الثقافة المصرية في ميزان الحرية والحقيقة

نبيل عبد الفتاح يحلل أزمنة صعودها وانحسارها

اعتصام المثقفين المصريين عام 2013 احتجاجاً على «أخونة وزارة الثقافة»
اعتصام المثقفين المصريين عام 2013 احتجاجاً على «أخونة وزارة الثقافة»
TT

الثقافة المصرية في ميزان الحرية والحقيقة

اعتصام المثقفين المصريين عام 2013 احتجاجاً على «أخونة وزارة الثقافة»
اعتصام المثقفين المصريين عام 2013 احتجاجاً على «أخونة وزارة الثقافة»

يعيد الباحث والمفكر نبيل عبد الفتاح، مساءلة الحرية في إطار متلازمة فكرية ثلاثية الأبعاد والرؤى، تتمثل في علاقتها بالثقافة كمكون أساسي لها، وشرط من شروط نضجها وتقدمها، وفي علاقتها بالحقيقة باعتبارها التجسيد الأمثل للأفكار والرؤى، ثم علاقتها بالواقع الراهن: حقيقة ما كان في الماضي، وما هو كائن بالفعل، واستشراف ما يمكن أن يكون عليه في الغد والمستقبل.
من هذا المنظور ينفتح كتابه «الحرية والحقيقة – تحديات الثقافة والمثقف المصري»، الصادر حديثاً عن دار «ميريت» بالقاهرة، على الثقافة المصرية وأزماتها، ويرى أنها تراوح ما بين فعلين؛ أحدهما ساكن ينتمي للماضي، والآخر متحرك، يحاول اللحاق بالمنجز الكوني المعرفي المتمثل في الرقمنة، والذكاء الصناعي، والإناسة الربوتية، وعالم ما بعد الحقيقة، وغيرها من منجز التكنولوجيا والإنترنت.
يقع الكتاب في 433 صفحة من القطع المتوسط، وتناثرت في صفحاته شذرات فلسفية تدور حول معنى الحقيقة وعلاقاتها بالواقع والأفكار لنيتشه، باشلار، ديكارت، هيوم، فوكو، سارتر، وإدوارد سعيد.
وعبر 6 أبواب تنطوي على مجموعة من الفصول، يعالج نبيل عبد الفتاح، موضوعه ومبحثه الأثير في ظل تغير الرؤى والسياسات الثقافية، والتحولات المتسارعة غير المألوفة، على مستوى العالم، إقليمياً ودولياً ومحلياً، التي لا تزال تشكل صدمة للعقل، سواء في سعيه للرصد والتحليل والمقاربة النقدية، أو في مغامرته للتسلح والتحصن بأطر وأفكار جديدة، تشكل حافزاً للإبداع والثقافة، على قاعدة الحرية، من دون شروط مسبقة سوى ما تجترحه وتفرضه بقوة الدفع الإنساني للوصول إلى الحقيقة.
تبدو الحالة المصرية في الكتاب بمثابة معمل اختبار لكل هذه الرؤى، حيث يشكل حاجز الحرية والعقل النقدي المستنير التحدي الأساس أمام المثقف والثقافة معاً، في محاولة لكسر «هيمنة العقل التسلطي السلفي، الأسير وراء أوهامه المتعددة».
في الباب الأول، الذي حمل عنوان «أزمات الثقافة والسياسة الثقافية الرسمية»، يستعرض الكتاب دور الثقافة في التنمية ومشروعاتها، وفي الارتقاء بالوعي السياسي للمواطنين، والنخب السياسية - المعارضة والحاكمة. ويرجع غياب هذا الدور عن الفهم والإدراك لعدة أسباب من أبرزها: غلبة الوعي البيروقراطي على تشكيل النخبة السياسية ومصادر تجنيدها، وانفصال السياسة التعليمية ومناهجها عن المكون الثقافي والتكوين الجمالي، والخلط والمزواجة بين التعاليم الدينية والوضعية، والمناهج المقررة.
