بلدان الساحل ساحة صراع بين النفوذ الفرنسي التقليدي والقوى الجديدة المنافسة

ماكرون يلغي زيارته لمالي... والملفات الخلافية بين باريس وباماكو تتراكم

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يتوسط عدداً من قادة دول الساحل في قمة سابقة (أرشيفية)
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يتوسط عدداً من قادة دول الساحل في قمة سابقة (أرشيفية)
TT

بلدان الساحل ساحة صراع بين النفوذ الفرنسي التقليدي والقوى الجديدة المنافسة

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يتوسط عدداً من قادة دول الساحل في قمة سابقة (أرشيفية)
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يتوسط عدداً من قادة دول الساحل في قمة سابقة (أرشيفية)

رسمياً، ألغى الرئيس الفرنسي زيارته إلى باماكو عاصمة مالي لأسباب مرتبطة بتفشي وباء «كوفيد 19»، ومتحوره الأخير «أوميكرون» الذي يضرب بقوة في فرنسا، كما في كثير من البلدان الأوروبية. فقد كان مقرراً أن يمضي إيمانويل ماكرون بعض الوقت مع قوة «برخان» المرابطة في مالي، كما في دول أخرى من منطقة الساحل، إضافة إلى اجتماع كان مقرراً مع الرئيس المؤوت لمالي الكولونيل أسيمي غويتا، الذي يعد الرجل القوي في باماكو بعد انقلابين قادهما في صيف العام 2020 وربيع العام التالي. وتفيد معلومات متوافرة في باريس أن ماكرون كان يرغب في أن ينضم إلى اجتماعه مع الكولونيل أسيمي غويتا رئيس المجموعة الاقتصادية لغرب أفريقيا، ورئيس تشاد محمد إدريس ديبي رئيس مجموعة الدول المشكَّلة منها القوة الأفريقية المشتركة، وهو ما رفضه الرئيس المالي، ما رجح قرار باريس إلغاء رحلة ماكرون.
كان مقدراً للاجتماع أن يناقش موضوعات بالغة الأهمية للطرفين، أولها طبيعة مستقبل الانتشار العسكري الفرنسي، ودور «برخان» التي سيتغير اسمها في الأسابيع المقبلة، بعد أن أعلن ماكرون، في يونيو (حزيران) الماضي، انتهاء مهمتها، وتركيزها المستقبلي على مساعدة القوات المالية في حربها على المنظمات الإرهابية، وأبرزها اثنتان، إحداهما مرتبطة بـ«القاعدة»، والأخرى بـ«داعش». وحتى اليوم، أنجزت القوة الفرنسية الانسحاب من 3 قواعد في شمال مالي، وسلمتها إما للقوة الدولية التي تعمل في إطار الأمم المتحدة، أو للقوات المالية. وبعد الانسحاب، يتركز حضور القوة الفرنسية في قاعدتي «غاو» و«ميناكا». والأخيرة قريبة من حدود النيجر، وهي تضم قيادة قوة «تاكوبا» المشكلة من مجموعات كوماندوز أوروبي، لمواكبة العمليات العسكرية للجيش المالي، والمساهمة في تدريبه. ومن الناحية العسكرية، تريد باريس التركيز على العمليات في المنطقة المسماة «الحدود المثلثة» (مالي، النيجر، بوركينا فاسو) حيث تنشط المنظمات الإرهابية. وأحد أهداف باريس منع «نزولها» باتجاه جنوب أو غرب الساحل.
وتريد باريس خفض عدد قواتها من 5200 رجل، إلى ما بين 2500 و3000 رجل، نهاية 2022 أو بعد ذلك بقليل.
