أسامة العيسة: نستعين على الاحتلال بالمجانين.. ولولاهم لما صمدت قضيتنا

الروائي الفلسطيني صاحب «مجانين بيت لحم» الفائزة بجائزة الشيخ زايد يراها انحيازًا للمهمشين

أسامة العيسة يوقع روايته في إحدى المناسبات الثقافية قبل الفوز
أسامة العيسة يوقع روايته في إحدى المناسبات الثقافية قبل الفوز
TT

أسامة العيسة: نستعين على الاحتلال بالمجانين.. ولولاهم لما صمدت قضيتنا

أسامة العيسة يوقع روايته في إحدى المناسبات الثقافية قبل الفوز
أسامة العيسة يوقع روايته في إحدى المناسبات الثقافية قبل الفوز

بروايته «مجانين بيت لحم»، استطاع الفلسطيني أسامة العيسة، تكريس نفسه كاسم له حضوره الخاص، خصوصا بعد فوز الرواية الذي مرّ بـ«مراحل مطوَّلة من الدراسات الموضوعية والدقيقة والمراجعة المستفيضة، من جانب (لجنة الفرز والقراءة)، و(لجان التحكيم)، و(الهيئة العلمية) للجائزة، ومجلس أمنائها، التي تم خلالها فرز الأعمال المشاركة من 31 دولة عربية وأجنبية، ضمن قائمة طويلة وأخرى قصيرة»، كما قال مدير عام الجائزة. «الشرق الأوسط» تحدثت إلى العيسة، وكان لها هذا الحوار:
* نبدأ الحوار بالسؤال التقليدي حول شعورك بفوز رواية «مجانين بيت لحم» بجائزة الشيخ زايد، وما تضيفه للأدب الفلسطيني عموما، والرواية الفلسطينية على وجه الخصوص؟
- الفوز بجائزة بمثل هذه الأهمية، أشعرني بأن في عالمنا العربي وفي أوساطه الثقافية، مَن فهمني وقدر ما أردت إيصاله، من رواية أردتها جديدة كل الجدة في الشكل والمضمون، خصوصا عندما اطلعت على ما نُشر من تقرير لجنة التحكيم، وما علمته من آراء المحكمين في الرواية.
أعتقد أن وصول الرواية، هو أولا مهم بالنسبة لي شخصيا لمواصلة مشروعي الروائي بثقة أكبر. وما فاجأني، كان الاهتمام «الجماهيري» في فلسطين، إن جاز التعبير بفوزي بالجائزة، وهو ما يجعلني أسمح لنفسي، بأن أعتبر الفوز فلسطينيا أيضا.
بالنسبة للأدب الفلسطيني، أنا لدي وجهة نظر، أؤكد أنها شخصية، تتعلق بالحالة التي عاشها هذا الأدب، خاصة في الأراضي المحتلة بعد اتفاق أوسلو، حيث ما حدث ليس تراجعا وحسب، ولكن ما يشبه الغفوة الطويلة، وميل كثير من الأصوات الجديدة–في النماذج التي اطلعت عليها–للذهاب بعيدا في الفردانية التي أسميها «غير إبداعية». صحيح أن بعض الكتاب واصلوا الكتابة، ولكن هؤلاء الذين تركوا بصمة في الماضي، لم يتمكنوا من فعل ذلك في المرحلة الجديدة التي كانت مرحلة جزر ثقافية، على الأقل.
الجوائز العربية التي تتمتع بمقدار من المصداقية، أظنها تمكنت من وضع الأدب الفلسطيني الجديد، على المحطة التي كانت يجب أن يكون عليها هذا الأدب عربيا وربما عالميا، وهو ما رأيناه في تجارب إبراهيم نصر الله، وربعي المدهون، وأنور حامد، وغيرهم ممن وصلت أعمالهم إلى قوائم هذه الجوائز.. أنا أرى وصول روايتي إلى جائزة الشيخ زايد، في هذا الإطار.

* مسؤولية كبيرة

* ماذا تضيف الجائزة لأسامة العيسة الذي نقش اسمه بعمق في عالم الرواية العربية، وقد يصبح كذلك على مستوى عالمي، وقبلهما المحلية بطبيعة الحال؟
- منذ الآن، أشعر بثقل المسؤولية الملقاة على عاتقي، من خلال ما غمرني به القراء والأصدقاء وجهات مختلفة، من دفء وحب وفرح. أنا أكتب بانتظام منذ سنوات، كل نشاطاتي الحياتية الأخرى، مسخّرة لخدمة الكتابة، سأواصل على هذا النهج. أزعم بأن لدي مشروعي الروائي، ومن الجيد أن هناك من يقدره، ولكنني سأكون أكثر حرصا عند دفع أي عمل جديد للنشر.

