دول الخليج أمام مشهد يمني معقد يُدار بأيدٍ إيرانية

تأكيد على أهمية توحيد الصف في وجه التهديدات

صورة من أقمار صناعية تظهر هجوماً بطائرات مسيرة على مصفى للبترول قرب أبوظبي راح ضحيته ثلاثة عاملين في 17 الشهر الماضي (أ.ب)
صورة من أقمار صناعية تظهر هجوماً بطائرات مسيرة على مصفى للبترول قرب أبوظبي راح ضحيته ثلاثة عاملين في 17 الشهر الماضي (أ.ب)
TT
20

دول الخليج أمام مشهد يمني معقد يُدار بأيدٍ إيرانية

صورة من أقمار صناعية تظهر هجوماً بطائرات مسيرة على مصفى للبترول قرب أبوظبي راح ضحيته ثلاثة عاملين في 17 الشهر الماضي (أ.ب)
صورة من أقمار صناعية تظهر هجوماً بطائرات مسيرة على مصفى للبترول قرب أبوظبي راح ضحيته ثلاثة عاملين في 17 الشهر الماضي (أ.ب)

يرى محللون استراتيجيون خليجيون أن توسيع الحوثية المدعومة من إيران خارطة اعتداءاتها لتشمل دولة الإمارات العربية المتحدة، جاء انعكاساً لخسائرها على الأرض والهزائم التي منيت بها في الفترة الأخيرة. وأكد المحللون في الشأن الاستراتيجي في لقاءات مع «الشرق الأوسط» أنه من الخطأ الافتراض أن قرار توسيع العدوان باتجاه الإمارات كان قراراً حوثياً، لافتين إلى أنه من القرارات الاستراتيجية الحساسة واتُخذ بناء على حسابات استراتيجية إيرانية ولخدمة مصالح إيران الاستراتيجية. ويعتقد المحللون أنفسهم أن الرد السعودي الإماراتي على الاعتداءات الحوثية كان حاسماً ورادعاً وقوياً وفورياً، وينبع هذا الرد من فهم مشترك لطبيعة الحسابات الاستراتيجية الآنية، والبعيدة المدى للتهديدات الإيرانية - الحوثية.
ناقشت «الشرق الأوسط» مع كوكبة من الخبراء الاستراتيجيين الخليجيين التطورات الأمنية الإقليمية الأخيرة في ضوء توسع الاعتداءات الحوثية لتشمل أراضي دولة الإمارات العربية المتحدة، في أعقاب استهدافها منذ بعض الوقت الأراضي السعودية. وفي هذا الإطار، يحذّر الخبراء من أن المشهد اليمني يزداد تعقيداً سياسياً وعسكرياً وإنسانياً، وأن الدقائق الأخيرة من ساعة الحرب لم تحن بعد، مشيرين إلى أن الميليشيات الحوثية «تتحمل المسؤولية السياسية والأخلاقية لاستمرار الحرب بعد رفضها كل نداءات السلام».