كما يرصد التحولات التي طرأت على الثقافة وسياساتها في مرحلة الثورة والانتقال، وذلك في أعقاب ثورة 25 يناير (كانون الثاني) 1911، التي أطاحت بنظام مبارك بعد 30 عاماً من الحكم، وشهدت زخماً هائلاً من التوترات الأمنية والمواءمات السياسية طالت كل شرائح المجتمع، خصوصاً مع وضعية الثورة الانتقالية، والمخاطر الداخلية التي واجهتها، ووقفت عثرة في وصولها لأهدافها، وكان من أبرزها - حسب الكتاب - عدم استقرار التشكيلات الحكومية نتيجة الحالة الأمنية المضطربة، وتعدد وزراء الثقافة خلال فترة زمنية وجيزة، وعدم التصدي لبعض أشكال الفساد الوظيفي داخل هيئات الوزارة المختلفة، وهو ما انعكس بدوره على مجمل الأنشطة والفعالات الثقافية.
ينظر نبيل عبد الفتاح إلى عدم الاستقرار الذي شاب هذه الفترة من زاويتين ملتبستين ومتناقضتين؛ الأولى تكمن في المد الثوري الثقافي الذي ارتفعت وتيرته وغليانه في أعقاب «ثورة 25 يناير»، ثم مرحلة بروز التيارات الإسلامية السلفية، وصعود «الإخوان المسلمين» إلى الحكم، ويشير هنا إلى: «قيام بعض المثقفين بالاعتصام في مكتب وزير الثقافة الذي تم تعيينه من قبل جماعة (الإخوان المسلمين) وأيده السلفيون، وذلك للحيلولة دون (أخونة) العمل الثقافي، وتديينه سياسياً».
ويخلص بعين راصدة متفحصة إلى أن أداء وزراء الثقافة المتعاقبين منذ ثورة 25 يناير 2011 وما بعدها، لم تكن لغالبيتهم رؤية أو تصور للسياسة الثقافية في المرحلة الانتقالية، ومن ثم سارت «سياسة اليوم بيومٍ والإدارة اليومية للعمل البيروقراطي داخل الوزارة، دونما إنجازات حقيقية لبعضهم»... (ص 45). ويرى أن «النزعة التجريمية والسياسة العقابية المغلظة تبدو في النصوص (الدستور) التي تنظم حرية الرأي والتعبير، وحرية التدين والاعتقاد، على نحو يخالف جوهر هذه الحريات، وبما يؤدي إلى فرض قيود عليها، بعضها في العقاب، والأخرى في التطبيق القضائي، من حيث توجهات أعضاء الجماعة القضائية من ذوي الاتجاهات المحافظة».
تمتد هذه الرؤية في الكتاب إلى ما قبل هاتين المرحلتين الانتقاليتين، راصداً تحولات الثقافة المصرية مع بدايات النهضة الحديثة في عصر محمد على وأسرته، وانفتاح منجز التحديث آنذاك على الغرب الأوروبي، مع الوعي بخصوصية الحالة المصرية والالتفات إلى مكوناتها التراثية ومقوماتها الذاتية والحضارية، ثم يتابع بالرصد والتحليل ما طرأ عليها في عهود: عبد الناصر، والسادات، ومبارك، موضحاً كيف تحولت من مكون وطني دافع للنهوض بوجدان المجتمع سياسياً واجتماعياً، ليتم النظر إليها - خصوصاً في عهدي السادات ومبارك - باعتبارها ترفاً ومصدراً للفوضى والقلق، وأنه لا بد من تدجين المثقفين. ومن ثم برزت فكرة غواية المثقفين بحزمة من المنافع الشخصية الصغيرة، ليدخلوا عبرها «الحظيرة»، حظيرة السلطة - حسب تعبير وزير الثقافة الأسبق فاروق حسني آنذاك، وبذلك يسهل احتواؤهم من قبل السلطة، ويصبحون عنصراً تابعاً، بل خادماً لسياستها المتسلطة.
وهو ما أدى - حسب الكتاب - إلى تراجع صورة المثقف النقدي المستقل عن السلطات السياسية والاجتماعية والدينية والثقافية، فأصبحت صورة مشوشة «ساهم فيها كثيرون ممن أدمنوا غوايات جهاز الدولة الثقافي، رغم مناورات بعضهم بالنقد أحياناً والمجاراة أحياناً أخرى». ويلفت الكتاب إلى تفاقم هذه الصورة، بخاصة من قبل الجماعات الإسلامية السياسية والسلفية، واستخدام العنف، والسعي إلى إضعاف دور المثقف الحقيقي ومكانته، ومحاولة اغتياله، وهو ما تعرض له عدد من الرموز الثقافية، المناهضة للسلطة والإرهاب السلفي تحت عباءة الدين.
