مقاطعة الثقافة الروسية تثير جدلاً في فرنسا

كاتبة وصفتها بأنها {شكل من أشكال الاستبداد... كأننا في أوج مرحلة المكارثية}

مشهد من بحيرة البجع
مشهد من بحيرة البجع
TT

مقاطعة الثقافة الروسية تثير جدلاً في فرنسا

مشهد من بحيرة البجع
مشهد من بحيرة البجع

«ها هو الرجل بكامله وهو يهاجم ساقه بينما المذنب هو حذاؤه... »، هذه المقولة المشهورة لصمويل بيكيت قد تلخص لحد ما الجدل الذي يعيشه الوسط الثقافي بعد الغزو الروسي لأوكرانيا. فمنذ فترة يحتشد الغرب لفرض مقاطعة ثقافية على روسيا لم يسبق لها نظير ولم يشهدها العالم، ولا حتى في أوج الحرب الباردة. بدأ الأمر بقرار من أورسولا فون دير لاين رئيسة المفوضية الأوروبية، بحجب بث قناة «روسيا اليوم» و«سبوتنيك»، تلتها سلسلة إجراءات اتخذها مسؤولون رسميون ودوائر ثقافية غربية بإلغاء تظاهرات مختلف أشكال الفنون والثقافة الروسية، إضافة لإلغاء دعوات حضور الوفود الروسية لمختلف الفعاليات المتوقع إحياؤها في الخارج، ووقف كل أشكال التعاون الثنائي. الموضوع أثار جدلاً في الأوساط الثقافية الفرنسية بين مؤيد ومعارض.
كثير من رجال الفن والثقافة عارضوا فكرة مقاطعة الثقافة الروسية، فهي برأيهم لن تغير شيئاً في المشكلة، بل قد تقلب السحر على الساحر وتجعل الروس يعتقدون أن العالم كله ضدهم. آن صوفي شازون صاحبة كتاب «حرية التعبير... أشكال الرقابة المعاصرة»، كتبت في مقال نشرته صحيفة «لو كوزو» الفرنسية بعنوان: «ثقافة الإلغاء تطال روسيا: أي شخص يتمتع بكامل قواه العقلية قد يسأل نفسه كيف يمكن أن يكون الموسيقيون، لاعبو كرة القدم، أصحاب المطاعم أو الكتاب الذين ماتوا منذ أكثر من قرن مسؤولين عن سياسة بوتين؟ وقد يبحث أيضاً، دون جدوى، عن العلاقة التي تربط دوستويفسكي بمصير الأوكرانيين في 2022... أيكون ذلك بسبب كلمة (الجريمة) الموجودة في عنوان روايته الشهيرة؟!»، تتساءل الكاتبة بأسلوب ساخر، وتضيف: «للأسف هذا لم يمنعه من الإفلات من الشكوك ومطاردة الساحرات التي نشهدها اليوم... سخافة فكرية وأخلاقية مشينة». وتختم الكاتبة الفرنسية مقالها الطويل بالكلمات التالية: «رغم كل ما يكتبه الفلاسفة وأصحاب النوادي النخبوية المغلقة، هذه المقاطعة شكل من أشكال الاستبداد الذي يشجع، بدون خجل، معاداة الروس وكأننا في أوج مرحلة المكارثية». المؤرخ والكاتب والأستاذ في جامعة السوربون إيريك إنسو، عبر أيضاً عن استيائه من حملة «الروسوفوبيا» التي اجتاحت العالم، في تغريدة على موقع التواصل الاجتماعي «تويتر» كتب فيها ما يلي: «أوركسترا فيلارمونيك التابع لمدينة ستراسبورغ يرفض استعمال كلمتي (روسيا) و(موسكو)... ويتم عزف أعمال سترافينسكي، رخمانينوف وبروكوفييف دون التلميح إلى أن أصحابها روس... وماذا بعد؟ العالم أصيب بالجنون...». وعبر الكاتب الصحافي كريستوف ديفيكيو، من جريدة «لوفيغارو»، عن عدم فهمه للعلاقة بين النزاع السياسي والوسط الفني والثقافي، متسائلاً في مقال بعنوان «بين التهديد والمقاطعة... العقوبة المزدوجة للمبدعين الروس»: «رجال الفن والأدب ليسوا جنوداً ولا يتكلمون باسم الحكومات، محاولة محو الثقافة الروسية يعني أننا نخلط بين روسيا وفلاديمير بوتين، بين الروس وسياسة الكرملين، إنها كارثة أخلاقية، إضافة لكونه خطأ استراتيجياً ذريعاً... لماذا؟ لأن ذلك سيمنح بوتين ذريعة ليؤكد لشعبه أن الغرب متحالف ضدهم... ولو كان بإمكان الفن أن يتحول لوسيلة دعاية، فهو يبقى أيضاً أداة تحرر قوية... تذكروا الصورة القوية مستيسلاف روستروبوفيتش وهو يعزف الكمان للاحتفال بانتصار الديمقراطية إثر سقوط حائط برلين تذكروا... روستروبوفيتش كان روسياً...». ونشرت صحيفة «ليبيراسيون» رأياً لفريديريك لوديون، وهو عازف كمان فرنسي معروف وتلميذ العازف الروسي روستروبوفيتش، مقالاً شكك فيه بجدوى إجراءات المقاطعة بقوله: «هل تظنون أن بوتين يكترث بوضع الفنانين الروس في أوروبا؟ بالطبع لا... المقاطعة لن تغير شيئاً من عدوانيته، كان مستبداً قبل الحرب ولن يتوقف لأن رجال الفن يعانون المقاطعة، الخاسر الوحيد هو الثقافة».

