ذكريات: جولة مع الجابري بسيارتي في شوارع الرياض

كان ثمرتها خوض تجربته الفكرية في دراسة القرآن الكريم بأجزائها الأربعة

محمد رضا نصر الله والدكتور محمد عابد الجابري في صورة التقطت عام 2009 في العاصمة السعودية الرياض (الشرق الأوسط)
محمد رضا نصر الله والدكتور محمد عابد الجابري في صورة التقطت عام 2009 في العاصمة السعودية الرياض (الشرق الأوسط)
TT

ذكريات: جولة مع الجابري بسيارتي في شوارع الرياض

محمد رضا نصر الله والدكتور محمد عابد الجابري في صورة التقطت عام 2009 في العاصمة السعودية الرياض (الشرق الأوسط)
محمد رضا نصر الله والدكتور محمد عابد الجابري في صورة التقطت عام 2009 في العاصمة السعودية الرياض (الشرق الأوسط)

ما زلت أتذكر ذلك المساء في جنادرية 1987 حين علمت لتوي عن وجود المفكر المغربي د. محمد عابد الجابري في فندق قصر الرياض، فطفقت أبحث عنه، وسط عدد من أبرز مفكري العرب وأدبائهم وشعرائهم، وهم يتناولون طعام العشاء في مطعم الفندق.
توقعته ذا وجه (متفلسف) متجهم! كما بدا - بعد ذلك - المتفلسف المصري د. عبد الرحمن بدوي، وأنا أحاوره في فندق جورج سانك بباريس في صيف 1993.
حين وقفت أمام الجابري وهو وحده يتعشى، حييته معرفاً باسمي، فحياني بأحسن تحية، طالباً بدماثة خلقه ورقة طبعه أن نلتقي، بعد أن ينتهي من تناول طعامه. كان كتابه «تكوين العقل العربي» الصادر سنة 1984 قد ترك في نفوسنا وقعاً ساحراً، بغزارة معلوماته، وبيان لغته الآسرة، ومنهجه التحليلي الجديد، الذي استبان بعد ذلك بمعالجته «الأبستمولوجية» في كتابه «بنية العقل العربي» الصادر سنة 1986 مما جعله نجم مسامرات النقاش المختلفة في أماسي بيوت الأصدقاء في الرياض.
في العام الذي تلا لقاءاتنا المتعددة هذه، أدرت ندوة شارك فيها الدكاترة الأعلام، شوقي ضيف وحسن ظاظا (مصر) وعبد الله الطيب (السودان) وعبد الرحمن الطيب الأنصاري (السعودية)... أما الندوة الإشكالية المتلاطمة! فكانت بعنوان «هل العقل العربي في أزمة؟» التي استفزت مشاركة د. محمد عابد الجابري، المد الصحوي الطاغي - وقتذاك - رغم مشاركة الأكاديمي السوداني الإخواني د. جعفر شيخ إدريس أستاذ الثقافة الإسلامية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، إلى جانب د. حمد المرزوقي أستاذ علم النفس بجامعة أم القرى، وكان مدعواً إليها المفكر المصري د. فؤاد زكريا أستاذ الفلسفة بجامعة الكويت، الذي أبدى لي موافقته للمشاركة في الندوة، إلا أن أحداً أعاق طريقه إلى الرياض!
وقد بلغ من استثارة وجود الجابري على المنصة، أن حاول أحد أساتذة الإعلام «الإسلامي» بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية من السعوديين، اختراق «بروتوكول» الندوة بانتزاع «ميكروفون» المداخلة قسراً! قبل فتح باب النقاش أمام جمهور القاعة، لتنتهي الندوة بتهديدي إذا ما استمرت فعاليتها، والاعتداء بالضرب على أحد أستاذة علم السياسة بجامعة الملك سعود! رغم التزامه الصمت طوال وقت الندوة. كان الجابري بتفكيكه سلطة النص المحافظ، ونقده هيمنة التراث الفكري على العقل العربي طوال قرون، سبباً في إخضاع التراث العربي الإسلامي إلى جهازه المفاهيمي، وهو يدعو للتحرر العقلي بـ«تدوين (خطاب) عربي جديد» في التداول الفكري (يجب) التدوين القديم بين منتصف القرن الثاني ومنتصف القرن الثالث الهجريين، متوسلاً في ذلك مناهج المفكرين الفرنسيين... لالاند العقلاني المجدد بمعجمه الفلسفي الموسوعي، والتوسير الذي درس القطيعة المعرفية بين ديالكتيك هيغل ومادية ماركس التاريخية، وهو ما انعكس لدى د. طيب تيزيني أستاذ الفلسفة بجامعة دمشق في كتابه «مشروع رؤية للفكر العربي في العصر الوسيط» الصادر سنة 1971 وما تبعه من أجزاء عديدة، ثم عمق أطروحته حسين مروة في كتابه «النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية» سنة 1978 برؤية تحليلية تكاد لا تغادر الخطاب الماركسي، بتحليل التراث وفق مقولة الصراع الطبقي، وكان قد سبقهما د. زكي نجيب محمود أستاذ الفلسفة بجامعة القاهرة بكتابيه «تجديد الفكر العربي» و«المعقول واللامعقول في تراثنا العربي» متأثراً بالفلسفة الوضعية أثناء دراسته البريطانية، وهو يبحث عن الأصالة والمعاصرة في الفكر العربي، رغم أنه قدم قبل ذلك دراسة لافتة عن «جابر بن حيان» سنة 1961م.
غير أن الجابري سجل مرافعته ضد جملة هذه المشروعات في كتابه «نحن والتراث» سنة 1980 وقد أصدر د. صادق جلال العظم أستاذ الفلسفة بجامعة دمشق سنة 1969 كتابه «نقد الفكر الديني» على وقع هزيمة 67 المدوية، التي بعثت سؤال الهوية لدى المفكرين العرب، فلم ير الجابري في جملة مشروعاتهم سوى قراءات سلفية، استوى فيها اليميني والليبرالي والماركسي حيث لم تنتج إلا آيديولوجيا من هنا تكمن «لا تاريخيتها» وهي تستعيد سؤال شكيب أرسلان (المُتَردِّم) دون إجابة منذ سنة 1938 في كتابه «لماذا تقدم الغرب وتخلف غيرهم؟».
كان جواب الجابري في الربع الأخير من القرن العشرين، هو نقد الإنتاج النظري، فهو وحده ما سوف يحقق على (يديه) القراءة العلمية الواعية بـ«أحداث» القطيعة الأبستمولوجية التامة مع بنية العقل العربي في عصر الانحطاط، وامتداداتها إلى الفكر العربي الحديث، حيث ما يزال التراث يعشعش بعناكبه في عقول مجتمعاته، كما كان الظلام الكنسي يعشعش بعناكبه في عقول المجتمعات الأوروبية، فانبرى إيمانويل كانت يكتسحه بمشروعه العقلاني التنويري!