يراكم الكتاب أبعاد هذه الصورة عبر فصوله، ومن خلال الرصد والتحليل والتقصي لملامحها، وما أفرزته من ظواهر متباينة، ويسلط عليها الضوء من زوايا خاصة ووجهات نظر متعددة، أثرت في الدور والفعل الثقافي المصري، وحدت من اتساعه وتأثيره في محيطه العربي الإقليمي، خصوصاً بعد الطفرة النفطية في عدد من الدول العربية، الخليجية على وجه الخصوص، وفوائض رأس المال المتنامية، وبروز أدوار ثقافية جديدة يساندها سخاء في الجوائز الأدبية بالدول الخليجية مما جعلها محط أنظار المبدعين العرب. ولم يقتصر هذه الدور على منافسة مراكز الثقل الثقافي التاريخية، سواء في القاهرة أو بيروت أو بغداد أو دمشق، إنما أصبح يهددها بالتهميش. أضف إلى ذلك الصعود اللافت للمركز الثقافي المغاربي منذ عقد الثمانينات، وحتى العقدين الماضيين من الألفية الجديدة. وحسبما يذكر الكتاب: «حدث تحول في مراكز الإنتاج الفكري في العالم العربي، من خلال ظهور دور الجماعة الثقافية في المغرب، في مجال الفلسفة والدراسات حول العقل العربي – محمد عابد الجابري - وفي مجال القانون والدراسات السوسيولوجية، وبعض التجارب الفنية في المسرح. في تونس تطورت الدراسات الإسلامية الجديدة في المدرسة الفكرية التي أسسها عبد المجيد الشرفي وتلامذته».
ضمن هموم الواقع الثقافي، وفي خضم هذه التغير والتطور وتقنيات عالم الرقمنة يطرح المؤلف مقاربات فكرية جديدة حول المعرفة والأسئلة الكبرى التي تشكل جذورها، وذلك بحثاً عن نموذج معرفي عربي «يمكن أن نوظفه في لغتنا، ومفرداتنا وأوصافنا، ويصبح جزءاً من إنتاجنا العقلي والنظري والتطبيقي، وينمي قدرتنا على الوصف والتفسير والتحليل والتركيب»، محذراً من مخاطر غياب الثقافة في حياتنا، وأنه «وراء أي فقر سياسي غياب ثقافة لدى منتج الخطاب».
تبقى في هذه الإطلالة ملاحظات حول اعتصام المثقفين المصريين الذي كان المؤلف في القلب منه، ومع ذلك أشار إليه بشكل عابر لا يتجاوز السطرين. من هذه الملاحظات أن ذلك الاعتصام الذي استمر نحو 40 يوما وشارك فيه كبار الكتاب والمثقفين والفنانين شكل استثناء غير مسبوق في تاريخ الثقافة المصرية، كما أنه فعل حرية بالأساس، حرية الثقافة والمثقفين، التي لا تنفصل بالضرورة عن حرية الوطن، ثم إنه كان محاولة لاستعادة حقيقة مستلبة وغائبة. كما شكل ميزاناً لطبيعة المثقف المصري ودوره في العمل الجماعي الوطني، وغيرها مما ينصب في موضوع كتابنا هذا. ومع ذلك يبقى السؤال الجوهري: لماذا نجح الاعتصام في الحشد، وفشل في اختبار النوع: فبرغم هذا الزخم، لم يستطع المثقفون فرض أو اختيار وزير ثقافة من بينهم بعد الإطاحة بـ«الإخوان المسلمين»، وظل الحال كما هو عليه في وزارة الثقافة. انتهى الاعتصام وعاد المثقفون إلى طبيعتهم النخبوية العشوائية ومصالحهم الشخصية الضيقة. لذلك فإن ما قبل الاعتصام وما بعده يشكل خلاصة مهمة يمكن من خلالها استبيان وضعية وحقيقة المثقف والثقافة المصرية في لحظة شائكة ومصيرية، كان بوسع الكتاب أن يخصها بمبحث واسع، خصوصاً أنه وضع هذه الثقافة فوق ميزان الحرية والحقيقة في ضوء رؤية ومنهج سديدين.



إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
TT

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)

قال مصدران في دولتين من أعضاء اتحاد البث الأوروبي، لوكالة «رويترز»، إن إسرائيل ستتمكن من المشاركة في مسابقة «يوروفيجن» 2026، بعد أن قرر أعضاء الاتحاد، اليوم (الخميس)، عدم الدعوة إلى التصويت بشأن مشاركتها، رغم تهديدات بمقاطعة المسابقة من بعض الدول.

وذكر المصدران أن الأعضاء صوتوا بأغلبية ساحقة لدعم القواعد الجديدة التي تهدف إلى ثني الحكومات والجهات الخارجية عن الترويج بشكل غير متكافئ للأغاني للتأثير على الأصوات، بعد اتهامات بأن إسرائيل عززت مشاركتها هذا العام بشكل غير عادل.

انسحاب 4 دول

وأفادت هيئة البث الهولندية (أفروتروس)، اليوم (الخميس)، بأن هولندا ستقاطع مسابقة «يوروفيجن» 2026؛ احتجاجاً على مشاركة إسرائيل.

وذكرت وكالة «أسوشييتد برس» أن إسبانيا انسحبت من مسابقة «يوروفيجن» للأغنية لعام 2026، بعدما أدت مشاركة إسرائيل إلى حدوث اضطراب في المسابقة.

كما ذكرت شبكة «آر تي إي» الآيرلندية أن آيرلندا لن تشارك في المسابقة العام المقبل أو تبثها، بعد أن قرر أعضاء اتحاد البث الأوروبي عدم الدعوة إلى تصويت على مشاركة إسرائيل.

وقال تلفزيون سلوفينيا الرسمي «آر تي في» إن البلاد لن تشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2026، بعد أن رفض أعضاء اتحاد البث الأوروبي اليوم (الخميس) دعوة للتصويت على مشاركة إسرائيل.

وكانت سلوفينيا من بين الدول التي حذرت من أنها لن تشارك في المسابقة إذا شاركت إسرائيل، وفقاً لوكالة «رويترز».

وقالت رئيسة تلفزيون سلوفينيا الرسمي ناتاليا غورشاك: «رسالتنا هي: لن نشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) إذا شاركت إسرائيل. نيابة عن 20 ألف طفل سقطوا ضحايا في غزة».

وكانت هولندا وسلوفينيا وآيسلندا وآيرلندا وإسبانيا طالبت باستبعاد إسرائيل من المسابقة؛ بسبب الهجوم الذي تشنّه على المدنيين الفلسطينيين في غزة.

وتنفي إسرائيل استهداف المدنيين خلال هجومها، وتقول إنها تتعرض لتشويه صورتها في الخارج على نحو تعسفي.


صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب
TT

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

لم يكن الجمال بوجوهه المتغايرة مثار اهتمام الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل بدت أطيافه الملغزة رفيقة الشعراء إلى قصائدهم، والفنانين إلى لوحاتهم والموسيقيين إلى معزوفاتهم، والعشاق إلى براري صباباتهم النائية. والأدل على تعلق البشرفي عصورهم القديمة بالجمال، هو أنهم جعلوا له آلهة خاصة به، ربطوها بالشهوة تارة وبالخصب تارة أخرى، وأقاموا لها النصُب والمعابد والتماثيل، وتوزعت أسماؤها بين أفروديت وفينوس وعشتروت وعشتار وغير ذلك.

