«عدوى الانقلابات» تتسارع في غرب أفريقيا

أنظمة هشّة وتنافس دولي وإرهاب... عثرات على طريق الديمقراطية

«عدوى الانقلابات» تتسارع في غرب أفريقيا
TT

«عدوى الانقلابات» تتسارع في غرب أفريقيا

«عدوى الانقلابات» تتسارع في غرب أفريقيا

مثل عدوى الوباء الذي تصعب السيطرة عليه، باتت الانقلابات العسكرية تضرب، بوتيرة متسارعة، دول غرب القارة الأفريقية، واحدة تلو أخرى، إذ وقعت خلال 10 أشهر فقط 3 انقلابات عسكرية ناجحة، آخرها الإطاحة برئيس بوركينا فاسو، روك مارك كريستيان كابوري، نهاية يناير (كانون الثاني) الماضي، بخلاف محاولات أخرى لم يكتب لها النجاح بعد. الأمر الذي عدّه بانكولي أديويي، مفوض السلم والشؤون السياسية بالاتحاد الأفريقي «سابقة تاريخية»، خلال قمة الاتحاد الأخيرة في أديس أبابا، مطلع فبراير (شباط) الحالي. ويُذكر أن الاتحاد الأفريقي يعلّق الآن وفق تقويمه السنوي عضوية 4 دول، هي مالي، وغينيا، وبوركينا فاسو، بالإضافة إلى السودان.
إن متتبع الأحداث وراصد تلك الانقلابات الأفريقية، يجد أنها تحمل صورة متكرّرة ونمطية، تبدأ بغضب شعبي يسيطر عليه العامل الاقتصادي بشكل رئيس، ممزوجة باتهامات الفساد... ويعقبها تحرك لقادة بالجيش الوطني يحتجزون عبره رئيس البلاد أو الحكومة، ويعطلون العمل بالدستور والمؤسسات الحاكمة كافة، مع التعهد بإقامة نظام ديمقراطي دستوري خلال فترة زمنية، عادة ما يصار إلى تجاوزها وسط انتقادات دولية.

في حين تحدث رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي موسى فقي عن دور لـ«الإرهاب»، كأحد مسببات موجة الانقلابات الأخيرة في أفريقيا، يرى مراقبون أن ثلاثية (الأنظمة الهشة، والتنافس الدولي، وانتشار الجماعات الإرهابية) عوامل رئيسة وراء فشل تجارب الإصلاح السياسي والتحول الديمقراطي في كثير من دول القارة. ويضاف إليها إرث قديم من الانقلابات لم تتخلص منه القارة السمراء، ما ينذر بمرحلة حرجة لعمليات «التسوية الديمقراطية»، في ظل رفض إقليمي ودولي شامل لتلك الانقلابات.
ثمة عدد من العوامل تدعم المسارات المؤهلة لسياق الانقلابات العسكرية في أفريقيا، خاصة الجزء الغربي منها، الذي يوصف بأنه «بؤرة انقلابات»، في مقدمتها كما تشير الدكتورة إيمان زهران، خبيرة العلاقات الدولية والأمن الإقليمي «هشاشة الدولة الوطنية، بالإضافة إلى الانعكاسات السلبية لفشل تجارب الإصلاح السياسي والتحول الديمقراطي التي بدأت منذ مطلع التسعينات، خاصة أن التجارب الديمقراطية في مجملها لم تتمكن من تحقيق احتياجات المواطنين الاقتصادية والاجتماعية، بل إنها اتجهت في الغالب إلى إضفاء الشرعية على سيطرة المجموعات العرقية والقبَلية ومراكز القوة الداخلية والخارجية، وهو ما أفضى تدريجياً إلى الخلل بالعلاقات المتباينة بين أنظمة الحكم والقاعدة الاجتماعية بتلك الدول».
نقطة أخرى تؤثر بشكل مباشر في مسار التطورات السياسية الأخيرة، تحدثت عنها زهران لـ«الشرق الأوسط»، تتعلق بنمط «المجموعات الإرهابية المسلحة». إذ تقول زهران إنها أصبحت «أحد أبرز العوامل التي تسهم في التأزم السياسي» بالمنطقة، لعدد من الاعتبارات، أبرزها؛ ضرب حالة «السلم المجتمعي» في تلك الدول، وذلك عبر توظيف ورقة «التنوع الإثني والديني والقبلي»، بما يخدم أجنداتها المتطرفة نحو تأجيج الفتنة وإشعال الصراعات الداخلية. وأيضاً ما يتعلق بـ«عسكرة الحياة السياسية»، وذلك عبر الانتقال النوعي من نظام التشكيلات الحزبية التقليدية إلى نظام الميليشيات الحزبية، وهو ما أمكن رصده بمجمل التطورات السياسية الأخيرة في الغرب الأفريقي.
بالإضافة إلى ما سبق ذكره، ترى خبيرة العلاقات الدولية أن ثمة عاملاً مهماً آخر يجدر النظر إليه وإعادة تقييمه، في إطار إعادة إنتاج الأدوار الدولية المتباينة بالقارة الأفريقية، أو ما يُعرف بـ«الكولونيالية الجديدة». وهنا تضرب زهران مثَلاً بما يُساق راهناً في تقييم النشاط الروسي الجديد في غرب أفريقيا الذي يسعى لتوظيف مشاعر السخط ضد التدخل الغربي، وبالأخص التدخل الفرنسي. وهو يستغل في هذه الحالة هذا التدخل ويضعه ضمن إطار استمرار الهيمنة الاستعمارية والاستغلال الاقتصادي لدول المنطقة؛ بينما تسعى موسكو - في المقابل – إلى تقديم نفسها على أنها قوة فاعلة في استراتيجية مواجهة الإرهاب والدفاع عن الأنظمة الموالية وضمان الاستقرار بالمنطقة، وهو ما قد يدفع إلى التحول في شكل الصراع، إذ لن يقتصر فقط على مدارات الانقلابات العسكرية، بل سيتخطى الأمر حاجز صراعات النفوذ وتقاسم المناطق بين الفواعل الدولية بالقارة الأفريقية.