كان الجابري قد مهد لكتابه في «نقد العقل العربي» بكتابه «الخطاب العربي المعاصر» سنة 1983 وفق القطيعة المعرفية لدى باشلار، التي أثراها محمد وقيدي أستاذ الفلسفة بجامعة الملك محمد الخامس في دراسته اللافتة عن «فلسفة المعرفة عند غاستون باشلار» سنة 1980 متجاوزاً فلسفة العلوم إلى خطاب أبستمولوجي، معارضاً الفلسفات التقليدية (بدأ الجابري تجربته التأليفية وهو أستاذ جامعي بكتابه «مدخل إلى فلسفة العلوم» بجزئيه سنة 1976 مستفيداً في تحليل النظام المعرفي في مشروعه بما ورد في كتابه «الكلمات والأشياء» لميشيل فوكو في تحليل الأنظمة المعرفية، كاشفاً عن (اللا مفكر فيه) من (لا وعي) فرويد في تحليله النفسي ماسكاً بمفاتيح مشروعه في تحليل العقل العربي في «البيان والعرفان والبرهان» من أحمد أمين في دراسة التاريخ الثقافي العربي الإسلامي، التي بدأها سنة 1938 في «فجر الإسلام» ثم «ضحى الإسلام» فـ«ظهر الإسلام» لتنتهي بـ«يوم الإسلام» دون أن يذكر الجابري في هذا كله إحالاته المرجعية!!! وهو ما تطارحته وإياه في مقابلتي التلفازية السجالية معه في برنامجي «ستون دقيقة» في أحد أيام شهر فبراير (شباط) 2009 وسبقْتُ ذلك بمقال في جريدة الرياض سنة 1995 حثثت فيه جورج طرابيشي على مواصلة نقده لمشروع الجابري، وقد تحول إعجاب الأول بفكر الثاني الذي (يثير ويغير) إلى نقد متواصل، تقول هنرييت عبودي زوجة طرابيشي في كتابها عنه الصادر سنة 2020 إن زوجها حينما (غادر بيروت سنة 1984 أخذ معه كتاب «نقد العقل العربي» وقد واظب على قراءته طوال الرحلة بالطائرة قائلاً: إنه عمل عظيم رائع وهائل وحينما علم بمقدم الجابري إلى باريس دعاه إلى العشاء ولكن هذا الإعجاب لم يدم طويلاً، إذ بدأ جورج يكتشف أخطاء وتفسيرات مغلوطة في كتابه) فانتهى بالرد على الجابري بكتابه ذي الأربعة أجزاء في «نقد نقد العقل العربي».
حينما تطارحت والجابري إشكالات طرابيشي على مشروعه، وجدته يغمغم ولا يبين، متسائلاً: «لماذا تحول الإعجاب المفرط إلى النقد المتواصل؟» فكان جوابه في مقابلتي التلفازية: (عقدت ندوة في دمشق حول كتابي «نقد العقل العربي» بإطراء الحاضرين بما فيهم طرابيشي، وحين أعلنت أنني أؤلف كتاب «بنية العقل العربي» أراد طرابيشي أن يستبق بحسن نية ولا أظن شيئاً غير هذا متنبئاً - أي طرابيشي - بما سأقوله في الكتاب القادم بناءً على ما ورد في كتاب «تكوين العقل العربي» فقلت له: كيف تسمح لنفسك أن تتوقع ما سأقوله فيه فأنت - يقصد طرابيشي - ما فهمت هذا ولا فهمت ذاك... انفعلت ولم أقصد شيئاً آخر فهذه من طبيعتي وأكثر الطلبة يعرفون في هذا أثناء مناقشتي أطروحات الدكتوراه عندما أكون في لجنة المناقشة عادة ما أنفعل وربما يعلو صوتي لا أقصد بهذا أحداً لكن هي هكذا طبيعتي)!!!
كان جواب الجابري مهلهلاً، ويفتقر إلى المنطق، بل إنه بهذا كان يناقض ما دعا إليه في أحد كتبه المبكرة، بضرورة اختراق اللغة والمنطق بـ«الحدس»، فهو وحده الذي يجعل الذات القارئة (جورج طرابيشي) تعانق الذات المقروءة (الجابري) إذ تعيش في إشكالاتها باستشراف ما ستقول.
يقول طرابيشي في كتابه «مذبحة التراث في الثقافة العربية المعاصرة» سنة 1993:
(ما الذي يسكت عنه نص الجابري المطول في عصر التدوين، إنه مرة أخرى يسكت عن المصدر الذي أخذ منه الفكرة والتسمية - يقصد أخذ الجابري مفاتيح كتابه «بنية العقل العربي» في تحليل الأنظمة المعرفية وتسميتها «البيان والعرفان والبرهان» من موسوعة أحمد أمين مؤكداً - طرابيشي - أنه لا يجوز أن يعاد تجليد المجلد أو يعاد نسخه مرتين، لا سيما والدراسات المتراكمة خلال النصف الثاني من القرن العشرين قد أبطلت أسطورة عصر التدوين من أساسها).
استلهم الجابري فكرة «الكتلة التاريخية» من المفكر الإيطالي العضوي غرامشي، ذاكراً ذلك حين دعا في عدد نوفمبر (تشرين الثاني) 1982 من مجلة المستقبل العربي، مقارباً حال الأمة العربية في تمزقها، بما كانت عليه إيطاليا في بداية القرن العشرين من تفاوت بين شمالها وجنوبها، وأن الكتلة التاريخية العربية هي البديل الاستراتيجي لحالة الإقصاء والتهميش، غير أن هدا التهميش هو ما يهمن على فكر الجابري، وهو يختزل التراث العربي في ثلاثيته (البيان ونموذجه الجاحظ، والعرفان ونموذجه جابر بن حيان وابن سينا، والبرهان ونموذجه ابن رشد)، فإذا بثنائية الظاهر والباطن الكامنة في «تهرمس» مذهب جابر بن حيان، حسب مقولة ماسينيون المهتم بالفكر الباطني - والصوفي الحلاجي خاصة - خالطاً بين الشيعة الإمامية والإسماعيلية والمتصوفة بضربة يد واحدة! وقد استقاها منه هنري كوربان في أحد كتبه الأولى «تاريخ الفلسفة الإسلامية»، فإذا بالعقل المشرقي المتجسد في ابن سينا رائد علم الطب التاريخي عالمياً، هو المسؤول - في نظر الجابري - عن انحطاط العقل العربي! وأن جابر بن حيان رائد علم الكيمياء التاريخي عالمياً، هو - في نظره - من أسس للتصوف ودمر الحضارة العربية ببذره الغنوصية في تربة العالم العربي!
أنا هنا لا أريد الاستفاضة فيما كتبه علماء أوروبيون، منهم من كان متحاملاً على جابر بن حيان، فهذا هو الكيميائي البريطاني (هولبارد) سنة 1923 يؤكد على استحقاق جابر لقب مؤسس علم الكيمياء، معادلاً أرسطو في علم المنطق، أما ما قاله مؤرخو العلوم عن مكانة ابن سينا وكتابه «القانون في الطب» المتداول في الجامعات العالمية فهو ثابت ومعروف.
لكن لماذا اهتمام الجابري المفاجئ بابن رشد رائد علم الفقه المقارن، ومترجم التراث الأرسطي والأفلاطوني هل هو إعادة تمركز ذاتي حول مغرب متفوق ببرهانه، على عقل مشرقي بياني وعرفاني؟!
أم هي محاولة تماهي بدور ابن رشد، بحيث يتبدى الجابري في عصرنا العربي ابن رشد آخر؟! رغم أن من اهتم بـ«المتن الرشدي» وتخصص فيه منقباً وباحثاً هو جمال الدين العلوي، الذي جمع شتات النصوص الرشدية من المكتبات الأوروبية.
أحسب أن للمصدر الفرنسي دوماً دور التنبيه لذهن الجابري... هذه المرة بما كتبه مؤرخ الأفكار أرنست رينان عن «ابن رشد والرشدية» سنة 1852 مثبتاً مكانة فيلسوف قرطبة العربي المسلم في الأكاديميات الأوروبية، وقد استوى مؤسساً لعصر التنوير في بداية نهضة مجتمعاتها، مؤثراً على الفلسفة اللاتينية والعبرية (عبر تلميذه موسى بن ميمون) بوصفه الشارخ الأكبر لأرسطو.