وحيث كان الجمال ولا يزال، محلّ شغف الشعراء والمبدعين واهتمامهم الدائم، فقد انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع، وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغاني. كما تلمّسته النظرات الذاهلة للواقعين في أشراكه، بأسئلة ومقاربات ظلت معلقة أبداً على حبال الحيرة والقلق وانعدام اليقين. وقد بدا ذلك القلق واضحاً لدى الشاعر الروماني أوفيد الذي لم يكد يُظهر شيئاً من الحكمة والنضج، حين دعا في ديوانه «الغزليات» الشبان الوسيمين إلى أن «يبدعوا لأنفسهم روحاً مشرقة صيانةً لجمالهم»، حتى أوقعه الجمال المغوي بنماذجه المتعددة في بلبلة لم يعرف الخروج منها، فكتب يقول: «لا يوجد جمال محدد يثير عاطفتي، هنالك آلاف الأسباب تجعلني أعيش دائماً في الحب، سواء كنت أذوب حباً في تلك الفتاة الجميلة ذات العينين الخجولتين، أو تلك الفتاة اللعوب الأنيقة التي أولعتُ بها لأنها ليست ساذجة. إحداهن تخطو بخفة وأنا أقع في الحب مع خطوتها، والأخرى قاسية ولكنها تغدو رقيقة بلمسة حب».

على أن الجمال الذي يكون صاعقاً وبالغ السطوة على نفوس العاجزين عن امتلاكه، يفقد الكثيرمن تأثيراته ومفاعيله في حالة الامتلاك. ذلك أن امتناع المتخيل عن تأليف صورة الآخر المعشوق، تحرم هذا الأخير من بريقه الخلاب المتحالف مع «العمى»، وتتركه مساوياً لصورته المرئية على أرض الواقع. وفضلاً عن أن للجمال طابعه النسبي الذي يعتمد على طبيعة الرائي وثقافته وذائقته، فإن البعض يعملون على مراوغة مفاعيله المدمرة عن طريق ما يعرف بالهجوم الوقائي، كما هو شأن الشعراء الإباحيين، وصيادي العبث والمتع العابرة، فيما يدرب آخرون أنفسهم على الإشاحة بوجوههم عنه، تجنباً لمزالقه وأهواله. وهو ما عبر عنه الشاعر الإنجليزي جورج ويذر المعاصر لشكسبير، بقوله:

«هل عليّ أن أغرق في اليأس

أو أموت بسبب جمال امرأة

لتكن أجمل من النهار ومن براعم أيار المزهرة

فما عساني أبالي بجمالها إن لم تبدُ كذلك بالنسبة لي».

وإذ يعلن روجر سكروتون في كتابه «الجمال» أن على كل جمال طبيعي أن يحمل البصمة البصرية لجماعة من الجماعات، فإن الشاعر الإنجليزي الرومانسي وردسوورث يعلن من جهته أن علينا «التطلع إلى الطبيعة ليس كما في ساعة الشباب الطائشة، بل كي نستمع ملياً للصوت الساكن الحزين للإنسانية».

والأرجح أن هذا الصوت الساكن والحزين للجمال يعثر على ضالته في الملامح «الخريفية» الصامتة للأنوثة المهددة بالتلاشي، حيث النساء المعشوقات أقرب إلى النحول المرضي منهن إلى العافية والامتلاء. وقد بدوْن في الصور النمطية التي عكستها القصائد واللوحات الرومانسية، مشيحات بوجوههن الشاحبة عن ضجيج العصر الصناعي ودخانه السام، فيما نظراتهن الزائغة تحدق باتجاه المجهول. وإذا كان بعض الشعراء والفنانين قد رأوا في الجمال الساهم والشريد ما يتصادى مع تبرمه الشديد بالقيم المادية للعصر، وأشاد بعضهم الآخر بالجمال الغافي، الذي يشبه «سكون الحسن» عند المتنبي، فقد ذهب آخرون إلى التغني بالجمال الغارب للحبيبة المحتضرة أو الميتة، بوصفه رمزاً للسعادة الآفلة ولألق الحياة المتواري. وهو ما جسده إدغار آلان بو في وصفه لحبيبته المسجاة بالقول: «لا الملائكة في الجنة ولا الشياطين أسفل البحر، بمقدورهم أن يفرقوا بين روحي وروح الجميلة أنابيل لي، والقمر لا يشع أبداً دون أن يهيئ لي أحلاماً مناسبة عن الجميلة أنابيل لي، والنجوم لا ترتفع أبداً، دون أن أشعر بالعيون المتلألئة للجميلة أنابيل لي».

