{الهولوكوست} الأرمنية.. صراع التاريخ والسياسة.. والمال

تحتفل بمئويتها.. وأرمن العالم مصرّون على اعتراف تركيا بالذنب

{الهولوكوست} الأرمنية.. صراع التاريخ والسياسة.. والمال
TT

{الهولوكوست} الأرمنية.. صراع التاريخ والسياسة.. والمال

{الهولوكوست} الأرمنية.. صراع التاريخ والسياسة.. والمال

سبقت «المذبحة الأرمنية» نظيرتها اليهودية بعقود، لكنها لا تزل تصارع للاعتراف بها بشكل كامل رغم مرور مائة عام عليها، من دون أن يكل الأرمن عن السعي لهذا الاعتراف، وعينهم أولا على «المتهمة» تركيا، وريثة السلطنة العثمانية، التي لا تزال تصر على رفض الاعتراف بها، وتقاتل من أجل منع الاعتراف العالمي.
ورغم النشاط اللافت للأرمن، واللوبيات التي أنشأوها، فإن الاعتراف بالإبادة الأرمنية لم يحصل على نطاق واسع، إذ اعترفت 20 دولة فقط بحصولها ليس من بينها الدولة الأهم، أي الولايات المتحدة، على الرغم من اعتراف 40 من ولاياتها بالإبادة، فالرئيس الأميركي باراك أوباما تجنب في خطابه هذا العام وصف ما حصل بالإبادة. ومع هذا كله، فالأمم المتحدة اعترفت بالإبادة، وكذلك البرلمان الأوروبي والكثير من المنظمات الدولية الأخرى.
في الذكرى المئوية تخلت ألمانيا عن حذرها ورفضها لاعتماد تعبير «الإبادة» فخرج الرئيس الألماني يواكيم جاوك، ليستعمل هذه الصفة، مقرا بمسؤولية بلاده الجزئية باعتبارها كانت حليفة لتركيا في الحرب العالمية الأولى حين وقعت الأحداث هذه. وقال: «إن مصير الأرمن هو مثال لتاريخ الدمار الشامل والتطهير العرقي والطرد والإبادة الجماعية، الذي يصادف القرن العشرين بمثل هذه الطريقة الرهيبة». لكن المتهم الأساسي، لا يزال يرفض الاعتراف، على الرغم من توجيه رئيس الوزراء التركي آنذاك، رئيس الجمهورية الحالي رجب طيب إردوغان رسالة تعزية إلى الأرمن، في العام الماضي، هي كل ما حصل عليه هؤلاء من اعتراف تركي. وأقر إردوغان بأن معاناة الأرمن ناجمة عن «أحداث كانت لها آثار غير إنسانية مثل الترحيل خلال الحرب العالمية الأولى»، لكنه لم يلفظ كلمة «إبادة».
تتحدث الروايات التاريخية عن مجازر عدة سبقت ما يسمى بالابادة التي تعرض لها الأرمن في السلطنة العثمانية، أولها كانت ما يعرف بالمجازر الحميدية التي قام بها السلطان عبد الحميد الثاني بين عامي 1894 و1896، والتي شملت المسيحيين عامة ومن بينهم الأرمن، ثم أتت في التوقيت نفسه مجازر ديار بكر التي يعتبرها الأرمن مدينتهم، حيث سموها على اسم ملكهم ديكران الكبير الذي يقولون بناها فنالت اسم «ديكراناجيرد»، أي المدينة التي بناها ديكران.
وعند نشوب الحرب العالمية الأولى تمرد الكثير من الشعوب التي كانت خاضعة لسيطرة الدولة العثمانية عليها سعيا لنيل الاستقلال عنها، ومن بين هؤلاء الأرمن الذين ساعدوا جيوش الإمبراطورية الروسية التي هاجمت الدولة العثمانية واحتلت جزءا من أراضيها. أتى رد العثمانيين قاسيا، فكان أن تعاملوا مع الأرمن جميعهم كخونة وجواسيس. وفي 24 أبريل (نيسان) 1915 قام العثمانيون بجمع المئات من أهم الشخصيات الأرمنية في إسطنبول وتم إعدامهم في ساحات المدينة، ثم صدر قرار بترحيل الأرمن عن مناطق الأناضول سعيا لمنعهم من تشكيل ما يشبه «حصان طروادة» في الأناضول. ونقل مئات الآلاف من الأرمن نحو الولايات العثمانية الجنوبية، أي سوريا ولبنان والأردن ومصر. ويتهم الأرمن الأتراك بإبادة مئات القرى الأرمنية شرق البلاد في محاولة لتغيير ديموغرافية تلك المناطق. كما يتهمونهم بإجبار القرويين على العمل كحمالين في الجيش العثماني ومن ثم بإعدامهم بعد إنهاكهم. بعدها