هل تستمر الألعاب الأولمبية في معاندة الطبيعة؟

من الألعاب الأولمبية الشتوية الأخيرة في بكين (أ.ف.ب)
من الألعاب الأولمبية الشتوية الأخيرة في بكين (أ.ف.ب)
TT

هل تستمر الألعاب الأولمبية في معاندة الطبيعة؟

من الألعاب الأولمبية الشتوية الأخيرة في بكين (أ.ف.ب)
من الألعاب الأولمبية الشتوية الأخيرة في بكين (أ.ف.ب)

عندما أقيمت الألعاب الشتوية الأولمبية الأولى في شاموني الفرنسية سنة 1924، جرت جميع المسابقات في الهواء الطلق، بفضل الهطولات الثلجية الملائمة لمسارات سباقات السرعة، ودرجات الحرارة المنخفضة المناسبة لساحات التزلج على الجليد. وبعد نحو قرن من الزمن، كان العالم لأول مرة على موعد مع دورة ألعاب شتوية تنظم بشكل كامل على ثلج وجليد من صنع الإنسان.
لقد سمحت التطورات التقنية بتنظيم أولمبياد بكين 2022 في مناخ دافئ نسبياً، رافقه هطول متقطع للثلوج في الأيام الأخيرة. ولكن مع استمرار ارتفاع درجات الحرارة، والآثار البيئية للثلج الاصطناعي، كيف سيكون مستقبل الألعاب الشتوية الأولمبية؟ وهل توجد فرصة لاستمرارها بعد عقود؟
- الاستدامة في ألعاب الشتاء
اعتبرت اللجنة الأولمبية الدولية دورة الألعاب الأولمبية الشتوية في بكين فرصة لتعزيز جهود الاستدامة، من خلال التنافس الرياضي. وفي هذا الشأن تقول ماري سالوا، مديرة الاستدامة في اللجنة الأولمبية، إن الهدف هو «ضمان أن تكون الألعاب داعماً للاستدامة، وعاملاً محفزاً للتنمية في الدول المضيفة. ونريد أيضاً استخدام الرياضة والألعاب الأولمبية لعرض الحلول المبتكرة والمستدامة والترويج لها».
ويشير لي سين، المدير العام لإدارة التخطيط في ألعاب بكين، إلى تضمين مفاهيم «الألعاب الخضراء» والاستدامة في كل جانب من جوانب العمل، لإعداد وإنجاز دورة ألعاب بكين 2022: «حيث كان الحياد الكربوني وحماية البيئة أهم أهداف الاستدامة التي وُضعت لهذه الدورة»؛ لكن الوقائع أظهرت أن تحقيق هذه الوعود لم يكن متاحاً، مع الكميات الضخمة من الطاقة التي تطلَّبتها تغطية مساحات واسعة بالثلج الاصطناعي، وتسرُّب المواد الكيميائية منه إلى المياه الجوفية، إلى جانب إزالة عشرات آلاف الأشجار في غابات محمية معمرة، لفتح ممرات التزلج.
وكان منظمو ألعاب بكين قد أعلنوا عن عدة إجراءات لتجنب وتقليل انبعاثات الكربون والوصول إلى الحياد الكربوني. وتشمل هذه الإجراءات التقليل من أعمال البناء عن طريق إعادة توظيف 5 ملاعب من منشآت أولمبياد بكين 2008 الصيفية، واستخدام الطاقة المتجددة إلى أقصى الحدود لتشغيل أماكن الألعاب، وإدخال تقنيات منخفضة الكربون، واستخدام وسائل نقل قليلة الانبعاثات، وإنجاز مشروعات عزل كربون قائمة على زراعة أشجار في مناطق أخرى، للتعويض عن آلاف الأشجار المقطوعة.
وقد وُضعت للمنشآت التي شُيِّدت خصيصاً لألعاب بكين معايير تلحظ كفاءة المياه والطاقة، وتقنيات العزل والتبريد في المباني. كما اتُّخذت تدابير لحماية التنوُّع الطبيعي من خلال حماية الأنواع النباتية والحيوانية المحلية؛ خصوصاً أثناء بناء مرافق السباقات الرياضية المكشوفة. غير أن الواقع كان مخالفاً للوعود في حالات كثيرة، مثل أعمال البناء في الجزء المركزي من محمية سونغشان الطبيعية الوطنية التي تأسست سنة 1985، وتتميز بغاباتها الكثيفة وتنوُّعها البيولوجي؛ حيث كانت للمنشآت الأولمبية آثار مدمرة.