                                                       دوستويفسكي  -  سترافنسكي  -  رخمانينوف

«مرصد الصحافة الفرنسية» يذهب لأبعد من ذلك حين يندد بتحامل وسائل الإعلام على رجال الفن والثقافة الروس دون أن تكون لهم أي مسؤولية في النزاع السياسي، مستعملاً تعبير «ثقافة الإلغاء»، حيث نقرأ على موقعه على الشبكة: «ما تشهده الساحة الثقافية من تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية نوع من (ثقافة الإلغاء)، قد يبدو الأمر غريباً، لا سيما أننا على بعد أميال من مدرجات الجامعات الأميركية التي عرفت ميلاد هذه الظاهرة». وهاجم المرصد صحيفة «لوموند» التي يرى أنها تعدت صلاحيتها حين دعت في الشهر الماضي المسؤولين عن برمجة التظاهرات الثقافية إلى مقاطعة كل أشكال التعاون مع نظرائهم الروس عبر السؤال الإيحائي التالي: «هل يجب الاستمرار في التعريف بالفنانين الروس، عزف مقطوعاتهم الموسيقية، وعرض أعمالهم باسم عالمية الثقافة، أو مقاطعة كل تعاون؟»، وهاجم مرصد حرية الإبداع فكرة المقاطعة في بيان له صدر في الثامن من مارس (آذار) الحالي، مذكراً بميثاق حقوق الإنسان الذي لا يحق بموجبه حرمان أي شخص من حرية الإبداع والتعبير بسبب الجنسية. المرصد الذي يراقب نشاط المؤسسات الثقافية الفرنسية اعتبر أن نبذ فنانين روسيين ومقاطعة أعمالهم لمجرد أنهم روسيون يعد نوعاً من التمييز غير المقبول.
لوران بايل مدير أوركسترا فيلارمونيا باريس ومدير مركز مدينة الموسيقى وصاحب كتاب «حياة موسيقية» (دار نشر أوديل جاكوب)، دعا الوسط الفني والثقافي لالتزام المنطق والاعتدال وتفادي الأحكام المتسرعة، حيث كتب على صفحات صحيفة «ليبيراسيون»: «الحزم مطلوب وما تفعله الحكومات من مقاطعة لنشاطات المؤسسات الثقافية الرسمية شرعي ومفهوم، لكن المطلوب أيضاً التصرف بحكمة، فكلنا يعلم أن الفنانين والمثقفين لا يمكنهم الإعلان عن موقفهم من الحرب لحماية عائلتهم التي لا تزال مقيمة داخل روسيا. إنها قضية حياة أو موت. التزام موقف عدواني اتجاههم قد يكون له نتيجة عكسية ويقربهم من النظام».
عقوبة مزدوجة
أما إيف بوفالي من صحيفة «لوموند»، فتكتب: «قد تكون الأمور بسيطة لو كنا في عالم ثنائي الأطراف من جهة: فن المأجورين الأشرار الذين يطبلون للنظام ومن جهة أخرى: فن المعارضين الطيبين الذين يقاومون النظام، لكن الوضعية للأسف أكثر تعقيداً، وغالباً ما يكون المبدعون الروس ضحايا العقوبة المزدوجة، مستشهدة بمثل المصور الروسي ألكسندر غرونسكي، الذي تم إلغاء معرضه في إيطاليا، وحين وصل لروسيا تم القبض عليه، وإيداعه السجن، لأنه شارك في مظاهرة للمطالبة بوقف الحرب».