هذا.. وتبقى مشكلة عدم ذكر الإحالات إلى مصادرها، في مشروع الجابري قائمة عند كثير من زملائه وباحثيه، ومنهم د. فهمي جدعان أستاذ الفلسفة والفكر الإسلامي في الجامعة الأردنية، وقد كتبت مقالاً بعنوان «هل سرق الجابري فهمي جدعان» هو ما حثثت فيه جورج طرابيشي على استكمال كتاباته النقدية في أعمال الجابري، وكان قد ضمّن نتائج بحث جدعان عن «المحنة» في مسألة خلق القرآن عند المعتزلة، التي عارضها الإمام أحمد بن حنبل في كاتبه «مثقفون في الحضارة العربية»، دون ذكر الإحالة! فقد أجابني حين سألته بنفس الغمغمة! «إن المسألة انتهت وأن علاقتنا الشخصية والعائلية» أصبحت على ما يرام!!! وهو نفس ما استمعته من د. عبد الله العروي أستاذ الفلسفة بجامعة الملك محمد الخامس حين قابلته تلفزيونياً في فيلته بالدار البيضاء صيف 1993. متهماً الجابري الأخذ من عدته المنهجية في التحليل، مستنداً إلى كتابيه المبكرين «العرب والفكر التاريخي» و«الآيديولوجيا العربية المعاصرة» الصادرين في منتصف السبعينات.. أن هذا الخلل المنهجي الفاضح، هو ما أكد عليه كذلك د. عبد الإله بلقزيز في كتيب صدر له مؤخراً من مركز دراسات الوحدة العربية بعنوان «محمد عابد الجابري ونقد العقل العربي» مؤاخذاً الجابري على أخذه الحر المتصرف في الدلالات الأصلية للمفاهيم (المستعارة) من مفكرين غربيين، والإحجام عن التصريح بمصادره.
بعد غزو صدام حسين دولة الكويت 1990 ما كان أحد يتوقع، أن يقف ناقد العقل العربي، في صف الشعبوية السياسية، التي ركب موجتها - إذ ذاك - كثير من اليساريين والإسلاميين، ومن بينهم محمد عابد الجابري، الذي ربط مناصرته المعارضة الكويتية في استرجاع وطنها المسروق، بوقوفها موقف صدام حسين ضد القيادة الكويتية! وهي في المنفى تعمل على استعادة الكويت.
عبر هذه المغالطة المنطقية، طفق المفكر القومي ينشر فصول كتابه «نقد العقل العربي» في صفحات جريدة حزبه «الاتحاد الاشتراكي» متمحورة حول ثلاثية جديدة «العقيدة والقبيلة والغنيمة»، منتقداً العقل البدوي! القائم على الاستحواذ، متأثراً بأطروحة المفكر العراقي د. علي الوردي في الدكتوراه حول ابن خلدون التي نالها من جامعة تكساس الأميركية سنة 1950 وقد استقى من مقدمته المركوزة حول صراع البداوة والحضارة، أطروحة الصراع بين الصحراء والنهر، موحياً للجابري بأطروحته عن «فكر ابن خلدون العصبية والدولة» سادّاً قصور الوردي في دراسته عن ابن خلدون.
أتذكر أن الجابري راسلني والكويت محتلة، بأن أعمل على نشر فصول كتابه «نقد العقل السياسي العربي» (البدوي) في جريدة الرياض! متزامناً مع نشرها في جريدة «الاتحاد الاشتراكي» بوصفه منظر حزب الجريدة السياسي.
بعدها تأبى علي إجراء حوار تلفازي معه في برنامجي «هذا هو» بقناة MBC أثناء زيارتي المغرب في صيف 1993 إلا أنه لم يتحرر من عرفه «البدوي» وهو المولود في فجيج، بالإصرار على تلبية دعوته لتناول طعام الغداء، مرفوقاً بزوجتي وبنتي وابناي، في فيلته بالحي الفرنسي في الدار البيضاء، امتناناً منه لاستضافتي إياه في بيتي بالرياض.
ولم يفتأ متواصلاً مع المملكة، التي فتحت له صحيفتها «الشرق الأوسط» ومجلتها «المجلة» باباً واسعاً نشر فيهما الكثير من مقالاته بعد انتهاء حرب الخليج الثانية.
بل أن مركز البحوث الإسلامية التابع لمؤسسة الملك فيصل الخيرية، دعاه لإلقاء محاضرة عن العولمة، وقد لبيت الدعوة لحضورها، لا للاستماع للمحاضرة فحسب، وإنما لتجديد أواصر صداقة تقادم عهدها بعدما قارب الجابري على الانتهاء أشار بيده علي بالبقاء دون مغادرة القاعة، فأخذته في جولة إلى شوارع الرياض، متحاوراً معه حول قضايا الساعة، فتحدث معي حول المستجدات في مجتمعه السياسي المغربي، وكذلك عن الانتفاضة الفلسطينية الثانية، وكانت في أوجها، وقد بدا النظام الإقليمي العربي متعثر الخطوات، إثر تداعيات حرب الخليج الثانية، مثقلاً باستحقاقات مجتمعاته المستفيقة على وقع العولمة المدوي.
كان الجابري قد انتهى من رباعيته في نقد العقل العربي، أدعه يكمل الحديث كما جاء في مقدمة كتابه «مدخل إلى فهم القرآن الكريم» صفحة 14 الصادر في أكتوبر (تشرين الأول) سنة 2006 من مركز دراسات الوحدة العربية:
(انتهيت من العقل الأخلاقي العربي 2001 وأنا في شبه نشوة مثل تلك التي تنتاب المتجول في غابة عند بلوغه مخرجاً من مخارجها! غير أني أخذت أفرك عيني على ضوء الفضاء - الفراغ المحيط بالقاعة إذا ببعض الأصدقاء يمطرونني بأسئلة من نوع وماذا بعد؟ بعضهم أجاب بنفسه فاقترح كتاباً في «الجمال في الفكر العربي» باعتبار اتصال الموضوع بالأخلاق، فكلاهما بحث في القيم وبعضهم اقترح كتاباً في «الفكر العلمي عند العرب» بعد أن تناولت الفكر النحوي والفقهي والبلاغي والسياسي والأخلاقي في الأجزاء السابقة.
وفي نفس الفترة التي اقترحت علي هذه الموضوعات أو قبلها بقليل، اقترح علي صديق من السعودية، ونحن على سيارته متجهين إلى عزيمة عشاء في منزل صديق مشترك بالرياض فاقترح قائلاً: «لماذا لا يكون الكتاب القادم عن القرآن».
كان هذا ثمرة حوار جولتي مع أستاذنا الجابري بسيارتي في شوارع الرياض مساء يوم الثلاثاء 24 أكتوبر 2000 وقد أفصح عما ذكره مرة في مقابلتي التلفازية معه، وأخرى في محاضرته المسائية بمعرض الرياض الدولي للكتاب في أحد أماسي فبراير 2009 بأنني من كان وراء خوض تجربته الفكرية، بل قل الروحية في دراسة القرآن الكريم بأجزائه الأربعة، التي استثارت جدلاً واسعاً داخل المغرب وخارجه، يكاد لا يتوقف إلى اليوم حول الإشكالات التي وقع فيها!