وفي حين اعتمدت مجمل الرياضات الثلجية في بكين على الثلج الاصطناعي، فقد كانت هناك محاولات لتقليل الأثر البيئي لإنتاج الثلج. ويشمل ذلك تشغيل معدات صنع الثلج بالاعتماد على مصادر الطاقة المتجددة، ووضع سلسلة من تصاميم الحفاظ على المياه وإعادة تدويرها حماية للموارد، وتقليل استخدام المواد الكيميائية في عملية صنع الثلج، لتجنب التأثير على النظام البيئي المحلي. ولكن استخدام الطاقة المتجددة من مصادر خالية من الكربون في مناطق الألعاب، تطلَّب التعويض في مناطق أخرى بإنتاج مزيد من الكهرباء من محطات عاملة على الفحم الحجري الذي ما زال مصدر 70 في المائة للكهرباء في الصين. عدا أن تحسين نوعية الثلج الاصطناعي، لجعله صالحاً للتزلج والحد من سرعة ذوبانه، يتطلب إضافة مواد كيميائية لا يمكن الحد من آثارها كلياً. كما أنه لا يمكن تجاهل الآثار السلبية للتعامل مع أكثر من 222 مليون لتر من المياه التي استُخدمت لتهيئة الظروف الثلجية في منطقة تعاني سلفاً من قلة المياه.
ورغم التحديات، تسعى اللجنة الأولمبية الدولية إلى أن تكون جميع الإصدارات المقبلة من الألعاب الأولمبية محايدة كربونياً، بدءاً من سنة 2030. وفي هذا السياق، وافق مجلس إدارة الألعاب الأولمبية الصيفية في باريس سنة 2024 على استراتيجية المناخ الخاصة بالأولمبياد التي ستكون -إذا نجحت الخطة- أول دورة ألعاب أولمبية تقدم مساهمة إيجابية للمناخ العالمي، بحيث تتجاوز تحقيق «صفر كربون» من الألعاب نفسها، إلى امتصاص كميات من الكربون صادرة عن نشاطات أخرى. وسبق لأولمبياد طوكيو 2020 التي تأجلت إلى 2021، أن حققت مبدأ الحياد الكربوني من خلال الحد من معظم انبعاثات الكربون، وتعويض الانبعاثات المتبقية. ولا بد من أن قيود السفر بسبب «كورونا» ساهمت في ذلك.
كما ستقوم اللجنة الأولمبية الدولية نفسها بتخفيض بصمتها الكربونية إلى النصف، بحلول سنة 2030، وإنشاء غابة أولمبية في مالي والسنغال، لتصبح ذات تأثير إيجابي في المناخ بدءاً من سنة 2024. وتعدّ هذه الغابة التي ستبلغ مساحتها نحو 2120 هكتاراً، مساهمة من اللجنة الأولمبية في مبادرة «السور الأخضر العظيم» التي تهدف إلى ترميم المناظر الطبيعية المتدهورة عبر منطقة الساحل في أفريقيا.
- رهان على التطور التقني
منذ دورة الألعاب الأولمبية الشتوية الأولى، ارتفع متوسط درجة الحرارة خلال النهار في المدن المضيفة بشكل مطرد. وبينما كانت الزيادة 0.4 درجة مئوية بين عشرينات وخمسينات القرن الماضي، وصلت الزيادة إلى 7.8 درجة مئوية في أوائل القرن الحادي والعشرين. وهذا يعني درجات الحرارة في مدن محددة وفي فصل معيَّن، وليس المعدل العالمي.
وفي مراجعة لتغيُّر المناخ المحلي ضمن 19 منطقة استضافت سابقاً الألعاب الأولمبية الشتوية، خلُصت دراسة حديثة إلى أن 4 مدن مضيفة سابقاً لن تتمتع بمناخ يمكن الاعتماد عليه لاستضافة الألعاب الشتوية بحلول منتصف القرن الحالي، حتى في ظل أفضل سيناريو لتغيُّر المناخ يفترض أن العالم سينجح في تخفيض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري بسرعة. وسيرتفع هذا العدد إلى 11 مدينة على الأقل بعد نحو 60 سنة.