أمرت جميع العوائل الأرمنية في الأناضول بترك ممتلكاتها والانضمام إلى القوافل التي تكونت من مئات الآلاف من النساء والأطفال في طرق جبلية وعرة وصحراوية قاحلة. ويقول الأرمن إن هؤلاء حرموا من المأكل والملبس. فمات خلال حملات التهجير هذه نحو 75 في المائة ممن شارك بها وترك الباقون في صحارى بادية الشام. ويورد أحد المرسلين الأميركيين إلى مدينة الرها في كتاب عن الإبادة الأرمنية ما حرفيته: «خلال ستة أسابيع شاهدنا أبشع الفظائع تقترف بحق الآلاف.. الذين جاءوا من المدن الشمالية ليعبروا من مدينتنا. وجميعهم يروون نفس الرواية: «قتل جميع رجالهم في اليوم الأول من المسيرة، بعدها تم الاعتداء على النسوة والفتيات بالضرب والسرقة وخطف بعضهن حراسهم.. كانوا من أسوأ العناصر كما سمحوا لأي من كان من القرى التي عبروها باختطاف النسوة والاعتداء عليهن. لم تكن هذه مجرد روايات، بل شاهدنا بأم أعيننا هذا الشيء يحدث علنا في الشوارع».
ويصر الأتراك، على وضع ما يسميه الأرمن بالإبادة في سياق تاريخي، مشككا بأعداد الضحايا من جهة، وواضعا إياها في إطار مآسي الحرب العالمية الأولى من جهة أخرى. ويقول نائب رئيس الوزراء التركي السابق أمر الله إيشلر، أحد مساعدي إردوغان البارزين، أن غالبية المؤتمرات، لمناقشة أحداث 1915 كانت متحيزة وبعيدة عن الحقائق العلمية، خصوصا أنها لم تتناول ظروف الحقبة بموضوعية، واعتمدت على الآراء المنحازة، لا على الوثائق المستخرجة من الأرشيف. وشدد على أن «الدولة العثمانية اعتمدت على سياسة التسامح بين جميع مكونات الدولة الدينية والعرقية (..) وظاهرة التسامح الديني والعرقي على امتداد تاريخ الدولة العثمانية ظاهرة ضربت جذورها عميقا في بنية الدولة والحكومة، وبفضلها تمكنت الدولة العثمانية من إدارة المجتمعات المكونة لها بشكل ناجح لعدة قرون. وأشار إلى أن الغاية من عملية نقل الأرمن، من بعض مناطق وجودهم، إلى أخرى داخل حدود الدولة العثمانية آنذاك.. «لم تكن محو وجودهم، إنما ضمان أمن الدولة، وحماية أولئك المواطنين، بعد انخراط الكثيرين منهم، خلال سنوات الحرب، في صفوف الجيوش الروسية الغازية، بهدف إقامة دولة أرمنية في الأناضول، وتورطهم بتنفيذ مذابح جماعية ضد المسلمين، في مناطق مختلفة من الأناضول، بغية إنشاء دولة متجانسة لهم».
ويقول إيشلر في مقالة خص بها «الشرق الأوسط»، إن الوثائق الخاصة بالدولة العثمانية، تؤكد أن الهدف من عملية التهجير، لم يكن التسبب بتلك الأحداث، وقيام الحكومة العثمانية، آنذاك، بمعاقبة من ثبت ارتكابهم تجاوزات، تثبت مصداقية ذلك، كما قامت الحكومة العثمانية بمحاكمة الموظفين الحكوميين الذين أخلوا بانتظام وأمن عملية التهجير، أمام محكمة «ديوان الحرب العليا» (محكمة الجرائم العسكرية)، التي عقدت في العاصمة إسطنبول، حيث حكمت تلك المحكمة بالإعدام، على كل من ثبت تورطهم بارتكاب انتهاكات، حتى قبل أن تكون الحرب العالمية الأولى قد وضعت أوزارها، كما حصل عام 1916.
ويقول الخبير في مركز التفكير الاستراتيجي جاهد طوز لـ«الشرق الأوسط»، إن حكومة بلاده ترى أن ما حصل ليس أمرا يقره السياسيون، بل هو وقائع تاريخية يجب أن يحسمها المؤرخون والخبراء. وأكد في تصريحات لـ«الشرق الأوسط»، أن الحكومة التركية ترفض الإقرار بجريمة لمرتكبها، وربما لم تحصل. ويشير إلى أن تركيا عرضت فتح الأرشيف العثماني أمام لجنة مشتركة تركية - أرمينية، للتحقيق في الواقعة، لكن الجانب الأخر لا يزال يرفض هذا الأمر.
