«غوغل» تثير المخاوف بشأن «السيطرة على المحتوى»

«غوغل» تثير المخاوف بشأن «السيطرة على المحتوى»
TT

«غوغل» تثير المخاوف بشأن «السيطرة على المحتوى»

«غوغل» تثير المخاوف بشأن «السيطرة على المحتوى»

في خطوة تثير الكثير من التساؤلات حول مستقبل «حرية صناعة المحتوى»، والمعايير التي تتبعها منصات التواصل الاجتماعي عند إزالة أي محتوى. حذرت «غوغل» من تأثيرٍ وصفته بـ«المدمّر» على الإنترنت والمحتوى الذي يُنشر من خلالها، وذلك في أعقاب واقعة تغريمها 40 ألف دولار أميركي على خلفية «مواد تشهيرية» متاحة ضمن نتائج بحث «غوغل».
تعود الواقعة إلى حكم قضائي صدر عن المحكمة العليا في الولايات المتحدة الأميركية، بنهاية يناير (كانون الثاني) الماضي، لصالح جورج ديفتيروس (وهو محام)، يُغرم شركة «غوغل» المبلغ المالي المذكور، بسبب إتاحة مقال نُشر عام 2004 حول توقيفه بتهمة «التآمر في قضية قتل» -جرى إسقاطها لاحقاً- ما يعد تشهيراً به. إلا أن شركة «غوغل» تقدمت بمذكرة إلى المحكمة، معربةً عن قلقها بشأن «اضطرارها لفرض رقابة على المحتوى، بما في ذلك الصحافة». وناشدت، حسب مصادر صحافية، ألا تُجبَر على فرض رقابة على الإنترنت.
متخصصون وخبراء يرون في تهديدات «غوغل» جملة من الدلالات والمؤشرات بشأن «صناعة المحتوى»، أهمها، أن تكون ذلك منعطفاً جديداً في علاقة «غوغل» وصُناع المحتوى بما فيها المؤسسات الصحافية. وأشار بعض المتخصصين إلى أن «(غوغل) غدت طرفاً ثالثاً يشارك بشكل أو بآخر في نشر المحتوى، الذي قد يتضمن إساءة أو تشهيراً ببعض الأفراد. وبالتالي، يحق للمستخدم المتضرر من أي محتوى منشور اللجوء للقضاء بسبب هذا الضرر».
كذلك حسب مراقبين، «يبدو أن تهديدات (غوغل) بشأن المحتوى دخلت حيز التنفيذ، ففي مطلع فبراير (شباط) الجاري، أعلنت اعتزامها إزالة 94173 منشوراً في الهند، بناءً على شكاوى تلقتها الشركة في ديسمبر (كانون الأول) الماضي». ومن جانبها، أوضحت «غوغل» خلال تقرير الشفافية الشهري، الذي نشره موقع «بيزنس ستاندرد»، أنها «تلقت 31497 شكوى من المستخدمين، فضلاً عن إزالة 405.911 قطعة من المحتوى في ديسمبر الماضي، نتيجة الاكتشاف الآلي».
الخبير السعودي فهد عبد الرحمن الدريبي، المتخصص في الأمن السيبراني والتقنية، يرى أن «الواقعة تعود في الأساس إلى قانون أصدره أولاً الاتحاد الأوروبي، ثم الولايات المتحدة الأميركية يحمي (نظام الخصوصية) للأفراد». وأردف في تصريحات لـ«الشرق الأوسط» أن «أحد أحكام القانون الذي يُعرف باسم (The right to be forgotten) يشمل الحق بحذف المعلومات الشخصية التي تنطوي على نوع من أنواع التشهير. وعلى سبيل المثال، إذا اتُّهم شخص بارتكاب فعل مُشين، ثم بُرئت ساحته، أو حتى تعرض للسجن وأخذ جزاءه، من حقه إزالة المعلومات التي تسيء له، بهدف بدء مرحلة جديدة خالية من منغصات تعرقل مستقبله، وهو ما يوضح حيثية الحكم الذي صدر ضد (غوغل)».
من جانب آخر، علّق الصحافي المصري محمد عاطف، المتخصص في الإعلام الرقمي بدولة الإمارات العربية المتحدة، لـ«الشرق الأوسط» قائلاً إن «(غوغل) طرف ثالث مشارك، بشكل أو بآخر، في نشر المحتوى الذي قد يتضمن إساءة أو تشهيراً ضد أفراد». وأوضح أنه «يحق، بالتالي، للمستخدم المتضرر من أي محتوى منشور، اللجوء إلى القضاء، ومقاضاة مَن تسبب بهذا الضرر، حتى ولو كان وسيطاً أو طرفاً ثالثاً، أي إنه ليس الطرف المباشر في عملية النشر على الإنترنت».
وعن حدود الدور الذي ينظم علاقة «غوغل» بـ«المحتوى». يشرح محمد عاطف قائلاً: «يجري تنظيم حدود هذه الوساطة من خلال المادة 230 من قانون آداب الاتصالات الأميركي، منذ تمريرها في الكونغرس الأميركي عام 1996، وهي تُعرف بأنها حجر الأساس لشبكة الإنترنت، وتنص بشكل صريح على أنه لا يمكن أن تعامَل شركات الإنترنت معاملة الناشر في يما يخص المحتوى الذي ينشره المستخدمون على مواقعها. وهذا يعني إعفاءها من المسؤولية القانونية المدنية عن ذلك المحتوى، باستثناءات محددة تتعلق بأمور مثل، حقوق الملكية الفكرية، وقيود قانونية أضيفت لاحقاً تتصل بجرائم مثل الإرهاب». وأضاف: «هذا يشير إلى أننا أمام فصل جديد من مسؤولية محرك البحث العملاق إزاء ما يتوافر من خلاله من معلومات».