الفن المعاصر من الجمالية إلى صناعة القيمة

المؤرخة أود دو كيروس
المؤرخة أود دو كيروس
TT

الفن المعاصر من الجمالية إلى صناعة القيمة

المؤرخة أود دو كيروس
المؤرخة أود دو كيروس

لعل من أهم سمات الكتابات النقدية المواكبة لتحولات الفن المعاصر عبر العالم، تلك التي تقرنه دوماً بمسعى الانزياح الجذري بدلالات كلمة «فن»، على نحو يجعله معاكساً في كثير من الأحيان لتقاليد التشكيل البصري الخاضع للقواعد، في الرسم والصباغة والنحت، ومناهضاً لثقافة التحفة المرتكزة على مفاهيم فلسفية، متصلة بأذواق نخب محدودة ذات تكوين فني متين. لتنتقل إلى كونها شاملة لـ«أغراض» تجارية متباينة، موجهة لطبقة جديدة من الأثرياء، منفصلة عن المعايير الجمالية والأكاديمية المستقرة، وخاضعة لنوازع استهلاك المنتج الفاخر، وما يتصل به من رغائب إبراز الرفاه. وهو الفهم الذي يبرز للنظر انتقال الفن من وضع «التعبير الثقافي» إلى كونه تمثيلاً «لانتماء طبقي».