الصقر: قرار التصعيدأكبر من الحوثي
الدكتور عبد العزيز بن صقر، رئيس «مركز الخليج للأبحاث»، يقول في تعليقه حول توسيع جماعة الحوثي الإرهابية اعتداءاتها الأخيرة لتشمل دولة الإمارات العربية المتحدة، إنه «من الخطأ الافتراض أن قرار توسيع العدوان كان قراراً حوثياً. قرار العدوان على الإمارات يصنّف من نوع القرارات الاستراتيجية الحساسة التي لا يمكن أن تتخذ على مستوى القيادة الحوثية منفردة، خاصة أنها مجرد قيادة تابعة ومنفذه فقط للمطالب والتوجيهات الإيرانية، فالقرار بتوسيع عملية العدوان اتخذ على مستوى القيادة الإيرانية العليا، واتخذ بناءً على حسابات استراتيجية إيرانية، ولخدمة مصالح إيران الاستراتيجية».
وأضاف بن صقر في حديثه لـ«الشرق الأوسط» شارحاً: «من دون شك، الحسابات الإيرانية تتضمن وضع إيران والميليشيات الحوثية في اليمن، لكنها تتجاوز هذا الأمر لتشمل وضع نفوذ إيران وسيطرتها في عموم المنطقة العربية، وعلاقات إيران الإقليمية والدولية. لذا فإن قرار توسيع العمليات العسكرية في الجزيرة العربية، جاء على خلفية اشتباكات استراتيجية لإيران على عدة جبهات، منها جبهة المفاوضات النووية في فينيا، وخضوع الدولة ونفوذها وسيطرتها لتحديات كبيرة في لبنان، العراق، وسوريا».
وبحسب بن صقر، فإنه «من خلال توسيع رقعة العمليات العسكرية في اليمن، تسعى القيادة الإيرانية إلى إثبات قدرتها على التحدي، وعلى استعداد طهران للتصعيد والمغامرة. وهي في هذا السلوك تحاول تحسين وضعها التفاوضي على جميع الجبهات، عبر إثبات قدراتها على توظيف أذرعها الإقليمية لتهديد الأمن الإقليمي وزعزعة الاستقرار الدولي... وهناك، مما لا شك فيه، قصورٌ دولي في فهم السلوك والعقلية والحسابات الإيرانية تقوم طهران باستغلاله».
رئيس «مركز الخليج للأبحاث» لم يغفل دور التغيرات الميدانية في ردة فعل الحوثيين الأخيرة، فقال: «دون شك، تغيير الواقع الميداني داخل اليمن، وبشكل تدريجي، منذ شهر يونيو (حزيران) العام الماضي، وفشل الوعود الحوثية بقرب فرض السيطرة الكاملة على محافظة مأرب، ثم بداية تحول الوضع العسكري الحوثي من الهجوم إلى الدفاع، وخسارة السيطرة على جميع أرجاء محافظة شبوة، والدخول في معارك فاشلة ومكلفة للمحافظة على مناطق السيطرة في محافظة مأرب... كل هذا قاد إلى تطور حالة من القلق العميق في طهران في ضوء تراكم الخسائر البشرية ضمن العناصر الحوثية المقاتلة، وتراكم الخسائر في المعدات العسكرية التي تتولى إيران توريدها عبر وسائل التهريب للحوثيين».
وتابع: «المشكلة الأساسية في المفهوم الميداني تكمن في تقدم ألوية العمالقة والقوات القبلية الداعمة السريع نحو محافظة مأرب، وهي محافظة ذات قيمة استراتيجية عالية للحوثيين، لكونها من ناحية محافظة نفطية توفر مستقبلاً مصادر مالية داعمة، ولكونها من ناحية أخرى تمتلك حدودا طويلة ومفتوحة مع محافظة صنعاء. لذا فإن مصدر القلق الإيراني - الحوثي يكمن في الحسابات باحتمال انهيار الدفاعات الحوثية في مأرب، ما سيفتح الطريق للتقدم نحو العاصمة صنعاء، وتهديد سيطرة الحوثيين على كامل الشمال اليمني».

الشليمي: المصالح الغربية
من جهته، أوضح الدكتور فهد الشليمي، رئيس «المنتدى الخليجي للأمن والسلام»، أن التصعيد الأخير للحوثيين ضد الإمارات يعود إلى الهزائم المتلاحقة في عدة جبهات داخلية، منها شبوة ومأرب وبعض الأماكن في تعز والبيضاء، إلى جانب السعي للحصول على هدنة التوازن، بحيث إن تصعيد الموقف على المستوى الدولي يجعل المجتمع الدولي والإقليمي يطالب بإيقاف الضرر.
«ومن الأسباب كذلك - بحسب الشليمي - أن ضرب بعض المناطق في الإمارات قد يهدد المصالح الغربية من شركات خاصة وسوق الطاقة، ومحاولة ثني القيادة الإماراتية عن دعم قوات العمالقة الجنوبية التي كبدت الحوثي خسائر كبيرة». وهنا يضيف: «كذلك لا يمكن أن تنطلق هذه الصواريخ من دون موافقة ضمنية إيرانية، خصوصاً أنها تأتي خلال مفاوضات فيينا لخلط الملفات، وتعطي الانطباع أن إيران تستطيع، في حال فشلت المفاوضات، إشعال المنطقة عبر وكلائها مثل حزب الله في لبنان أو الحوثي في اليمن أو الحشد الولائي في العراق».

