل مقاهي بيروت إلى مجالس يومية للفكاهة والمنادمة الأليفة، لم يمنعه من النظر إلى العاصمة اللبنانية بوصفها مجمعات ريفية متراصفة، ومدينة متعذرة التحقق. وهو ما يعكسه قوله باللهجة المحكية «ما في مْدينة اسمْها بيروت بيروتْ عنقود الضّيّع». كما أن حنينه الدفين إلى الريف الجنوبي، والخيام في صميمه، ما يلبث أن يظهر بجلاء في قصيدته «جبل عامل» ذات الطابع الحكائي والمشهدية اللافتة، التي يقول في مطلعها: «كان في جبلْ إسمو جبلْ عاملْ راجعْ عبَيتو مْنِ الشغلْ تعبانْ وْكانِ الوقتْ قبل العصرْ بِشْوَيْ بكّيرْ تيصلّي تْمدّدْ عَكرْسي إسمها الخيامْ كتْفو الشمال ارتاح عالجولانْ كتْفو اليمين ارتاحْ عا نيسانْ».

حسن عبد الله

ومع أن الخيام، كمكان بعينه، لا تظهر كثيراً في أعمال محمد العبد الله الشعرية، فهي تظهر بالمقابل خلفية طيفية للكثير من كتاباته، سواء تلك المترعة بعشق الطبيعة وأشجارها وكائناتها، كما في قصيدته «حال الحور»، أو التي تعكس افتتانه بوطن الأرز، الذي لا يكف عن اختراع قياماته كلما أنهكته الحروب المتعاقبة، كما في قصيدته «أغنية» التي يقول فيها:

من الموج للثلج نأتيك يا وطن الساعة الآتية

إننا ننهض الآن من موتك الأوّليّ

لنطلع في شمسك الرائعة

نعانق هذا التراب الذي يشتعلْ

ونسقيه بالدمع والدم يمشي بنسغ الشجرْ

أما حسن عبد الله، الذي آثر حذف أل التعريف من اسمه العائلي، فقد عمل جاهداً على أن يستعيد من خلال شعره، كل تلك الأماكن التي غذت ببريقها البرعمي حواسه الخمس، قبل أن تتضافر في إبعاده عنها إقامته الطويلة في بيروت، والحروب الضروس التي نشبت غير مرة فوق مسقط رأسه بالذات، وحولت عالمه الفردوسي إلى ركام. ورغم أن نتاجه الشعري اقتصر على مجموعات خمس، فقد تمكن حسن أن يجعل من البساطة طريقته الماكرة في الكتابة، وأن يحمل أكثر الصور غرابة وعمقاً، على الكشف عن كنوزها بسلاسة مدهشة أمام القارئ.

وإذ أفاد صاحب «أذكر أنني أحببت» و«راعي الضباب» من فن الرسم الذي امتلك ناصيته بالموهبة المجردة، فقد بدت قصائده بمعظمها أشبه بلوحات متفاوتة الأحجام منتزعة من تربة الخيام وأشجارها وعسل فاكهتها الأم، ومياهها الغائرة في الأعماق. وكما استطاع بدر شاكر السياب أن يحوّل جدول بويب النحيل إلى نهر أسطوري غزير التدفق، فقد نجح حسن عبد الله من جهته في تحويل نبع «الدردارة»، الواقع عند الخاصرة الغربية لبلدته الخيام، إلى بحيرة مترامية الأطراف ومترعة بسحر التخيلات.

وإذا كانت المشيئة الإلهية لم تقدّر لشعراء الخيام أن يعيشوا طويلاً، فإن في شعرهم المشبع بروائح الأرض ونسغها الفولاذي، ما لا يقوى عليه فولاذ المجنزرات الإسرائيلية المحيطة ببلدتهم من كل جانب. وكما يواجه الجنوبيون العدو بما يملكون من العتاد والأجساد، واجهه الشعراء بالقصائد وشواهد القبور ونظرات الغضب المدفونة في الأرض. ومن التخوم القصية لبراري الفقدان، راح حسن عبد الله يهتف ببلدته المثخنة بحراب الأعداء:

تأتي الطائرات وتقصف الصفصاف،

تأتي الطائراتُ ويثْبتُ الولد اليتيمُ

وطابتي في الجوّ والرمان في صُرَر الغيوم،

وتثبتينَ كراية التنّين،

إني مائلٌ شرقاً

وقد أخذ الجنوب يصير مقبرةً بعيدة.