في هذا السياق، يتموضع كتاب «الفن المعاصر، التلاعب والجغرافيا السياسية» (منشورات إيرول، باريس، 2025) - Art contemporain, manipulation et géopolitique- وهو الإصدار الأخير للناقدة ومؤرخة الفن الفرنسية أود دو كيروس Aude de Kirros، التي اكتسبت شهرتها عبر العقود الثلاثة الأخيرة بوصفها من أكبر الباحثات المرتابات في واقع الفن اليوم، ومن أشد المعترضين على اختراقات الفن المعاصر لقواعد التشكيل البصري، ومن أكثر النقاد تشدداً في تحليل معايير تصنيف الأعمال ومنحها معادلات مالية. هي القادمة إلى عوالم الأروقة والمتاحف ومزادات الأعمال الفنية من مسار تعليمي توزع بين معهد الدراسات السياسية، وكلية الحقوق، ومحترفات الحفر (الغرافيك) في باريس، لتنتج أعمالاً بنكهة فلسفية لا تخفي تولعها بالسياسة والاقتصاد والسوسيولوجيا، من قبيل: «الفن الخفي، المنشقّون عن الفن المعاصر»، و«السنوات السوداء للرسم: 1983 – 2013»، و«قداسة الفن المعاصر، الأساقفة والمفتشون والمفوّضون»، و«خديعة الفن المعاصر، طوباوية مالية». إصدارات جعلت إسهاماتها المكثّفة في الحياة الفنية تتجلى عبر إدراك ناضج لعمق التحوّلات التي شهدها الفن عبر أصقاع الكون.

يتناول الكتاب موضوع الفن المعاصر في صلاته بما يمكن وسمه بـ«صناعة القيمة»، عبر تحليل نقدي لسوق الفن المعاصر، يضع تحت مجهر الاختبار السياقات الجيوسياسية والاقتصادية العالمية، متجاوزاً التحليل المستند إلى قراءة وتأويل مرتكزات الخطاب الجمالي البحت؛ إذ تناقش أود دو كيروس تلك المرتكزات بوصفها عتبات لما بعدها، انطلاقاً من افتراض نقدي يرى أن الفن المعاصر، خاصة الأعمال التي تباع بأسعار خيالية، لا تعكس في وضعها ذاك «ذوقاً» أو «تعبيراً فنياً» فقط، عبر صور لا تخلو من تطرف، بل إنها غدت، على نحو ظاهر، تتخطى منطلقات الأسلوب «المفاهيمي»، الزاهد في أشكال اللوحة والمنحوتة المأثورتين، لتتحول إلى أداة نافذة شديدة التأثير في أيدي النخب والمؤسسات المالية والجهات الحكومية، توظفها بحرص ووفق شروط معقدة لخدمة مصالحها الخاصة. وبتعبير الباحثة في إحدى فقرات الكتاب: «لقد توقّف الفن المعاصر عن أن يكون مجرد مفهوم صرف، محصور تداوله في دائرة صغيرة من (السعداء المعدودين) الذين يتغذّون على غموضه. وأصبح فنّاً (جامعاً لكل شيء)، يضمّ كل المفاهيم: الفن، والموضة، والتصميم، وما سوى ذلك» (ص 16).

يمتد الكتاب على 4 فصول، ومقدمة، وخلاصات، وفهارس، في أزيد من 350 صفحة، تتخذ العناوين الفرعية التالية: «فنون في زمن الحرب» وهو الفصل الأول المشتمل على مبحثين، تدرس في الأول «البدايات الطوباوية للفن العالمي ما بين 1917 - 1991»، وتعالج في الثاني «التحوّل ذو الطابع الهيمني للفن ما بين 1990 - 2000 »، وتخصص الفصل الثاني: لـ«الحقبة العالمية في عقدي 2000- 2020» وتتناول فيه عبر مبحثين قضايا: «أوج النموذج الهيمني»، ثم «بزوغ العصر متعدد الأقطاب»، وتتناول في فصل ثالث: «خرائطية الفن المعاصر: من الهيمنة إلى التنافس»، وفي الفصل الرابع والأخير الموسوم بـ«قوى جديدة وتقنيات جديدة: ثورة الفن عالمياً»، تخوض في تحولات العقود الفنية الأخيرة عبر مبحثين، أولهما عن: «آخر حروب الفن، سنوات 2010–2020»، والثاني عن «التحولات النسقية للفن المعاصر ما بين 2020–2024».

والحق أن التحليل النقدي في هذا الكتاب، الذي لا يخلو من نبرة سجالية ملحوظة، يذهب في مجمله إلى تبني نظرة تاريخية محكومة ببنية الصراع السياسي - الاقتصادي، حيث يوَظَّف الفن المعاصر، من جهة، من حيث هو نتاج لقضايا العنصرية والعولمة وتغير المناخ والتحول الجنسي... ومن جهة ثانية، بوصفه حصيلة للتحكم المؤسساتي، وهو ما يبرر الانتشار السريع لتيارات الفن المعاصر المتفاقمة عبر العالم، وسعيها لإخضاع ما سواها. ولا غرابة بعد ذلك أن لا تالو الباحثة جهداً في إبراز أن عالماً يفيض بالصور والعروض والاحتفالات الفنية، التي روّجت لها إقامات فنية وأروقة ومتاحف شهيرة عبر العالم من نيويورك إلى سيدني، ومن لندن إلى باريس ومن داكار إلى دبي،... أصبح معها الفن المعاصر المدعوم مؤسساتياً والمسنود مالياً، عبر سياسات حكومية شتى، الأكثر حضوراً، على نحو يغمر المشهد بشكل شبه كلي، حيث بات يشكل واجهة براقة تحجب خلفها ما تبقى من تجارب فنية أخرى.

وغير عصي عن البيان أن هذا الوهج المتصل لا يكشف حقيقة الفن، بل يخلق واجهة مكتفية بذاتها، بحيث يبدو كل ما يقع خارج دائرة الضوء كأنه غير موجود أصلاً. وشيئاً فشيئاً تنزلق أعمال استثنائية كثيرة من داخل هذا المشهد المزدحم إلى منطقة العتمة، لا لأنها تعجز عن التأثير، بل لكونها تفتقد لمجال يسمح لها بالتجلي. ومع مرور الوقت، لا تتوارى هذا التجارب إلى الخلفية فحسب، بل تُدفَع إلى حالة من الانمحاء تجعل وجودها نفسه موضوعاً للشك، ويحتاج من يشتغل عليها إلى إثبات أنها ما تزال حية.