- انتشار العدوى
بعيداً عن الظروف الاقتصادية والسياسية المتردية في دول القارة التي تشهد تلك الانقلابات، ثمة عامل إضافي يساعد على انتشارها هو «العدوى»، كما يشير المحلل السياسي ألكسندر أونوكو، في موقع «كوارتز أفريكا» Quartz Africa، الذي أرجع انقلاب بوركينا فاسو الأخير إلى «تجرؤ الجنود الناتج عن رؤيتهم نجاح الانقلابات في دول أخرى مثل مالي وغينيا»، إلى جانب العوامل التقليدية لفشل الحكم. ويرى أونوكو أنه «نظراً لنجاح هذه الانقلابات، تولّد إحساس لدى الجنود الذين يفكرون في محاولات الانقلاب بأنهم مفوضون لفعل ذلك، وصحيح قد يساعد هذا في تفسير سبب جرأة جنود بوركينا فاسو على الإطاحة بكابوري، إلا أنه لا يلغى أن بوركينا فاسو لديها تاريخ من الانقلابات، بما في ذلك 4 على الأقل خلال سنوات الثمانينات وحدها، التي شهدت صعود وسقوط البطل القومي توماس سانكارا».
ثم يضيف أونوكو عنصراً عزز إمكانية انتشار «العدوى»، حسب اعتقاده، وهو أن اندلاع ما بات يعرف بـ«الربيع العربي» في شمال أفريقيا والشرق الأوسط أدى إلى هجرة جماعات متطرفة تجاه النيجر وتشاد ومالي، ما ساعد على تعزيز التمرد المسلح في هذه البلدان. وبدءاً من عام 2016، ساعد التنافس بين تنظيمي «القاعدة» و«داعش» في تفاقم الاضطرابات. وهنا يشير إلى أن انقلاب بوركينا فاسو حدث «في وقت خطير للغاية من الهجمات الإرهابية المتزايدة»؛ حيث أسفر هجوم واحد وقع في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي عن مقتل 53 شخصاً، من بينهم 49 من ضباط الشرطة العسكرية. وباختصار، ازدادت وتيرة الهجمات الإرهابية في عهد كابوري رغم تعهد الأخير، منذ توليه السلطة عام 2015، بتكثيف الجهود لمكافحة الإرهاب.