ويقول: «الأرمن كانوا من رعايا الدولة العثمانية، لكنهم انضموا إلى الروس في قتال العثمانيين مع بدء الحرب العالمية الأولى وشكلوا عصابات نهبت وقتلت الكثير من الأتراك، فقررت الدولة تهجير الأرمن القاطنين في مناطق الحرب إلى مناطق أخرى داخل السلطنة (سوريا والعراق) كإجراء احترازي لوقف دعمهم للجيش الروسي». ويضيف: «الدولة كانت تقاتل على جبهات مختلفة، وكانت هناك أمراض منتشرة وقلة في الغذاء، ما أدى إلى موت الكثير من المهجرين، على غرار الكثير من رعايا السلطنة الآخرين». ورأى أن تسمية ذلك إبادة «غير أخلاقي وغير قانوني». ويشير إلى أن الأرمن استمروا في العيش في مناطق أخرى من تركيا، حتى اليوم. ويوضح طوز أن الأتراك عاشوا متسامحين، وما زالوا، مستدلا على ذلك بأن أتيان محجوبيان، كبير مستشاري رئيس الحكومة داود أوغلو هو شخص أرمني، كاشفا عن أن ثمة مرشحا أرمنيا، هو ماركر إسبان سينزل على لوائح حزب العدالة والتنمية في الانتخابات المقبلة وفوزه شبه مضمون.
ويلمح طوز إلى «أهداف اقتصادية» من الإصرار الأرميني على الاعتراف بالإبادة، مشيرا إلى أن أرمينيا تمر بظروف اقتصادية صعبة، وقد تطمح بالحصول على تعويضات مالية تسد بها عجزها». وأكد أن ثمة ممارسات كثيرة ارتكبت تحت حجة الإبادة المزعومة، فهناك 31 دبلوماسيا تركيا قتلوا على أيدي منظمات أرمنية متطرفة حول العالم، بالإضافة إلى نحو 43 مواطنا تركيا.
ويبدو أن عدم الاعتراف التركي ليس مجرد «مكابرة تاريخية»، فهذا الاعتراف تترتب عليه تبعات كبيرة على تركيا التي قد تصبح في حال اعترافها بالذنب، مجبرة على تقديم تعويضات مالية هائلة، كما يتخوف قادتها من استغلال الأمر للمطالبة بأراض يعتبرها الأرمن ملكا لهم عند الحدود بين البلدين، خصوصا أن الأرمن يسمون المناطق المحاذية لحدودهم الدولية «أرمينيا الغربية» لاحتوائها على الكثير من الأراضي التي يعتبرونها أرمنية، بالإضافة إلى جبل أرارات التاريخي الذي يقع في الأراضي التركية.
ويبدي الدكتور شفيق المصري، الخبير في القانون الدولي ثقته بأن تركيا «لن تعترف بالإبادة»، معتبرا أن «مسألة الاعتراف لها قيمة معنوية قبل أي شيء آخر، علما بأن الإبادة من الجرائم الدولية التي لا تخضع لمرور الزمن، وبالتالي حتى وبعد مرور 100 عام على المجازر الأرمنية، فتركيا وفي حال قررت الاعتراف بها فسيكون عليها تلبية كل الواجبات القانونية، ما يطرح إشكالية جديدة بعد عملية الاعتراف لجهة تحديد الضحايا والمبالغ الواجب دفعها بالإضافة إلى تحديد الأراضي التي يجب إعادتها لهم». ويضيف المصري: «مسألة الاعتراف لتركيا هي بحد ذاتها بمثابة انتحار كامل، لذلك نحن متأكدون أنّها لن تقدم على ذلك في يوم من الأيام وستصر على الإنكار وخاصة أنّها قادرة على شمل الضحايا الأرمن مع ضحايا الحرب».
وأوضح المصري في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن اعتراف تركيا بـ«المجازر الأرمنية» يترتب عليه «تبعات كثيرة وجسيمة» يفرضها القانون الدولي، لجهة دفع التعويضات اللازمة وإعادة الأراضي لأصحابها، لافتا إلى أن «تركيا هي الوريثة القانونية للإمبراطورية العثمانية وبالتالي مسؤوليتها تقتضي وفي حال الاعتراف بـ«الإبادة» بإعادة الأمور إلى ما كانت عليه وذلك من خلال التعويض.
بدوره، أشار نائب الأمين العام لحزب «الطاشناق» أفيديس كيدانيان إلى أن «الأرمن كانوا يكتفون خلال الـ50 سنة الأولى من الإبادة بمطالبة تركيا بالاعتراف بما اقترفته خلال زمن السلطنة العثمانية، إلا أنهم يصرون اليوم على أن يلي الاعتراف دفع التعويضات اللازمة واسترجاع الأراضي المحتلة».