كاسب: توسع واستمرار في العمليات
أما العميد الدكتور فواز كاسب، وهو محلل استراتيجي وأمني سعودي، فقال لـ«الشرق الأوسط» إن «إقدام الميليشيات الحوثية الإرهابية على توسيع العمليات الإرهابية لتشمل دولة الإمارات العربية المتحدة، بإطلاق صواريخ باليستية وطائرات مسيّرة، ليس بالأمر الجديد». ولفت من ثم إلى أنه «منذ عام 2016، وبداية العمليات العسكرية، كان هناك إطلاق صواريخ وطائرات مسيرة مفخخة باتجاه الإمارات من قبل الميليشيات الحوثية المدعومة من إيران. وقد تم التعامل معها بنجاح لتعود مرة أخرى من خلال منظور حوثي مفاده التصعيد بالتصعيد، بعد دخول الإمارات بشكل رئيسي وأساسي ودعم ألوية العمالقة التي تمتلك الخبرة للتعامل في مثل هذه العمليات».
ووفق الدكتور فواز: «يتحقق توسع في العمليات على أرض الواقع، وتحقيق أهداف عالية الأهمية في شبوة ومأرب من خلال الدعم الإماراتي والدعم السابق والمستمر من المملكة العربية السعودية قائدة التحالف، الأمر جعل الحوثي يعود مرة أخرى لتهديد الإمارات تهديداً إرهابياً... وسوف تستمر هذه العمليات، لا سيما أن الحوثي أعلن أن التصعيد بالتصعيد». ويتابع الدكتور فواز كاسب قائلاً: «هذا ما سيجعل ألوية العمالقة تستمر في العمليات العسكرية بالتناغم والتفاعل الإيجابي من القبائل اليمنية وهذا يعطي أهمية للعنصر الاجتماعي». ومن ثم استطرد موضحاً: «كل ما تحقق من انتصارات على الأرض كان بإسناد مستمر وقوي من طيران التحالف، وضرب جميع الأهداف الإرهابية المتحركة والثابتة الأمر الذي أعطى زخماً لألوية العمالقة، وسوف تستمر هذه العمليات».
كذلك، تطرق كاسب إلى اختفاء زعيم المتمردين عبد الملك الحوثي من المشهد السياسي والإعلامي، ومقتل حسن ايرلو القائد الإيراني الفعلي للمعارك على الأرض، وأثر ذلك على تحول المعركة، فقال: «نلاحظ أن جميع الشخصيات اليمنية التي تحلل العمليات الأخيرة، تؤكد وجود تغير في الروح المعنوية والأداء وتراجع لدى الحوثيين، وهو ما يثبت ارتباط هذه الميليشيات وأهمية استغلال ذلك بشكل إيجابي وسريع من قوات التحالف والتوسيع في العمليات العسكرية».