ومن بين الألعاب الشتوية الـ15 التي يتم التنافس على ميدالياتها الأولمبية حالياً، توجد 7 رياضات تتأثر بدرجة الحرارة وتراكم الثلوج، من بينها التزلج الألبي (التزلج على المنحدرات) والبياثلون (ثنائية الرماية والتزلج للمسافات البعيدة) والقفز الطويل على الجليد. كما تتأثر 3 من الرياضات التي تستخدم الزلّاجات بدرجة الحرارة والرطوبة.
وقد ساعدت التطورات التكنولوجية دورات الألعاب الشتوية على التكيُّف مع المتغيِّرات؛ حيث انتقلت لعبة الهوكي إلى الصالات المغلقة، ثم تبعتها منافسات التزلج على الجليد. ومنذ دورة ليك بلاسيد 1980، استخدم الثلج الاصطناعي لزيادة كميات الثلوج على منحدرات التزلج. وشهدت ألعاب فانكوفر الكندية 2010 شحن ثلوج بالطائرات من أماكن مرتفعة. كما استخدم الثلج الاصطناعي في ألعاب سوتشي الروسية 2014، وبيونغتشانغ الكورية 2018.
ويوجد اليوم عديد من المنشآت التي تجعل التزلج ممكناً على مدار العام، ضمن مرافق التزلج الداخلية. ومن بينها، على سبيل المثال، منشأة «سكِي دبي» التي افتتحت سنة 2005، وتضم 5 منحدرات للتزلج من على تل بارتفاع 25 طابقاً، داخل منتجع ملحق بمركز تسوُّق.
ويتسبب التحوُّل إلى المنشآت المغلقة واستخدام الثلج الاصطناعي، للتعويض عن الهطول الطبيعي أو لتطويل الموسم، في إنفاق مزيد من الوقت والمال والطاقة، فهل العوائد كافية لتبرير الجدوى؟ في الولايات المتحدة مثلاً، تساعد الرياضات الشتوية في خلق أكثر من 800 مليار دولار من النشاط الاقتصادي سنوياً، وهي تدعم أكثر من 7 ملايين وظيفة، وتحفِّز ملايين الناس على ممارسة الرياضة في الهواء الطلق. ولكن ما هو أثر هذا كله على البيئة؟
وعلى نحو مشابه، تواجه الألعاب الأولمبية الصيفية والمنافسات الرياضية الكبرى تحديات مناخية أيضاً، بسبب درجات الحرارة المتزايدة والرطوبة المرتفعة التي تجعل المنافسات في الصيف صعبة. ولكن هذه الرياضات تتمتع بمرونة أكبر من الرياضات الشتوية.
ويمكن لتغيير توقيت المناسبات الرياضية الصيفية أن يساعد في تخفيف تأثير الأجواء الحارة. فهذه السنة سيجري تنظيم بطولة كأس العالم في شهر نوفمبر (تشرين الثاني)، بدلاً من أشهر الصيف كما جرت العادة سابقاً، لتجنب أشعة الشمس الحارقة في قطر خلال الصيف.
في الأوقات المضطربة، توفِّر الأحداث الرياضية العالمية فرصة لوضع الخلافات جانباً، وجمع العالم تحت مظلة واحدة. ومن المتوقع أن تتجه مسابقات الألعاب الشتوية إلى أماكن أبعد نحو الشمال ومناطق أكثر ارتفاعاً، سعياً وراء الثلج الطبيعي، مما سيجعلها أكثر كلفة وحصرية. لكن مواقع التزلج التقليدية في جبال الألب نفسها تعاني من سنوات انخفاضاً في هطول الثلوج، مما يدفعها إلى دعم منتجعاتها بالثلج الاصطناعي للحفاظ على الموسم الشتوي. ولا شك في أنه ستكون هناك تبدلات كثيرة في الرياضات الخارجية خلال السنوات القليلة المقبلة، أكانت في الشتاء أو الصيف. وأياً تكن هذه التبدلات، يبقى مستقبل الألعاب مرهوناً بكيفية استجابة البلدان لتغيُّر المناخ. وعلى الدول إحلال التعاون محل التنافس، لاستضافة دورات الألعاب الرياضية الدولية؛ حيث تسمح الظروف المناخية بذلك، والتوقف عن معاندة الطبيعة.


