دول الخليج أمام مشهد يمني معقد يُدار بأيدٍ إيرانية

تأكيد على أهمية توحيد الصف في وجه التهديدات

صورة من أقمار صناعية تظهر هجوماً بطائرات مسيرة على مصفى للبترول قرب أبوظبي راح ضحيته ثلاثة عاملين في 17 الشهر الماضي (أ.ب)
صورة من أقمار صناعية تظهر هجوماً بطائرات مسيرة على مصفى للبترول قرب أبوظبي راح ضحيته ثلاثة عاملين في 17 الشهر الماضي (أ.ب)
TT

دول الخليج أمام مشهد يمني معقد يُدار بأيدٍ إيرانية

صورة من أقمار صناعية تظهر هجوماً بطائرات مسيرة على مصفى للبترول قرب أبوظبي راح ضحيته ثلاثة عاملين في 17 الشهر الماضي (أ.ب)
صورة من أقمار صناعية تظهر هجوماً بطائرات مسيرة على مصفى للبترول قرب أبوظبي راح ضحيته ثلاثة عاملين في 17 الشهر الماضي (أ.ب)

يرى محللون استراتيجيون خليجيون أن توسيع الحوثية المدعومة من إيران خارطة اعتداءاتها لتشمل دولة الإمارات العربية المتحدة، جاء انعكاساً لخسائرها على الأرض والهزائم التي منيت بها في الفترة الأخيرة. وأكد المحللون في الشأن الاستراتيجي في لقاءات مع «الشرق الأوسط» أنه من الخطأ الافتراض أن قرار توسيع العدوان باتجاه الإمارات كان قراراً حوثياً، لافتين إلى أنه من القرارات الاستراتيجية الحساسة واتُخذ بناء على حسابات استراتيجية إيرانية ولخدمة مصالح إيران الاستراتيجية. ويعتقد المحللون أنفسهم أن الرد السعودي الإماراتي على الاعتداءات الحوثية كان حاسماً ورادعاً وقوياً وفورياً، وينبع هذا الرد من فهم مشترك لطبيعة الحسابات الاستراتيجية الآنية، والبعيدة المدى للتهديدات الإيرانية - الحوثية.
ناقشت «الشرق الأوسط» مع كوكبة من الخبراء الاستراتيجيين الخليجيين التطورات الأمنية الإقليمية الأخيرة في ضوء توسع الاعتداءات الحوثية لتشمل أراضي دولة الإمارات العربية المتحدة، في أعقاب استهدافها منذ بعض الوقت الأراضي السعودية. وفي هذا الإطار، يحذّر الخبراء من أن المشهد اليمني يزداد تعقيداً سياسياً وعسكرياً وإنسانياً، وأن الدقائق الأخيرة من ساعة الحرب لم تحن بعد، مشيرين إلى أن الميليشيات الحوثية «تتحمل المسؤولية السياسية والأخلاقية لاستمرار الحرب بعد رفضها كل نداءات السلام».

