ثمة شبه إجماع لدى المراقبين على أن موافقة الحكومة الأردنية على منح ترخيص جديد لطرف من «جماعة الإخوان المسلمين» عززت حالة الانقسام والانشقاق والتفكك، وأدخلت الجماعة في أزمة على الشرعية والزعامة، هي الأخطر منذ تأسيسها عام 1945، خاصة أنها مرخّصة من رئاسة الوزراء الأردنية مرتين: الأولى كانت وفق القانون المستمد من التشريعات العثمانية على اعتبار أنها «جمعية إسلامية» عام 1946، في زمن مراقبها العام الأول عبد اللطيف أبو قورة.
والثانية عام 1954م في عهد المراقب العام الثاني محمد عبد الرحمن خليفة، وجاءت صفة الترخيص على أساس أنها «جماعة إسلامية شاملة متعددة الأغراض».
وتفاقمت الأزمة الأخيرة داخل صفوف جماعة الإخوان المسلمين في الأردن مع حصول المراقب العام الأسبق، عبد المجيد الذنيبات (1994 - 2006) على ترخيص جديد لها بذريعة واهية هي تصويب الوضع القانوني للجماعة. ولكن الأسباب الحقيقية الكامنة تتعداها، وهي أعمق مما هي عليه، لم تصرح بها قيادة الجماعة الجديدة، وجاءت نتيجة طبيعة للسجال والجدال العنيف الذي نشأ داخل «الجماعة الأم» حول طبيعة النظر والعمل في منهجها، أسفر عنه نشوء تيارين رئيسيين: الأول، بقي ملتزمًا بالخط الذي رسمه المؤسس حسن البنا، والثاني، راديكالي تبنى أطروحات سيّد قطب. ولقد تأثر الإخوان المسلمون في الأردن بهذا السجال وظهرت عمليات فرز واستقطاب داخل الجماعة في الأردن على الرغم من الخصوصية النسبية التي تمتعت بها التجربة الأردنية، وبرز هذان التياران تحت اسمي «الحمائم» و«الصقور».
أزمة «إخوان» الأردن، التي جاءت على مستويين، أحدهما بين الجماعة والنظام السياسي، والثاني داخلي بين تياري «الحمائم» و«الصقور»، ترجع إلى جملة من الأسباب، نلخصها فيما يلي:
أولاً، منطق العمل الوطني يعتبر محور الإشكالية في علاقة جماعة الإخوان المسلمين بالسلطة، إذ شكلت القضايا المحلية، كالديمقراطية والشورى، والتعددية والحزبية، والحريات وقضايا المرأة، بالإضافة إلى الانتخابات والمشاركة السياسية، مجالاً واسعًا للسجال والجدال داخل جماعة الإخوان المسلمين. وهو ما أفرز آراء متعددة ووجهات نظر مختلفة حول مجمل القضايا أثارت مزيدًا من الشك والريبة من قبل السلطة حول الموقف الحقيقي للجماعة، ومدى جديتها وصدقها ومساهمتها في عمليات التطور السياسي والتنمية من أجل بناء أردن قوي يتمتع بالاستقرار والازدهار. ولقد أبدت جماعة الإخوان المسلمين وواجهتها السياسية، حزب جبهة العمل الإسلامي، قدرًا كبيرًا من المرونة، واتسم تعاملها وتعاطيها على مجمل القضايا الوطنية بالبراغماتية في فترات سابقة.
ثانيًا، الخلافات حول العمل الوطني الدولي. الجماعة أظهرت نزعة متشددة ومتصلبة بخصوص النظام العالمي وعملية السلام، وقضية فلسطين، باعتبارها قضايا تمسّ جوهر العقيدة الإسلامية ولا يمكن التفاوض والتحاور بشأنها، بينما تمتاز السلطة في الأردن بالانفتاح والمرونة السياسية والواقعية في التعامل مع مجمل القضايا الدولية والتحديات العالمية. هذه القضايا شكلت محوّر النزاع والخلاف مع السلطة في ضوء «واقعية» السلوك السياسي للسلطة في الأردن و«عقائدية» حكم سلوك جماعة الإخوان المسلمين والجبهة.
ثالثًا، شكل الخلاف على الزعامة والمصالح داخل الجماعة أحد أهم المحرّكات. إذ يدّعي تيار «الحمائم» أن القيادة الحالية مارست عمليات تزوير للانتخابات الداخلية التي قادت إلى الإقصاء والتهميش وإضعاف فاعلية المطالبات الإصلاحية الداخلية التي نادوا بها، وعلى رأسها «مبادرة زمزم». وفي المقابل، ترد القيادة متهمة «الحمائم» برفض الاعتراف بنتيجة الانتخابات الداخلية بعد خسارتهم الكبيرة فيها.