ولا ينفصل الدور التحكمي للمؤسسات الفنية الكبرى من إقامات وأروقة ومتاحف، التي تسلط أود دو كيروس عليها الضوء، عن وظائف المُموِّلين الخواص، وبعض الحكومات في تشكيل الذوق العام، والتلاعب بقيمة الأعمال الفنية، ما يُرسخ هيمنة المركز الغربي على المشهد الفني العالمي من جهة، ولا يترك لمفاهيم من قبيل «الجمهور الفني» و«جامعي الأعمال الفنية» و«تلقي المعارض»، دلالات واضحة، خارج ما تكسبها إياه تلك المؤسسات والسياسيات المتصلة بها، بحيث يتجلى الأمر كما تبرزه الباحثة في أكثر من موضع في الكتاب، من حيث هو «صناعة» لاعبين كبار، لهم قدم في الواجهة البراقة لأعمال «التركيب الفني» و«الهوت كوتير» و«تصاميم المجوهرات» و«أعمال الديكور»... وقدم في الخلفية المعتمة للمال ورهاناته ومضارباته ومآزقه.

ولا جرم بعد ذلك أن تكون «صناعة القيمة» تعريفاً مهذباً لما يمكن أن يكون عليه «التلاعب بسوق التحف»، وسرعان ما تكشف الباحثة الفرنسة، التي تعلن عن نفسها كأحد أصوات مقاومة هذا الدور التحكمي، عن آليات التلاعب التي تُمارس في هذا القطاع، من خلال وسطاء يجعلون القيمة تبدو غير طبيعية، بل «مُؤمَّنة» من خلال شبكة مغلقة، يتم فيها تحديد الأسعار وتضخيمها، عبر تكتلات من جامعي التحف والمستشارين وصالات المزادات الكبرى، ما يخلق نوعاً من التداول من الداخل (délit d’initiés)؛ إنها شبكة الوسطاء نفسها التي تنتهي إلى قولبة «العمل الفني» وأصحابه، باعتبارهم «منتجات» يتم الترويج لهم، وفقاً لمنطق السوق، بدلاً من الجدارة الفنية. ما دامت أعمال الفن المعاصر لم تعد تقيَّم، بناء على معايير جمالية أو فنية، بل أصبحت تدار باعتبارها منتجاً مالياً مشتقاً، داخل سوق يمكن وسمها حسب الباحثة بـ«يوتوبيا مالية» (Utopie financière) تُنتج قيمة لأشياء قد لا تمتلكها في الأصل.

يتبنى الكتاب في مجمله نظرة تاريخية محكومة ببنية الصراع السياسي ــ الاقتصادي

وتدريجياً تخلص أود دو كيروس، عبر مباحث الكتاب وفصوله، إلى محصلة، تتولى فيها تلك المؤسسات المتحكمة في القيم الفنية وما يوازيها من أنصبة مالية، تشريع سوق لا يعكس حقيقة المنجز، بل حقيقة افتراضية متواضع عليها من قبل سلسلة الوسطاء، الأمر الذي سيسهل معه أن تتحول الأعمال الفنية التي باتت لها تلك القدرة التجريدية الكبرى للقيم المنقولة، إلى جعل سوق الفن ملاذاً مالياً، يعتبر مرتادوه من رجال أعمال، ومنتهزي فرص، ومغامرين، الأعمال الفنية بمنزلة أصول آمنة مربحة، خاصة بعد الأزمات الاقتصادية الكبرى، مثل أزمة 2008، التي لاحظت الكاتبة بصددها أن سوق الفن (على عكس الأسواق الأخرى) استمر في تسجيل مبيعات قياسية، ما دلّ على انفصاله عن الاقتصاد الحقيقي وتحوله إلى مكان آمن لاستثمار الأرصدة الجامدة، بالقدر نفسه الذي مثّل فيه فضاءً تبادلياً استثنائياً لغسيل الأموال، والتهرب الضريبي. وبتعبير الباحثة، فـ«جيل جامعي التحف الفنية الذي كان يحدّد الذوق في نهاية القرن العشرين لم يعد موجوداً. كان هذا الجيل أنغلوساكسونياً وأوروبياً، غنياً ومثقفاً أو راغباً في أن يكون كذلك. أما الموجة الجديدة فهي تتجاوزه في الثراء، ولم تعد لكلمة (فن) في عرفها المعنى نفسه... لهذا من الطبيعي أن تتكيّف دور المزادات لتقدم لهذا الجيل الجديد مزيجاً بارعاً، وغير متجانس، مما قد يرغب في استهلاكه؛ من العمل الفني إلى حقيبة اليد، ومن غرض التصميم إلى الموضة» (ص 15- 16).

ولعل تحول دلالة «الفن»، واختلال توازن القيمة الإبداعية والمالية، وخضوع أثمان التحف لتحكم مؤسسات كبرى، مع اتساع سوق الفن ليشمل صناعات فاخرة شتى تغري بالاستثمار، كلها عوامل أسهمت بحسب كتاب «الفن المعاصر: التلاعب والجغرافيا السياسية» في الرهان على القوة الناعمة للفن، ليس داخل الاقتصاد فقط، بل ضمن سياقات جيوسياسية متعددة، حيث أضحى سوق الفن ساحة معركة غير مباشرة بين القوى التقليدية (أوروبا والولايات المتحدة) والقوى الصاعدة (الصين ودول الخليج)، هذه الأخيرة التي دخلت مضمار المنافسة بخطط مستقبلية لتَبْيِئَةِ منتجات الفن المعاصر ضمن محيطها، ليس بهدف اكتساب شرعية ثقافية مضافة فقط، بل بقصد تحدي الهيمنة الغربية القديمة. إنه التنافس ذاته الذي ضاعف من أسعار الأعمال الفنية، وحوّلها إلى «سلاح» في أيدي النخب المالية والسياسة المتصارعة. وبتعبير موجز، فقد مثّلت الجغرافيا السياسية للفن، بحسب أود دي كيروس، السبيل إلى الكشف عن «تحوّل العمل الفني من كونه قيمة جمالية إلى رمز للقوة»، ونقطة ارتكاز في شبكات النفوذ العالمية التي تربط بين الإبداع والمال، والسلطة، والعلاقات الدولية في عالمنا المعاصر.