وليس سراً أن ثمة حملات إعلامية وسياسية معادية لفرنسا جارية في مالي، وأيضاً في النيجر وبوركينا فاسو. وتعتبر باريس أن جهات أجنبية «روسية وتركية» لها ضلع في تأجيجها. لذا، لم يكن مقدراً أن تتم زيارة ماكرون في أفضل الأجواء، خصوصاً أن ملفات خلافية أساسية يتواجه فيها الطرفان. ويأتي ملف رغبة سلطات باماكو، المنبثقة من ثاني انقلاب عسكري، في الاستعانة بمجموعة فاغنر الروسية، على رأس الخلافات. ومنذ أن بدأت الأخبار تنتشر بشأن اقتراب الطرفين، باماكو، و«فاغنر»، من توقع اتفاق، فإن باريس راحت ترفع سيف التهديد، وتؤكد أن وصول ميليشيات «فاغنر» يعني خروج القوة الفرنسية، الذي سيجر وراءه انسحاب الأوروبيين. وحتى اليوم، تنفي سلطات باماكو وجود أي اتفاق. إلا أن معلومات تتحدث عن وصول أفراد من التنظيم الروسي إلى العاصمة المالية، ويجري الحديث عن توافق على استقدام ألف فرد من هذه الميليشيا، مقابل 10 ملايين دولار شهرياً. وما زال هذا الملف المتفجر يمنع الطرفين من التقارب مجدداً حيث يتناقض طرحان؛ الأول من الجانب المالي، ويقول بحاجة السلطات لـ«سد الفراغ» المتأتي عن انسحاب القوة الفرنسية. والثاني، من الجانب الفرنسي، حيث تؤكد باريس أن ما تقوم به ليس عملية انسحاب، بل إعادة انتشار، وأنها باقية.
وتشكل وعود السلطات المالية بإجراء انتخابات عامة في فبراير (شباط) من العام المقبل ملفاً خلافياً آخر، إذ إن باماكو تميل إلى تأجيل الانتخابات التي ينتظر منها إعادة السلطة إلى حكومة مدنية تنبثق عن الانتخابات المرتقبة. وتمارس باريس - التي لم تتقبل حصول انقلابين عسكريين متعاقبين، خصوصاً الثاني، حيث نظر إليه على أنه «انقلاب على الانقلاب»، إذ أطاح الحكومة التي شكلتها مجموعة الضباط الانقلابيين - ضغوطاً على باماكو لاحترام وعدها الأول بإجراء الانتخابات، نهاية فبراير المقبل. كذلك، فإن المجموعة الأفريقية حذرت السلطات أنه في حال انعدام أي تقدم بشأن الانتخابات مع نهاية الشهر الحالي، فإنها ستعمد إلى فرض عقوبات إضافية مالية واقتصادية على 150 شخصية، وسيتم تجميد موجوداتها المالية، وتمنع من السفر إلى بلدان المجموعة، بدءاً من الأول من العام المقبل.
وثمة ملف خلافي آخر بين العاصمتين، عنوانه رغبة السلطات المالية في فتح باب الحوار مع تنظيمات، تعتبرها باريس إرهابية، وترفض أن تخوض السلطات المحلية حوارات معها، بينما قواتها تحاربها في الميدان. وفي حين تقول الحكومة المالية إن «من واجبها فتح حوار»، وإن ذلك مطلب شعبي، فإن باريس ترفض أي حوار مع غير المجموعات الموقعة على اتفاق الجزائر للعام 2015، أي مع مجموعات من الطوارق وأخرى سياسية معارضة أو ذات توجهات لإدارة ذاتية. وبين الطرفين جدل حول استمرار التدهور الأمني وتبادل اتهامات، فالطرف الفرنسي يتهم باماكو بعدم الاستفادة من جهوده العسكرية لإعادة الخدمات للسكان وإعادة نشر الدوائر الحكومية والاستجابة لحاجات المواطنين، ما من شأنه أن يوفر تربة خصبة للمجموعات المعارضة. وفي المقابل، فإن الطرف المالي ينتقد جهود باريس و«برخان» العسكرية التي فشلت في تحسين الوضع الأمني.
واضح أن بين الطرفين هوة واسعة، وأن غياب الحوار المباشر على أعلى المستويات لا يسهل رأب الصدع. من هذا المنطلق، يمكن النظر إلى ضياع فرصة زيارة ماكرون، وما كان يمكن أن تحمله من «توضيح» المواقف. لكن ثمة من لا يتحسر على هذه الفرصة التي كان يرى فيها تأهيلاً لضابط متمرد ولنظام عسكري. وبين هذا الموقف أو ذاك، يبقى الوضع في مالي ومنطقة الساحل بشكل عام ساحة للصراع بين فرنسا ومعها أوروبا، مع قوى وافدة، سواء أكانت روسيا أو تركيا أو الصين. وفيما فرنسا تتخبط في مالي، تجهد هذه الأطراف الثلاثة على تعزيز حضورها على حساب المصالح الفرنسية.