وأعرب كيدانيان في تصريح لـ«الشرق الأوسط» عن أسفه لكون الظروف الإقليمية والدولية مواتية لاستمرار الأتراك بإنكار اقترافهم الإبادة الأرمنية، مع العلم بأن رئيس جمهورية ألمانيا اعترف بمشاركة ومساهمة بلاده مع الأتراك بهذه الإبادة خلال الحرب. وأضاف: «فإذا كانت ألمانيا أقرّت بذلك، فورثة السلطنة العثمانية ملزمون بالاعتراف أيضا والقيام بواجباتهم تجاه الضحايا».
بعد مائة عام، لم يبقَ من يخبر. الجيل الأول الناجي من تلك الحرب، ذهب بأغلبيته الساحقة، لكن بعد أن روى لأبنائه وأحفاده ذكريات معاناته خلال عملية الترحيل. وجيل الأحفاد الذي لا يزال يعيش التجربة عبر روايات أجداده، يحاول نقل هذه الروايات نفسها إلى أبنائه.
ويؤكد آرا سيسريان، وهو ناشط أرمني لبناني، أن شعبه لا يزال مستمرا في حمل القضية «لكي لا تتكرر مثل هذه الإبادات على يد أنظمة أخرى في العالم». ويروي سيسريان لـ«الشرق الأوسط» تجربته العائلية مع الإبادة، التي سمعها من جديه لأبويه، وجدته لأمه، الذين نجوا من «الإبادة» وبقيت لديهم قصص مرعبة رووا بعض تفاصيلها لأحفادهم، وأبقوا بعضها الآخر لأنفسهم خوفا على براءة طفولتهم.
تبدأ القصة مع جد آرا لأبيه، الذي كان أستاذا تهجر من بلدته زيتون، وهرب إلى الأراضي السورية، حيث أقام في دير الزور التي شهدت أكبر المجازر بحق الأرمن ميتما لبنات الأرمن اليتيمات اللاتي تشردت بعد مقتل عائلاتهن، فآوتهن عائلات مدينة دير الزور من القبائل المسلمة. وأدار مع رفيقين له، هما أستاذان أيضا، الميتم المؤلف من منزل بغرف قليلة كانت كافية لجمع الفتيات اللاتي كانت أعمارهن تتراوح بين ثلاث وعشر سنوات. واستمروا في عملهم إلى أن تمكنوا من إلحاق هؤلاء الفتيات بأقاربهن الناجين في مصر والأردن ولبنان، وأمنوا تبني من ليس لديهن أقارب. وهناك في دير الزور، نقب الرفاق الثلاثة للوصول إلى عظام وجماجم الضحايا الأرمن، وجمعوها في قبر جماعي واحد، ونصب تذكاري تحول في وقت لاحق إلى مزار للأرمن يستذكرون من خلاله «ضحايا الإبادة». بعدها انتقل الجد إلى حلب حيث استقر وتزوج وأنجب 8 أولاد، كبقية الأرمن الذين كانوا يردون على المجازر بالإنجاب قدر الإمكان.
أما جده لأمه، فهو من ديار بكر، وقد نجا مع عائلته لأن عائلة كردية أخفتهم في منزلها، وأمنت لهم طريقا للهرب بطريق أخرى غير قوافل الموت. لكن جدته لأمه التي كانت تبلغ من العمر نحو 10 سنوات، فقد شهدت المأساة الأكبر. يقول سيسريان إن الأتراك قبضوا على شقيقيها وهما في الـ15 والـ17 من العمر. وبعد ثلاثة أيام أرسلوا من يبلغ العائلة بأخذ الطعام لهم، فذهبت والدتها، وأخذت الطفلة معها لزيارة شقيقيها. وبينما هما تنتظران في باحة السجن مع الطعان، أحضر الشقيقان إلى الباحة، وأعدما أمامهما. بعد ذلك نقلت العائلة التي تبقت منها الجدة ووالدتها ووالدها العجوز عبر قوافل التهجير إلى حلب، لتكتمل معاناتهن مع ما شهدته من تعذيب وعمليات اغتصاب كانت تجري أمام الجميع، لكن أموال والدها جعلت النجاة من رحلة الموت ممكنة بفضل الرشى التي قدمها للجنود.
وفي حلب التقى والدار آرا، تزوجا، وانتقلا إلى لبنان حيث أنشأت عائلتهما الجديدة. يقول آرا إن جدته كانت قليلة الكلام، تتحدث قليلا عما شاهدته وعندما تهم بالبكاء، تتوقف عن الحديث وتذهب للصلاة. ويشير إلى أنه يروي هذه الحكايات لأولاده كي لا ننسى معاناة شعبنا، وكي نتعلم منها العبر. ويؤكد أنه - كبقية الأرمن - لا يحملون المواطنين الأتراك مسؤولية ما حصل، ولا يعتبرون أنه كان إبادة دينية، فلم يقتلونا لأننا مسيحيون ولأنهم مسلمون والدليل أن من أنقذنا دائما كانت العائلات المسلمة في سوريا وتركيا.