الرد على الاعتداءات الحوثية
عودة للدكتور عبد العزيز بن صقر، الذي يقول: «يوجد توافق سعودي - إماراتي إزاء المخاطر الاستراتيجية لكامل الجزيرة العربية الناشئة عن الوضع اليمني، ومن ضمنها التهديدات المباشرة لدول مجلس التعاون الخليجي، التي يحملها خيار استمرار السيطرة الحوثية على اليمن، واستمرار السيطرة الإيرانية على الحركة الحوثية». ويلفت إلى أنه «من عادة التهديدات والمخاطر تحولها إلى قوة تُوحد المواقف، لكونها توحد المصير. هناك إدراك عميق لدى القيادتين السعودية والإماراتية بوحدة المصير، وكون التهديدات والخطر الإيراني - الحوثي هو خطر توسعي لا يقتصر على دولة واحدة، بل هو خطر إقليمي يمس أمن واستقرار وسلامة أراضي الدولتين».
ويرى رئيس «مركز الخليج للأبحاث» أنه، في قرارها تحدي التهديدات الإيرانية - الحوثية في اليمن، تبنت القيادة السعودية والإماراتية الحسابات الاستراتيجية الآنية، والبعيدة المدى. وأضاف: «التغافل عن حقيقة الاستيلاء غير الشرعي للميليشيات الحوثية على السلطة في اليمن، وعن حقيقة كون الميليشيات الحوثية عصابات من صنيعة الحرس الثوري الإيراني، وترتبط مصيرياً بالدعم والاستراتيجية الإيرانية، سيكون له أثمان وكلف كبيرة، وبعيدة المدى على أمن واستقرار دول مجلس التعاون، وأيضاً على حرية واستقلالية قراراتها السياسية، وحقوقها السيادية، وتحول اليمن إلى مركز عدوان وتهديد وابتزاز إيراني في قلب الجزيرة العربية سيمس سيادة واستقلالية جميع دول المنطقة».
ومن ثم، طالب الدكتور بن صقر بأهمية الاتعاظ من الدرس اللبناني والتجربة اللبنانية المرّة التي جاءت بسبب «التغافل والتخاذل أمام نمو نفوذ وسيطرة ميليشيات حزب الله - اللبناني على زمام السلطة في لبنان، ثم تحولها إلى قوة إقليمية تتدخل وتهدد أمن واستقرار كامل منطقة المشرق العربي لحساب الحرس الثوري الإيراني، وخدمة للمصالح الاستراتيجية التوسعية للإمبراطورية الفارسية الاستعمارية». على حد تعبيره.
وبدوره، أشار الدكتور فهد الشليمي إلى أن البعض كان يعتبر الإرهاب الصاروخي الحوثي ضد السعودية صراعاً بين دولتين، إلا أن انتقال الهجمات إلى دولة غير مجاورة لليمن، في حد ذاته، يشكل انتهاكاً للأمن والسلم الدوليين. ومن ثم، تطرق الشليمي إلى النجاح الدبلوماسي الإماراتي في مجلس الأمن والجامعة العربية، واعتبار الصواريخ الحوثية فعلاً إرهابياً، فقال: «هذه الصواريخ قد تصل إلى قطر والكويت وعمان والبحرين، لكن باختلاف المسار السياسي. أعتقد أن السعودية أثبتت أنها ذات صبر وتكتيك باحترافية دفاعها الجوي الذي صد آلاف الهجمات الجوية، وكانت محقة دائماً في أن منظمة الحوثي إرهابية».
وفيما يخص ردة فعل السعودية والإمارات على الهجمات الحوثية، رجّح العميد الدكتور فواز كاسب أن الدولتين الشقيقتين ستستمران في العمليات، لا سيما في ظل وجود الدعم السياسي والتغير في موقف المجتمع الدولي تجاه الميليشيات الحوثية. وأضاف: «لقد وقع اعتداء حوثي على السفارة الأميركية في صنعاء، وصرح الرئيس (جو) بايدن بأن إدارته تعيد النظر في تصنيف جماعة الحوثي ضمن الجماعات الإرهابية. وبلا شك هذا سوف يزيد الضغط والإرباك على الحوثيين خلال الفترة القادمة».