- نهج انقلابي تاريخي
أعادت الانقلابات الأفريقية المتتالية خلال الأشهر الأخيرة، في مالي وغينيا وتشاد وبوركينا فاسو، وكذلك السودان، التذكير بحقبة الاضطرابات التي عاشتها القارة في الماضي، بعدما شهدت تحسناً نسبياً في العقدين الأخيرين. فقد سجلت أفريقيا منذ عام 1950 نحو 222 محاولة لقادة بالجيش للإطاحة بالحكومات من إجمالي 494 محاولة في العالم، منها 21 محاولة منذ عام 2015، ولقد حقق نحو 38 في المائة من هذه المحاولات النجاح، فتمكنت من تغيير رأس السلطة، وكان السواد الأعظم منها في إقليمي الغرب والوسط الأفريقيين، وذلك بحسب «إنتر ريجونال للتحليلات الاستراتيجية».
ولعل عام 2020 كان بداية المرحلة الجديدة لعودة هذه الظاهرة إلى قارة أفريقيا؛ بعد غياب منذ عام 2017. ذلك أن 2020 شهد بمفرده 12 محاولة انقلابية من أصل 13 محاولة على مستوى العالم، كان آخرها الانقلاب الذي أطاح بالرئيس الأسبق روبرت موغابي في زيمبابوي في نوفمبر 2017، بعدها شهدت الأنظمة السياسية في القارة «استقراراً نسبياً» حتى بداية النصف الثاني من عام 2020، الذي وقع فيه انقلاب عسكري في مالي يوم 18 أغسطس (آب) أدى إلى الإطاحة بالرئيس الأسبق إبراهيم أبو بكر كيتا.
بعد ذلك، جاء عام 2021 ليسجل أكبر عدد من المحاولات الانقلابية؛ بلغ عددها 6 محاولات، نجح منها 4، بدءاً من انقلاب تشاد يوم 20 أبريل (نيسان) حين أقدم المجلس العسكري الانتقالي برئاسة محمد إدريس ديبي - الذي كان آنذاك قائداً للحرس الرئاسي – على حل الحكومة والجمعية الوطنية (البرلمان) بعد وفاة الرئيس الأسبق إدريس ديبي، ووعد بإقامة انتخابات حرة وديمقراطية في غضون سنة ونصف سنة.
أيضاً شهدت مالي انقلاباً عسكرياً بقيادة آسيمي غويتا في 24 مايو (أيار)، وتلتها غينيا (غينيا كوناكري) التي نالت حظها بانقلاب بقيادة العقيد مامادي دومبويا في سبتمبر (أيلول) أطاح بالرئيس الأسبق ألفا كوندي. وأخيراً، شهد السودان تحرّكاً في 25 أكتوبر (تشرين الأول) 2021 بقياده الفريق أول عبد الفتاح البرهان - الذي يقود مجلس السيادة في إطار المرحلة الانتقالية – ونجم عن هذا التحرّك حل مجلس السيادة والحكومة برئاسة عبد الله حمدوك. وتجدر الإشارة هنا إلى أن السودان بوجه عام يعدّ أكثر دولة أفريقية شهدت محاولات استيلاء على السلطة وانقلابات، بلغت نحو 17 محاولة، نجح 6 منها.
أما على مستوى العام الحالي، الذي لم يمضِ منه سوى شهر ونصف شهر، فقد شهدت القارة محاولتين انقلابيتين في دولتين من دول غرب أفريقيا؛ الأولى كانت ناجحة في بوركينا فاسو، التي تمتلك بدورها إرثاً من الانقلابات العسكرية، إذ شهدت 8 انقلابات ناجحة، ومحاولة واحدة فاشلة منذ استقلالها عن فرنسا عام 1960. أما الثانية، في جمهورية غينيا بيساو، وهنا لم تنجح محاولة الانقلاب العسكري. وفي هذا الشأن، نشير إلى أن غينيا بيساو (غينيا البرتغالية سابقاً)، تعد أيضاً من أكثر البلدان عرضةً للخضّات السياسية والعسكرية، إذ إنها شهدت 4 انقلابات ناجحة و16 محاولة فاشلة منذ استقلالها عن البرتغال خلال عام 1974.