الصقر: قرار التصعيدأكبر من الحوثي
الدكتور عبد العزيز بن صقر، رئيس «مركز الخليج للأبحاث»، يقول في تعليقه حول توسيع جماعة الحوثي الإرهابية اعتداءاتها الأخيرة لتشمل دولة الإمارات العربية المتحدة، إنه «من الخطأ الافتراض أن قرار توسيع العدوان كان قراراً حوثياً. قرار العدوان على الإمارات يصنّف من نوع القرارات الاستراتيجية الحساسة التي لا يمكن أن تتخذ على مستوى القيادة الحوثية منفردة، خاصة أنها مجرد قيادة تابعة ومنفذه فقط للمطالب والتوجيهات الإيرانية، فالقرار بتوسيع عملية العدوان اتخذ على مستوى القيادة الإيرانية العليا، واتخذ بناءً على حسابات استراتيجية إيرانية، ولخدمة مصالح إيران الاستراتيجية».
وأضاف بن صقر في حديثه لـ«الشرق الأوسط» شارحاً: «من دون شك، الحسابات الإيرانية تتضمن وضع إيران والميليشيات الحوثية في اليمن، لكنها تتجاوز هذا الأمر لتشمل وضع نفوذ إيران وسيطرتها في عموم المنطقة العربية، وعلاقات إيران الإقليمية والدولية. لذا فإن قرار توسيع العمليات العسكرية في الجزيرة العربية، جاء على خلفية اشتباكات استراتيجية لإيران على عدة جبهات، منها جبهة المفاوضات النووية في فينيا، وخضوع الدولة ونفوذها وسيطرتها لتحديات كبيرة في لبنان، العراق، وسوريا».
وبحسب بن صقر، فإنه «من خلال توسيع رقعة العمليات العسكرية في اليمن، تسعى القيادة الإيرانية إلى إثبات قدرتها على التحدي، وعلى استعداد طهران للتصعيد والمغامرة. وهي في هذا السلوك تحاول تحسين وضعها التفاوضي على جميع الجبهات، عبر إثبات قدراتها على توظيف أذرعها الإقليمية لتهديد الأمن الإقليمي وزعزعة الاستقرار الدولي... وهناك، مما لا شك فيه، قصورٌ دولي في فهم السلوك والعقلية والحسابات الإيرانية تقوم طهران باستغلاله».
رئيس «مركز الخليج للأبحاث» لم يغفل دور التغيرات الميدانية في ردة فعل الحوثيين الأخيرة، فقال: «دون شك، تغيير الواقع الميداني داخل اليمن، وبشكل تدريجي، منذ شهر يونيو (حزيران) العام الماضي، وفشل الوعود الحوثية بقرب فرض السيطرة الكاملة على محافظة مأرب، ثم بداية تحول الوضع العسكري الحوثي من الهجوم إلى الدفاع، وخسارة السيطرة على جميع أرجاء محافظة شبوة، والدخول في معارك فاشلة ومكلفة للمحافظة على مناطق السيطرة في محافظة مأرب... كل هذا قاد إلى تطور حالة من القلق العميق في طهران في ضوء تراكم الخسائر البشرية ضمن العناصر الحوثية المقاتلة، وتراكم الخسائر في المعدات العسكرية التي تتولى إيران توريدها عبر وسائل التهريب للحوثيين».
وتابع: «المشكلة الأساسية في المفهوم الميداني تكمن في تقدم ألوية العمالقة والقوات القبلية الداعمة السريع نحو محافظة مأرب، وهي محافظة ذات قيمة استراتيجية عالية للحوثيين، لكونها من ناحية محافظة نفطية توفر مستقبلاً مصادر مالية داعمة، ولكونها من ناحية أخرى تمتلك حدودا طويلة ومفتوحة مع محافظة صنعاء. لذا فإن مصدر القلق الإيراني - الحوثي يكمن في الحسابات باحتمال انهيار الدفاعات الحوثية في مأرب، ما سيفتح الطريق للتقدم نحو العاصمة صنعاء، وتهديد سيطرة الحوثيين على كامل الشمال اليمني».

الشليمي: المصالح الغربية
من جهته، أوضح الدكتور فهد الشليمي، رئيس «المنتدى الخليجي للأمن والسلام»، أن التصعيد الأخير للحوثيين ضد الإمارات يعود إلى الهزائم المتلاحقة في عدة جبهات داخلية، منها شبوة ومأرب وبعض الأماكن في تعز والبيضاء، إلى جانب السعي للحصول على هدنة التوازن، بحيث إن تصعيد الموقف على المستوى الدولي يجعل المجتمع الدولي والإقليمي يطالب بإيقاف الضرر.
«ومن الأسباب كذلك - بحسب الشليمي - أن ضرب بعض المناطق في الإمارات قد يهدد المصالح الغربية من شركات خاصة وسوق الطاقة، ومحاولة ثني القيادة الإماراتية عن دعم قوات العمالقة الجنوبية التي كبدت الحوثي خسائر كبيرة». وهنا يضيف: «كذلك لا يمكن أن تنطلق هذه الصواريخ من دون موافقة ضمنية إيرانية، خصوصاً أنها تأتي خلال مفاوضات فيينا لخلط الملفات، وتعطي الانطباع أن إيران تستطيع، في حال فشلت المفاوضات، إشعال المنطقة عبر وكلائها مثل حزب الله في لبنان أو الحوثي في اليمن أو الحشد الولائي في العراق».