أول تداعيات هذه المقاطعة كان استقالة توغان سوخياف الذي يشغل منصب مدير مسرح البولشوي العريق، وكذا مسرح الكابتول لمدينة تولوز منذ 2003. سوخياف صرح بأنه لم يعد يتحمل أصابع الاتهام التي توجه له هو ومواطنوه من كتاب وفنانين ومخرجين، واصفاً نفسه ومواطنيه بضحايا ثقافة الإلغاء. سوخياف فضل الاستقالة لأنه كما يقول لا يريد الاختيار بين فريقه الروسي وفريقه الفرنسي الذي تربطه به علاقات قوية. مهرجان كان، دار أوبرا باريس، وكثير من المتاحف الوطنية علقت أيضاً تعاونها مع الأطراف الروسية، هكذا إجراءات تذكرنا حسب صحيفة «لوفيغارو» بالمقاطعة الثقافية والدبلوماسية التي مورست ضد نظام الأبارتيد بجنوب أفريقيا وضد الحكومة الإسرائيلية.
لكن الباحثة جان دونكان من جامعة جوهانزبورغ، مقتنعة بجدوى المقاطعة لإضعاف الأنظمة المستبدة. وكتبت في كتابها «المقاطعة الثقافية، كعامل للتغيير السياسي» ما يلي: «الحملات التي تهدف إلى عزل بلد على الصعيد الثقافي قد تكون فاعلة بسبب تأثيرها النفسي المهم، لا سيما أن روسيا فخورة منذ قرون بإنجازاتها الثقافية والفنية والرياضية التي أصبحت جزءاً لا يتجزأ من هويتها وقواها الناعمة في إطار العولمة». وتضيف الباحثة أن المقاطعة الثقافية قد تشجع وتقوي حركة الاحتجاجات الروسية ضد هذه الحرب التي لا تجلب إلا المآسي. وكذلك يرى ماكسيم أوديني، الباحث في جامعة نانتير الفرنسية وصاحب كتاب «تحليل في الدبلوماسية الثقافية لروسيا» على صفحات «سود ويست»: «روسيا تعتبر الثقافة أداة حرب وهيمنة، ولذا فإن نظام بوتين اهتم بدعم مؤسساتها مادياً معنوياً، لا سيما الممثلة لروسيا في الخارج كالمعاهد الثقافية، مدارس اللغة والموسيقى العالمية والباليه. هذا النظام لم ينس استخدام الثقافة لخدمة مصالحه مع كبح حريتها». الباحث يوهيني كريزونسكي من جامعة ستراسبورغ، يشرح على صفحات «الهوفيننغتون بوست» أن المهم هو ضرب الصناعة الثقافية الروسية التي تدعم النظام وتحمل رايته في المحافل الدولية، ودعا النخبة الثقافية والفنية إلى «تكرار تجربة مقاطعة نظام الأبارتيد التي كانت قد لاقت دعماً إعلامياً واسعاً». أصوات أخرى دعت بعدم وضع الجميع في سلة واحدة، لا سيما المؤسسات المستقلة التي تقع خارج وصاية القطاع العام. المسؤولة عن قسم الدراسات الروسية في جامعة السوربون بيلا أوستروموخوفا، ناشدت في موقع نقابة الناشرين في مقال بعنوان: «مقاطعة الكتاب ودور النشر الروسية... منظور مروع»، الحكومات الغربية، مد يد العون لهذه المؤسسات المستقلة كدور النشر الصغيرة التي كانت السباقة إلى التنديد بالحرب، في موقع «غوركي ميديا» الذي يمثلها نقرأ مثلاً العبارات التالية: «كيف يمكن لنا أن نستمر في نشاطنا؟ هل يمكن للثقافة أن تمنع العنف؟ إن لم يكن الآن فالأقل على الأمد البعيد».
إذن أين نضع رقاص المقاطعة؟ تتساءل صحيفة «لوفيغارو»: «أنقاطع كل المبدعين أم المقربين من نظام الكرملين فقط؟»، وصرحت وزيرة الثقافة الفرنسية روزلين باشلوعن، بالموقف الرسمي للحكومة بقولها: «لا مقاطعة للثقافة الروسية في فرنسا... هناك خط واضح فلا تمثيل لشخصيات أو مؤسسات روسية مؤيدة لنظام فلاديمير بوتين، لكن الباب مفتوح لرجال الفن والثقافة المعارضين للنظام، وسيلقون كل الدعم والتأييد».