«فلسفة الضحك» عبر التاريخ كما يرويها العقاد

عباس محمود العقاد
عباس محمود العقاد
TT

«فلسفة الضحك» عبر التاريخ كما يرويها العقاد

عباس محمود العقاد
عباس محمود العقاد

رغم أن الطبعة الجديدة التي صدرت عن الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة من كتاب «جحا الضاحك المضحك»، توحي بعمل مخصص لأشهر شخصية ساخرة في التراث العربي، فإن عباس محمود العقاد (1889 – 1964) اختار كمفكر من طراز خاص أن يكرس المساحة الكبرى من كتابه لمناقشة «فلسفة الضحك» عبر حقب زمنية مختلفة.

البداية كانت من عند أفلاطون؛ إذ ذكر المضحكين والمضحكات وهو يبحث عن مكانهم في «مدينته الفاضلة» أو جمهوريته المثالية التي أراد أن يقصرها على الأفاضل والمأمونين، وأن يجنبها عوارض النقص والرذيلة، فبدا له أن الشعر موكل بالجانب الضعيف من الإنسان، بغير تفرقة بين شعر المأساة وشعر الملهاة.

ويرى الفيلسوف اليوناني الأشهر أن الإنسان الكريم يأبى أن يستسلم للبكاء إذا أصيب في عزيز عليه بشكل شخصي، لكنه لا يبالي أن يبكي أو يحزن إذا رأى هذا المنظر معروضاً عليه في مسرحية مفجعة؛ لأن البكاء يخدعه في هذه الحالة ويوقع في روعه أنه يبكي لغير مصابه فيتغلب على نفسه في سبيل غيره. والإنسان الكريم يأبى أن يتفوه بالعبارات الكوميدية أو التراجيديات المضحكة، ولكنه يستسلم للضحك إذا سمعها محكية في رواية هزلية يمثلها المسرحيون أمامه.

وليس بالشيء الجيد، وفقاً له، أن يكون في «الجمهورية الفاضلة» إنسان يغلب على وقاره الضحك أو البكاء على نحو يحطّ من منزلة البشر في صورتهم المثالية. إن نزلاء جمهوريته «يجب أن يتساموا على مشاهد الهزل التي لا تليق إلا بالعبيد والأجراء». ومن هنا أثنى على المصريين؛ لأنهم يعلمون الأبناء الموسيقى والرقص قياماً بالشعائر والطقوس في المعابد، ولكنهم لا يسمحون للشعراء بخلط الألحان بالأغاني المبتذلة، أو تركيب القصائد الموزونة على رقص الخلاعة والمجون.

وكانت خلاصة رأيه في كتاب «الجمهورية» وكتاب «القوانين» أن الشعراء يحسنون صناعة القصائد ويستحقون من أجل ذلك أكاليل الغار «ولكن ليلبسوها ويخرجون من المدينة الفاضلة إلى حيث يشاءون».

ولم يذكر أفلاطون سبب الضحك إلا في كلمات قليلة خلال هذه المباحث الأخلاقية، وهو يرى في تلك الكلمات أن الضحك مرتبط بالجهل الذي لا يبلغ مبلغ الإيذاء، وأن الشعراء يضحكوننا حتى يحاكوا أولئك الجهلاء، ولكنهم «إذا طرقوا موضوع الملحمة أو المأساة عظموا الطغيان وجعلوا رواياتهم حكاية لأعمالهم، فلا أمان لهم في محاكاة الجهل ولا في محاكاة الطغيان».

وكان أرسطو أدق من أستاذه في تعبيراته وتصنيفاته لأقسام الشعر؛ لأنه وضع فيها مبحثاً خاصاً بـ«المسرحيات المضحكة» التي تتبع تطورها منذ أن كانت نوعاً من الهجاء والأغاني الشهوانية إلى أن أصبحت موضوعاً للإضحاك والتسلية. وهو يرى أن الضحك نوع من أنواع الدمامة أو التشوّه، لكن بدرجة لا تبلغ حد الإيلام. وفي نبذة منسوبة إليه من رسالة مقطوعته، طُبعت في برلين سنة 1899، يؤكد على الدور التطهري للضحك قائلاً:

«إن الملهاة تطهر النفس كما تطهرها المأساة؛ لأن النفس المطبوعة على الرحمة أو على حسن الذوق تجد في المأساة والملهاة منصرفاً لما تنطوي عليه من العطف والشوق إلى الكمال واجتنابه التشويه».

ويرى العقاد أن كلا الفيلسوفين قد أخطأ في فهم المأساة والملهاة على أنها نوع من التقليد والمحاكاة؛ لأن «الشعر المسرحي يعرض الفواجع بتمثيل أناس يحاكون المصابين بها في حركاتهم وأقوالهم، وكذلك يفعل بالمضحكات والملهيات. ويندر بين فلاسفة القرون الوسطى من نظر إلى الضحك نظرة جدية ورآه يتضمن حكمة تجعله جديراً بالبحث عنه وعن أسبابه، لانصرافهم إلى البحث في الأصول الدينية وأسرار ما وراء الطبيعة. ولعل فلاسفة اليونان الأقدمين كانوا على هذا الرأي، ولم يبحثوا ولو بعض البحث في الضحك وأسبابه إلا في طريق بحثهم عن التراجيديا والكوميديا مع رجوع هذه في أساسها إلى سير الأرباب وطقوس المعابد».

ويرى العقاد أنه «إذا كنا نعيب على الثقافة القديمة قلة البحث في الضحك وأسبابه، فإن الثقافة الحديثة كانت على النقيض، حيث اهتمت به على نحو يكاد يكون مبالغاً فيه باعتباره مؤشراً على مزاج هذه الأمة أو تلك، ويكشف عن طبيعتها باعتباره مكوناً أصيلاً من مكونات الثقافة العامة، ولا يقل أهمية في ذلك عن الأدب والتراث الشعبي. ومن أبرز الأمثلة لذلك كتاب (الضحك) الذي صدر للفيلسوف الفرنسي هنري برغسون عام 1911، والذي تجاوز عدد مراجعه الأربعين مرجعاً».