كاسب: توسع واستمرار في العمليات
أما العميد الدكتور فواز كاسب، وهو محلل استراتيجي وأمني سعودي، فقال لـ«الشرق الأوسط» إن «إقدام الميليشيات الحوثية الإرهابية على توسيع العمليات الإرهابية لتشمل دولة الإمارات العربية المتحدة، بإطلاق صواريخ باليستية وطائرات مسيّرة، ليس بالأمر الجديد». ولفت من ثم إلى أنه «منذ عام 2016، وبداية العمليات العسكرية، كان هناك إطلاق صواريخ وطائرات مسيرة مفخخة باتجاه الإمارات من قبل الميليشيات الحوثية المدعومة من إيران. وقد تم التعامل معها بنجاح لتعود مرة أخرى من خلال منظور حوثي مفاده التصعيد بالتصعيد، بعد دخول الإمارات بشكل رئيسي وأساسي ودعم ألوية العمالقة التي تمتلك الخبرة للتعامل في مثل هذه العمليات».
ووفق الدكتور فواز: «يتحقق توسع في العمليات على أرض الواقع، وتحقيق أهداف عالية الأهمية في شبوة ومأرب من خلال الدعم الإماراتي والدعم السابق والمستمر من المملكة العربية السعودية قائدة التحالف، الأمر جعل الحوثي يعود مرة أخرى لتهديد الإمارات تهديداً إرهابياً... وسوف تستمر هذه العمليات، لا سيما أن الحوثي أعلن أن التصعيد بالتصعيد». ويتابع الدكتور فواز كاسب قائلاً: «هذا ما سيجعل ألوية العمالقة تستمر في العمليات العسكرية بالتناغم والتفاعل الإيجابي من القبائل اليمنية وهذا يعطي أهمية للعنصر الاجتماعي». ومن ثم استطرد موضحاً: «كل ما تحقق من انتصارات على الأرض كان بإسناد مستمر وقوي من طيران التحالف، وضرب جميع الأهداف الإرهابية المتحركة والثابتة الأمر الذي أعطى زخماً لألوية العمالقة، وسوف تستمر هذه العمليات».
كذلك، تطرق كاسب إلى اختفاء زعيم المتمردين عبد الملك الحوثي من المشهد السياسي والإعلامي، ومقتل حسن ايرلو القائد الإيراني الفعلي للمعارك على الأرض، وأثر ذلك على تحول المعركة، فقال: «نلاحظ أن جميع الشخصيات اليمنية التي تحلل العمليات الأخيرة، تؤكد وجود تغير في الروح المعنوية والأداء وتراجع لدى الحوثيين، وهو ما يثبت ارتباط هذه الميليشيات وأهمية استغلال ذلك بشكل إيجابي وسريع من قوات التحالف والتوسيع في العمليات العسكرية».

الرد على الاعتداءات الحوثية
عودة للدكتور عبد العزيز بن صقر، الذي يقول: «يوجد توافق سعودي - إماراتي إزاء المخاطر الاستراتيجية لكامل الجزيرة العربية الناشئة عن الوضع اليمني، ومن ضمنها التهديدات المباشرة لدول مجلس التعاون الخليجي، التي يحملها خيار استمرار السيطرة الحوثية على اليمن، واستمرار السيطرة الإيرانية على الحركة الحوثية». ويلفت إلى أنه «من عادة التهديدات والمخاطر تحولها إلى قوة تُوحد المواقف، لكونها توحد المصير. هناك إدراك عميق لدى القيادتين السعودية والإماراتية بوحدة المصير، وكون التهديدات والخطر الإيراني - الحوثي هو خطر توسعي لا يقتصر على دولة واحدة، بل هو خطر إقليمي يمس أمن واستقرار وسلامة أراضي الدولتين».
ويرى رئيس «مركز الخليج للأبحاث» أنه، في قرارها تحدي التهديدات الإيرانية - الحوثية في اليمن، تبنت القيادة السعودية والإماراتية الحسابات الاستراتيجية الآنية، والبعيدة المدى. وأضاف: «التغافل عن حقيقة الاستيلاء غير الشرعي للميليشيات الحوثية على السلطة في اليمن، وعن حقيقة كون الميليشيات الحوثية عصابات من صنيعة الحرس الثوري الإيراني، وترتبط مصيرياً بالدعم والاستراتيجية الإيرانية، سيكون له أثمان وكلف كبيرة، وبعيدة المدى على أمن واستقرار دول مجلس التعاون، وأيضاً على حرية واستقلالية قراراتها السياسية، وحقوقها السيادية، وتحول اليمن إلى مركز عدوان وتهديد وابتزاز إيراني في قلب الجزيرة العربية سيمس سيادة واستقلالية جميع دول المنطقة».
ومن ثم، طالب الدكتور بن صقر بأهمية الاتعاظ من الدرس اللبناني والتجربة اللبنانية المرّة التي جاءت بسبب «التغافل والتخاذل أمام نمو نفوذ وسيطرة ميليشيات حزب الله - اللبناني على زمام السلطة في لبنان، ثم تحولها إلى قوة إقليمية تتدخل وتهدد أمن واستقرار كامل منطقة المشرق العربي لحساب الحرس الثوري الإيراني، وخدمة للمصالح الاستراتيجية التوسعية للإمبراطورية الفارسية الاستعمارية». على حد تعبيره.
وبدوره، أشار الدكتور فهد الشليمي إلى أن البعض كان يعتبر الإرهاب الصاروخي الحوثي ضد السعودية صراعاً بين دولتين، إلا أن انتقال الهجمات إلى دولة غير مجاورة لليمن، في حد ذاته، يشكل انتهاكاً للأمن والسلم الدوليين. ومن ثم، تطرق الشليمي إلى النجاح الدبلوماسي الإماراتي في مجلس الأمن والجامعة العربية، واعتبار الصواريخ الحوثية فعلاً إرهابياً، فقال: «هذه الصواريخ قد تصل إلى قطر والكويت وعمان والبحرين، لكن باختلاف المسار السياسي. أعتقد أن السعودية أثبتت أنها ذات صبر وتكتيك باحترافية دفاعها الجوي الذي صد آلاف الهجمات الجوية، وكانت محقة دائماً في أن منظمة الحوثي إرهابية».
وفيما يخص ردة فعل السعودية والإمارات على الهجمات الحوثية، رجّح العميد الدكتور فواز كاسب أن الدولتين الشقيقتين ستستمران في العمليات، لا سيما في ظل وجود الدعم السياسي والتغير في موقف المجتمع الدولي تجاه الميليشيات الحوثية. وأضاف: «لقد وقع اعتداء حوثي على السفارة الأميركية في صنعاء، وصرح الرئيس (جو) بايدن بأن إدارته تعيد النظر في تصنيف جماعة الحوثي ضمن الجماعات الإرهابية. وبلا شك هذا سوف يزيد الضغط والإرباك على الحوثيين خلال الفترة القادمة».

