كيف كتبوا تاريخ الصين الحديثة؟

قراءة في «مملكة الرموز: الثورة اللغوية»

سعى المخترعون الصينيون لتحديث الرسومات الصينية لتتناسب مع الآلات الكاتبة والتلغراف
سعى المخترعون الصينيون لتحديث الرسومات الصينية لتتناسب مع الآلات الكاتبة والتلغراف
TT

كيف كتبوا تاريخ الصين الحديثة؟

سعى المخترعون الصينيون لتحديث الرسومات الصينية لتتناسب مع الآلات الكاتبة والتلغراف
سعى المخترعون الصينيون لتحديث الرسومات الصينية لتتناسب مع الآلات الكاتبة والتلغراف

دايردر ماسك*
ترجمة: سعد البازعي

في مساء صيفي من عام 1916، صعد الصيني جاو هوكون ذو الـ27 عاماً على منصة ليكشف عن اختراع عجيب: آلة كاتبة صينية من نوع جديد. كان جاو قد عاد مؤخراً إلى مدينته شنغهاي من الإم آي تي (معهد ماساشوستس للتكنولوجيا)، حيث أدى تعرفه بالصدفة على آلة كاتبة أميركية أحادية إلى ابتكار نسخة صينية. غير أن الآلات الكاتبة الأميركية صمم لوح أحرفها للغات الأبجدية مثل الإنجليزية. فبستة وعشرين حرفاً يمكنك كتابة أي شيء من قائمة المشتروات إلى شكسبير. الخط الصيني مؤسس على الرموز، كل رمز يقابل إلى حد ما، ما نقصده بالكلمة الإنجليزية. من هنا كان تصميم آلة كاتبة محمولة يمكنها طباعة 4000 رمز عملاً بالغ الصعوبة، وقد اجتمع الناس في حرارة يوليو (تموز) ليسمعوا جاو يتحدث.
لكن رسالة جاو الأولى لم تكن كما بدا على صلة مطلقاً بالآلات الكاتبة. بدلاً من ذلك، وضع جاو على بدلته لباس عامل مصنع أميركي، وقال: «لدي عبارة واحدة لأقولها لكم اليوم: لا تخشوا اتساخ أيديكم». قال إن الصينيين «يتحاشون كل المناشط المتعلقة بالصناعة والحِرفية، الأمر الذي جعل المتعلمين عاجزين أمام كل شيء عملي، والفلاحين جهلة بالمعرفة الحقيقية». بدلاً من ذلك، رفع الصينيون قدر المتعلمين فوق العمال الشرفاء. ومع ذلك، ففي أميركا حتى أقارب الرئيس روزفلت كانوا عمال أخشاب. لبس جاو ما كان يلبس أثناء عمله في أحد المصانع الأميركية ليؤكد أنه مهما كانت «تلك الملابس متسخة وتفتقر إلى الأناقة، فإنني لا أتخلى عنها، لأنها تحمل علامات العامل».
يأتي حديث جاو عند نحو ربع المسافة من كتاب جنغ تسو الجديد، المثير والدقيق، «مملكة الرموز: الثورة اللغوية التي صنعت الصين الحديثة». سطوره الأولى قد تدهش. يأتي أولاً ذلك التذكير المقلق: أعجبت الصين يوماً بقدرات أميركا الصناعية. لماذا بعد ذلك صدرت تلك الصرخة السياسية من القلب التي أطلقها مخترع الآلة الكاتبة؟ لكن هذه هي الرسالة الأساسية لكتاب تسو: قصة تمكن اللغويين والنشطاء والوراقين والباحثين والمواطنين العاديين من تكييف الكتابة الصينية لتتواءم مع العالم الحديث هي قصة تحول الصين نفسها إلى بلد حديث. تتبع تاريخ الكتابة يساعد في تفسير ماضي الصين وحاضرها - وكذلك مستقبلها. تكتب تسو، وهي أستاذة للغات الشرق آسيوية وآدابها في جامعة ييل: «أكثر من قرن على محاولات الصين تعلم كيف توائم وتغير لغتها لتنسجم مع التقنية الحديثة، هو ما أوصلها إلى هذه المرحلة، إلى بداية - وليس نهاية - أن تكون ممن يحددون المقاييس، ابتداءً من الذكاء الصناعي إلى المعالجة الكمية للغة الطبيعية، من الأتمتة إلى الترجمة الآلية».
يبدأ كتاب تسو تقريباً عند منعطف القرن العشرين حين تحدى المصلحون تقاليد مثل ربط القدم والكتابة الصينية. لقد سعى الملوك والإرساليات والباحثون لأمد طويل إلى «فك» أسرار اللغة الصينية - أو إلى تصنيمها. رأى آخرون الكتابة الصينية القائمة على الرسومات «لا تتماشى مع المنطق وغير قادرة على تقبل التفكير التجريدي». كتب الفيلسوف هيغل: «طبيعة اللغة المكتوبة ذاتها عائق كبير أمام تطور العلوم». «بمحاولاتهم تحديث الرسومات الصينية» لتتناسب مع الآلات الكاتبة والتلغراف، سعى المخترعون الصينيون لتجاوز الصعوبات «التي جاءت مع دخولها المتأخر إلى أنظمة قصدت بها لغة كتابة مختلفة. لكن الكثيرين تساءلوا ما إذا كانت الكتابة الصينية هي المشكلة».