هيراكليس الإغريقي في جزيرة فيلكا

هيراكليس كما يظهر في ثلاثة مجسّمات من جزيرة فيلكا
هيراكليس كما يظهر في ثلاثة مجسّمات من جزيرة فيلكا
TT

هيراكليس الإغريقي في جزيرة فيلكا

هيراكليس كما يظهر في ثلاثة مجسّمات من جزيرة فيلكا
هيراكليس كما يظهر في ثلاثة مجسّمات من جزيرة فيلكا

يحتفظ متحف الكويت الوطني بثلاثة مجسمات من الحجم الصغير تمثّل هيراكليس، البطل الإغريقي الذي نجح في القيام بسلسلة من الأعمال الخارقة لم يكن ليستطيع أي من البشر الفانين القيام بها، وحصد شهرة واسعة في العالم اليوناني القديم كما في سائر أنحاء الشرق الهلنستي المتعدّد الأقاليم. خرجت هذه المجسمات من جزيرة فيلكا التي تقع في الجهة الشمالية الغربية من الخليج العربي، وهي من القطع الفنية المعدودة التي تشهد لحضور نادر لهذا البطل في شبه الجزيرة العربية.

تُعدّ جزيرة فيلكا من أقدم مواقع شبه الجزيرة العربية الأثرية التي تزاوجت مع حضارات أخرى على مدى تاريخها الطويل، ومنها حضارة الإغريق. شكّلت هذه الجزيرة جزءاً من إقليم دلمون الذي برز في الماضي على الطريق البحري بين بلدان الشرقَيْن: الأوسط والأدنى، وهي كذلك من المواقع التي قصدها نيارخوس، أحد ضباط جيش الإسكندر الأكبر، في أثناء قيامه برحلته الاستكشافية الطويلة التي انطلقت من نهر السند وبلغت ساحل الخليج العربي. يرى البعض أن اسم فيلاكو مشتق من «فيلاكيو»، وهي كلمة يونانية تعني الموقع البعيد، كما أنها تشير إلى نقطة تمركز، والأكيد أن اليونانيين أطلقوا عليها «إيكاروس»، تيمناً بجزيرة إيكاروس الواقعة في بحر إيجه، كما تشير مصادر أدبية عدة يعود أقدمها إلى نهاية القرن الأول قبل الميلاد.

تمتدّ فيلكا على مساحة قدرها 43 كيلومتراً مربعاً، تضمّ 106 مواقع أثرية، منها تل يقع في الطرف الغربي الجنوبي من الجزيرة، يضمّ دارتين تشير أسسهما إلى قصر ومعبد برجي متجاورين. في هذا المعبد الذي قامت بعثة فرنسية باستكشافه في عام 1983، تمّ العثور على تمثالين صغيرين من الحجر الرملي يمثلان رأسين آدميين لا يتجاوز طول كل منهما 9 سنتيمترات. ملامح هذين الوجهين واحدة، وهي الملامح الخاصة بالبطل الإغريقي الخارق هيراكليس الذي وُلد بحسب الرواية المتوارثة من علاقة جمعت بين ابن زيوس، سيّد معبودي الإغريق، وألكميني، ابنة آلکترويون ملك مدينة موكناي، في شبه جزيرة بيلوبونيز، جنوب اليونان. يتشابه هذان التمثالان اللذان وصلا بشكل مجتزأ كما يبدو، غير أنهما لا يتماثلان؛ إذ يبدو أحدهما بيضاوياً، فيما يبدو الآخر دائرياً.