ويعود هذا الإفراط في الكتابة عن الضحك، كما يرى العقاد، إلى سبب مهم يتمثل في نشأة علم الذوق أو علم الجمال الذي ينظر في الفروق بين الجميل والجليل والمضحك كما تعرضها الفنون الجميلة، لا سيما الأدب المسرحي؛ إذ أصبح البحث عن المضحك والمبكي والحسن والقبيح مقروناً بالبحث فلسفياً عن المقدس والقداسة في شعور الإنسان وممارساته.

ويرى برغسون، كما يضيف العقاد، أننا «لا نضحك إذا رأينا إنساناً يتصرف تصرف الآلة ويقيس الأمور قياساً آلياً لا محل فيه للتميز المنطقي، ولكننا نضحك في الجماعة عامة ولا نضحك منفردين؛ لأن الضحك تنبيه اجتماعي أو عقوبة اجتماعية لمن يغفل عن العرف المتبع في المجلس أو في المحفل أو في الهيئة الاجتماعية بأسرها. والضحك عنده إنساني بمعاني الكلمة، فلا يُشاهَد في غير الإنسان، ولا يستثيرنا في غير عمل إنساني أو عمل نربطه بالإنسان».

كما أننا لا نضحك من منظر طبيعي أو من جماد كائناً ما كان، إلا إذا ربطناه بصورة إنسانية وجعلناه شبيهاً بإنسان نعرفه أو منسوباً إلى عمل من أعمال الناس، وقد نضحك من قبعة نراها، فلا يكون الضحك منها نفسها، بل من الإنسان الذي يلبسها ونتصور هيئته فيها، كما يقول.

ومن شروط الأمر المضحك عند الفيلسوف برغسون أن يحصل في جماعة أو يرتبط بالتصرف الجماعي، فقلما يضحك الإنسان على انفراد إلا إذا استحضر العلاقة الاجتماعية في ذهنه. وقلما ننظر إلى أحد يضحك على انفراد إلا خامرنا الشك في عقله، ما لم يكن له عذر نعلمه!


تاريخ العرب في الأندلس من منظور إنساني

تاريخ العرب في الأندلس من منظور إنساني
TT

تاريخ العرب في الأندلس من منظور إنساني

تاريخ العرب في الأندلس من منظور إنساني

في روايته الجديدة «ولا غالب» الصادرة أخيراً عن دار «الشروق» بالقاهرة، يقدم الكاتب الكويتي عبد الوهاب الحمادي معالجة فنية ودرامية جديدة لتاريخ العرب في الأندلس من منظور إنساني يعلي من قيمة التسامح وقبول الآخر ويستنكر منطق الإقصاء بين الشرق والغرب.

على تلال غرناطة تلتقي أربع شخصيات معاصرة تطاردها أزماتها الشخصية في زماننا الحالي وقد دلفت عبر «بوابة الزمن» لتستيقظ في عام 1492 عشية سقوط المدينة حيث وجدوا أنفسهم أمام مهمة إنقاذ غرناطة من مصيرها المحتوم كآخر قلاع العرب في بلاد الأندلس. تمنح الرواية الشخصيات أحد خيارين: تغيير مجرى التاريخ أو أن يصبحوا ضحاياه الجدد، لكن كيف لأربعة غرباء يحمل كل منهم ندوب صدمته الخاصة أن يغيروا مصير الأمة الأندلسية؟

وسبق أن صدر للمؤلف عدة أعمال منها «سنة القطط السمان» التي وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة كتارا للرواية العربية، كما صدر له كتاب «دروب أندلسية» في أدب الرحلات.

من أجواء الرواية نقرأ:

على تل أخضر أمامي، استوى قصر الحمراء مثل شيخ شاحب ممدد على سرير مستشفى، لم يقتص المرض من وسامة تالدة. لطخت الشمس الآفلة غيوماً، تلتحف سماء غرناطة بلون النارنج. نظرت إلى الساعة في معصمي، قاربت السابعة أعدت لف الشال المغمور بعطرها حول رقبتي أحميها من صقيع نهايات ديسمبر فغمرتني رائحة الليمون. أغمدت كفي في جيبي، ضحكة شبان ورائي ونغمات عازف غيتار يصدح بغناء إسباني مكلوم. جميع الأعين وفرقعات آلات التصوير تحاول أن تقتنص جمال الشيخ على سريره الأخضر، لولا الحمراء لما أمسى لهذا المكان معنى لهم ولولاك ياصاحبة العطر، لما كان للحمراء معنى لي.

فهمت الآن لماذا كنت ياغادة تحبين هذه المدينة الواقعة خارج خريطة السياحة العربية غرناطة، ولماذا كنت تقرئين قبل النوم كتباً مصورة عن الأندلس أو تنصتين لبرامج إذاعية تاريخية وتتنهدين في أواخر أبيات الشعر، أو ترهفين لوديع الصافي وفيروز يتناجيان موشحاً، غصة في قلبي لن تزول لفتوري عن تحقيق رغبتك في زيارة هذا المعلم.

تغافلت أن القدر قد يسلب منا من نحب وقد يسلبنا أنفسنا. كنت أؤجل وكنت ترضين بأعذار انشغالي: عيادة مكتظة، سعال مرضي، حالات طارئة تنزف، خفارات ليلية مرهقة، نحيب أطفال، إعداد أوراق مؤتمرات طبية، بل وتجدين أعذاراً تقنعك أو هكذا كنت تتظاهرين لأنك تدركين أن التاريخ لا محل له في تلافيف دماغي.أحب تنفس عطر الليمون عندما تدنين مني وتلقبيني هامسة بصانع المعجزات، صانع المعجزات الذي رحلت يا غادة بين يديه، أغمضت عينيك إلى الأبد دون أن يقدر على فعل أي شيء».