يروي هذا الكتاب حكايات أولئك الذين قرروا غير ذلك. العنوان الذي وضعته تسو «مملكة الرموز» يشير في الوقت نفسه إلى الرموز الحرفية التي تشكل الكتابة والناس الذين سعوا إلى إنقاذ تلك الرموز. إنها لا تضفي صورة جميلة على ما واجهوا من صعوبات، فهي تعرّفنا مثلاً بوانغ جاو، المصلح المنفي الذي عبر الصين متخفياً كراهب ومعرضاً حياته للخطر لكي يدخل أبجدية صينية جديدة اعتقد أنها ستوحد البلاد تحت لغة مشتركة. إنها تروي قصة الكونت بيير هنري ستانيسلاس دي إسكارياك دي لوتر، المغامر الفرنسي الذي على الرغم من تعرضه للتعذيب الجسدي في سجن صيني، أسهم في ريادة تطوير التلغراف الصيني. وتكتب حول جي بنغيي الذي، بعد مائة عام، وبعد أن وصم بأنه «خبير أكاديمي رجعي» أثناء الثورة الثقافية الصينية، أسهم في اكتشاف كيفية جعل اللغة الصينية لغة يستطيع الكومبيوتر قراءتها - في «الأصفار والآحاد المزدوجة» - وذلك من زنزانة سجنه المؤقت (حين لم يجد ورقاً اختبر فرضياته بالكتابة على فنجان شاي بقلم مسروق).
في كل خطوة على الطريق كان على هؤلاء المخترعين أن يطرحوا أسئلة مثل: كيف يمكن للكتابة الصينية أن تُنظم بأسلوب عقلاني؟ هل يمكن للغة أن تكتب بأبجدية؟ وإن أمكن ذلك فبأيها؟ (اللاتينية، العربية، الكريلية؟ بأحرف رمزية أخرى؟) هل يمكن لأي أبجدية أن تعبر عن النغمات الضرورية للتفريق بين الرموز؟ جاو يوانرين، وهو عالم لغة صيني مرموق، شرح هذه الصعوبة. نقرأ في السطر الأول من قصة بالإنجليزية: «شاعر المنزل الحجري سير شي كان مغرماً بالأسود وأقسم أن يأكل عشرة منها». ذلك السطر لو اكتُفي بكتابته بأحرف لاتينية سيتحول إلى سلسلة من البربرة الطويلة المملة: «شي شي شي شي شي شي شي شي شي شي شي شي شي».
بتفحصها، هذه الأسئلة عن قرب تعين تسو المبتدئ في معرفة اللغة الصينية على فهم التحديات الكامنة وكيف أمكن التغلب عليها. (أشعر أن تسو معلمة ممتازة). هذه المادة يمكن أن تصير جافة في الأيدي غير القادرة. لكن تسو تنسج تحليلاً لغوياً بسياق تاريخي - دمار الإمبريالية، الحرب الأهلية، الغزوات الأجنبية، النجاحات والخيبات الدبلوماسية. هذه المقاربة لا تضيف خلفية ومعنى للحوار حول الكتابة فحسب، وإنما تضيف أيضاً لوناً أخاذاً لما كان يمكن أن يتحول إلى كتاب مدرسي.
بصورة خاصة، يتضح من الدور الذي لعبه ماو تسي تونغ في تشكيل الكتابة الصينية كيف تكون السياسة واللغة مندمجتين. تقول إن ماو «سيذكر في التاريخ بوصفه، ضمن أشياء أخرى، الشخصية السياسية التي قادت اللغة الصينية عبر أعظم تحولين في تاريخها الحديث». في وقت بلغت الأمية فيه 90 في المائة بين الصينيين.
تبنى ماو إنقاص عدد جرات القلم في أكثر من 2200 من الرسوم لجعلها أسهل للتعلم والكتابة. (لا تزال تايوان ترى نفسها، وقد رفضت التبسيط، راعية الثقافة الصينية التقليدية). كان ماو أيضاً وراء إيجاد البنيين، وهي أبجدية صوتية لاتينية صممت لتعين في تعلم الكتابة الصينية، لا لكي تكون بديلاً لها. بعد أن وُفق عليها عام 1958، يقال إن 50 مليوناً تعلموا الكتابة بالبنيين في السنة الأولى وحدها، في زمن لـ«المثالية والأمل». ومع ذلك فقد كان عام 1958 أيضاً العام الأول لـ«القفزة العظيمة إلى الأمام»، التجربة التي قادت إلى موت الملايين من الجوع - واضطهاد منتقدي البنيين.
ليس مما يفسد هذا كله أن يقال إن الكتابة الصينية في النهاية لم تمت؛ لقد ازدهرت بدلاً من أن تموت. حسبما تقول تسو: «كل تقنية واجهت الكتابة الصينية أو تحدتها، على الإطلاق، كان عليها أيضاً أن تنحني أمامها». تسو نفسها يندر حضورها في الكتاب، مع أنها في المقدمة توضح كيف أنها بعد هجرتها في طفولتها من تايوان إلى أميركا وجدت أن من الصعب التخلي عن الصينية. «لم يكن يكفي أن أتمكن من الكتابة والقراءة والمفردات»، تقول تسو. «لكي أفكر بالإنجليزية كان علي أن أتنفس وأعيش وفق رؤية العالم التي تعبرعنها وتبنيها تلك اللغة». اللغات، كما يوضح هذا الكتاب، تعبّر عن عوالم. عالم الكتابة الصينية الذي ترسمه تسو بألوان براقة عالم أشعر بالامتنان لأنني لمحته.
* خدمة «نيويورك تايمز»،
- بوكس ريفيو



عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»

عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»
TT

عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»

عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»

بأسلوب شيّق، وحبكات متتالية، يسرد عبد الرحمن شلقم المسار الاستثنائي للقائد العسكري الإيطالي أميديو جوليت، الذي عرف ببطولاته، وانتصاراته، وشجاعته، وطارت شهرته، حتى صارت تفاصيل حياته مجالا للبحث والاهتمام.

يعيدنا وزير خارجية ليبيا السابق، في روايته الجديدة «القائد العاشق المقاتل»، الصادرة عن «دار الرواد للنشر والتوزيع» إلى فترة تاريخية، كان لا يزال للفروسية فيها دور بارز في قيادة المعارك، وللشهامة قيمة أخلاقية. تحكي الرواية سيرة مقاتل ليست ككل السير، حيث تختلط السياسة بالحب، والتاريخ بالمزاج الشخصي، والحكمة بالجسارة، والقتال بعشق الشرق وشغف المعرفة.

لم يكن أميديو مجرد قائد تقليدي، فبفضل شخصيته المتوثبة والكاريزما التي تمتع بها، وحبه للثقافات، أصبح صديقاً للعرب، يلبس على شاكلتهم، يتكلم لغتهم، يستمتع بشعرهم، يأنس لمجالسهم. وحين أنهى مهمته العسكرية عاد إليهم دبلوماسياً نشطاً، وسائحاً هائماً.

«القائد الشيطان»

تقول الرواية: «عشق أميديو السلاح كما عشق المرأة»، وتلك عبارة مفتاح، إذ تنسج الرواية خيوطها، بهذا الجانب الرومانسي للقائد المقدام الذي تقترن بطولاته بغرام دائم، وعشق لا ينقطع. ويتنقل القارئ بين الأحداث السياسية وشراسة الأطماع الاستعمارية، وحكايات أميديو مع عشيقاته اللواتي شغلن الجزء الذي لم تملأه الحروب من يومياته.

«القائد الشيطان»، هذا هو لقبه، الذي استحقه عن جدارة. فبعد أن خاض أميديو الحرب الأهليّة الإسبانيّة إلى جانب قوات الملكيّين قادته ظروف الحرب إلى ليبيا. وأضافت لتكتيكاته الفريدة في مقارعة أعدائه، حيث واجه البريطانيين، وحارب المقاومة الليبية، عاش قصة حب حارقة مع ممرضته الليبية اليهودية التي أنسته كل ما عداها، تعرف إليها أثناء علاجه في مستشفى في طرابلس، من إصابة تعرض لها. نعيش مع العقيد أميديو لحظات تحرّقه وعشقه لريزا بـ«قوامها الممشوق ووجهها الأبيض الوضاء وعينيها الواسعتين وهي تقدم له حبات الدواء وتصير صباح الشفاء والسعادة». ثم بعد ذلك، نكابد معه فراق ريزا، واختفاءها تحت وطأة تهديد النازيين لها ولعائلتها ولملتها، ومنع العقيد من الزواج بها بسبب القوانين العنصرية التي فرقت بينهما.

الحبيبة ريزا

ريزا هي كما غيرها من اليهود الذين «اضطروا إلى الهرب خارج العاصمة الليبية، وتغيير أسمائهم، وأماكن إقامتهم». لكن مهمة الضابط المغامر الذي يمتطي صهوة جواده، ويتقدم الفرسان، ويهاجم كما لو أنه نسي الموت، لا تتوقف هنا، بل نراه ينتقل إلى إثيوبيا وإريتريا، حيث يطور هناك أساليبه القتالية، وتتجلى مشاعره العشقية، حين يعيش قصة حب جديدة مع خديجة الإثيوبية، التي «بثت فيه عشقاً لم يعرفه أبداً». ابنة شيخ القبيلة مختار، صاحبة الجمال الخمري التي تحفظ الشعر العربي، تتسلل إلى خيمته كل ليلة، تجالسه، تحادثه بهمس، عن الفروسية، وصفات الخيل، وشجاعة المحاربين. يصف الكاتب خديجة «الطويلة الرشيقة، بلباسها الملون، وعطرها الفواح» بأنها «استولت على كل شيء فيه». أما هي، فقد افتتنت بفارسها بجنون. معها «نسي حبيبته الطرابلسية ريزا، التي صارت إلى المجهول في ليبيا يخنق حبل الفاشية العنصري يهودها، أما حبيبته الإيطالية بياتريس جوندولفو، ومشروع زواجه القديم منها، فقد طوتها عيون خديجة وقوامها وصوتها وشَعرها وشِعرها، وعطرها».

خديجة تشد أزره

على هذا النحو الآسر، يجعلنا شلقم نعيش مناخات الحرب العالمية الثانية، وما رافقها من اضطرابات، وتوترات وقلق، مع العقيد الذي يخوض غمار معاركه، مستعيناً على ذلك بنساء كنّ له الظهر والسند. غير أن خديجة هذه بقيت شيئاً آخر. و«لأول مرة يتمنى الفارس الصنديد، مدمن القتال، «أن تفارق الحرب عقول البشر إلى الأبد. وهو يطارح خديجة حديث الحب».

جاءته الأوامر من روما أن يستسلم، لكنه رفض، مع علمه أن الوضع قد أصبح ميئوساً منه. جهزت له خديجة فرساناً أشداء، وقالت له: «قاتل ولا تستسلم يا حبيبي، لقد خلقك الله لتكون الفارس الذي يفر من أمامه العتاة».

بين جبهات الحروب الشرسة، وجبهات الحب العاصفة، ينقلنا الكاتب، وهو يبدع في رسم علاقة أميديو مع عشيقاته، وتوصيف علاقته مع كل منهن، وكأن كل واحدة أنارت له جانباً مختلفاً من شخصيته، وأضافت لفضوله معارف جديدة، وفتحت أبواباً للضوء. فقد كان أميديو يتمتع بشخصية مغامرة وجذابة، مما جعله محبوباً بين النساء. يقول لخديجة وقد أنهكه القتال: «لم تعد لي القدرة على الاستمرار في محاربة البريطانيين. رجالي قتل بعضهم وجُرح معظمهم، لم يبق لي منهم سوى ثلاثين نفراً، أنت كل ما لدي من هذه الدنيا، ولكن الله غالب».

المرحلة اليمنية

ولما كانت العودة إلى إيطاليا شائكة بسبب تمرده على الأوامر، والوضع المتأزم هناك، يمم وجهه صوب اليمن، وقد صار اسمه أحمد عبد الله الرضائي. وصل إلى ميناء الحديدة، بعد مغامرات كادت تودي به وبرفيق الرحلة. طلب اللجوء السياسي، شك اليمنيون في أمره، وأخضعوه شهراً للسجن والاستجواب. محادثاته المتناسلة مع سجانيه وصلت إلى قصر إمام اليمن يحيى حميد الدين الذي طلب رؤيته. وكان صيته قد سبقه، ما سيجعل العلاقة الوطيدة سريعة مع الإمام وسيكلفه تدريب كتائب جيشه وشرطته.