ملامح الوجه البيضاوي أكثر نتوءاً. العينان لوزتان واسعتان وفارغتان، يعلوهما حاجبان مقوّسان منفصلان. الأنف مثلث مجرّد من أي تفاصيل تشير إلى تجويف المنخرين. الفم شفتان مطبقتان، يفصل بينهما شق بسيط. الأذنان حاضرتان، وكل منهما على شكل نصف دائرة مجرّدة. أعلى الرأس مقوّس، وهو مكلّل بشعر تحدّ خصلاته شبكة من الخطوط المتوازية، تشكل مجموعة من الكتل المتراصة هندسياً. تحدّ اللحية طرفي الخدين، وتلتف حول الذقن، وتبدو أشبه بكتلة هلالية غابت عنها تقاسيم الشعر. في المقابل، يحمل الوجه الدائري هذه السمات، غير أن أنفه يبدو أفطس، وأعلى رأسه مسطّحاً، وتحدّه خصل من الشعر تلتف من حوله على شكل عقد، كما أن اللحية أكثر كثافة، والفم شبه ذائب في الكتلة الحجرية.

يعود هذان الوجهان إلى القرن الثالث قبل الميلاد بحسب أهل الاختصاص، ويتميّزان بخروجهما عن النسق اليوناني التقليدي، وبتبنّيهما النسق الشرقي الذي شاع في نواح عدة من الشرق القديم. في تلك الحقبة، تجلّى هذا النسق في عدد كبير من التماثيل الخاصة بهيراكليس، أشهرها تلك التي خرجت من موقع «مسجد سليمان» في محافظة خوزستان، جنوب غربي إيران. وقد ظلّ هذا التقليد الشرقي حياً في فترات لاحقة، كما تشهد مجموعة كبيرة من تماثيل هيراكليس خرجت من مدينتَي دورا أوروبوس وتدمر في الصحراء السورية، ومملكة الحضر في الجزيرة الفراتية.

إلى جانب هذين الوجهين الحجريين، يحضر مجسّم من الطين المحروق، عثرت عليه البعثة الفرنسية عام 1985، في أثناء مواصلتها أعمال المسح والتنقيب في مسكن مجاور لما يُعرف بالقلعة الهلنستية الكبيرة التي تقع في «تل سعيد»، في أقصى الجنوب الغربي من ساحة الجزيرة. يبلغ طول هذا المجسّم الصلصالي 19 سنتيمتراً، وهو على الأرجح من نتاج النصف الأول من القرن الثاني قبل الميلاد، ويتبع الطراز اليوناني الكلاسيكي بشكل جليّ. تمثّل هذه القطعة الأثرية قامة رجل منتصب، فقد للأسف رأسه والجزء الأسفل من ساقيه. مفاصل البدن تتبع التشريح الواقعي، وتصوّر الجسد الحي المتناسق الذي يخلو من أي عيب، مع انحناءة بسيطة من الخاصرة اليمنى تميّزت بها الجمالية الكلاسيكية اليونانية.

يقبض البطل بيده على هراوة يستند إليها، وتُعد هذه الهراوة من المفردات الفنية الخاصة بهيراكليس، وهي بحسب رواية نقلها مؤسس الشعر الرعوي ثيوقريطس، الهراوة التي صنعها البطل من شجرة زيتون اقتلعها في جبل الهيليكون، قبل أن يصل إلى مدينة نيميا في مقاطعة كورنثيا، في شبه جزيرة بيلوبونيز. بهذه الهراوة، انقض البطل الجبار على أسد خارق لا يخترق جلده سهم، وقضى عليه بعدما تمكّن من خنقه، ثم سلخ جلد ولبسه. وفقاً للنموذج التقليدي الذي ساد غرباً وشرقاً، يظهر هيراكليس في مجسّم فيلكا وهو يلف حول ذراعه هذا الجلد الذي يشكّل كذلك مفردة أخرى من المفردات الفنية الخاصة به. الوجه الخلفي من هذا المجسّم منجز بحرفية عالية، ويختزل كذلك الجمالية اليونانية التي طبعت سائر فنون النحت والتجسيم والنقش.

خارج فيلكا، يحضر هيراكليس في تمثال برونزي عُثر عليه في قرية الفاو في المملكة العربية، وهو من الطراز الكلاسيكي الصرف، ويعود إلى القرون الميلادية الأولى. كما يحضر البطل الإغريقي بشكل بدائي مبسط على نصب جنائزي مرمري من نتاج القرن الرابع، مصدره شبوة في اليمن. تشكل هذه القطع مجموعة صغيرة تشهد لحضور هيراكليس في الجزيرة العربية، غير أن هذا الحضور يبقى خجولاً كما يبدو في غياب مكتشفات أخرى تجسّد هذا البطل.