تعامل دول الخليج مع الملف اليمني

> لفت الدكتور عبد العزيز بن صقر إلى أن هنالك أمراً ما زال غائباً ضمن المنظومة الخليجية، وهو «الإدراك العميق للمخاطر والتهديدات التي تكمن في سياسة إيران التدخلية والتوسعية، والتهديدات البعيدة المدى التي تكمن في توظيف إيران لسياسة تأسيس ودعم الميليشيات الطائفية المسلحة، وتفتيت سلطة الدول القائمة، وخلق دولة داخل دولة، وتوظيف الورقة الطائفية، وإضعاف الهوية والانتماء الديني والوطني والقومي لدى المواطن العربي، لحساب تعميق الولاء الطائفي، الذي يربط عبره الولاء والدعم للسياسة الإيرانية، على حساب المصالح الوطنية والقومية».
وأضاف بن صقر: «تبني بعض دول الخليج العربية سياسة ومواقف متساهلة، وربما متخاذلة ومحابية للموقف الإيراني، وتجنب إدانة السلوك التوسعي والتدخلي أمر مؤسف ومقلق في الوقت نفسه. هذا الأمر ينجر على الموقف الخليجي والعربي من الملف اليمني، فجميع الأطراف الخليجية، ومن ضمنها السعودية والإمارات تؤمن وتعلن جهاراً أن تسوية الصراع في اليمن يجب أن تتم عبر الحلول والتسويات السياسية والمفاوضات الدبلوماسية التي تحافظ على كرامة وحقوق وازدهار الشعب اليمني، وتضمن سيادة الدولة وسلامة أراضيها». ولكن، رغم ذلك، يرى بن صقر أن «تجربة جولات التفاوض المتعددة مع الميليشيات الحوثية، أبرزت قناعة راسخة أن القرار الحقيقي والنهائي يكمن في طهران، ومع القيادة الإيرانية، كما أثبت أن مصلحة إيران تكمن في تخريب أي حل أو تسوية سياسية في اليمن تخدم مصالح الشعب اليمني، طالما أنها تتجاوز أو تُهمش المصالح الاستراتيجية الإيرانية في اليمن... لذا ما هو مطلوب من دول الخليج العربية موقف صلب وموحد قائم على إدراك عميق لحقائق الأزمة اليمنية، وتبني سياسة ومواقف عملية تعكس إدراكا فعليا لحجم التهديدات والمخاطر النابعة من الصراع اليمني».
وهنا، حرص الدكتور فهد الشليمي على التوضيح بأن الملف اليمني «يحتاج توحيد الجهد اليمني ككل، وهو ما شاهدناه في عمليات اليمن السعيد» على حد تعبيره. وأضاف: «نبدأ بقوات الشرعية والمساندة لها، ثم تكون هناك تفاهمات ميدانية على الأرض بحيث تسحب القوات الشرعية في حضرموت (7 ألوية) وتوجهها للحوثي وتفتح جبهات جديدة، والاستمرار في الدعم الجوي، على أن يكون هناك دعم سياسي من الجامعة العربية وهو حصل». واختتم بالقول: «هناك مسؤولية أكبر على دول البحر الأحمر المجاورة لأن هناك قرصنة وألغاماً... وهي مسؤولة عن تأمين هذا الممر الملاحي على شواطئها. كذلك من المهم التوجه إلى ميناء الحُديدة باعتبار اتفاق استوكهولم ليس ذا جدوى، والسيطرة على الميناء، ومنع الحوثي من الاستفادة من الإيرادات».



حرب أميركا ـــ الصين التجارية... بين «واقعية» بكين و«طموح» ترمب


الرئيس الأميركي دونالد ترمب جعل حربه الاقتصادية ضد الصين استراتيجية لواشنطن (رويترز)
الرئيس الأميركي دونالد ترمب جعل حربه الاقتصادية ضد الصين استراتيجية لواشنطن (رويترز)
TT
20

حرب أميركا ـــ الصين التجارية... بين «واقعية» بكين و«طموح» ترمب


الرئيس الأميركي دونالد ترمب جعل حربه الاقتصادية ضد الصين استراتيجية لواشنطن (رويترز)
الرئيس الأميركي دونالد ترمب جعل حربه الاقتصادية ضد الصين استراتيجية لواشنطن (رويترز)

ثمة فوارق جوهرية بين استراتيجيات الولايات المتحدة والصين في الرسائل السياسية-الاقتصادية المتبادلة بين البلدين العملاقين. فواشنطن، من خلال تصعيد الرسوم بسرعة وبشدة، تظهر قوتها الاقتصادية وتستخدم التصعيد أداة ضغط سياسي واقتصادي، معتمدة على واقع الولايات المتحدة كقوة اقتصادية عالمية. بالمقابل، اختارت بكين نهجاً تدريجياً وأكثر تحفظاً، في البداية، ربما لتفادي التصعيد المباشر مع واشنطن ولتجنب الدخول في حرب تجارية شاملة قد تؤثر على الاقتصاد العالمي.