الشراكة مع فرنسا تثير جدلاً واسعاً في نيجيريا

الرئيس الفرنسي ماكرون مستقبلاً مع عقيلته نظيره النيجيري تينوبو وعقيلته في باحة قصر الإليزيه 28 نوفمبر (إ.ب.أ)
الرئيس الفرنسي ماكرون مستقبلاً مع عقيلته نظيره النيجيري تينوبو وعقيلته في باحة قصر الإليزيه 28 نوفمبر (إ.ب.أ)
TT

الشراكة مع فرنسا تثير جدلاً واسعاً في نيجيريا

الرئيس الفرنسي ماكرون مستقبلاً مع عقيلته نظيره النيجيري تينوبو وعقيلته في باحة قصر الإليزيه 28 نوفمبر (إ.ب.أ)
الرئيس الفرنسي ماكرون مستقبلاً مع عقيلته نظيره النيجيري تينوبو وعقيلته في باحة قصر الإليزيه 28 نوفمبر (إ.ب.أ)

في وقت تسحب فرنسا قواتها من مراكز نفوذها التقليدي في الساحل وغرب أفريقيا، وتبحث عن شركاء «غير تقليديين»، يحتدمُ الجدل في نيجيريا حول السماح للفرنسيين بتشييد قاعدة عسكرية في البلد الأفريقي الغني بالنفط والغاز، ويعاني منذ سنوات من تصاعد وتيرة الإرهاب والجريمة المنظمة.

يأتي هذا الجدل في أعقاب زيارة الرئيس النيجيري بولا تينوبو نهاية نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي إلى فرنسا، والتي وصفت بأنها «تاريخية»، لكونها أول زيارة يقوم بها رئيس نيجيري إلى فرنسا منذ ربع قرن، ولكن أيضاً لأنها أسست لما سمّاه البلدان «شراكة استراتيجية» جديدة.

وتمثلت الشراكة في اتفاقيات تعاون هيمنت عليها ملفات الطاقة والاستثمار والمعادن، ولكنّ صحفاً محلية في نيجيريا تحدّثت عن اتفاقية تسمحُ للفرنسيين بإقامة قاعدة عسكرية داخل أراضي نيجيريا، وذلك بالتزامن مع انسحاب القوات الفرنسية من دول الساحل، خصوصاً تشاد والنيجر، البلدين المجاورين لنيجيريا.

لا قواعد أجنبية

ومع تصاعد وتيرة الجدل، تدخل الجيش النيجيري ليؤكد أن ما يجري تداوله بخصوص «قاعدة عسكرية» أجنبية فوق أراضي نيجيريا مجرد «شائعات»، نافياً وجود خطط للسماح لأي قوة أجنبية بإقامة قاعدة عسكرية في نيجيريا.

وتولّى قائد الجيش النيجيري، الجنرال كريستوفر موسى، بنفسه مهمة الرد، فأوضح أن «زيارة الرئيس بولا تينوبو الأخيرة إلى فرنسا، وُقِّعت خلالها عدد من الاتفاقيات الثنائية، لم تشمل السماح بإنشاء قواعد عسكرية أجنبية في نيجيريا».

وكان قائد الجيش يتحدّث خلال حفل عسكري بمقر وزارة الدفاع في العاصمة أبوجا، بمناسبة تغيير شعار القوات المسلحة النيجيرية، وقال إنه يوّد استغلال الفرصة لتوضيح ما جرى تداوله حول «قاعدة عسكرية أجنبية» في نيجيريا. وقال: «لقد أوضح الرئيس بشكل لا لبس فيه أن ما تم توقيعه هو اتفاقيات ثنائية تتعلق بالتجارة، والثقافة، والتقاليد، والتعاون، والاقتصاد، ولا وجود لأي شيء يتعلق بقاعدة عسكرية أجنبية».

وأوضح الجنرال موسى أن الرئيس تينوبو «يدرك تماماً عواقب مثل هذا القرار، ويعلم أن من واجبه حماية نيجيريا، ومن ثم، لن يسمح مطلقاً لأي قوة أجنبية بدخول نيجيريا»، ولكن قائد الجيش أكد: «سنستمر في التعاون بشكل ثنائي من خلال التدريب المشترك وإرسال ضباطنا كما هو معتاد، ولكن إنشاء قاعدة عسكرية أجنبية في نيجيريا ليس ضمن خطط الرئيس».

كراهية فرنسا

ورغم تصريحات قائد الجيش، فإن الجدل لم يتوقف؛ حيث عَبَّر «تحالف جماعات الشمال»، وهو هيئة سياسية ناشطة في نيجيريا، عن إدانته قرار السماح للعسكريين الفرنسيين بدخول أراضي نيجيريا، بل ذهب إلى أبعد من ذلك، حين انتقد بشكل لاذع عقد شراكة مع فرنسا.