* شركاء في الجائزة

* هل توقعت وصول روايتك إلى الجائزة، في مواجهة روائي مصري عريق كإبراهيم عبد المجيد، وغسان زقطان الشاعر الفلسطيني الذي بات الأبرز محليا وعربيا وعالميا؟
- عندما ظهرت روايتي في القائمة الطويلة بين أسماء عربية بارزة، تتلمذ جيلي أدبيا على نتاج بعضها، شعرت بأني أسير في الطريق الصحيح إبداعيا. وعندما فوجئت بالرواية في القائمة القصيرة، سعدت بالروائي إبراهيم عبد المجيد الذي قرأت معظم أعماله وأعجبتني، والصديق الشاعر غسان زقطان الذي يراكم تجارب ويواصل مشواره الإبداعي بثقة. وكان ذلك كافيا لأن أشعر بالفوز، بغض النظر إذا ما كانت الرواية ستحتل المرتبة الأولى. أعتقد أننا جميعا فزنا. نحن شركاء في الجائزة، ولسنا متنافسين.

* آراء ونقد في الرواية

* هناك من يقول إن فوز روايتك كان لفكرتها، وإنها لا تندرج في إطار الرواية إلا في القسم الأخير منها، سفر مشمشي.. ما تعليقك؟
- أنا احترم كل الآراء بخصوص روايتي وسعيد بها، وأشعر دائما بضرورة ترسيخ المناخ الليبرالي في مجتمعاتنا. منذ أن خرجت الرواية من المطبعة لم تعد لي، بل للقراء والنقاد، ولذلك من حق كل منهم أن يكوّن رأيه فيها، وأعتقد أنه بمثل هذه الآراء يمكن إثراء المشهد الأدبي، وليس بسماع الصوت الواحد والرأي الواحد، وأحيانا يحلو للواحد منّا أن يسمع صوته فقط.
* هناك من عاب على الرواية وقوعها في فخ الصحافة والتاريخ على حساب الرواية؟
- في كتابة هذه الرواية، استفدت من أساليب فنية مختلفة، منها البحث التاريخي، والتحقيق الصحافي الاستقصائي. وكان ذلك مقصودا، بل أنا فخور بذلك. لم يكن التعامل مع الأمر سهلا. أعتقد بأن ذلك لم يغنِ الرواية وحسب، ولكنه كان تطبيقا عمليا لما أُريده من هذا الفن العظيم والمبهر الذي أسميه رواية. ولكي أثبت أن لا شكل ثابتا لهذا الفن، بل إن تقوقعه في شكل محدد هو ما يضر به. أنا أكتب رواية بطريقة جديدة. هذا المهم، ولن أكرر كتابة «الرواية» مرتين، بمعنى أنني في كل عمل، أخوض مغامرة محسوبة ومتعبة في الشكل والمضمون، والمسألة ليست سهلة. أنا لن أكتب رواية قائمة على اجترار ذكريات، أو شذرات سيرية، أو تهويمات سياسية وفكرية وآيديولوجية، أنا أكتب رواية عربية جديدة وحداثية، تنهل من مواعين كثيرة.
* كتب أحدهم يقول: «أصر كاتب هذا الكتاب، تصنيفه تحت بند الأعمال الروائية، مع أنه لا يمتّ لها بصِلة. والعجيب أنه لم يكلّف نفسه عناء اصطناع أي شيء يجعل هذا عملا روئيًّا».. ما رأيك فيما قيل؟
- أحترم هذا الرأي، ربما استند صاحبه على حيثيات معينة جعلته يستنتج هذا الاستنتاج.