في سياق موازٍ، أثارت «تهديدات غوغل» بشأن المحتوى حفيظة المتخصصين في صناعة الإعلام الرقمي، لما تنطوي عليه من تأثيرات متشابكة على «حرية صناعة المحتوى» في المستقبل. وهنا يؤكد فهد الدريبي أنه «سلاح ذو حدين، يعيدنا إلى عصر ما قبل الإنترنت، حيث لا مجال للاحتفاظ بالمعلومات لمدة لا نهائية. ولكن في الوقت نفسه ثمة تأثير إيجابي على الأفراد، يُحمل وسائل التواصل الاجتماعي والمنصات مسؤولية مجتمعية تجاه الخصوصية، ما يحدّ من الضرر الواقع على الأشخاص على خلفية مواقف أو آراء من الماضي». ويدلل الدريبي على هذا التحليل بالقول إن «بعض الكُتاب يغيّرون آراءهم من منطلق التصحيح أو النضج؛ غير أن روّاد مواقع التواصل الاجتماعي ربما يستخدمون ذلك بغرض المعايرة أو الملاحقة». ويضيف: «هذا الأمر يشكل تحدياً حقيقياً ويطرح تساؤلات عدة، حول الأسس والمعايير وجهات المراقبة التي تنظم علاقة (غوغل) بصُناع المحتوى على كل المستويات».
عودةً إلى عاطف، فإنه يرى أن ما حدث ليس جديداً على الإعلام الرقمي. ويؤكد أن «دور الشركات الكبرى، مثل (غوغل) و(فيسبوك)، لم يغفل مسؤولية حماية المحتوى وتطوير صناعته على مدار السنوات الماضية، بدايةً من فتح المجالات أمام صُناع المحتوى والصحف والوكالات الإخبارية وتدريب العاملين فيها. بل لقد قدمت هذه الشركات الفرص والمساحات الأهم لصُناع المحتوى، حتى باتت البديل المالي الضخم الذي تم توفيره، ما بين إعلانات، أو حتى دعم مباشر».
ويتابع عاطف: «كل هذا لا يغفل الخلافات التي قد تبرز بين الحين والآخر مع صُناع المحتوى، لا سيما الإخباري. ولعل آخرها توقيع شركة (ناين) للترفيه، التي تعد إحدى كبرى الشركات في أستراليا، وتملك صحيفة (سيدني مورنينغ هيرالد)، اتفاقاً مع (غوغل) و(فيسبوك) لتنظيم المحتوى. وتشير التقديرات إلى أن مكاسب وحدة النشر الخاصة بها، ستقفز إلى ما بين 23 و31 مليون دولار خلال 2022».
أما بالنسبة إلى الحكم الذي أصدرته المحكمة العليا بالولايات المتحدة الأميركية حول «غوغل»، فإن الدريبي يعده «حكماً تاريخياً». ثم يوضح أن «المحكمة أقرّت بمسؤولية مواقع التواصل الاجتماعي، على غرار (فيسبوك) و(تويتر) و(يوتيوب)، تجاه المحتوى الذي يقدَّم من خلالها، لم تخصّ المحكمة (غوغل) وحدها؛ بل طال الحكم مسؤولية المنصات تجاه تعليقات المستخدمين على المحتوى المنشور. فمثلاً، إذا رفع حساب ما فيديو على (يوتيوب) فهو سيحاسَب لاحقاً على التعليقات إذا كانت مسيئة للأشخاص وإذا تقدموا بشكاوى. وهذا يعد تحدياً آخر يلزم كل حساب بتنقية كل ما يظهر للعلن من خلاله، بشكل يتوافق مع معايير حماية خصوصية الأفراد، وحمايتهم من محتوى الكراهية والعنف». وأضاف الدريبي أن «التحدي الأكبر أمام الشركات العملاقة، يعود إلى أن التنقية الدقيقة تعني ضرورة الانغماس في الثقافات، حتى يتسنى لها تقييم التعليق أو المحتوى».
في الإطار نفسه، عن النموذج الأمثل لحماية المؤسسات الصحافية فيما يخص حرية تداول المعلومات، يرى محمد عاطف أن «التفاوض، هو المسار الصحيح... ومصلحة الصحف و(غوغل) وغيرها من الشركات الكبرى واحدة في هذا الشأن. إذ إن الجميع يعمل من أجل حماية حرية التعبير والرأي في المقام الأول، لضمان مفهوم الاستمرارية في الأصل. ولو شُرِّع الباب على مصراعيه لمثل هذه القضايا، لن يجد صُناع المحتوى ما ينشرونه، وهكذا تتضرر (غوغل) نفسها». ثم يتابع: «أتوقع أن الأمر سيصل إلى مرحلة التفاوض والتشاور بين صُناع المحتوى والشركات الكبرى، وهو ما سيوفر وحده حماية كاملة للطرفين. أما في حال فشل التوصل إلى حل وسط بين صُناع المحتوى والشركات الكبرى، فسيكون أمام هذه الشركات النية لحماية نفسها فقط، في مواجهة الرقابة القضائية... وهو ما يعني مزيداً من القيود على حرية تداول المعلومات، وفرض رقابة أوسع على حرية التعبير، كما سيعني فتح الباب أمام كل مَن يريد إزالة محتوى لا يتماشى مع هواه السياسي أو الاجتماعي من على الإنترنت».