- إدانات غير مجدية
الواضح أن مدبّري الانقلابات، في معظم الحالات، كانوا يستبعدون مسبقاً إمكانية أن يدين المجتمع الدولي أفعالهم بأيّ طريقة ذات مغزى. بل إنهم كانوا يدركون أن الأمر سيتوقف في نهاية المطاف عند حدود الإدانة، وربما فرض عقوبات.
«ولكن في النظام الدولي، الذي يعيش حالة حرب باردة ثانية، سيجد هؤلاء سنداً وحماية من بعض القوى الدولية الصاعدة»، كما يشير أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة حمدي عبد الرحمن. وهنا يلفت الأكاديمي المصري إلى «صعوبات عدة تواجه إدانة الانقلاب في الجانب الأميركي مثلاً؛ حيث تنص المادة 508 من قانون المساعدة الخارجية على أن الولايات المتحدة مُطالَبة بتعليق مساعداتها للدول التي تشهد انقلاباً عسكريّاً. إلا أن الإدارة الأميركية تتردد كثيراً في استخدام وصف الانقلاب خوفاً من اتجاه هذه الدول نحو المنافسين الدوليين مثل روسيا والصين، وكلاهما يمكن أن يعرقل تحرك مجلس الأمن الدولي من خلال استخدام حق النقض».
هذا، وكان الاتحاد الأفريقي قد أعرب خلال قمته الأخيرة في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا عن إدانته «بلا لَبْس» ما وصفه بـ«موجة الانقلابات العسكرية» التي حدثت أخيراً في القارة. وقال المفوض بانكولي أديويي: «أدان كل قيادي أفريقي في المجموعة بلا لبس (...) موجة تغيير الحكومات بصورة مخالفة للدستور». وأردف: «لن يتسامح الاتحاد الأفريقي مع أي انقلاب عسكري بأي شكل كان»، مذكّراً أن مجلس السلام والأمن التابع للاتحاد الأفريقي علّق عضوية الدول التي شهدت انقلابات.
كذلك، قال أديويي معلقاً على «مبادرة إسكات البنادق»، إنه بعد نقاشها من طرف القادة الأفارقة تبين أنه «لا يمكن إسكات البنادق وتحقيق السلام في القارة من دون حكم رشيد». وأشار في السياق ذاته إلى أن الحكم الرشيد مرتبط بشكل وثيق بتكريس الديمقراطية ومنع الانقلابات العسكرية، فقال: «سنعمل ما في وسعنا كمفوضية مع القادة الأفارقة لمنع هذه الانقلابات وتعزيز الهياكل الأمنية بدول القارة»، وحذّر في الوقت عينه من أن تتحول منطقة غرب أفريقيا إلى «بؤرة» للانقلابات العسكرية.
من جهة ثانية، درج الاتحاد الأفريقي منذ فترة على أن يبني مواقفه من الانقلابات العسكرية والصراعات السياسية، على المواقف التي تتخذها المنظمات الإقليمية في القارة؛ حيث تتكتل دول القارة الأفريقية ضمن عدة مجموعات اقتصادية في غرب ووسط وشرق وجنوب القارة. وتلعب هذه التكتلات أدواراً مهمة في تسيير الأزمات الداخلية للدول، وتحظى بدعم قوي من الاتحاد الأفريقي، بصفتها «أداة أفريقية لتقديم حلول أفريقية لمشكلات أفريقية»، ولكن، كما ترى الدكتورة إيمان زهران فإن «فكرة التقويض ومحاصرة حركة الانقلابات القائمة أمر غير مُجدٍ في ظل غياب آليات رادعة لمثل تلك التحولات السياسية، فضلاً عن ضعف وتراخى المنظمات الإقليمية أمام تلك الأحداث، وفي مقدمتها الاتحاد الأفريقي».
أخيراً، كان قد صدر ميثاق أفريقي عام 2014، بشأن قيم ومبادئ اللامركزية والحكم المحلي والتنمية المحلية، ووقّعت عليه 17 دولة فقط، في حين صدقت عليه 6 دول فقط. ولعل ذلك ما «يجعل القِيَم الأساسية التي يؤكّد عليها مثل الاستجابة والشفافية والمساءلة والمسؤولية المدنية مجرد حبراً على ورق»، وفق زهران، التي تتوقع أن «تشهد الانقلابات العسكرية – على الأخص في منطقة غرب أفريقيا – مزيداً من التوسع لتشمل دولاً أخرى تتشابه أوضاعها الداخلية الهشة، مثل النيجر وكوت ديفوار وغامبيا وتوغو».


مقالات ذات صلة

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

حصاد الأسبوع جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب

يوسف دياب (بيروت)
حصاد الأسبوع تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني

براكريتي غوبتا (نيودلهي (الهند))
حصاد الأسبوع تشون دو - هوان (رويترز)

تاريخ مظلم للقيادات في كوريا الجنوبية

إلى جانب يون سوك - يول، فإن أربعة من رؤساء كوريا الجنوبية السبعة إما قد عُزلوا أو سُجنوا بتهمة الفساد منذ انتقال البلاد إلى الديمقراطية في أواخر الثمانينات.

«الشرق الأوسط» (نيودلهي)
حصاد الأسبوع الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

شرق السودان... نار تحت الرماد

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق

أحمد يونس (كمبالا (أوغندا))
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ب)

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

اختارت مجلة تايم الأميركية دونالد ترمب الذي انتخب لولاية ثانية على رأس الولايات المتحدة شخصية العام 2024.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.