* قصص متفرقة

* كاتب هذا العمل صحافي وباحث في التراث. في هذا العمل يقدّم بحثا وتحقيقات صحافيّة سيرية اجتماعية، ومذكرات متفرقة حول مدينة بيت لحم ومخيّم الدهيشة، مسقط رأسه، وعن البلدة وناسها، ما سمعه عنها وما قرأه.. قصص متفرفة لأناس لا يجمعهم رابط سوى مدينة بيت لحم، بعضها يعود لما قبل قرنين من الزمن، وأكثرها يتركّز حول فترة الاحتلال الإسرائيلي سنة 1967 وما تلاها.. هل توافق على هذا التحليل؟
- أنا قدمت المكان الفلسطيني، بارتكاز على بقعة جغرافية معينة في مدينة بيت لحم، اسمها الدهيشة. وتتبعت من خلال ذلك العصف بالمكان، من خلال توالي سلطات تبدو أنها لا نهاية لها، وفي ظرف زمني ليس طويلا: العثمانيون، والبريطانيون، والمصريون، والأردنيون، والإسرائيليون، الحكم الذاتي المحدود جدا.. إذا وجد من رآها أنها حكايات متفرقة، فمن الجيد أنه وجد رابطا واحدا جمع بينها.

* المهمشون والفقراء

* لطالما ركزت على انحيازك للمهمشين والفقراء في كتاباتك كصحافي، والآن كروائي.. كيف انعكس هذا التوجه في «مجانين بيت لحم»؟
- الرواية انحياز كامل للمهمشين، الذين تنظر إليهم السلطات التي توالت على حكم ناسنا وقهرهم، كخزان للحروب، وقطيع يدر ضرائب. أنا منحاز لهؤلاء، لأنني واحد منهم، الراوية محاولة لتقديم أكثر الفئات تهميشا، وهم نزلاء مشفى الأمراض النفسية في بيت لحم، وهو المشفى الرئيسي لمثل هؤلاء في حدود فلسطين الانتدابية لفترات طويلة من الزمن. هؤلاء ساهموا بطريقتهم في الانتفاضات الفلسطينية، ودفعوا ثمن عسف السلطات والاحتلالات المتعاقبة، ووجدوا أنفسهم في الواقع الجديد بعد اتفاق أوسلو، هدفا للسلطة الجديدة لتشييد أي مبنى حكومي على أرضهم، إضافة إلى حضور دول كبرى مثل روسيا، وألمانيا، أرادت حصتها من وطنهم المعنوي، وفي الوقت ذاته هم لا يستطيعون رفع الصوت، ولم تهرع إليهم الأحزاب أو الفصائل أو مؤسسات حقوق الإنسان، الجميع نظر «للغزو» الذي هدد مكانهم، على أنهم شيء طبيعي.. أيوجد أكثر تهميشا من هؤلاء؟

* إعادة تركيب الرواية

* البعض قال بأنك أعدت تركيب الرواية الفلسطينية في «مجانين بيت لحم»؟
- أنا حاولت، وطمحت لذلك، وهو ما جعلني أؤجل نشر هذه الرواية، كما هو حال بقية أعمالي، لسنوات، وآمل أن أكون قد حققت نجاحا ولو نسبيا.
على جيلنا الأدبي، لكي يكتسب مشروعية، أن يسعى دائما لحلحلة ما هو موجود، والعمل على إعادة التركيب، والتجديد، والمسألة ليست سهلة، ولكنها تشكل تحديا لهذا الجيل.
* هناك من وصفها بأنها رواية فلسطين المواربة؟
- نعم هي كذلك. لقد تناولت الواقع الفلسطيني ضمن فضاءات تاريخية وغرائبية، أردت أن يكون القارئ مشاركا في الدخول إلى فلسطين، ليس من بوابة الجنة المفقودة والمناجاة الشعرية الغنائية، بل بمغافلة الندابين، ومناقضا إرثا أدبيا طويلا، ليدخلها من بوابة مواربة بين الواقع الفج والأسطورة الشعبية.

* ماذا بعد؟

* ماذا بعد «مجانين بيت لحم»؟ وهل من ترجمات للغات أخرى؟
- آمل أن يكون وصول الرواية إلى الجائزة فرصة لنقلها إلى لغات أخرى. أرغب بشدة أن يسمع كل الناس على هذه الكرة صوت المجانين في فلسطين، حيث تغيب، في معظم الأحيان، الخطوط التي يمكن أن يضعها الناس أنفسهم للفصل بين عالمي «المجانين» و«العقلاء».
في فلسطين، نستعين على الاحتلالات التي لا تنتهي بالجنون. ولولا مجانينها ربما ما صمدت قضيتها. ولدت وأعيش في مخيم الدهيشة للاجئين، لأبوين هُجرا من قريتهما ومنزلها. منذ 67 عاما ونحن نحلم بالعودة. أمي عمرها مائة عام، وتتعامل مع الأمور وكأنها ستعود غدا إلى منزلها، وقن الدجاج. أي جنون نحتاجه لتحمل كل ذلك؟



هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا
تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز النحات السوري عاصم الباشا
TT

هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا
تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز النحات السوري عاصم الباشا

غَيْرُ مُجْدٍ فِي مِلَّتِي وَاعْتِقَادِي

نَوْحُ بَاكٍ وَلَا تَرَنُّمُ شَادِ

وَشَبِيهٌ صَوْتُ النَّعِيِّ إِذَا قِيـ

ـسَ بِصَوْتِ الْبَشِيرِ فِي كُلِّ نَادِ

أَبَكَتْ تِلْكُمُ الْحَمَامَةُ أَمْ غَنَّـ

ـتْ عَلَى فَرْعِ غُصْنِهَا الْمَيَّادِ

صَاحِ هَذِي قُبُورُنَا تَمْلَأُ الرُّحْـ

ـبَ فَأَيْنَ الْقُبُورُ مِنْ عَهْدِ عَادِ؟

خَفِّفِ الْوَطْءَ مَا أَظُنُّ أَدِيمَ الْ

أَرْضِ إِلَّا مِنْ هَذِهِ الْأَجْسَادِ

(...)

فَاسْأَلِ الْفَرْقَدَيْنِ عَمَّنْ أَحَسَّا

مِنْ قَبِيلٍ وَآنَسَا مِنْ بِلَادِ

كَمْ أَقَامَا عَلَى زَوَالِ نَهَارٍ

وَأَنَارَا لِمُدْلِجٍ فِي سَوَادِ

تَعَبٌ كُلُّهَا الْحَيَاةُ فَمَا أَعْــ

جَبُ إِلَّا مِنْ رَاغِبٍ فِي ازْدِيَادِ

إِنَّ حُزْناً فِي سَاعَةِ الْمَوْتِ أَضْعَا

فُ سُرُورٍ فِي سَاعَةِ الْمِيلَادِ

(...)

ضَجْعَةُ الْمَوْتِ رَقْدَةٌ يَسْتَرِيحُ الْــ

جِسْمُ فِيهَا وَالْعَيْشُ مِثْلُ السُّهَادِ

أبيات أبو العلاء المعري الذائعة هذه والمأخوذة من قصيدته في رثاء قاضٍ فقيه يُقال له أبو حمزة التنوخي كانت بينهما صداقة أو قرابة - هذه الأبيات التي نشأنا نرددها في سذاجة من أيام المدرسة والتي كثيراً ما تتخذ عنواناً على تشاؤم المعري الشهير – هذه الأبيات لا أرى فيها تشاؤماً، ولا يأساً، ولا قعوداً عن مجهود الحياة، فقائلها عاش حياة مديدة جاوزت الثمانين عاماً (973-1057م)، وأنجز في الأدب والشعر ما نتغنى به ونستلهم منه الفن والحكمة بعد قرابة عشرة قرون مضت على زمنه. فعل هذا في عصر بالغ الاضطراب سياسياً واجتماعياً ومذهبياً وعنصرياً، سادت فيه الصراعات بين القوى المتصارعة على السلطة في ظل ضعف الخلافة العباسية وزوال السلطة المركزية لبغداد. فعل هذا كله وهو ضرير منذ طفولته، مضطر للاستعانة بغيره في شؤون العيش. عاش حياة رفيعة متنزهة زاهدة معتزلة للناس لكنها حافلة بالمعرفة والحكمة والحب والإنتاج والفيض على المريدين والصحاب. عاش حياته بشروطه. وليس في شيء من هذا كله تشاؤم ولا يأس ولا تخاذل عن عناء الحياة مما تفرضه فرضاً على الأحياء أو مما اختاره هو في حياته الزاهدة من شظف إضافي، كما فعل في شعره أيضاً حين ألزم نفسه بما لا تلزمه به قواعد الشعر.

كتب المعري مرثيته هذه وهو في العشرينات من عمره، والحقيقة أني أتردد في نعتها بالمرثية، وإنما هي قصيدة تأمل في الحياة والموت والوجود والعدم، قصيدة فلسفة وموقف فكري، ولم يكن رثاء الصديق إلا المناسبة التي فجّرت في الشاعر مشاعر وأفكاراً كانت تختمر وتسعى إلى صياغة شعرية. فالقصيدة التي تقع في 64 بيتاً تُفتح بالتأملات الشهيرة أعلاه ولا يرد فيها ذكر لموضوع الرثاء، القاضي أبو حمزة، حتى نصل إلى البيت الثالث والعشرين، وينحصر الحزن المباشر على الصديق الراحل وتعداد مناقبه في نحو نصف القصيدة، مسبوقاً ومتبوعاً بالتأملات الفلسفية.

ما أراه في هذه القصيدة الشهيرة التي ظهرت في ديوان المعري الأول «سقط الزند» وفي غيرها من شعره إنما هو موقف وجودي. موقف توصل إليه الشاعر في صدر شبابه. ليست هذه القصيدة المبكرة نتاج اعتراك طويل للحياة، ولا هي حكمة شيخ في نهاية العمر، وإنما هي موقف وجودي. موقف واعٍ بالأبعاد العبثية في الحياة، والتي يجللها العبث الأكبر الذي اسمه الموت. فالحياة تنتهي بنقيضها، ومن هنا تساويها مع الموت. ومن هنا أيضاً تساوي كل النقائض التي تعددها تلك الأبيات: النوح والترنم، النعي والبشارة... إلخ. فالباكي والمترنم، والناعي والمبشر، والحمامة شدت أو بكت، وكل موجب وسالب صائر إلى الموت الذي ينفي ما بينهما من اختلاف ويؤالف تناقضهما. بل إن المعري في انفساح نظرته الوجودية لا يقصر تأمله على حياة البشر وسائر المخلوقات على الأرض، بل إنه يعلن أن الموت أو الفناء مصير كل وجود في الكون، سواء كان وجوداً واعياً أو غير واعٍ، فكوكب «زحل من لقاء الردى على ميعاد»، والمريخ «ستنطفأ ناره وإن علتْ في اتقاد»، والثريَّا ستموت نجومها تباعاً ويفترق شملها، تماماً كما يفرّق الموت شمل الأسر والجماعات من بني الإنسان.

يدرك المعري أن الفناء مصير كل موجود من أصغر مخلوقات الأرض شأناً إلى الكواكب والنجوم في عمق الفضاء اللامتناهي. «كل بيت للهدم» سواء كان عش حمامة أو قصراً منيفاً «لسيد رفيع العماد». من هنا التعادلية في موقف المعري. أي فرق هناك؟ كل جهد عظيم أو حقير، كل حياة بهيجة أو بائسة هي «تعب غير نافع». هي «اجتهاد لا يؤدي إلى غناء». لكننا مع ذلك نعيشها. نعيشها كما عاشها. الفارق أنه عاشها مدركاً كنهَها، سابراً غورها، ولم يعشها منكبّاً عليها، مخدوعاً بها. عاشها بشروطه بقدر ما تسمح الحياة أن تُملى عليها الشروط: «اللبيب من ليس يغترّ بكونٍ مصيره للفساد». هذا موقف فلسفي وجودي بطولي لأن حياة الشاعر جاءت ترجمة «لملته واعتقاده». أو أنه على عكس الكثيرين عاش اعتقاده، ولم يعانِ من تلك الفجوة الشهيرة بين القول والفعل، بين المعتقد والممارسة.

هذا المتشائم المزعوم هو القائل «ولو أني حُبيتُ الخلدَ فرداً لما أحببتُ بالخلد انفرادا / فلا هطلتْ عليَّ ولا بأرضي سحائبُ ليس تنتظم البلادا»، وفي موضع آخر: «والناس للناس من بدو وحاضرة، بعضٌ لبعضٍ، وإن لم يشعروا، خدم». لا تشاؤم ولا عزلة ولا اجتواء للخلق في مثل هذه الفلسفة، بل فكر اجتماعي تكافلي تضامني ملتزم إلى حد رفض كل نعيم، دائمه وزائله، إن لم يعمَّ خيره على الناس قاطبة. فجهد الحياة عنده جهد مشتَرك يتعاضد الناس فيه من أجل البقاء، عن قصد وإدراك أو بغير قصد وإدراك. لهذا كله نجد المعري مثالاً باهظاً، فنريح أنفسنا بنبذه باعتباره «متشائماً» لا يقدّر مسرّات الحياة ومتعها، أو بالعبارة العامية «نِكدي»، أجدر بنا أن نبعد عن أفكاره «السوداوية» ولننشغل بالترنم والشدو وحمل البشارات. فلننشغل سادرين حتى الموت.