ولكن، مع مرور الوقت، رفع الجانب الصيني ردوده تدريجياً لتصل إلى مستوى قريب من حجم إجراءات الجانب الأميركي، ما يشير إلى رد بالمثل لكن محسوب، مع إظهار حرص على التوازن وتحاشي الانجرار نحو تصعيد كامل.

التفاوت الزمني

أيضاً، يكشف الفارق بين تواريخ التصعيد بين الطرفين عن مدى تفاعل كل طرف مع الآخر وردّه على تحركاته. فالتفاوت الزمني بين التصعيدات يعكس استراتيجية قائمة على مراقبة مستمرة وحسابات دقيقة من الجانبين، حيث يعكس كل تصعيد رد فعل مدروسا، وليس ردة فعل عشوائية. وبالتالي، كل طرف يراقب الآخر ويأخذ في اعتباره تحرّكاته قبل اتخاذ قراراته، ما يعكس تنسيقاً ضمنياً بين القرارات المتخذة.

«التحكم» و«الهيبة»

من خلال هذا التصعيد المتبادل، يظهر الرئيس الأميركي دونالد ترمب وكأنه يبعث برسالة واضحة مضمونها «نحن نتحكّم بالسوق العالمي، وسنضغط بقوة».

إنه موقف يعكس صورة قوة الولايات المتحدة كداعم رئيس في الاقتصاد العالمي، ويؤكد أنها مستعدة للمضي بالضغط على الصين إلى أن تمتثل الأخيرة لمطالبها. وفي الجهة المقابلة، تسعى بكين من خلال الردّ المتدرّج إلى إرسال رسالة معاكسة مضمونها «نحن نرد بالمثل لكن بحكمة وتدرّج، ولسنا منفعلين». وهذا الموقف يعكس «توازناً» حذراً في الردود الصينية، ويعزّز من صورتها كدولة قوية اقتصادياً تستطيع اتخاذ قرارات مدروسة... بعيداً عن الانفعال وردود الفعل العاطفية.

أسلوب الرئيس الصيني ... و«الكتاب الأبيض»

في هذا السياق، يعود موقف الرئيس الصيني شي جينبينغ ليشكّل الإطار العام لفهم هذا السلوك؛ فالرئيس شدد مراراً على أن التعاون هو الخيار الصحيح الوحيد بين البلدين، وأن الصين لا تسعى إلى الهيمنة أو المواجهة، بل إلى حوار قائم على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة. غير أن هذا الانفتاح الصيني لا يعني قبولاً بالضغط أو الإملاءات، كما يوضح «الكتاب الأبيض» الصيني، الذي أكد أن بكين «لن تقف مكتوفة الأيدي أمام محاولات الترهيب الاقتصادي»، وإن كانت في الوقت ذاته تفضل استخدام أدوات محسوبة ومدروسة.

في التاسع من أبريل (نيسان) 2025، أصدر مكتب الإعلام التابع لمجلس الدولة الصيني «الكتاب الأبيض» الذي حمل عنوان «موقف الصين بشأن بعض القضايا المتعلقة بالعلاقات الاقتصادية والتجارية بين الصين والولايات المتحدة».

لم يكن الكتاب مجرّد وثيقة حكومية عابرة، بل جاء مرافعةً استراتيجيةً شاملة، مدعومة بالأرقام والحقائق، وتكشف عن موقف بكين من العلاقة الاقتصادية الأكثر حساسية في عالم اليوم: علاقتها مع واشنطن.

ما قدّمته الصين في هذا الكتاب ليس دفاعاً بقدر ما هو دعوة إلى «الفهم الواقعي». ذلك أن العلاقات الاقتصادية بين الصين والولايات المتحدة - وفق بكين - ليست «لعبة صفرية»، بل منظومة تكامل معقّدة، قائمة على المنفعة المتبادلة والنتائج المُربحة للطرفين. وترى جهات قريبة من بكين أن هذا المنطلق يغيب عن بعض دوائر صنع القرار في العاصمة الأميركية، التي ما زالت تعاني من تبعات «ذهول ما بعد الهيمنة»، وتُصرّ على قراءة الحاضر بعدسات الماضي الإمبراطوري.