لكن المفهوم الرومانسي للجمال سرعان ما أخلى مكانه لمفاهيم أكثر تعقيداً، تمكنت من إزالة الحدود الفاصلة بينه وبين القبح، ورأت في هذا الأخير نوعاً من الجمال الذي يشع من وراء السطوح الظاهرة للأشياء والكائنات. إنه القبح الذي وصفه الفيلسوف الألماني فريدريك شليغل بقوله «القبح هو الغلبة التامة لما هو مميز ومتفرد ومثير للاهتمام. إنه غلبة البحث الذي لا يكتفي، ولا يرتوي من الجديد والمثير والمدهش». وقد انعكس هذا المفهوم على نحو واضح في أعمال بودلير وكتاباته، وبخاصة مجموعته «أزهار الشر» التي رأى فيها الكثيرون المنعطف الأهم باتجاه الحداثة. فالشاعر الذي صرح في تقديمه لديوانه بأن لديه أعصابه وأبخرته، وأنه ليس ظامئاً إلا إلى «مشروب مجهول لا يحتوي على الحيوية أو الإثارة أو الموت أو العدم»، لم يكن معنياً بالجمال الذي يؤلفه الوجود بمعزل عنه، بل بالجمال الذي يتشكل في عتمة نفسه، والمتأرجح أبداً بين حدي النشوة والسأم، كما بين التوله بالعالم والزهد به.

وليس من المستغرب تبعاً لذلك أن تتساوى في عالم الشاعر الليلي أشد وجوه الحياة فتنة وأكثرها قبحاً، أو أن يعبر عن ازدرائه لمعايير الجمال الأنثوي الشائع، من خلال علاقته بجان دوفال، الغانية السوداء ذات الدمامة الفاقعة، حيث لم يكن ينتظره بصحبتها سوى الشقاء المتواصل والنزق المرَضي وآلام الروح والجسد. وليس أدل على تصور بودلير للجمال من قوله في قصيدة تحمل الاسم نفسه:

«أنا جميلة، أيها الفانون، مثل حلمٍ من الحجر

وصدري الذي أصاب الجميع بجراح عميقة

مصنوعٌ لكي يوحي للشاعر بحب أبدي وصامت كالمادة

أنا لا أبكي أبداً وأبداً لا أضحك».

وكما فعل آلان بو في رثائه لجمال أنابيل لي المسجى في عتمة القبر، استعار رامبو من شكسبير في مسرحيته «هاملت» صورة أوفيليا الميتة والطافية بجمالها البريء فوق مياه المأساة، فكتب قائلاً: «على الموج الأسود الهادئ، حيث ترقد النجوم، تعوم أوفيليا البيضاء كمثل زنبقة كبيرة. بطيئاً تعوم فوق برقعها الطويل، الصفصاف الراجف يبكي على كتفيها، وعلى جبينها الحالم الكبير ينحني القصب». وإذا كان موقف رامبو من الجمال قد بدا في بعض نصوصه حذراً وسلبياً، كما في قوله «لقد أجلست الجمال على ركبتيّ ذات مساء، فوجدت طعمه مراً» فهو يعود ليكتب في وقت لاحق «لقد انقضى هذا، وأنا أعرف اليوم كيف أحيّي الجمال».

ورغم أن فروقاً عدة تفصل بين تجربتي بودلير ورامبو من جهة، وتجربة الشاعر الألماني ريلكه من جهة أخرى، فإن صاحب «مراثي دوينو» يذهب بدوره إلى عدّ الجمال نوعاً من السلطة التي يصعب الإفلات من قبضتها القاهرة، بما دفعه إلى استهلال مراثيه بالقول:

«حتى لو ضمني أحدهم فجأة إلى قلبه

فإني أموت من وجوده الأقوى

لأن الجمال بمثابة لا شيء سوى بداية الرعب

وكلُّ ملاكٍ مرعب».

انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغانيrnولا يزال الشغف به مشتعلاً

وفي قصيدته «كلمات تصلح شاهدة قبر للسيدة الجميلة ب»، يربط ريلكه بين الجمال والموت، مؤثراً التماهي من خلال ضمير المتكلم، مع المرأة الراحلة التي لم يحل جمالها الباهر دون وقوعها في براثن العدم، فيكتب على لسانها قائلاً: «كم كنتُ جميلة، وما أراه سيدي يجعلني أفكر بجمالي. هذه السماء وملائكتك، كانتا أنا نفسي».