مجامر أثرية من البحرين

أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
TT

مجامر أثرية من البحرين

أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.

يحتفظ متحف البحرين الوطني بمجموعة من المجامر عُثر عليها خلال حملات التنقيب المتواصلة في عدد من المدافن الأثرية، منها ما صُنع من المادة الحجرية، ومنها ما صُنع من طينة الفخار. تنتمي هذه المجامر إلى مراحل متعاقبة زمنياً، فمنها ما يعود إلى الحقبة التي شكّلت فيها البحرين حاضرة من حواضر إقليم تجاري وسيط عُرف باسم دلمون في المصادر السومرية، ومنها ما يعود إلى حقبة لاحقة عُرفت فيها هذه الجزيرة باسم تايلوس في المصادر اليونانية. من جهة أخرى، تعكس هذه القطع تعدّدية كبيرة في الطرز الفنية المعتمدة، وتظهر هذه التعدّدية بشكل جليّ في اختلاف البنى التكوينية الخاصة بها، كما في اختلاف الحلل التي تزيّن هذه البنى.

يتمثّل ميراث دلمون بمجمرة من الفخار تتميّز ببنيتها التكوينية المختزلة، مصدرها مدافن عالي التي تشكّل جزءاً من تلال تمتدّ على مدى 20 كيلومتراً في الجزء الغربي من جزيرة البحرين. يُعرف هذا الموقع رسمياً باسم «تلال مدافن دلمون»، وبهذا الاسم أُدرج في قائمة التراث العالمي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونيسكو) في صيف 2019. عُثر على هذه المجمرة خلال حملة تنقيب محلّية جرت بين عام 1988 وعام 1989، وهي من الحجم الصغير؛ إذ يبلغ طولها نحو 20 سنتيمتراً، وعرضها 11 سنتيمتراً، وهي على شكل عمود أسطواني يعلوه وعاء عريض خصّص لاحتواء الجمر الخاص بإحراق البخور أو الطيوب وما شابه. تعود هذه القطعة الفخارية على الأرجح إلى القرنين الأخيرين من الألفية الثانية قبل المسيح، والقطع التي تشبهها نادرة للغاية في ميراث دلمون الأثري، ممّا يوحي بأّنها دخلت إلى البحرين من الخارج، وليست من النتاج المحلّي، ويرجّح أهل الاختصاص أن وظيفتها ترتبط بالطقوس الجنائزية المعتمدة في الدفن.

دخلت هذه المجمرة متحف البحرين الوطني بالمنامة، ودخلت من قبلها مجمرة مغايرة تماماً في التكوين، عُثر عليها كما يبدو في مطلع سبعينات القرن الماضي. تختلف المصادر في تحديد موقع هذا الاكتشاف؛ إذ ينسبه البعض إلى قلعة البحرين التي تقع على الساحل الشمالي، وينسبه البعض الآخر إلى مقبرة تُعرف باسم الحجر، نسبة إلى القرية التي تجاورها، وتشرف على شارع البديع في المحافظة الشمالية. صيغت هذه المجمرة على شكل مكعّب صغير من الحجر، طوله 7 سنتيمترات وعرضه 6 سنتيمترات، وكلّ من واجهاتها الأربع مزينة بشبكة من النقوش زخرفية، قوامها نجم ذو أربعة أطراف مقوّسة، تحيط به خانات عدة، وُشح كلّ منها بسلسلة من العواميد، تعلوها خطوط أفقية متجانسة. تتبع هذه المجمرة الحجرية تقليداً راسخاً نشأ وشاع في جنوب الجزيرة العربية خلال القرون الأخيرة من الألفية الأولى قبل المسيح، وشواهد هذا التقليد عديدة، منها عدد كبير دخل المتاحف العالمية الكبرى في الغرب. بلغ هذا الطراز الجنوبي شرق الجزيرة العربية، كما بلغ شرق أقاليم البحر الأبيض المتوسّط وبلاد ما بين النهرين. وتشهد مجمرة البحرين على ظهور هذا الطراز في وسط ساحل الخليج العربي.