من التعاون إلى التوتر... أرقام لا تكذب

تبدأ القيادة الصينية في «كتابها الأبيض» بتشخيص للعلاقات الاقتصادية الثنائية، فتشير إلى أن هذه العلاقة «لم تُبْنَ في فراغ، بل هي نتاج تطور طبيعي استجابت فيه قوانين السوق والمنطق الاقتصادي لحاجات كل من البلدين».

فمنذ تأسيس العلاقات الدبلوماسية بين البلدين عام 1979، ارتفع حجم التجارة الثنائية من أقل من 2.5 مليار دولار أميركي إلى نحو 688.3 مليار دولار في عام 2024.

هذا النمو المذهل ما كان ليتحقّق لولا التكامل العميق في الموارد، ورأس المال، والتكنولوجيا، واليد العاملة، والأسواق بين البلدين. إذ أصبحت الصين سوقاً رئيسة للمنتجات الزراعية الأميركية مثل فول الصويا إلى القطن ووصولاً للغاز والأجهزة الطبية. وفي المقابل، استفاد المستهلك الأميركي من المنتجات الصينية ذات الجودة العالية والتكلفة المعقولة، ما خفّض تكاليف المعيشة ورفع مستوى القدرة الشرائية للطبقات المتوسطة والدنيا.

من الزاوية الصينية، لم يكن الفائض التجاري هدفاً مقصوداً، بل نتيجة طبيعية لتركيبة الاقتصاد العالمي، وللخيار الأميركي بالتركيز على الصناعات ذات القيمة المضافة العالية والاعتماد على الاستيراد من الصين في قطاعات التصنيع. ثم إن تقييم هذا الفائض باستخدام منهجية «القيمة المضافة» يغيّر الصورة جذرياً، إذ إن القيمة التي تحصل عليها الصين من العديد من صادراتها لا تمثل سوى جزء بسيط من القيمة النهائية للسلع.

واشنطن والتناقض البنيوي: عن العجز والتضليل

على الرغم من هذه الحقائق، تصرّ بعض الجهات السياسية والاقتصادية - اليمينية، بالذات - في واشنطن على تصوير العلاقات الاقتصادية مع الصين على أنها سبب رئيس للعجز التجاري الأميركي، مُتناسية العوامل البنيوية التي تعاني منها منظومتها الصناعية، بما في ذلك ارتفاع التكاليف الداخلية، ونقل الصناعات إلى الخارج، والتركيز على قطاع الخدمات على حساب الصناعة التحويلية.

الإحصاءات التي أوردها «الكتاب الأبيض» تشير إلى أن الولايات المتحدة تحقق فوائض كبيرة في تجارة الخدمات مع الصين بلغت 26.57 مليار دولار في عام 2023، كما أن الشركات الأميركية في الصين تحقق أرباحاً ضخمة، إذ بلغ حجم مبيعاتها في السوق الصينية عام 2022 نحو 490.52 مليار دولار أميركي، بفارق يزيد على 400 مليار دولار عن مبيعات الشركات الصينية في الولايات المتحدة.

بلغة الأرقام، يتّضح أن المكاسب المتبادلة أكثر توازناً مما يحاول بعض الساسة الأميركيين تصويره. وإذا ما جرى احتساب المبيعات والخدمات وتدفقات الاستثمار بشكل مشترك، فإن العلاقات الصينية ـ الأميركية تبدو بعيدة كل البعد عن «الرواية الأحادية» التي تتكلّم عن «استغلال» أو «سرقة» اقتصادية.

الحرب التجارية ... سلاح ذو حدّين

في الحقيقة، لطالما استخدمت واشنطن التعريفات الجمركية سلاح ضغط اقتصادي، وفرضت منذ عام 2018 رسوماً جمركية أحادية الجانب على مئات المليارات من الدولارات من السلع الصينية. ومع أن هذه الإجراءات فُرضت تحت شعار «حماية الصناعة الوطنية»، فإن الواقع أثبت عكس ذلك.