حذر روسي في التعامل مع «انفتاح» ترمب على كسر الجليد مع موسكو

من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)
من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)
TT

حذر روسي في التعامل مع «انفتاح» ترمب على كسر الجليد مع موسكو

من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)
من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)

طوال فترة الحملات الانتخابية في الولايات المتحدة، حرص الرئيس المنتخب دونالد ترمب على تأكيد قدرته على كسر كل الحواجز، وإعادة تشغيل العلاقات مع موسكو عبر تفاهمات سريعة وفعالة لوقف القتال في أوكرانيا، ووضع خريطة طريق لمعالجة الملفات الخلافية المتراكمة مع الكرملين. وقبل أيام قليلة من تسلم صلاحياته رسمياً، برزت اندفاعة جديدة من الرئيس الجمهوري نحو روسيا، عندما أعلن استعداده لتنظيم لقاء عاجل مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين يرسم ملامح العلاقة المستقبلية ويضع خطط إنهاء الحرب وتخفيف التوتر على مسار التنفيذ. لكن اللافت أن هذه التصريحات لم تُقابَل بشكل حماسي في روسيا. بل فضَّل الكرملين التزام لهجة هادئة تؤكد الانفتاح على الحوار، مع التذكير في الوقت ذاته، بعنصرين ضروريين لنجاح أي محاولة لكسر الجليد بين البلدين، أولهما اتضاح الملامح الأولى لرؤية الرئيس الأميركي الجديد لتسوية الملفات الخلافية المتراكمة، والآخر التذكير بشروط الكرملين لإنهاء الحرب في أوكرانيا. وبالتوازي مع ذلك، بدت تعليقات الأوساط المقربة من الكرملين متشائمة للغاية، حيال فرص إحراز تقدم جدّي على أي مسار... لا في الحرب الأوكرانية ولا العلاقات مع «ناتو»، ولا ملفّات الأمن الاستراتيجي في أوروبا.