مقالات ذات صلة

«إيه بي سي نيوز» تدفع 15 مليون دولار لمكتبة ترمب الرئاسية لتسوية دعوى تشهير

الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (إ.ب.أ)

«إيه بي سي نيوز» تدفع 15 مليون دولار لمكتبة ترمب الرئاسية لتسوية دعوى تشهير

وافقت شبكة «إيه بي سي نيوز» على دفع 15 مليون دولار لصالح مكتبة دونالد ترمب الرئاسية، لتسوية دعوى قضائية تتعلق بتصريح غير دقيق من المذيع جورج ستيفانوبولوس.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
يوميات الشرق الفيلم يتناول مخاطرة صحافيين بحياتهم لتغطية «سياسات المخدّرات» في المكسيك (الشرق الأوسط)

«حالة من الصمت» يحصد «جائزة الشرق الوثائقية»

فاز الفيلم الوثائقي «حالة من الصمت» للمخرج سانتياغو مازا بالنسخة الثانية من جائزة «الشرق الوثائقية».

«الشرق الأوسط» (جدة)
رياضة عربية المهندس خالد عبد العزيز رئيس المجلس الأعلى للإعلام في مصر (صفحة المجلس على «فيسبوك»)

مصر: قرارات جديدة لمواجهة «فوضى الإعلام الرياضي»

أصدر المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام في مصر، برئاسة المهندس خالد عبد العزيز مجموعة قرارات، اعتماداً لتوصيات لجنة ضبط أداء الإعلام الرياضي.