المرحلة اليمنية من حياة أميديو، تفتح الباب أمام شلقم ليرسم لنا صورة بانورامية عن الحياة الاجتماعية، والأجواء السياسية في تلك المرحلة، في هذه المنطقة العربية. «سيلف أميديو حول خاصرته قطعة من القماش، ويضع الخنجر المقوس وسط حزامه. جلسة مع خلان سيتعرف عليهم، يخزنون القات معاً، ويسهرون الليالي في مطارحات شعرية إلى أن يدركهم الصباح، ويخرجون ليروا مباني المدينة الشاهقة المزخرفة بألوان، تضيف الانشراح إلى الأرواح». وفي اليمن أيضاً سيلتقي بياتريس.

لم يكن أميديو مجرد قائد تقليدي بل شخصية متوثبة وكاريزمية

صفحة حب جديدة

بياتريس الحبيبة الجديدة. هذه المرة هي مصرية، مسيحية وفارسة تعشق الخيول، تعزف على آلة البزق وتهرّب الأسلحة، حين يلزم الأمر. امرأة جذابة يلفها الغموض «عندها عصارة العصارة، ولها القدرة على قراءة ما سمعت، فهي مثقفة ودارسة متبحرة في عالم النفس، ولها القدرة على قراءة ما في فناجين الرؤوس».

لكن تلك الحياة الرغدة بعجائبيتها ومحنها، سرعان ما تنقلب في اليمن، وتطيح بالإمام، ويحلّ الجدري، وينفضّ الجمع، ولا يبقى لـ«القائد الشيطان» سوى الهرب.

بأسلوبه الرشيق والمشوق، يقصّ شلقم من خلال روايته، حكاية هذا القائد الإيطالي الذي تحول إلى أسطورة، وشبهه البعض بلورانس العرب، لتشابه بين سيرتيهما، مستفيداً من سيرته التي كتبها العقيد بنفسه، ومصادر أخرى، مضيفاً إليها حبكته ونكهته المستقاة من «ألف ليلة وليلة» التي يؤتى على ذكرها مرات عدة في النص. وقد عاش أميديو من العمر قرناً كاملاً وسنة، تمكن خلالها من الانتقال إلى حياة دبلوماسية، لا تقل أهمية عن حياته العسكرية. عين سفيراً لدى عدد من الدول العربية بينها الأردن الذي عشقته زوجته بياتريس التي ارتبط بها بعد تجواله ومغامراته العشقية. وعين الرجل سفيراً لدى المغرب، ويكتب له أن يشهد حادثة انقلاب الصخيرات الشهيرة، التي نقرأ تفاصيلها في الرواية كما عاشها أميديو، وكأننا في قلب الحدث.

التاريخ يعيد نفسه

مفاصل تاريخية كثيرة، عن فترة مفصلية من عمر العرب، والتدخلات الأجنبية على أرضهم، بحيث يبدو وجودهم السياسي هامشياً، في ما يطغى حضورهم الاجتماعي في الرواية، كل ذلك مشدود إلى أوتار عواطف جياشة، ومشاعر فياضة، تلهم القائد المقدام.

وفي الجزء الأخير من الكتاب، يتاح لنا أن نعيش مع أميديو، وقد استقر به الحال أخيراً متقاعداً يستعيد ذكرياته ويتأمل مشواره بهدوء ودعة. وتشاء الظروف أن يلتقي بالضباط والقادة الذين كان يقاتل في مواجهتهم، حيث يتحول أعداء الأمس وقد انتهت الحرب، إلى أصدقاء اليوم، يتبادلون الذكريات والاعترافات، وكأنما كل ذاك الدم الذي سال، كان عبثاً، أو كأنهم كانوا جزءاً من آلة تغيرت أدوارهم ورؤاهم، بمجرد تفكيكها.

الرواية تعيدني ثمانين سنة إلى الوراء، ولعالم غير الذي نعيشه اليوم، لكن بقليل من التدقيق، تشعر أن النزاعات في أعماقها لا تزال هي نفسها، والمآلات تبدو متشابهة وتستحق المقارنة والعبرة والتأمل.