تعامل دول الخليج مع الملف اليمني

> لفت الدكتور عبد العزيز بن صقر إلى أن هنالك أمراً ما زال غائباً ضمن المنظومة الخليجية، وهو «الإدراك العميق للمخاطر والتهديدات التي تكمن في سياسة إيران التدخلية والتوسعية، والتهديدات البعيدة المدى التي تكمن في توظيف إيران لسياسة تأسيس ودعم الميليشيات الطائفية المسلحة، وتفتيت سلطة الدول القائمة، وخلق دولة داخل دولة، وتوظيف الورقة الطائفية، وإضعاف الهوية والانتماء الديني والوطني والقومي لدى المواطن العربي، لحساب تعميق الولاء الطائفي، الذي يربط عبره الولاء والدعم للسياسة الإيرانية، على حساب المصالح الوطنية والقومية».
وأضاف بن صقر: «تبني بعض دول الخليج العربية سياسة ومواقف متساهلة، وربما متخاذلة ومحابية للموقف الإيراني، وتجنب إدانة السلوك التوسعي والتدخلي أمر مؤسف ومقلق في الوقت نفسه. هذا الأمر ينجر على الموقف الخليجي والعربي من الملف اليمني، فجميع الأطراف الخليجية، ومن ضمنها السعودية والإمارات تؤمن وتعلن جهاراً أن تسوية الصراع في اليمن يجب أن تتم عبر الحلول والتسويات السياسية والمفاوضات الدبلوماسية التي تحافظ على كرامة وحقوق وازدهار الشعب اليمني، وتضمن سيادة الدولة وسلامة أراضيها». ولكن، رغم ذلك، يرى بن صقر أن «تجربة جولات التفاوض المتعددة مع الميليشيات الحوثية، أبرزت قناعة راسخة أن القرار الحقيقي والنهائي يكمن في طهران، ومع القيادة الإيرانية، كما أثبت أن مصلحة إيران تكمن في تخريب أي حل أو تسوية سياسية في اليمن تخدم مصالح الشعب اليمني، طالما أنها تتجاوز أو تُهمش المصالح الاستراتيجية الإيرانية في اليمن... لذا ما هو مطلوب من دول الخليج العربية موقف صلب وموحد قائم على إدراك عميق لحقائق الأزمة اليمنية، وتبني سياسة ومواقف عملية تعكس إدراكا فعليا لحجم التهديدات والمخاطر النابعة من الصراع اليمني».
وهنا، حرص الدكتور فهد الشليمي على التوضيح بأن الملف اليمني «يحتاج توحيد الجهد اليمني ككل، وهو ما شاهدناه في عمليات اليمن السعيد» على حد تعبيره. وأضاف: «نبدأ بقوات الشرعية والمساندة لها، ثم تكون هناك تفاهمات ميدانية على الأرض بحيث تسحب القوات الشرعية في حضرموت (7 ألوية) وتوجهها للحوثي وتفتح جبهات جديدة، والاستمرار في الدعم الجوي، على أن يكون هناك دعم سياسي من الجامعة العربية وهو حصل». واختتم بالقول: «هناك مسؤولية أكبر على دول البحر الأحمر المجاورة لأن هناك قرصنة وألغاماً... وهي مسؤولة عن تأمين هذا الممر الملاحي على شواطئها. كذلك من المهم التوجه إلى ميناء الحُديدة باعتبار اتفاق استوكهولم ليس ذا جدوى، والسيطرة على الميناء، ومنع الحوثي من الاستفادة من الإيرادات».



هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
TT

هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)

يأتي فوز دونالد ترمب في انتخابات الرئاسة الأميركية وعودته الوشيكة إلى البيت الأبيض يوم يناير (كانون الثاني) 2025 نقطة تحوّل مهمة وسط اضطرابات غير عادية في النظام العالمي. وبديهي أن ولاية ترمب الثانية لا تشكّل أهمية كبرى في السياسة الداخلية الأميركية فحسب، بل ستؤثر إلى حد كبير أيضاً على الجغرافيا السياسية والاقتصاد في آسيا. وفي حين يتوقع المحللون أن يركز الرئيس السابق - العائد في البداية على معالجة القضايا الاقتصادية المحلية، فإن «إعادة ضبط» أجندة السياسة الخارجية لإدارته ستكون لها آثار وتداعيات في آسيا ومعظم مناطق العالم، وبالأخص في مجالات التجارة والبنية التحتية والأمن. وبالنسبة لكثيرين في آسيا، يظل السؤال المطروح هنا هو... هل سيعتمد في ولايته الجديدة إزاء كبرى قارات العالم، من حيث عدد السكان، تعاملاً مماثلاً لتعامله في ولايته الأولى... أم لا؟

توقَّع المحللون السياسيون منذ فترة أن تكون منطقة حوض المحيطين الهندي والهادئ في طليعة اهتمامات السياسة الخارجية عند إدارة الرئيس الأميركي السابق العائد دونالد ترمب. ومعلومٌ أن استراتيجية ترمب في فترة ولايته الأولى، إزاء حوض المحيطين الهندي والهادئ شددت على حماية المصالح الأميركية في الداخل. والمتوقع أن يظل هذا الأمر قائماً، ويرجح أن يؤثّر على نهج سياسته الخارجية تجاه المنطقة مع التركيز على دفع الازدهار الأميركي، والحفاظ على السلام من خلال القوة، وتعزيز نفوذ الولايات المتحدة.

منطقة حوض المحيطين الهندي والهادئ التي يقطن كياناتها نحو 65 في المائة من سكان العالم، تشكل راهناً نقطة محورية للاستراتيجية والتوترات الجيوسياسية، فهي موطن لثلاثة من أكبر الاقتصادات على مستوى العالم (الصين والهند واليابان) ولسبع من أكبر القوات العسكرية في العالم. ويضاف إلى ذلك أنها منطقة اقتصادية رئيسية تمثل 62 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي وتسهم بنسبة 46 في المائة من تجارة السلع العالمية.

3 محاور

ويرجّح فيفيك ميشرا، خبير السياسة الأميركية في «مؤسسة أوبزرفر للأبحاث»، أنه «في ولاية ترمب الثانية، ستوجّه استراتيجية واشنطن لهذه المنطقة عبر التركيز على ثلاثة محاور تعمل على ربط المجالات القارية والبحرية في حيّزها. وستكون العلاقات الأميركية - الصينية في نقطة مركز هذه المقاربة، مع توقع أن تعمل التوترات التجارية على دفع الديناميكيات الثنائية... إذ لا يزال موقف ترمب من الصين حازماً، ويهدف إلى موازنة نفوذها المتنامي في المجالين الاقتصادي والأمني على حد سواء».

إضافة إلى ما سبق، يرى ميشرا أن «لدى سياسة ترمب في حوض المحيطين الهندي والهادئ توقعات كبيرة من حلفاء أميركا الرئيسيين وشركائها في المنطقة، بما في ذلك اضطلاع الهند بدور أنشط في المحيط الهندي مع التزامات عسكرية أكبر من الحلفاء مثل اليابان وأستراليا». ويرجّح الخبير الهندي، كذلك، «أن تتضمن رؤية ترمب لحوض المحيطين الهندي والهادئ الجهود الرامية إلى إرساء الاستقرار في الشرق الأوسط، لا سيما من خلال تعزيز التجارة والاتصال مع المنطقة، لتعزيز ارتباطها بالمجال البحري لحوض المحيطين الهندي والهادئ».