مقالات ذات صلة

اكتشاف محيط هائل تحت قشرة الأرض يحتوي على ماء

يوميات الشرق بحث العلماء لعقود عن هذا الماء العميق المفقود (شاتيرستوك)

اكتشاف محيط هائل تحت قشرة الأرض يحتوي على ماء

يدرك الناس حالياً وجود محيط هائل مخفي تحت قشرة الأرض. واتضح أن هناك كمية هائلة من الماء على عمق 400 ميل تحت الأرض مخزنة في صخور تُعرف باسم «رينغووديت».

«الشرق الأوسط» (لندن)
بيئة سيارات متضررة جراء الأمطار الغزيرة التي تسببت في حدوث فيضانات على مشارف فالنسيا إسبانيا 31 أكتوبر 2024 (رويترز)

فيضانات منطقة المتوسط... تغير المناخ بات هنا

زادت ظاهرة التغيّر المناخي نسبة حدوث فيضانات في منطقة البحر المتوسط، حيث تلعب الجغرافيا والنمو السكاني دوراً في مفاقمة الأضرار الناجمة عن الكوارث الطبيعية.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
علوم 5 قضايا مناخية رئيسة أمام المحاكم عام 2025

5 قضايا مناخية رئيسة أمام المحاكم عام 2025

دعاوى مشروعة للدول الفقيرة وأخرى ارتدادية من الشركات والسياسيين

جيسيكا هولينغر (واشنطن)
بيئة أنثى «الحوت القاتل» الشهيرة «أوركا» أنجبت مجدداً

«أوركا» تنجب مجدداً... والعلماء قلقون

قالت شبكة «سكاي نيوز» البريطانية إن أنثى الحوت القاتل (التي يُطلق عليها اسم أوركا)، التي اشتهرت بحملها صغيرها نافقاً لأكثر من 1000 ميل في عام 2018 قد أنجبت أنثى

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق المَعْلم الشهير كان يميّز الطريق (مواقع التواصل)

«تخريب رهيب» للفيل البرتقالي الضخم و«الآيس كريم» بإنجلترا

أُزيل فيل برتقالي ضخم كان مثبتاً على جانب طريق رئيسي بمقاطعة ديفون بجنوب غرب إنجلترا، بعد تخريبه، وفق ما نقلت «بي بي سي» عن مالكي المَعْلم الشهير.

«الشرق الأوسط» (لندن)

فيضانات منطقة المتوسط... تغير المناخ بات هنا

سيارات متضررة جراء الأمطار الغزيرة التي تسببت في حدوث فيضانات على مشارف فالنسيا إسبانيا 31 أكتوبر 2024 (رويترز)
سيارات متضررة جراء الأمطار الغزيرة التي تسببت في حدوث فيضانات على مشارف فالنسيا إسبانيا 31 أكتوبر 2024 (رويترز)
TT

فيضانات منطقة المتوسط... تغير المناخ بات هنا

سيارات متضررة جراء الأمطار الغزيرة التي تسببت في حدوث فيضانات على مشارف فالنسيا إسبانيا 31 أكتوبر 2024 (رويترز)
سيارات متضررة جراء الأمطار الغزيرة التي تسببت في حدوث فيضانات على مشارف فالنسيا إسبانيا 31 أكتوبر 2024 (رويترز)

هطول الأمطار الغزيرة ولفترات قصيرة أمر طبيعي في منطقة البحر المتوسط، ولكنه، مثل العديد من الظواهر المناخية المتطرفة في السنوات الأخيرة، لم يعد هطول الأمطار في المنطقة تقليدياً بالضرورة، وذلك لما تسبّبه مؤخراً متأثرة بتغيّر المناخ.

في الخريف، أحدثت الفيضانات القاتلة دماراً على طول قوس ممتد من إسبانيا إلى البلقان، ومن المغرب إلى ليبيا. قُتل أكثر من 200 شخص في فالنسيا الإسبانية في أكتوبر (تشرين الأول)، بعد فترة وجيزة من الطوفان الذي أغرق أوروبا بخمسة أضعاف معدل هطول الأمطار الشهري العادي في أسبوع واحد.

يقول العلماء إن تغير المناخ لا يزيد فقط من قوة العواصف المدمرة في البحر المتوسط، ​​​​ولكن أيضاً من تواترها، ويتوقعون أن يزداد الأمر سوءاً، وفق تقرير لصحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية.

آثار السيول التي ضربت مدينة بنغازي الليبية نتيجة «إعصار دانيال» الذي ضرب البلاد 11 سبتمبر 2023 (أ.ف.ب)

كانت المناطق الساحلية في حوض البحر المتوسط ​​​​دائماً عرضة لهطول أمطار غزيرة، وخاصة في الأماكن التي توجد بها جبال بالقرب من البحر. لكن الأمر أصبح أسوأ مع ازدياد فترات هطول الأمطار الشديدة، مقارنة بعقود من الزمان فقط. في بعض المناطق، بدأت الكارثة تبدو وكأنها الوضع الطبيعي الجديد.

وقال ليوني كافيشيا، وهو عالم في المركز الأوروبي المتوسطي لتغير المناخ، إن شدة هذه الظواهر المتطرفة من المرجح أن تزداد في العقود المقبلة. ويرجع ذلك جزئياً إلى أن منطقة البحر المتوسط ​​ترتفع درجة حرارتها بالفعل بنسبة 20 في المائة أسرع من المتوسط ​​العالمي. فمع ارتفاع درجة حرارة الهواء، ترتفع قدرته على الاحتفاظ بالمياه.