يحوي متحف البحرين الوطني كذلك مجمرتين من الفخار تمثّلان نتاج ما يُعرف اليوم بحقبة تايلوس، وهما من نتاج المرحلة الممتدة من القرن الأول قبل المسيح إلى القرن الأول للمسيح. تعود إحدى هاتين القطعتين إلى مقبرة حمد التي تشكّل جزءاً من «تلال مدافن دلمون»، وتعود الأخرى إلى مقبرة الشاخورة التي تحمل اسم القرية التي تجاورها، وتقع على بعد نحو 700 متر جنوب شارع البديع.

يبلغ طول مجمرة تل حمد 20 سنتيمتراً، وعرضها 8 سنتيمترات، وهي على شكل عمود ذي أربع قوائم، يعلوه وعاء المجمرة العريض. يتكون هذا العمود من ست حلقات دائرية ناتئة ومتراصة، تزيّنها حلية لونية متقشفة مطلية باللون الأحمر القاني، قوامها بضعة خطوط أفقية تستقر بينها بضعة خطوط عمودية. تكلّل وعاء المجمرة هذه الحلقات الدائرية المتراصة، وتزيّنه شبكة مشابهة من الخطوط المطلية.

في المقابل، يبلغ طول مجمرة الشاخورة نحو 19 سنتيمتراً، وعرضها 11 سنتيمتراً، وهي على شكل جرة تستقرّ فوق قاعدة أسطوانية. ترتفع هذه القاعدة فوق أربع قوائم عريضة، ويعلوها عمود أسطواني قصير، يفصل بينها وبين الحرة التي تعلوها. تشكّل هذه الجرة وعاء للمجمرة يتميّز بضخامته، والطرف الأعلى لهذا الوعاء ناتئ وبارز، وبعض من تكوينه تساقط للأسف.

تمثّل هذه المجامر الأربع نتاجاً من البحرين يبدو محدوداً مقارنة بنتاج مناطق أخرى من جزيرة العرب خرجت منها مجموعات كبيرة من المجامر. يشهد هذا النتاج المحدود من جهة لتعدّدية كبيرة في الأساليب المتبعة في الصناعة والصوغ، وتعكس هذه التعددية من جهة أخرى المكانة الوسيطة التي تميّز بها نتاج البحرين الأثري على مدى العصور.


14 شخصاً في صراع مع الزمن

14 شخصاً في صراع مع الزمن
TT

14 شخصاً في صراع مع الزمن

14 شخصاً في صراع مع الزمن

صدر عن «دار المرايا» في القاهرة رواية «ألعاب وحشية» للروائي المصري ماجد وهيب، وهي الكتاب السادس له بين الرواية والقصة القصيرة. تقع الرواية في 512 صفحة من القطع المتوسط، وتتكون من أربعة عشر فصلاً، يمثل كل فصل منها جيلاً، من قصة عائلة مصرية من الجد الرابع عشر، حتى الابن في الحاضر، مبتعدة عن تقديم أي خلفية تاريخية لأحداثها، وتكتفي فقط بإشارات عابرة إلى تطور نمط الحياة من جيل إلى آخر.

مع النهاية، نلاحظ أن ثمة وجوداً لفكرة العود الأبدي ودوران الزمن في حركة دائرية، عاكسة تأثير الماضي في الحاضر والمستقبل، وكيف يؤثر كل فعل في مصير الآخرين، وهكذا لا يوجد بطل للرواية، فالـ14 شخصية هم جميعهم أبطال، وكل واحد منهم بطل حكايته، فأسماء الفصول كلها معنونة بأسماء شخصيات، وهكذا يكون الزمن هو البطل الأول، وهو الذي يمارس ألعابه الوحشية في المقام الأول، غير أن كل شخصية لها حكايتها التي لا تأتي منفصلة عن الماضي، ولا ينقطع تأثيرها في المستقبل، وتعيش هي أيضاً ألعابها الخاصة، عبر أحلامها وانكساراتها والصراع الذي تدخل فيه.

وفي ظل ذلك تلعب الرواية على وتر البحث عن الهوية، من خلال علاقات حب يبدو فيها وكأنه مغامرة كبيرة وليس مجرد شعور، مغامرة ترسم المصائر وتعيد تشكيل العلاقات، وثمة أحلام، وهزائم وانتصارات، يتغير معها المكان والزمان، وبطبيعة الحال يلعب الموت دوراً كبيراً في الأحداث، وكثيراً ما يأتي بدايةً وليس نهاية.