أما لويس أراغون، أخيراً، فيذهب بعيداً في التأويل، حيث في اللحظة الأكثر مأساوية من التاريخ يتحول الجمال مقروناً بالحب، إلى خشبة أخيرة للنجاة من هلاك البشر الحتمي. وإذا كان صاحب «مجنون إلسا» قد جعل من سقوط غرناطة في قبضة الإسبان، اللحظة النموذجية للتماهي مع المجنون، والتبشير بفتاته التي سيتأخر ظهورها المحسوس أربعة عقود كاملة، فلأنه رأى في جمال امرأته المعشوقة، مستقبل الكوكب برمته، والمكافأة المناسبة التي يستحقها العالم، الغارق في يأسه وعنفه الجحيمي. ولذلك فهو يهتف بإلسا من أعماق تلهفه الحائر:

« يا من لا شبيه لها ويا دائمة التحول

كلُّ تشبيه موسوم بالفقر إذا رغب أن يصف قرارك

وإذا كان حراماً وصفُ الجمال الحي

فأين نجد مرآة مناسبة لجمال النسيان».


فخار مليحة

فخار مليحة
TT

فخار مليحة

فخار مليحة

تقع منطقة مليحة في إمارة الشارقة، على بعد 50 كيلومتراً شرق العاصمة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة. بدأ استكشاف هذا الموقع في أوائل السبعينات من القرن الماضي، في إشراف بعثة عراقية، وتوسّع في السنوات اللاحقة، حيث تولت إدارة الآثار في الشارقة بمشاركة بعثة أثرية فرنسية مهمة إجراء أعمال المسح والتنقيب في هذا الحقل الواسع، وكشفت هذه الحملات عن مدينة تضم أبنية إدارية وحارات سكنية ومدافن تذكارية. دخلت بعثة بلجيكية تابعة لمؤسسة «المتاحف الملكية للفن والتاريخ» هذا الميدان في عام 2009، وسعت إلى تحديد أدوار الاستيطان المبكرة في هذه المدينة التي ازدهرت خلال فترة طويلة تمتدّ من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الرابع للميلاد، وشكّلت مركزاً تجارياً وسيطاً ربط بين أقطار البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي ووادي الرافدين.

خرجت من هذا الموقع مجموعات متعدّدة من اللقى تشهد لهذه التعدّدية الثقافية المثيرة، منها مجموعة من القطع الفخارية صيغت بأساليب مختلفة، فمنها أوانٍ دخلت من العالم اليوناني، ومنها أوانٍ من جنوب بلاد ما بين النهرين، ومنها أوانٍ من حواضر تنتمي إلى العالم الإيراني القديم، غير أن العدد الأكبر من هذه القطع يبدو من النتاج المحلّي، ويتبنّى طرازاً أطلق أهل الاختصاص عليه اسم «فخار مليحة». يتمثّل هذا الفخار المحلّي بقطع متعدّدة الأشكال، منها جرار متوسطة الحجم، وجرار صغيرة، وصحون وأكواب متعدّدة الأشكال، وصل جزء كبير منها على شكل قطع مكسورة، أُعيد جمع بعض منها بشكل علمي رصين. تعود هذه الأواني المتعدّدة الوظائف إلى الطور الأخير من تاريخ مليحة، الذي امتدّ من مطلع القرن الثاني إلى منتصف القرن الثالث للميلاد، وتتميّز بزينة بسيطة ومتقشّفة، قوامها بضعة حزوز ناتئة، وشبكات من الزخارف المطلية بلون أحمر قانٍ يميل إلى السواد. تبدو هذه الزينة مألوفة، وتشكّل من حيث الصناعة والأسلوب المتبع امتداداً لتقليد عابر للأقاليم والحواضر، ازدهر في نواحٍ عدة من الجزيرة العربية منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد.