محمد الكفراوي (القاهرة)
أوروبا مراسلات يتحدثن أمام الكاميرات خلال تغطية صحافية في البرازيل (رويترز)

ثلثهم على أيدي الجيش الإسرائيلي... مقتل 54 صحافياً في عام 2024

قُتل 54 صحافياً حول العالم أثناء قيامهم بعملهم أو بسبب مهنتهم في عام 2024، ثلثهم على أيدي القوات الإسرائيلية، وفق ما أظهر تقرير سنوي.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق الصحافي سامح اللبودي والزميلة بيسان الشيخ من «الشرق الأوسط»

«الشرق الأوسط» تفوز ببرونزية «أريج» للصحافة الاستقصائية

فازت «الشرق الأوسط» بالجائزة البرونزية للصحافة الاستقصائية العربية التي تمنحها مؤسسة «أريج»، عن تحقيق: قصة الإبحار الأخير لـ«مركب ملح» سيئ السمعة.

«الشرق الأوسط» (لندن)

إعلاميو فرنسا أمام معضلة البقاء مع «إكس» أو الابتعاد عنها

الصحف الفرنسية أمام التحدي
الصحف الفرنسية أمام التحدي
TT

إعلاميو فرنسا أمام معضلة البقاء مع «إكس» أو الابتعاد عنها

الصحف الفرنسية أمام التحدي
الصحف الفرنسية أمام التحدي

يرى البعض في فرنسا أن موسم رحيل «العصافير الزرقاء» يلوح في الأفق بقوة، وذلك بعدما أعلنت مجموعة كبيرة من الشخصيات والمؤسسات الإعلامية انسحابها من منصّة التواصل الاجتماعي «إكس» (تويتر سابقاً).

الظاهرة بدأت تدريجياً بسبب ما وصف بـ«الأجواء السامة» التي اتسّمت بها المنصّة. إذ نقلت صحيفة «كابيتال» الفرنسية أن منصة «إكس» فقدت منذ وصول مالكها الحالي إيلون ماسك أكثر من مليون مشترك، إلا أن الوتيرة أخذت تتسارع في الآونة الأخيرة بعد النشاط الفعّال الذي لعبه ماسك في الحملة الانتخابية الأميركية، ومنها تحويله المنصّة إلى أداة دعاية قوية للمرشح الجمهوري والرئيس العائد دونالد ترمب، وكذلك إلى منبر لترويج أفكار اليمين المتطرف، ناهيك من تفاقم إشكالية «الأخبار الزائفة» أو «المضللة» (الفايك نيوز).

نقاش إعلامي محتدم

ومهما يكن من أمر، فإن السؤال الذي صار مطروحاً بإلحاح على وسائل الإعلام: هل نبقى في منصّة «إكس»... أم ننسحب منها؟ حقاً، النقاش محتدم اليوم في فرنسا لدرجة أنه تحّول إلى معضلة حقيقية بالنسبة للمؤسسات الإعلامية، التي انقسمت فيها الآراء بين مؤيد ومعارض.

للتذكير بعض وسائل الإعلام الغربية خارج فرنسا كانت قد حسمت أمرها باكراً بالانسحاب، وكانت صحيفة «الغارديان» البريطانية الأولى التي رحلت عن المنصّة تاركة وراءها ما يناهز الـ11 مليون متابع، تلتها صحيفة «فون غوارديا» الإسبانية، ثم السويدية «داكنز نيهتر».

أما في فرنسا فكانت أولى وسائل الإعلام المنسحبة أسبوعية «ويست فرنس»، وهي صحيفة جهوية تصدر في غرب البلاد، لكنها تتمتع بشعبية كبيرة، إذ تُعد من أكثر الصحف الفرنسية قراءة بأكثر من 630 ألف نسخة تباع يومياً ونحو 5 ملايين زيارة على موقعها عام 2023. ولقد برّر نيكولا ستارك، المدير العام لـ«ويست فرنس»، موقف الصحيفة بـ«غياب التنظيم والمراقبة»، موضحاً «ما عاد صوتنا مسموعاً وسط فوضى كبيرة، وكأننا نقاوم تسونامي من الأخبار الزائفة... تحوّلت (إكس) إلى فضاء لا يحترم القانون بسبب غياب المشرفين». ثم تابع أن هذا القرار لم يكن صعباً على الأسبوعية الفرنسية على أساس أن منصّة التواصل الاجتماعي هي مصدر لأقل من واحد في المائة من الزيارات التي تستهدف موقعها على الشبكة.

بصمات ماسك غيّرت «إكس» (تويتر سابقاً)

«سلبيات» كثيرة بينها بصمات إيلون ماسك

من جهتها، قررت مجموعة «سود ويست» - التي تضم 4 منشورات تصدر في جنوب فرنسا هي «سود ويست»، و«لاروبوبليك دي بيريني»، و«شارانت ليبر» و«دوردون ليبر» - هي الأخرى الانسحاب من منصّة «إكس»، ملخصّة الدوافع في بيان وزع على وسائل الإعلام، جاء فيه أن «غياب الإشراف والمراقبة، وتحديد عدد المنشورات التابعة لحسابات وسائل الإعلام، وإبدال سياسة التوثيق القديمة بواسطة أخرى مدفوعة الثمن، كانت العوامل وراء هذا القرار».

أيضاً الموقع الإخباري المهتم بشؤون البيئة «فير» - أي «أخضر» - انسحب بدوره من «إكس»، تاركاً وراءه عشرين ألف متابع لدوافع وصفها بـ«الأخلاقية»، قائلا إن مضامين المنصّة تتعارض مع قيمه التحريرية. وشرحت جولييت كيف، مديرة الموقع الإخباري، أنه لن يكون لهذا القرار تأثير كبير بما أن الحضور الأهم الذي يسجّله الموقع ليس في «إكس»، وإنما في منصّة «إنستغرام»، حيث لديه فيها أكثر من 200 ألف متابع. ولكن قبل كل هؤلاء، كان قرار انسحاب برنامج «لوكوتيديان» الإخباري الناجح احتجاجاً على التغييرات التي أحدثها إيلون ماسك منذ امتلاكه «إكس» قد أطلق ردود فعل كثيرة وقويّة، لا سيما أن حساب البرنامج كان يجمع أكثر من 900 ألف متابع.

سالومي ساكي

... الفريق المتريّث

في المقابل، وسائل إعلام فرنسية أخرى فضّلت التريّث قبل اتخاذ قرار الانسحاب، وفي خطوة أولى اختارت فتح باب النقاش لدراسة الموضوع بكل حيثياته. وبالفعل، عقدت صحيفة «ليبيراسيون»، ذات التوجّه اليساري، جلسة «تشاور» جمعت الإدارة بالصحافيين والعمال يوم 19 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي للبحث في مسألة «البقاء مع منصّة (إكس) أو الانسحاب منها؟». وفي هذا الإطار، قال دون ألفون، مدير الصحيفة، في موضوع نشر بصحيفة «لوموند»، ما يلي: «نحن ما زلنا في مرحلة التشاور والنقاش، لكننا حدّدنا لأنفسنا تاريخ 20 يناير (كانون الثاني) (وهو اليوم الذي يصادف تنصيب دونالد ترمب رئيساً للمرة الثانية) لاتخاذ قرار نهائي».

الوضع ذاته ينطبق على الأسبوعية «لاكروا» التي أعلنت في بيان أن الإدارة والصحافيين بصّدد التشاور بشأن الانسحاب أو البقاء، وكذلك «لوموند» التي ذكرت أنها «تدرس» الموضوع، مع الإشارة إلى أن صحافييها كانوا قد احتفظوا بحضور أدنى في المنصّة على الرغم من عدد كبير من المتابعين يصل إلى 11 مليوناً.

من جانب آخر، إذا كان القرار صعب الاتخاذ بالنسبة لوسائل الإعلام لاعتبارات إعلانية واقتصادية، فإن بعض الصحافيين بنوا المسألة من دون أي انتظار، فقد قررت سالومي ساكي، الصحافية المعروفة بتوجهاتها اليسارية والتي تعمل في موقع «بلاست» الإخباري، إغلاق حسابها على «إكس»، ونشرت آخر تغريدة لها يوم 19 نوفمبر الماضي. وفي التغريدة دعت ساكي متابعيها - يصل عددهم إلى أكثر من 200 ألف - إلى اللّحاق بها في منصّة أخرى هي «بلو سكاي»، من دون أن تنسى القول إنها انسحبت من «إكس» بسبب إيلون ماسك وتسييره «الكارثي» للمنّصة.