وقال التحالف: «إن القرار يتعلق باتفاقية ثنائية جرى توقيعها بين نيجيريا وفرنسا تمنح الأخيرة وصولاً غير مقيد إلى الموارد المعدنية في نيجيريا»، وذلك في إشارة إلى اتفاقية وقعها البلدان للتعاون في مجال المعادن النادرة.

المنسق الوطني لتحالف جماعات الشمال، جميل علي تشارانشي، اتهم الرئيس تينوبو بالسعي نحو «تسليم سيادة نيجيريا إلى فرنسا، والتغطية على ذلك بمبررات مضللة»، ثم وصف ما يقوم به تينوبو بأنه «مناورة دبلوماسية مكشوفة».

الناشط السياسي كان يتحدث بلغة حادة تجاه فرنسا؛ حيث وصفها بأنها «دولة عدوانية؛ تدعم وتمول تفكيك المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)»، قبل أن يحملها مسؤولية «جو الحرب الذي تعيشه منطقة غرب أفريقيا».

وخلُص الناشط السياسي إلى أنه مصدوم من «إمكانية أن تخضع نيجيريا، بتاريخها الفخور بالدفاع عن السيادة الأفريقية، لتأثير أجنبي، نحن نرفض ذلك، وسنعارضه بشدة»، على حد قوله.

شراكة مفيدة

الرئيس النيجيري بولا تينوبو لدى حضوره حفل تنصيب رئيس تشاد في ندامينا 23 مايو (رويترز)

في المقابل، ارتفعت أصوات في نيجيريا تدافع عن تعزيز التعاون والشراكة مع فرنسا، وعدّت الحديث عن «قاعدة عسكرية» محاولة للتشويش على الطموحات الاقتصادية للبلدين.

في هذا السياق، قال المحلل السياسي النيجيري، نيكسون أوكوارا: «إن العالم يتّجه بسرعة نحو نظام متعدد الأقطاب، وإعادة صياغة التحالفات التقليدية، وهذا الواقع الجديد يتطلب من نيجيريا الاصطفاف مع شركاء يقدمون فوائد استراتيجية دون التنازل عن سيادتها».

وأضاف المحلل السياسي أن «فرنسا، رغم تاريخها غير الجيد في أفريقيا، فإنها تمنح لنيجيريا فرصة إعادة التفاوض على العلاقات من موقع قوة؛ حيث تواجه فرنسا معضلة تراجع نفوذها بشكل مطرد في الساحل وغرب أفريقيا».

وشدّد المحلل السياسي على أن نيجيريا يمكنها أن تربح «مزايا اقتصادية كبيرة» من الشراكة مع فرنسا، كما أكّد أنّه «مع تصاعد التحديات الأمنية في منطقة الساحل، يمكن للخبرات والموارد العسكرية الفرنسية أن تكمل جهود نيجيريا لتحقيق الاستقرار في المنطقة».

تعاون عسكري

التعاون العسكري بين فرنسا ونيجيريا عرف صعوداً مهماً عام 2016، حين وقع البلدان اتفاقية للتعاون العسكري والأمني، خصوصاً في مجالات الاستخبارات، والتدريب والإعداد العملياتي.

في الفترة الأخيرة، بدأ الحديث عن رغبة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في تعزيز هذا التعاون، وهو الذي عمل لستة أشهر في السفارة الفرنسية في أبوجا، حين كان طالباً في المدرسة الوطنية للإدارة. وبوصفها خطوة لتطوير التعاون العسكري بين البلدين، أعلن الجنرال حسن أبو بكر، قائد القوات الجوية النيجيرية، الأسبوع الماضي، أن بلاده تستعد للاستحواذ على 12 طائرة من طراز «ألفاجيت» مستعملة من القوات الجوية الفرنسية، ستتم إعادة تشغيل 6 منها، في حين ستُستخدم الـ6 أخرى مصدراً لقطع الغيار.

ورغم أنه لم تعلن تفاصيل هذه الصفقة، فإن نيجيريا أصبحت خلال السنوات الأخيرة «زبوناً» مهماً للصناعات العسكرية الأوروبية، وسوقاً تتنافس عليها القوى المصنعة للأسلحة، خصوصاً سلاح الجو الذي تراهن عليه نيجيريا لمواجهة خطر الإرهاب في غابات حوض بحيرة تشاد، أقصى شمال شرقي البلاد.