الحالة الهندية

هناك الكثير من الأسباب التي تسعد حكومة ناريندرا مودي اليمينية في الهند بفوز ترمب. إذ تقف الهند اليوم شريكاً حيوياً واستثنائياً بشكل خاص في الاستراتيجيتين الإقليمية والدولية للرئيس الأميركي العائد. وعلى الصعيد الشخصي، سلَّط ترمب إبان حملته الانتخابية الضوء على علاقته القوية بمودي، الذي هنأه على الفور بفوزه في الانتخابات.

وهنا يقول السفير الهندي السابق آرون كومار: «مع تأمين ترمب ولاية ثانية، تؤشر علاقته الوثيقة برئيس الوزراء مودي إلى مرحلة جديدة للعلاقات الهندية - الأميركية. ومع فوز مودي التاريخي بولاية ثالثة، ووعد ترمب بتعزيز العلاقات بين واشنطن ونيودلهي يُرتقب تكثّف الشراكة بينهما. وبالفعل، يتفّق موقف ترمب المتشدد من بكين مع الأهداف الاستراتيجية لنيودلهي؛ ولذا يُرجح أن يزيد الضغط على بكين وسط تراجع التصعيد على الحدود. ويضاف إلى ذلك، أن تدقيق ترمب في تصرفات باكستان بشأن الإرهاب قد يوسّع النفوذ الاستراتيجي الهندي في كشمير».

كومار يتوقع أيضاً «نمو التعاون في مجال الدفاع، لا سيما في أعقاب صفقة الطائرات المسيَّرة الضخمة التي بدأت خلال ولاية ترمب الأولى. ومع الأهداف المشتركة ضد العناصر المتطرّفة في كندا والولايات المتحدة، يمهّد تحالف مودي - ترمب المتجدّد الطريق للتقدم الاقتصادي والدفاعي والدبلوماسي... إذا منحت إدارة ترمب الأولوية للتعاون الدفاعي والتكنولوجي والفضائي مع الهند، وهي قطاعات أساسية تحتل مركزها في الطموحات الاستراتيجية لكلا البلدين». وما يُذكر أن ترمب أعرب عن نيته البناء على تاريخه السابق مع الهند، المتضمن بناء علاقات تجارية، وفتح المزيد من التكنولوجيا للشركات الهندية، وإتاحة المزيد من المعدات العسكرية الأميركية لقوات الدفاع الهندية. وبصفة خاصة، قد تتأكد العلاقات الدفاعية بين الهند والولايات المتحدة، في ظل قدر أعظم من العمل البيني المتبادل ودعم سلسلة الإمداد الدفاعية.

السياسة إزاء الصين

أما بالنسبة للصين، فيتوقع كثيرون استنساخ ترمب سياساته المتشددة السابقة، ويرى البعض أنه خلال ولايته الثانية يمتلك القدرة على قيادة مسار احتواء أوسع تجاه بكين. بدايةً، كما نتذكر، حمّل ترمب الحكومة الصينية مسؤولية جائحة «كوفيد - 19»، التي قتلت أكثر من مليون أميركي ودفعت الاقتصاد الأميركي إلى ركود عميق. وسواء عبر الإجراءات التجارية، أو العقوبات، أو المطالبة بالتعويضات، سيسعى الرئيس الأميركي العائد إلى «محاسبة» بكين على «الأضرار» المادية التي ألحقتها الجائحة بالولايات المتحدة والتي تقدَّر بنحو 18 تريليون دولار أميركي.

ووفقاً للمحلل الأمني الهندي سوشانت سارين، فإن دبلوماسية «الذئب المحارب» الصينية، ودعم بكين حرب موسكو في أوكرانيا، والقضايا المتزايدة ذات الصلة بالتجارة والتكنولوجيا وسلاسل التوريد، تشكل مصدر قلق كبيراً لحكومة ترمب الجديدة. ومن ثم، ستركز مقاربة الرئيس الأميركي تجاه الصين على الجانبين الاقتصادي والأمني، مع التأكيد على حاجة الولايات المتحدة إلى الحفاظ على قدرتها التنافسية في مجال التكنولوجيات الناشئة.

آسيا ... تنتظر مواقف ترمب بعد انتصاره الكبير (رويترز)

التجارة والاقتصاد

أما الخبير الاقتصادي سيدهارت باندي، فيرى أنه «يمكن القول إن التجارة هي القضية الأكثر أهمية في جدول أعمال السياسة الأميركية تجاه الصين... وقد تتصاعد الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين في ظل حكم ترمب».

وحقاً، في التقييم الصيني الحالي، يتوقع أن تشهد ولاية ترمب الثانية تشدداً أميركياً أكبر حيال بشأن العلاقات التجارية والاقتصادية الثنائية؛ ما يؤدي إلى مزيد من التنافر بين الاقتصادين. وللعلم، في وقت سابق من العام الحالي، وعد خطاب ترمب الانتخابي بتعرفات جمركية بنسبة 60 في المائة أو أعلى على جميع السلع الصينية، وتعرفات جمركية شاملة بنسبة 10 في المائة على السلع من جميع نقاط المنشأ. ومن ثم، يرجّح أيضاً أن تشجع هذه الاستراتيجية الشركات الأميركية على تنويع سلاسل التوريد الخاصة بها بعيداً عن الصين؛ ما قد يؤدي إلى تسريع الشراكات مع دول أخرى في منطقة المحيطين الهندي والهادئ».

ما يستحق الإشارة هنا أن ترمب كان قد شن حرباً تجارية ضد الصين بدءاً من عام 2018، حين فرض رسوماً جمركية تصل إلى 25 في المائة على مجموعة من السلع الصينية. وبعدما كانت الصين عام 2016 الشريك التجاري الأول للولايات المتحدة، مع أكثر من 20 في المائة من الواردات الأميركية ونحو 16 في المائة من إجمالي التجارة الأميركية، فإنها تراجعت بحلول عام 2023 إلى المرتبة الثالثة، مع 13.9 في المائة من الواردات و11.3 في المائة من التجارة.

وبالتالي، من شأن هذا التحوّل منح مصداقية أكبر لتهديدات ترمب بإلغاء الوضع التجاري للدولة «الأكثر رعاية» المعطى للصين وفرض تعرفات جمركية واسعة النطاق. ومع أن هذه الإجراءات سترتب تكاليف اقتصادية للأميركيين، فإن نحو 80 في المائة من الأميركيين ينظرون إلى الصين نظرة سلبية.

يتوقع كثيرون استنساخ ترمب سياساته المتشددة السابقة إزاء الصين

الشق العسكري

من جهة ثانية، يتوقع أن يُنهي ترمب محاولات الشراكة الثنائية السابقة، بينما يعمل حلفاء الولايات المتحدة الآسيويون على تعزيز قدراتهم العسكرية والتعاون فيما بينهم. ومن شأن تحسين التحالفات والشراكات الإقليمية، بما في ذلك «ميثاق أستراليا وبريطانيا والولايات المتحدة»، وميثاق مجموعة «كواد» الرباعية (أستراليا والهند واليابان والولايات المتحدة)، وتحسين العلاقات بين اليابان وكوريا الجنوبية بشكل كبير، والتعاون المتزايد بين اليابان والفلبين، تعزيز موقف ترمب في وجه بكين.

شبه الجزيرة الكورية

فيما يخصّ الموضوع الكوري، يتكهن البعض بأن ترمب سيحاول إعادة التباحث مع كوريا الشمالية بشأن برامجها للأسلحة النووية والصواريخ الباليستية. وفي حين سيكون إشراك بيونغ يانغ في هذه القضايا بلا شك، حذراً وحصيفاً، فمن غير المستبعد أن تجد إدارة ترمب الثانية تكرار التباحث أكثر تعقيداً هذه المرة.

الصحافي مانيش تشيبر علَّق على هذا الأمر قائلاً إن «إدارة ترمب الأولى كانت لها مزايا عندما اتبعت الضغط الأقصى الأولي تجاه بيونغ يانغ، لكن هذا لن يتكرّر مع إدارة ترمب القادمة، خصوصاً أنه في الماضي كانت روسيا والصين متعاونتين في زيادة الضغوط على نظام كوريا الشمالية». بل، وضعف النفوذ التفاوضي لواشنطن في الوقت الذي قوي موقف كوريا الشمالية. ومنذ غزو روسيا لأوكرانيا وبعد لقاء الرئيس الكوري الشمالي كيم جونغ أون بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين في سبتمبر (أيلول) 2023، عمّقت موسكو وبيونغ يانغ التعاون في مجالات الاقتصاد والعلوم والتكنولوجيا.

الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ اون (رويترز)

مكاسب حربية لكوريا الشمالية

أيضاً، تشير التقديرات إلى أن كوريا الشمالية كسبت على الأرجح 4.3 مليار دولار من شحنات المدفعية إلى روسيا خلال الحرب وحدها، وقد تكسب أكثر من 21 مليون دولار شهرياً من نشر قواتها في روسيا. وفي المقابل، تستفيد من روسيا في توفير الأسلحة والقوات والتكنولوجيا لمساعدة برامج الصواريخ الكورية الشمالية. وتبعاً لمستوى الدعم الذي ترغب الصين وروسيا في تقديمه لكوريا الشمالية، قد تواجه إدارة ترمب القادمة بيونغ يانغ تحت ضغط دبلوماسي واقتصادي متناقص وهي مستمرة في تحسين برامج الأسلحة وتطويرها.

أما عندما يتعلق الأمر بكوريا الجنوبية، فيلاحظ المحللون أن فصلاً جديداً مضطرباً قد يبدأ للتحالف الأميركي - الكوري الجنوبي مع عودة دونالد ترمب إلى البيت الأبيض. ويحذر المحللون من أن سياسة «جعل أميركا عظيمة مجدداً» التي ينتهجها الحزب الجمهوري قد تشكل مرة أخرى اختباراً صعباً للتحالف بين سيول وواشنطن الذي دام عقوداً من الزمان، مذكرين بالاضطرابات التي شهدها أثناء فترة ولايته السابقة من عام 2017 إلى عام 2021. ففي ولايته السابقة، طالب ترمب بزيادة كبيرة في المساهمة المالية لسيول في دعم القوات الأميركية في شبه الجزيرة الكورية. وأثناء حملته الانتخابية الحالية، وصف كوريا الجنوبية بأنها «آلة للمال» بينما يناقش مسألة تقاسم تكاليف الدفاع، وذكر أن موقفه بشأن القضية لا يزال ثابتاً. وفي سياق متصل، قال الصحافي الكوري الجنوبي لي هيو جين في مقال نشرته صحيفة «كوريان تايمز» إنه «مع تركيز الولايات المتحدة حالياً على المخاوف الدولية الرئيسية كالحرب في أوكرانيا والصراع في الشرق الأوسط، يشير بعض المحللين إلى أن أي تحولات جذرية في السياسة تجاه شبه الجزيرة الكورية في ظل إدارة ترمب قد تؤجل. لكن مع ذلك؛ ونظراً لنهج ترمب الذي غالباً يصعب التنبؤ به تجاه السياسة الخارجية، يمكن عكس هذه التوقعات».

حقائق

أميركا والهند... و«اتفاقية التجارة الحرة»

في كي فيجاياكومار، الخبير الاستثماري الهندي، يتوقع أن يعيد الرئيس الأميركي العائد دونالد ترمب النظر مجدداً بشأن المفاوضات حول «اتفاقية التجارة الحرة»، وكانت قد عُرفت مفاوضات مكثفة في الفترة 2019 - 2020 قبل أن يفقد السلطة، والتي لم يبدِ الرئيس السابق جو بايدن أي اهتمام باستكمالها.وعوضاً عن الضغط على نيودلهي بشأن خفض انبعاثات الكربون، «من المرجح أن يشجع ترمب الهند على شراء النفط والغاز الطبيعي المسال الأميركي، على غرار مذكرة التفاهم الخاصة بمصنع النفط والغاز الطبيعي المسال في لويزيانا لعام 2019، والتي كانت ستجلب 2.5 مليار دولار من الاستثمارات من شركة (بترونيت إنديا) إلى الولايات المتحدة، لكنها تأجلت لعام لاحق».ثم يضيف: «بوجود شخصيات مؤثرة مثل إيلون ماسك، الذي يدعو إلى الابتكار في التكنولوجيا والطاقة النظيفة، ليكون له صوت مسموع في دائرة ترمب، فإن التعاون بين الولايات المتحدة والهند في مجال التكنولوجيا يمكن أن يشهد تقدماً ملحوظاً. ومن شأن هذا التعاون دفع عجلة التقدم في مجالات مثل استكشاف الفضاء، والأمن السيبراني، والطاقة النظيفة؛ ما يزيد من ترسيخ مكانة الهند باعتبارها ثقلاً موازناً للصين في حوض المحيطين الهندي والهادئ».في المقابل، لا يتوقع معلقون آخرون أن يكون كل شيء على ما يرام؛ إذ تواجه الهند بعض التحديات المباشرة على الأقل، بما في ذلك فرض رسوم جمركية أعلى وفرض قيود على التأشيرات، فضلاً عن احتمال المزيد من التقلبات في أسواق صرف العملات الأجنبية. وثمة مخاوف أيضاً بشأن ارتفاع معدلات التضخم في الولايات المتحدة في أعقاب موقفها المالي والتخفيضات الأقل من جانب بنك الاحتياطي الفيدرالي، وهو ما قد يخلف تأثيراً غير مباشر على قرارات السياسة النقدية في بلدان أخرى بما في ذلك الهند.