وفي الاتجاه عينه، قال غيوم إرنر، الإعلامي والمنتج في إذاعة «فرنس كولتو»، بعدما انسحب إنه يفضل «تناول طبق مليء بالعقارب على العودة إلى (إكس)». ثم ذهب أبعد من ذلك ليضيف أنه «لا ينبغي علينا ترك (إكس) فحسب، بل يجب أن نطالب المنصّة بتعويضات بسبب مسؤوليتها في انتشار الأخبار الكاذبة والنظريات التآمرية وتدّني مستوى النقاش البنّاء».

«لوفيغارو»... باقية

هذا، وبين الذين قرّروا الانسحاب وأولئك الذين يفكّرون به جدياً، يوجد رأي ثالث لوسائل الإعلام التي تتذرّع بأنها تريد أن تحافظ على حضورها في المنصّة «لإسماع صوتها» على غرار صحيفة «لوفيغارو» اليمينية. مارك فويي، مدير الصحيفة اليمينية التوجه، صرح بأنها لن تغيّر شيئاً في تعاملها مع «إكس»، فهي ستبقى لتحارب «الأخبار الكاذبة»، وتطالب بتطبيق المراقبة والإشراف بحزم وانتظام.

ولقد تبنّت مواقف مشابهة لـ«لوفيغارو» كل من صحيفة «لي زيكو» الاقتصادية، ويومية «لوباريزيان»، وقناة «تي إف1» و«إم 6»، والقنوات الإخبارية الكبرى مثل «بي إف إم تي في»، و«سي نيوز». وفي حين تتّفق كل المؤسّسات المذكورة على أن المنّصة «أصبحت عبارة عن فضاء سام»، فهي تعترف في الوقت نفسه باستحالة الاستغناء عنها، لأن السؤال الأهم ليس ترك «إكس»، بل أين البديل؟ وهنا أقرّ الصحافي المعروف نيكولا دوموران، خلال حوار على أمواج إذاعة «فرنس إنتير»، بأنه جرّب الاستعاضة عن «إكس» بواسطة «بلو سكاي»، لكنه وجد الأجواء مملة وكان النقاش ضعيفا، الأمر الذي جعله يعود إلى «إكس»، حيث «الأحداث أكثر سخونة» حسب رأيه.

أما الصحافي المخضرم جان ميشال أباتي، فعلى الرغم من انتقاده الشديد للمنصّة وانسحاب برنامج «لوكوتيديان» - الذي يشارك فيه - من «إكس» - فإنه لم يفكر في إغلاق حسابه لكونه الإعلامي الفرنسي الأكثر متابعة؛ إذ يسجل حسابه أكثر من 600 ألف متابع.

في هذه الأثناء، وصفت كارين فوتو، رئيسة موقع «ميديا بارت» الإخباري المستقّل الوضع «بالفخ الذي انغلق على وسائل الإعلام»، حيث «إما البقاء وتعزيز أدوات الدعاية لليمين المتطرّف وإما الانسحاب والتخلّي عن مواجهة النقاش». وللعلم، من الملاحظ أن المنصّة غدت حاجة شبه ماسة لأصحاب القرار والساسة، حيث إن بعضهم يتوجه إليها قبل أن يفكّر في عقد مؤتمر صحافي، وهذا ما حدا بالباحث دومينيك بوليي، من معهد «سيانس بو» للعلوم السياسية، إلى القول في حوار لصحيفة «لوتان» إن منصّة «إكس» بمثابة «الشّر الذي لا بد منه»، إذ تبقى المفضّلة لدى رجال السياسة للإعلان عن القرارات المهمة، وللصحافيين لتداولها والتعليق عليها، مذكّراً بأن الرئيس الأميركي جو بايدن اختار «إكس» للإعلان عن انسحابه من السباق الرئاسي الأخير.