تشير النماذج المناخية إلى أنه رغم تكثيف أحداث هطول الأمطار الغزيرة في منطقة البحر المتوسط، فإن متوسط ​​هطول الأمطار في هذه المنطقة سينخفض بشكل عام. بعبارة أخرى، ستكون المناطق الجافة أكثر جفافاً، رغم أن الأمطار الغزيرة عندما تأتي ستكون أكثر شدة.

دور الجغرافيا

فجغرافيا البحر المتوسط عرضة خصيصاً للفيضانات المفاجئة. الجبال والبحر المغلق ومجاري الأنهار الجافة حول البحر المتوسط ​​تجعل المنطقة معرضة بشكل خاص للفيضانات المفاجئة.

تظل معظم المجاري المائية في المنطقة جافة إلى حد ما لفترات طويلة من العام. وعندما تأتي الأمطار الغزيرة، تتركز المياه بسرعة في مجاري الأنهار شديدة الانحدار، ويمكن أن ترتفع عدة أمتار في غضون ساعات قليلة، كما قال فرانشيسكو دوتوري، أستاذ مشارك في علم المياه في كلية الدراسات العليا بجامعة بافيا بإيطاليا.

إن البحر المتوسط ​​يسخن بسرعة أكبر من المسطحات المائية الأخرى، ويرجع هذا جزئياً إلى كونه بحراً مغلقاً عملياً. وهذا يجعله مصدراً قوياً للرطوبة التي يمكن للرياح أن تحملها إلى الداخل، فتغذي أنظمة هطول الأمطار، غالباً فوق المناطق الساحلية التي يتركز فيها معظم سكان البحر المتوسط.

وتلعب كذلك التيارات الجوية القوية للتيار النفاث القطبي دوراً في طقس المنطقة. فمع تقلّب التيارات، تتشكل موجات شمال - جنوب فترسل الهواء الدافئ إلى الشمال، وترسل الهواء البارد إلى الجنوب. وفي بعض الأحيان، عندما ينفصل جزء من التيار النفاث، فإنه يشكل منخفضاً جوياً، وقد يستمر هذا المنخفض لأيام، مما يتسبب في عدم الاستقرار عندما يلتقي بالهواء الدافئ في البحر المتوسط. وهذا ما حدث في سبتمبر (أيلول)، عندما نشأت العاصفة بوريس كأحد أنظمة الضغط الجوي المنخفض، واستمرت في التسبب في دمار بوسط وجنوب أوروبا، حيث قتلت 24 شخصاً على الأقل.

وكان منخفض جوي آخر هو الذي تسبب في الفيضانات بعد فترة وجيزة في فالنسيا بإسبانيا، حيث تُوفي المئات.

وفي عام 2023، تسبب انخفاض في درجات الحرارة فوق اليونان في إطلاق العاصفة «دانيال»، (عُرف باسم «إعصار دانيال»)، التي اشتدت قوتها مع عبورها البحر المتوسط ​​إلى ليبيا، ما أسفر عن مقتل 13200 شخص في ليبيا بعد انهيار سدين.

النمو السكاني

ويعني النمو السكاني في منطقة المتوسط أن المزيد من الناس معرّضون للخطر على مدى العقود الأخيرة، فقد أصبحت معظم المناطق الساحلية ومناطق السهول الفيضية في منطقة البحر المتوسط ​​أيضاً حضرية بكثافة، مما يترك مساحة صغيرة للممرات المائية. ولا تؤدي هذه التغييرات إلى تضخيم خطر الفيضانات فحسب، بل تضع كذلك المزيد من الناس في طريق الأذى.

أشخاص يسيرون في شوارع غمرتها المياه في فالنسيا بإسبانيا جراء الفيضانات التي ضربت المنطقة أكتوبر 2024 (أ.ب)

أصبحت الفيضانات أقل فتكاً بشكل عام بفضل التحسينات في هياكل الحماية من الفيضانات وأنظمة الإنذار المبكر. لكن الخبير دوتوري، الذي ساعد في تطوير نظام التوعية بالفيضانات الأوروبي، قال إن المزيد من المنازل والممتلكات يتعرض للضرر بسبب التنمية الحضرية والنمو السكاني.

لقد تضاعف عدد سكان دول البحر المتوسط ​​​​أكثر من الضعف منذ ستينات القرن العشرين. واليوم، يقيم نحو 250 مليون شخص في دول البحر المتوسط ​​​​في أحواض الأنهار، حيث تكون الفيضانات أكثر احتمالية.