تختزل هذا الطراز جرة جنائزية مخروطية ذات عنق مدبب، يبلغ طولها 30.8 سنتيمتر، وقطرها 22 سنتيمتراً. عنق هذه الجرة مزين بأربع دوائر ناتئة تنعقد حول فوهتها، تقابلها شبكة من الخطوط الأفقية الغائرة تلتف حول وسطها، وبين هذه الدوائر الناتئة وهذه الخطوط الغائرة، تحلّ الزينة المطلية باللون الأحمر القاتم، وقوامها شبكة من المثلثات المعكوسة، تزين كلاً منها سلسلة من الخطوط الأفقية المتوازية. تشهد هذه الجرة لأسلوب متبع في التزيين يتباين في الدقّة والإتقان، تتغيّر زخارفه وتتحوّل بشكل مستمرّ.

تظهر هذه التحوّلات الزخرفية في قطعتين تتشابهان من حيث التكوين، وهما جرتان مخروطيتان من الحجم الصغير، طول أكبرهما حجماً 9.8 سنتيمتر، وقطرها 8.5 سنتيمتر. تتمثّل زينة هذه الشبكة بثلاث شبكات مطليّة، أولاها شبكة من الخطوط الدائرية الأفقية تلتف حول القسم الأسفل من عنقها، وتشكّل قاعدة له، ثمّ شبكة من المثلثات المعكوسة تنعقد حول الجزء الأعلى من حوض هذا الإناء، وتتميّز بالدقة في الصوغ والتخطيط. تنعقد الشبكة الثالثة حول وسط الجرّة، وهي أكبر هذه الشبكات من حيث الحجم، وتتكوّن من كتل هرمية تعلو كلاً منها أربعة خطوط أفقية متوازية. في المقابل، يبلغ طول الجرة المشابهة 9 سنتيمترات، وقطرها 7.5 سنتيمتر، وتُزيّن وسطها شبكة عريضة تتكون من أنجم متوازية ومتداخلة، تعلو أطراف كلّ منها سلسلة من الخطوط الأفقية، صيغت بشكل هرمي. تكتمل هذه الزينة مع شبكة أخرى تلتفّ حول القسم الأعلى من الجرة، وتشكّل عقداً يتدلى من حول عنقها. ويتكوّن هذا العقد من سلسلة من الخطوط العمودية المتجانسة، مرصوفة على شكل أسنان المشط.

تأخذ هذه الزينة المطلية طابعاً متطوّراً في بعض القطع، أبرزها جرة من مكتشفات البعثة البلجيكية في عام 2009، وهي من الحجم المتوسط، وتعلوها عروتان عريضتان تحيطان بعنقها. تزين هذا العنق شبكة عريضة من الزخارف، تتشكل من مثلثات متراصة، تكسوها خطوط أفقية متوازية. يحد أعلى هذه الشبكة شريط يتكوّن من سلسلة من المثلثات المجردة، ويحدّ أسفلها شريط يتكوّن من سلسلة من الدوائر اللولبية. تمتد هذه الزينة إلى العروتين، وقوامها شبكة من الخطوط الأفقية المتوازية.

من جانب آخر، تبدو بعض قطع «فخار مليحة» متقشّفة للغاية، ويغلب عليها طابع يفتقر إلى الدقّة والرهافة في التزيين. ومن هذه القطع على سبيل المثال، قارورة كبيرة الحجم، صيغت على شكل مطرة عدسية الشكل، تعلوها عروتان دائريتان واسعتان. يبلغ طول هذه المطرة 33.5 سنتيمتر، وعرضها 28 سنتيمتراً، وتزيّن القسم الأعلى منها شبكة من الخطوط المتقاطعة في الوسط على شكل حرف «إكس»، تقابلها دائرة تستقر في وسط الجزء الأسفل، تحوي كذلك خطين متقاطعين على شكل صليب.

يُمثل «فخار مليحة» طرازاً من أطرزة متعددة تتجلّى أساليبها المختلفة في مجموعات متنوّعة من اللقى، عمد أهل الاختصاص إلى تصنيفها وتحليلها خلال السنوات الأخيرة. تتشابه هذه اللقى من حيث التكوين في الظاهر، وتختلف اختلافاً كبيراً من حيث الصوغ. يشهد هذا الاختلاف لحضور أطرزة مختلفة حضرت في حقب زمنية واحدة، ويحتاج كل طراز من هذه الأطرزة إلى وقفة مستقلّة، تكشف عن خصائصه الأسلوبية ومصادر تكوينها.