وحقاً، تفيد دراسة لمعهد بيترسون للاقتصاد الدولي إلى أن أكثر من 90 % من تكاليف هذه الرسوم انتقلت فعلياً إلى المستهلكين الأميركيين. كذلك فإن هذه الإجراءات لم تساهم في تقليص العجز التجاري الإجمالي، ولم تُعِد الحيوية للصناعة الأميركية. بل على العكس، أدّت إلى ارتفاع أسعار السلع، وتباطؤ النمو، وإضعاف القدرة الشرائية للمواطن الأميركي.

بل، من المفارقات أن هذه الحرب التجارية تزامنت مع احتجاجات في الداخل الأميركي، لا سيما من القطاعات الزراعية والصناعية المتضرّرة، التي خسرت أسواقها في الصين بسبب سياسات التصعيد. ولقد أظهرت بيانات السوق تراجع التوقعات بشأن النمو الاقتصادي الأميركي على خلفية هذه السياسات.

الصين: لا صدام ... ولا تهديد

من جهة ثانية، جاء في «الكتاب الأبيض» أيضاً أن «الصين لا تسعى إلى حرب تجارية، لكنها في ذات الوقت لن تقف مكتوفة الأيدي أمام ما تعتبره ترهيباً اقتصادياً». وبالنسبة لبكين، فإن التعاون هو الخيار الأول، لكن الرد بالمثل خيار دائم إذا اقتضت الحاجة.

وهنا تؤكد بكين أن الحل الأمثل هو «الحوار المتكافئ، واحترام المصالح الأساسية لكل طرف»، لا سيما أن العالم لم يعُد ساحة للابتزاز، بل غدا شبكة معقدة من المصالح. وعليه فالانفصال القسري لن يؤدي إلا إلى مزيد من الخسائر للطرفين، وربما للنظام الاقتصادي الدولي بأسره.

ووفق جهات مقرّبة من بكين، فبين أكثر ما يلفت النظر في الموقف الصيني، ليس فقط إصرار بكين على «الحقائق الاقتصادية»، بل أيضاً محاولتها معالجة جذور الخلل في نظرة واشنطن للصين.

وحسب هذه الجهات، فإن نسبة عالية من الساسة الأميركيين ووسائل الإعلام التابعة لهم، لا تزال تنظر إلى الصين من خلال «عدسة الحرب الباردة»، فإما أن تكون الصين «شريكاً طيعاً» أو «عدواً مطلوباً تحجيمه». لكن الحقيقة التي تتجاهلها هذه الرؤية هي أن الصين المعاصرة ليست دولة تُدار وفق نص مكتوب في واشنطن، بل أمة عمرها خمسة آلاف سنة، سلكت طريقاً تنموياً خاصاً بها، قائماً على الواقعية، والإصلاح التدريجي، والتفاعل العميق مع العولمة. وهذا بالضبط ما عبّر عنه بوضوح كبير الدبلوماسيين الصينيين يانغ جيه تشي خلال قمة ألاسكا الشهيرة حين قال: «واشنطن لا تملك المؤهلات اللازمة للتكلّم إلى الصين من موقع قوة».

الهيمنة تُفقد البوصلة

أخيراً، يقول مقربّون من بكين إنه من خلال تتبع سياسات واشنطن، يظهر أن الأزمة الأعمق ليست في التجارة أو التوازن الاقتصادي، بل في نمط التفكير السائد في واشنطن. وحسب هؤلاء «هناك تيار سياسي أميركي لا يستطيع تقبّل فكرة عالم متعدّد الأقطاب، قارئاً في صعود الصين تهديداً لامتيازات استمرت لعقود، لا سيما بعد الحرب العالمية الثانية».

بالتالي - والكلام لا يزال للمقربين من بكين - «هذا النمط من التفكير جعل بعض السياسيين في واشنطن كمن يحاول قيادة قطار فائق السرعة بمحرك عربة تجرها الخيول. فهم يصرّون على استخدام معايير القرن التاسع عشر لفهم تفاعلات القرن الحادي والعشرين، ويحاولون لعب أدوار متناقضة في الوقت نفسه: الحكم واللاعب والمُشرّع». لطالما استخدمت واشنطن التعريفات الجمركية سلاح ضغط اقتصادي على الصين