رابعًا، اتهام تيار «الحمائم» تيار «الصقور»، الذي سيطر على مفاصل الجماعة الدعوية والتنظيمية والسياسية والإعلامية والمؤسساتية بأنه يُدار من الخارج، وبأن لديه تنظيمًا سريًا يحمل أجندات غير وطنية، وأن أولوياته تنصبّ على الاهتمام بحركة حماس والقضايا الإسلامية الإقليمية والعالمية على حساب القضايا الوطنية.
وفي المقابل، يرد «الصقور» متهمين منافسيهم بأنهم يسعون لتفكيك الجماعة وبتوجيه من أطراف أخرى.
خامسًا، تبادل الاتهامات والتخوين بين طرفي النزاع داخل الجماعة، ولقد برز عقب الخسارة الفادحة التي مني بها تيار «الحمائم» وغيابهم عن صنع القرار. ومن ثم ظهر الاتهام بوجود تنظيم سرّي للجماعة يدير الجماعة، وهو صاحب القرار لا مكتبا الشورى والتنفيذي. وكذلك الاتهام بأن الجماعة تدار من الخارج من قبل الجماعة الأم في مصر، ممثلة بمكتب الإرشاد والتنظيم الدولي.
لقد تولّدت قناعة تامة لدى صانع القرار الأردني بأن سياسات الهيمنة التي تمارسها جماعة الإخوان المسلمين على مؤسسات المجتمع المدني الأردني، ما هي إلا استراتيجيات للانتقال من الهيمنة على المجتمع المدني إلى السيطرة على المجتمع السياسي، عن طريق حرب المواقع. ومن هنا ارتأى النظر إلى مؤسسات الجماعة باعتبارها إحدى الأدوات والآليات التي تمارسها الجماعة وتستثمرها سياسيًا، وليست مجرد مؤسسات خيرية محضة. ولذلك فإن هذه المؤسسات هي أحد محاور الإشكالية في العلاقة مع السلطة، في حال استمرت في الانتشار والتوسع في المستقبل، خاصة أنها أصبحت بالفعل تشكل «دولة» مؤسساتية بكل ما تحمله الكلمة من معنى موازية للدولة الرسمية. وهذا الحال ساهم في زيادة نفوذها المنافس لاقتسام السلطة والثروة إلى حد كبير، من خلال المطالبة بتوزيع المكاسب والنفوذ، وربما اتبعت الجماعة الأم وفروعها المنتشرة في العالم العربي ذات الاستراتيجية والمقاربة في محاولة أسلمة المجتمعات في بقية الدول، ما يجعلها «دولة داخل الدولة».
لذلك كله، عمدت الدولة الأردنية وأجهزتها المختلفة عبر استراتيجية طويلة الأمد إلى إضعاف نفوذ الجماعة والسيطرة على مؤسساتها الدعوية والخيرية والاقتصادية. وقامت بعدة خطوات وإجراءات من شأنها إضعاف نشاطاتها وفعاليتها في الأردن، ضمن مقاربة ناعمة استغرقت ما يزيد عن 20 سنة. فعلى الصعيد القانوني والسياسي: غيّرت الحكومة في بداية التسعينات قانون الانتخاب ليعتمد قانون الصوت الواحد للسيطرة على حجم مشاركة الجماعة داخل مجلس النواب.
وعلى الصعيد الدعوي، أصدرت الحكومة قانون الوعظ والإرشاد، الذي يمنع وصول الخطباء والدعاة الإخوانيين إلى المنابر، واستخدامها في الدعايات الانتخابية وسيطرت وزارة الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية على جميع مساجد المملكة.
وعلى الصعيد المالي، وضعت الحكومة يدها على إدارة «جمعية المركز الإسلامي»، وابتدأت هذه العملية خلال عام 1992، واستمرت حتى سيطرت الحكومة على إدارة جمعية المركز الإسلامي الخيرية عام 2006م، واستخدمت ذريعة وجود فساد مالي وإداري، ولكن لم يتم تحويل ملف القضية إلى القضاء، لعدم توفر الأدلة.
وقد يكون القرار الحكومي بالموافقة على منح تيار «الحمائم» ترخيصًا جديدًا لـ«جماعة الإخوان المسلمين»، يصب في تلك الإجراءات الحكومية (ولعله يكون آخرها) في محاولة لإنهاء فاعلية الجماعة في المشهد السياسي، ووضعها أمام خيارات صعبة لقبول دمج هذا التيار ضمن القيادة والتأثير في صنع القرار مستقبلاً، أو عودة الجماعة للعمل التنظيمي السري المحظور.
عاصفة داخلية تهدد كيان جماعة «إخوان» الأردن
وسط صراع «الصقور» و«الحمائم»
عاصفة داخلية تهدد كيان جماعة «إخوان» الأردن
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة