بيتر سينجر «أخطر فيلسوف في العالم»

استفزازي ترافقه الاحتجاجات أينما ذهب

بيتر سينجر
بيتر سينجر
TT

بيتر سينجر «أخطر فيلسوف في العالم»

بيتر سينجر
بيتر سينجر

لقد مر وقت طويل منذ كان على الفلاسفة أن يخافوا من مصير سقراط، الذي أعدم في أثينا القديمة بتهمة الإلحاد وإفساد عقول الشباب. فمعظم الفلاسفة الأحياء في أيّامنا هذه لا يعبئون كثيراً بأفكار العامّة، وينعزلون في أبراج عاجيّة بالجامعات والأكاديميّات، يقضون وقتهم بالقراءة وإلقاء المحاضرات الدراسيّة، ويكتفون عند شعورهم بالملل بإثارة الصخب حول مفاهيم نظريّة ولغويّة معقدّة مع زملائهم وحلقة تلاميذهم الضيقة، ويتجنبون على كل حال إزعاج السلطات الدنيوية أو الدينيّة، أو الاقتراب من مقدّسات الكتل الشعبيّة، وهم يتمتعون برواتب جيّدة، وميّزات لا بأس بها، وتقاعد محترم. ومع ذلك، فمن النّادر أن يفوز أحدهم بجوائز عالميّة مرموقة أو يحظى بتكريم مادي مجزٍ مقابل طرحه أسئلة وقضايا خلافيّة تمس مسلمات الأكثريّة.
بعيداً عن كل هذا يبدو بيتر سينجر. هذا الفيلسوف الأسترالي الذي يدير في الولايات المتحدّة قسم أخلاقيّات البيولوجيا في جامعة برينستون النخبوية المعروفة، فهو مستمر في إثارة عواصف من جدل تمس دون مواراة ولا مخاتلات قطاعات عديدة من المجتمعات على نحو يثير الاستفزاز العام أحياناً، وكثيراً ما قاد إلى احتجاجات ضدّه حيثما ذهب لإلقاء المحاضرات، ناهيك عن إطلاقه المستمر لدوائر فائرة في مياه راكدة كثيرة: عند المتدينين كما اليساريين، وعند دعاة حقوق الإنسان كما العنصريين ذوي الميول النازية، ومن قاعات التدريس إلى وادي السيلكون. وها هو فوق ذلك كلّه يحظى بجائزة أميركيّة رفيعة يمنحها معهد بيرغرون بلوس - أنجليس تتضمّن مكافأة ماديّة قيمتها مليون دولار أميركي تمنح سنوياً لمفكر «شكلت أفكاره بعمق وعي الإنسان لذاته وتقدمه في فضاء عالم سريع التغير». وقد أشادت لجنة تحكيم الجائزة بسينجر لتنشيطه التقليد الفلسفي للنفعية العملية والذي يَعتبر أنّ خلق أكبر قدر من السعادة لأكبر عدد من الأشخاص بدلاً من الاستناد إلى المبادئ المطلقة للخير، ينبغي أن يكون المبدأ التوجيهي للعمل الإنساني في كل مجالاته، لا سيّما في السياسة وحكم المجتمع والعلاقات الدّوليّة كما في الصحّة والطبّ، فيما وصفه كوامي أنتوني بياه، رئيس لجنة تحكيم الجائزة والأستاذ في جامعة نيويورك، بأنّ «سينجر هو الفيلسوف الأكاديمي الأكثر تأثيراً في العالم».
وبالطبع فإن الجوائز المليونيّة لا تمنح لوجه الله تعالى، بخاصة في الولايات المتحدة، وإنما تعبّر بشكل أو آخر عن أفكار ترضى عنها أطراف فاعلة من النخبة الأميركيّة. لكن ذلك لن يعني أن سمعة الفيلسوف الذي تعدّ أعماله مرجعيّات لدعاة الرفق بالحيوان، ستتحسّن عند البعض الذي يراه نازياً، وتناسخ أرواح لنائب هتلر مارتن بورمان، وقاتل أطفال، ومنافقاً متفلسفاً، وعدواً للحضارة والإنسانيّة، ومهرطقاً يريد التخلص من الوصايا العشر، كما في الثقافة اليهومسيحيّة السائدة في الغرب. أيضاً يراه البعض «أستاذاً للموت»، وعدواً لحقوق المعوقين والمسيحيين والليبراليين الكلاسيكيين، و«أخطر فيلسوف في العالم اليوم».
منذ بداياته كأستاذ في جامعة أستراليّة مغمورة، صدمت مواقف سينجر كثيرين من حاملي الأفكار المريحة حول ما هو صحيح وإيجابي وأخلاقي. وفي مقالة له من عام 1972 بعنوان «المجاعة والثراء والأخلاق»، استلهمها همتها وقتها المجاعة الكبرى في بنغلاديش جادل بأن الناس الميسورين في الغرب ملزمون أخلاقياً بإعطاء القضايا الإنسانية في جميع أنحاء العالم أكثر بكثير من الشكليات التي تتبعها المجتمعات الغربية، معتبراً أن المسافة الجغرافية ينبغي ألا تحدث فرقاً في التزامات المرء الأخلاقية. وقد أثارت المقالة وقتها نقاشات على نطاق واسع في الأوساط الفلسفية. ولكنه اشتهر في النطاق العام منذ نشر عام 1975 كتابه عن «تحرير الحيوان»، والذي زعم فيه أن زراعة المصانع والأبحاث التي تجري على الحيوانات في عصرنا غير أخلاقية، داعياً الناس إلى جعل حياتهم «خالية قدر الإمكان من القسوة»، معتبراً أن قصر المعايير الأخلاقيّة على نوعنا البشري دون المخلوقات الأخرى عنصريّة غير مبررة. وهو أصبح لاحقاً منظراً لمذهب النفعيّة والإيثار الفعّال القائل إن الأخلاق يجب أن تهتم قبل كل شيء بالترويج لأكبر قدر من الخير لأكبر عدد من الناس، ونشر كتباً لحث الناس العاديين على ممارسة أخلاقيات إيجابيّة كما في «الحياة التي يمكنك إنقاذها: كيف تقوم بدورك لإنهاء الفقر في العالم – 2009» و«أفضل ما يمكنك القيام به - 2015». على أن كتابه الأشهر «الأخلاق العمليّة - 1979» جلب له أكثر العداوات. فقد ذهب فيه إلى أن الآباء والأمهات ينبغي أن يمتلكوا الحقّ في إنهاء حياة المواليد الجدد المصابين بإعاقات شديدة. ومع أن تلك الفكرة قد تطرح بشكل خافت في بعض الأوساط الطبية إلا أن سينجر يضعها على الطاولة أمام الجميع، بل يقول إنه إذا تحتّم علينا الاختيار بين إنقاذ رضيع بشري معاق وقرد شمبانزي فالواجب الأخلاقي إنقاذ الشمبانزي لانعدام الفرق في وعي الألم بين الحيوانات والبشر. وقد شكلت مجموعة من ذوي الحاجات الخاصة لجنة للدفاع عن المعاقين رداً على سينجر سموها «لم نمت بعد» نظمّت احتجاجاً غطته الصحافة بكثافة لدى تعيينه أستاذاً للأخلاقيّات ببرينستون، ووصفه بعضهم بـ«أخطر فيلسوف في العالم» وأنّه «كما نازي أثناء الحرب العالميّة الثانية يبرر التمييز البغيض ضد الذين لم يولدوا بعد والرضع الضعفاء والعجزة والمسنين».
ولعل الثيمة الأهم التي تمتد عبر مجموع أعمال سينجر هي التساؤل حول ماهيّة فهمنا لمعنى الإنسان والقدسيّة التي تمنح له، مقارنة بأشكال الحياة الأخرى. فإذا كان البعض يتحدثون عن الوعي الذاتي، والقدرة على التفكير، وامتلاك اللغة، وصنع الأدوات، أو الإحساس بالعواطف مثل الحزن، فإن الدراسات التي أجريت على الشمبانزي مثلاً خلال مدى الثلاثين عاماً الماضية أثبتت بما لا يدع مجالاً للشك بأن أيّاً من هذه الصفات مقتصر على البشر وحدهم، بينما بعض البشر في ظروف معينة، كالرّضع الصغار، وأولئك الذين هم في حالة موت دماغي أو أولئك الذين هم في المراحل المتقدمة من مرض مثل الزهايمر، ليست لديهم أي منها. ولذلك يمضي سينجر إلى الادعاء بعدم وجود بناء قاعدة مطلقة يمكن الدفاع عنها حول مبررات لتمييز البشر عن الحيوانات دون استبعاد بعض فئات البشر أيضاً أو بالطبع العودة للميتافيزيقيّات.
مجموع هذه المواقف الفلسفيّة لسينجر والتي تؤسس لتوجه أخلاقي منفصل بالكليّة عن المكان والعاطفة والحس السليم المتوافق عليه في المجتمعات الغربيّة القائم على أساس ادعاءات ثقافيّة ودينيّة - بشأن الكرامة الإنسانية الفطرية على سبيل المثال - وضعته دائماً في موقف استقطابي بين أنصار متحمسين وأعداء مبغضين، دون أن يهنأ يوماً بحياة الفلاسفة الأكاديميين المريحة التي يحظى بها زملاؤه في برينستون وبقية الجامعات الغربيّة الكبرى.
ولكنه، وهو يبلغ اليوم الخامسة والسبعين من عمره ولا يأكل اللحوم ولا يشرب الألبان ولا يرتدي أو يستعمل أي شيء مصنوع من جلود الحيوانات، يبدو مزهوّاً بكل العداء الذي تولده آراؤه. وهو يقول: «يُنظر إلى آرائي على أنها تهديد لشريحة من المتدينين الأصوليين في هذا المجتمع، شريحة تشعر بالأزمة لأنها تستمر بخسارة بعض المعارك الهامة، ولا سيما معركة الإجهاض.
هذه الشريحة تحتاج إلى سماع بعض الأشياء التي يجب أن تقال. والفرق أنني أقول تلك الأشياء بصراحة أكبر من معظم الناس». وقد أعلن فور إعلامه بفوزه بالجائزة المليونيّة عن تبرعه بنصف قيمتها لجمعيّات خيرية سيدعو الجمهور للمساعدة في اختيارها إلى جانب جمعية أسسها لمساعدة الفقراء حول العالم.


مقالات ذات صلة

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان
خاص الكاتب الغزي محمود عساف الذي اضطر إلى بيع مكتبته لأحد الأفران (حسابه على «فيسبوك»)

خاص غزة تحرق الكتب للخبز والدفء

يعاني سكان قطاع غزة، خصوصاً في شماله، من انعدام تام لغاز الطهي، الذي يُسمح لكميات محدودة منه فقط بدخول مناطق جنوب القطاع.

«الشرق الأوسط» (غزة)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
TT

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة من خلال حديث مطول أدلى به لمحرر المذكرات ومؤلف الكتاب الصحافي سيد محمود سلام. ورغم أن حديث الذكريات هنا يشمل محطات مختلفة، فإن الكتاب يركز بشكل خاص على مرحلة النشأة والطفولة وما اكتنفها من اكتشاف الفنان في سنوات التكوين الأولى لعالم الأدب وخصوصية مدينته بورسعيد، مسقط رأسه.

ويشير محمود ياسين إلى أن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر، وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها. ويرى أنه كان طفلاً محظوظاً لأنه نشأ في أسرة تعد الثقافة جزءاً مهماً من تكوين أبنائها، وكان ترتيبه السادس بين أشقائه العشرة، وقد تأثر في طفولته بشقيقه الأكبر فاروق: «إذ فتح عيني على شيء اسمه الكتاب بمعناه الواسع. كان يتسلم الكتب ويذهب إلى المدرسة، لكن فاروق كانت له في البيت مكتبة خاصة عبارة عن خزانة كبيرة في الحائط صُممت على الطراز الفرنسي تضع فيها الوالدة الفخار وقطع الخزف الصيني وكؤوس الزجاج وأشياءها الخاصة، فصنع منها مكتبة بعرض الحائط بعد أن أقنعها بذلك حيث كانوا يقطنون في فيلا من دورين تابعة لشركة قناة السويس التي كان يعمل بها والده، وعاشوا فيها ما يزيد على 25 عاماً».

ظل فاروق يشتري الكتب باستمرار مثل سلسلة «اقرأ» التي كانت تصدر ملخصات لعيون الأدب العربي والعالمي والسير الذاتية مثل السيرة الذاتية لطه حسين ودوستويفسكي ومكسيم غوركي وأنطون تشيخوف، فضلاً عن عيون الأدب الفرنسي مثل مؤلفات غي دي موباسان. كانت السلسلة تصدر كتيبات لكل كتّاب ومفكّري العالم، فالتراث الإنساني كله أنتجته سلسلة «اقرأ»، وقد جمعه فاروق في مكتبته وأيضاً سلسلة أخرى بعنوان «كتابي» جمعها أيضاً في المكتبة.

قرأ محمود ياسين في صغره معظم دواوين الشعراء العرب وعبقريات العقاد في مكتبة شقيقه، فضلاً عن كتب سلسلة «الكتاب الذهبي» التي تعرّف فيها على محمد عبد الحليم عبد الله ونجيب محفوظ ويوسف إدريس ويوسف السباعي. كما كان الشقيق الأكبر فاروق شغوفاً باقتناء الكتب والمطبوعات الثقافية مثل مجلة «الهلال» حتى إنه يشتري الكتب بمصروفه الشخصي المحدود. ولم يكن الطفل محمود يشغل نفسه بشراء الكتب، لكن يده بدأت تمتد إلى مكتبة شقيقه، فغضب بشدة من استعارته كتبه؛ وذلك خوفاً من ألا تلقى الاحترام ذاته الذي تلقاه عنده تلك المكتبة التي كوّنها واشتراها من مصروفه. لكن عندما اطمأن لشقيقه، بدأ يشجعه مع بعض النصائح خوفاً على هذه الكتب. وبدأ الشقيق الأصغر في متابعة المسرحيات المترجمة بشكل خاص، لا سيما أعمال وليام شكسبير وهو ما أثار دهشة وإعجاب فاروق حين رأى شقيقه لا يفوّت نصاً للكاتب العالمي، سواء في سلسلة «كتابي» أو نظيرتها «اقرأ».

ويشير محمود ياسين إلى أن أبناء بورسعيد يتشابهون في ملامحهم وتكوينهم؛ لأن هذه المدينة تترك بصماتها على أبنائها، فهي بلد مفتوح على الدنيا ويُطل على أوروبا، فهناك شاطئ بحر وفي الأفق عالم آخر يجب أن تحلم به. إنها مدينة وسط جزر من المياه، فتأثر بهذه الخصوصية الجغرافية وما أكسبته لسكانها من حس حضاري لافت.

يقول محمود ياسين في مذكراته إن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها.

امتزجت شخصية محمود ياسين بالبحر المتوسط الذي تطل عليه مدينته، فهو مثله تراه شديد الهدوء تارة، شديد الصخب تارة أخرى. يقول: «إن أخلاقي كأخلاق البحر وطبيعتي تشبهه، فأنا في شهري سبتمبر وأكتوبر أكون هادئاً هدوءاً غريباً وعندما تنظر إليّ تشاهد ما في أعماقي، وإذا تحدثت إليّ يمكنك أن تكتشف كل شيء. أما الشخص الصاخب العصبي فهو أيضاً أنا ولكن في شهر يناير، وكذلك البحر بـ(نواته) وأمواجه المتلاطمة. لا أحب شهر يناير، قد يكون لأنه بداية عام لا أعلم ما يخبئه، وحين راقبت نفسي وجدت أنني في مواسم أكون هادئاً وأخرى أكون صاخباً وهذا هو حال البحر».

كانت حياة الصبي محمود ياسين قبل التمثيل غير مستقرة، كأنه يبحث عن شيء يسعده. كان يراقب شقيقه فاروق، الممثل العظيم بقصور الثقافة، وتعلم منه كيف يحب الريحاني. يشاهده فيشعر بأنه يمتلك عالم التمثيل بين عينيه، نظراته، تأمله، صوته حتى وهو يغني بصوتٍ أجش تستسيغ غناءه من هذه الحالة التي لاحظها وتأثر بها. أحبَّ التمثيل وشعر بأنه الشيء الذي يبحث عنه، إنه عالمه المفقود، به ستكتمل حياته.

اللافت أن التمثيل منذ البدايات الأولى بالنسبة لمحمود ياسين «حالة»، إنه بمثابة «عفريت» يتجسد في الشخص المحب له، فكان يسعد بالمشاهد التي يمثلها في نادٍ يسمى «نادي المريخ» ببورسعيد وهو طفل. وكوّن هو وزملاؤه فرقة مسرحية، مع عباس أحمد الذي عُرف بأشهر مخرجي الثقافة الجماهيرية، وله باع طويل وأثر في حياته كصديق ورفيق رحلة كفاح، هو والسيد طليب، وكانا أقرب صديقين له، سواء على مستوى هواية التمثيل أو الحياة.

ويروي كيف كان يقدم مسرحية على خشبة مسرح صنعوه بأنفسهم من مناضد وكراسي متراصة، وفي قاعة تسع 100 شخص، فلمح والده، وكانت المرة الأولى التي يمثل فيها ويشاهده أبوه، وإذا به يبتسم له ابتسامة هادئة، اعتبرها أول تصريح رسمي منه بموافقته على دخوله هذا المجال. ويذكر أيضاً أن من بين العمال الذين تأثر بهم محمود عزمي، مهندس الديكور العبقري، الذي لم يحصل على أي شهادات دراسية ولم يلتحق بالتعليم، لكنه كان يهوى الرسم ويصمّم ديكورات أي نصوص سواء عربية أو عالمية ببراعة مدهشة.