لا ينظر أحد في روسيا بجدية إلى إمكانية تحقيق قفزات سريعة تؤدّي إلى تحسّن العلاقات مع الولايات المتحدة، وتضع إطاراً واقعياً للحوار حول الملفات الخلافية. وعلى الرغم من أن الرئيس الأميركي العائد دونالد ترمب صرّح مرّات عدة بأن موقف روسيا يمكن فهمه، وأن سبب الصراع كان إلى حد كبير السياسة المناهضة لروسيا التي تنتهجها «الدولة العميقة» الأميركية، فإن الأوساط الروسية تنظر بريبة إلى قدرة ترمب، العائد بقوة إلى البيت الأبيض، في تجاوز الكثير من «المطبّات» التي تعترض طريق إعادة تشغيل العلاقات بين موسكو وواشنطن.

رسائل روسية واضحة

في هذا الصدد، كان لافتاً أن موسكو تعمّدت توجيه رسائل واضحة إلى الإدارة الأميركية الجديدة، عبر إطلالتين إعلاميتين لشخصيتين تعدّان من أبرز المقربين لبوتين، هما وزير الخارجية سيرغي لافروف والمستشار الرئاسي وعضو مجلس الأمن الروسي نيكولاي باتروشيف. وفي الحالتين كان التوقيت وشكل التعامل مع «اندفاعة ترمب» يحظيان بأهمية خاصة.

جوهر كلام المسؤولين ركّز على قناعة بأن العالم قد يكون أمام «فرصة حقيقية للسلام» في عهد ترمب، بيد أن الانفتاح الروسي على الحوار مرتبط باستناد هذا الحوار إلى أسس «مبادرات ملموسة وخطوات ذات معنى بشأن الاتصالات على أعلى مستوى»، والأهم من ذلك، أن تتوافر لدى ادارة ترمب «اقتراحات محددة» بشأن أوكرانيا، وفق تعبير لافروف.

والاقتراحات المحددة المطلوبة روسياً، ينبغي أن تنعكس - كما قال الوزير – بـ«جدية في الاستعداد لحل المشاكل المتراكمة عبر الحوار لا عبر الضغوط والتهديدات» التي لم ينجح سلف ترمب في معالجتها.

وفي إشارة ذات مغزى، قال لافروف إنه «من المفيد أن نرى ما هي الأساليب التي سيستخدمها ترمب لجعل أميركا أعظم». وهذه عبارة أكملها باتروشيف بقوله: «هل سيكون ترمب قادراً على ترجمة نواياه بالكامل؟ وكما أظهرت ولايته الأولى، فإن (الدولة العميقة) السيئة السمعة في الولايات المتحدة... قوية للغاية».

أوكرانيا «رأس الأولويات»

الموقف الذي أعرب عنه المسؤولان الروسيان ينطلق من «الاستعداد للمناقشة والاتفاق على أي شيء باستثناء شيء واحد - أوكرانيا. (...) لقد عبّرنا عن موقفنا مراراً وتكراراً، وهو موقف لا يمكن تغييره». وفي هذا الإطار، لوّح لافروف بأنه إذا توصّلت روسيا إلى استنتاج مفاده أن واشنطن ستواصل دعم «النظام النازي المعادي في كييف» فإنها (أي موسكو) ستضطر إلى اتخاذ قرارات صعبة. في حين قال باتروشيف إن أوكرانيا «قد تختفي عن الخريطة خلال هذا العام» إذا استمرت السياسات الغربية السابقة.

الرسالة الروسية الثانية لترمب كان فحواها أن أي تسوية أو ضمانات لأوكرانيا، يجب أن تكون مرتبطة باتفاقيات أوسع نطاقاً. وهنا قال لافروف إن «روسيا مستعدة لمناقشة الضمانات الأمنية لأوكرانيا، لكنها يجب أن تكون جزءاً من اتفاقيات أكبر». بينما أوضح باتروشيف أنه بالإضافة إلى التوصل إلى ترتيبات أمنية في القارة الأوروبية «يجب وقف التمييز ضد السكان الروس في عدد من البلدان، وبالطبع، في دول البلطيق ومولدوفا».

أما النقطة الثالثة التي تحدّد شروط الحوار، فتنطلق من ضرورة البدء بمنح روسيا ضمانات كاملة عبر ملفي: وقف مسار ضم أوكرانيا إلى حلف شمال الاطلسي (ناتو) وتأكيد حيادها لعشرات السنوات، وتقليص القدرات العسكرية لهذا البلد ومنع تسليحه مجدداً.

هكذا، ترى موسكو المدخل الصحيح للحوار، الذي يجب أن يتأسس - كما قال الرئيس الروسي سابقاً - على قاعدة الإقرار بالتغييرات الميدانية التي وقعت خلال سنتين، بما يضمن الاعتراف الغربي بضم شبه جزيرة القرم والمناطق الأربع التي ضمتها روسيا خلال عام 2022.

تشكل هذه القاعدة التي تنطلق منها موسكو سبباً وجيهاً للتوقعات المتشائمة حول فرص إحراز تقدم، تضاف إلى الشكوك المحيطة بقدرة ترمب الفعلية على تجاوز كل العقبات والضغوط الداخلية والانطلاق نحو تقديم تنازلات مهمّة للروس.

يرى خبراء روس أن ترمب لن ينجح في قلب الموازين الداخلية،

لصالح إطلاق تغييرات جذرية في السياسة الخارجية الأميركية

التداعيات على أوكرانيا

كيف يتأثر الوضع في أوكرانيا؟

في هذا الإطار، وضع أحد أبرز خبراء السياسة في «المجلس الروسي للسياسة والأمن»، وهو مؤسسة مرموقة ومقربة من الكرملين، التصور التالي لشكل العلاقة مع ترمب في ملفات رئيسة:

بدايةً، في أوكرانيا ستفشل محاولة ترمب للتوصل إلى وقف إطلاق النار على طول خط التماس. وذلك لأن المخططات الأميركية لـ«وقف الحرب» تتجاهل تماماً المصالح الأمنية الروسية، كما تتجاهل الأسباب التي أدت أولاً إلى الأزمة ثم إلى الصراع العسكري واسع النطاق في أوكرانيا.

في المقابل، لن تقبل واشنطن الشروط الروسية لبدء المفاوضات ومعايير السلام التي أعلن عنها الرئيس فلاديمير بوتين في يونيو (حزيران) الماضي؛ لأنها تعني في الواقع استسلام كييف وهزيمة استراتيجية للغرب. وخلافاً لتوقعات التهدئة، فإن ترمب «المهان»، رداً على رفض خطته، سيعلن دعمه لأوكرانيا ويجمع حزمة أخرى من العقوبات على موسكو. لكنه في الوقت نفسه، سيمتنع عن التصعيد الجدي للصراع؛ كي لا يستفز روسيا ويدفعها إلى ضرب أراضي دول «ناتو»، بما في ذلك القواعد الأميركية الموجودة هناك. ومع هذا، ورغم غطاء الخطاب القاسي المعادي لروسيا، فإن المساعدات الأميركية لنظام كييف ستنخفض، وسيتعيّن على الأوروبيين تغطية العجز الناتج من ذلك. ومن حيث المبدأ، فإن الاتحاد الأوروبي مستعدٌ لذلك، وبالتالي لن يكون هناك خفض كبير في الدعم المادي لأوكرانيا من الغرب في العام الجديد على الأقل.

إلى جانب ذلك، قد تحاول واشنطن، وفقاً للخبير البارز، بدعم من بريطانيا وحلفاء آخرين، تعزيز الموقف السياسي الداخلي لنظام كييف من خلال المطالبة بإجراء انتخابات في أوكرانيا، وبالتالي استبدال فولوديمير زيلينسكي وفريقه المكروهين بشكل متزايد بمجموعة أخرى بقيادة رئيس الأركان السابق فاليري زالوجني. لكن التأثير السياسي المحلي لمثل هذا الاستبدال سيكون قصير الأجل.

العلاقة مع أوروبا

أيضاً، يرى خبراء روس أن ترمب لن ينجح في قلب الموازين الداخلية، لصالح إطلاق تغييرات جذرية في السياسة الخارجية الأميركية. وهذا يعني أنه لن يحقق وعوده حيال علاقة الولايات المتحدة مع «ناتو»، وبدلاً من ذلك، سيرفع السعر الذي يتوجب على الأوروبيين دفعه للانضمام إلى التكتل.

ووفقاً لبعض الخبراء، سيكون لزاماً على الأوروبيين، الذين كانوا يخشون عودة ترمب، أن يقسموا يمين الولاء له. وبالتالي، «لن تكون هناك معارضة ضد ترمب بأي شكل من الأشكال؛ لأن دول الاتحاد الأوروبي تحتاج إلى أميركا زعيمةً: ليس فقط حاميةً عسكريةً، بل وأيضاً زعيمةً سياسيةً ــ لا تقل عن حاجتها إلى روسيا باعتبارها «تهديداً مباشراً على الأبواب».

بهذا المعنى، تتطابق آراء الخبراء في مسألة أن «العداء لروسيا سيظل العامل الحاسم في توحيد أوروبا في عام 2025».

ويضيف بعضهم القناعة بأنه خلافاً للفكرة الرائجة بأن الأوروبيين متردّدون في مواجهة روسيا، بشكل رئيس بسبب الضغوط الأميركية، فإن الحقيقة أن روسيا، باعتبارها عدواً، تشكل عاملاً قوياً في توحيد النخب الأوروبية ودولها. بمعنى أنه كان لا بد من «اختراع التهديد الروسي»، وتقديم الحرب في أوكرانيا باعتبارها المرحلة الأولى من «الاختطاف الروسي لأوروبا».

في السياق ذاته، ينظر إلى الانتخابات المقبلة في ألمانيا، بأنها ستحمل إلى السلطة ائتلافاً جديداً، سيعمل أيضاً على تشديد السياسة تجاه موسكو. ولكن في الوقت نفسه، من غير المرجح إرسال قوات أوروبية إلى أوكرانيا بناءً على دعوة من فرنسا، لأن أوروبا تنظر إلى خطر الصدام العسكري المباشر مع روسيا على أنه مفرط في المخاطرة.

وداخلياً، ينتظر أن تواصل أوروبا الاستعداد بنشاط للحرب مع روسيا - وفقاً لأنماط الحرب الباردة في النصف الثاني من القرن العشرين، لكن على حدود جديدة، تحولت بشكل كبير نحو الشرق. كذلك، سيزداد الإنفاق العسكري للدول، ويتوسع الإنتاج العسكري، وتتحسن البنية التحتية العسكرية، وبخاصة، على الجانب الشرقي لـ«ناتو». وبناءً عليه؛ سيصبح المناخ الاجتماعي والسياسي أكثر صعوبة أيضاً.

وهكذا، بشكل عام، يقول خبراء روس إن عام 2025 عموماً سيكون مليئاً بالصراعات، الممتدة من عهد ولاية الرئيس جو بايدن حول روسيا وفي أوروبا، كما سيكون محفوفاً بالمنعطفات غير المتوقعة والخطيرة.

ومع القناعة بأن الاضطراب الاستراتيجي يتزايد باطراد، فإن نتيجة المعركة من أجل النظام العالمي الجديد ليست مُحددة مسبقاً بأي حال من الأحوال. إذ إن نقطة التوازن الافتراضية في النظام العالمي لا تزال بعيدة كل البعد عن الأفق. وفي هذا الصدد، يرون أن روسيا ستواجه في عهد الإدارة الجديدة تحدّيات جديدة في العديد من المجالات... ولا بد أن تكون مستعدة لها.