«غرام المبدعين»... عربيات وأجنبيات تركن آثارهن على السيرة والكتابة

أيمن الحكيم يكتب عن قصص حب معروفة وأخرى غامضة و«سرية»

يوسف إدريس - نجيب محفوظ - محمود درويش
يوسف إدريس - نجيب محفوظ - محمود درويش
TT

«غرام المبدعين»... عربيات وأجنبيات تركن آثارهن على السيرة والكتابة

يوسف إدريس - نجيب محفوظ - محمود درويش
يوسف إدريس - نجيب محفوظ - محمود درويش

يتناول الكاتب والناقد السينمائي أيمن الحكيم قصص حب غريبة و«مجنونة» في كتابه «غرام المبدعين... حكايات حب العشاق المجانين» الصادر حديثا عن مركز إنسان للدراسات والنشر والتوزيع بالقاهرة.
ما بين النجاح والفشل تتقلب هذه القصص التي خاضها عديد من الكتاب والشعراء المصريين والعرب مع نساء عربيات وأجنبيات، وشكلت جزءا من مسيرة حياتهم، وأثرت بشكل أو بآخر فيما قدموه من أعمال إبداعية، منها ما اشتهر واكتنفه الكثير من الغموض مثل قصة الشاعر الفلسطيني محمود درويش والفتاة اليهودية تامار باهي «ريتا»، التي ولدت لأب بولندي وأم روسية في حيفا عام 1943، وقصة روث المكسيكية ابنة فنان الجداريات المكسيكي الشهير دييجو ريفييرا التي تزوجها يوسف إدريس، ومنها ما عرف واستغربه البعض ورفضته عائلة طرف من أطراف العلاقة مثلما حدث في قصة زواج الشاعر المصري أمل دنقل بالكاتبة عبلة الرويني، والروائي إحسان عبد القدوس وزوجته لواحظ عبد المجيد المهيلمي «لولا».
أما الشاعر فاروق شوشة فقد رفض هو نفسه التقدم لطلب زوجته هالة الحديدي ما دام والدها على رأس الإذاعة المصرية، وانتظر حتى أحيل للتقاعد وعندما تقدم لها اشترط والدها أن يكون لقاؤه الأول مع شوشة في مكان محايد بعيداً عن بيته، فالتقاه في حديقة جروبي وسط القاهرة، وهناك اتفقا على كل شيء.
تضمن الكتاب 19 قصة وحكاية، كشفت جوانب من الحياة العاطفية لهؤلاء الكتاب والشعراء، ونظرة كل منهم إلى الآخر سواء كان امرأة أو رجلا، وقد روى بعض هذه الحكايات أصحابها بأنفسهم مثل الشاعر فاروق شوشة، والروائي جمال الغيطاني، والروائية هالة البدري، ورجاء الرفاعي زوجة الأديب يوسف إدريس، والشاعر إبراهيم داود، والكاتبة عبلة الرويني زوجة الشاعر أمل دنقل، وهناك قصص حكاها أبناء المبدعين مثل قصة إحسان عبد القدوس الذي تحدى والدته ملكة الصحافة في زمانها، وصاحبة مؤسسة روز اليوسف، وتزوج رغما عنها، وقد حكى الحكاية بتفاصيلها الكاتب الصحافي محمد عبد القدوس نجل إحسان.
وفي الكتاب أشار الحكيم إلى ما رشح عن تلك الحكايات والقصص من إبداعات، فكانت رواية «البيضاء» تجليا لعلاقة يوسف إدريس بامرأة أجنبية، البعض يقول إنها اليونانية الجميلة «ماريا بابادوبلو»، وآخرون يجزمون أنها نتجت عن قصة زواجه العجيبة من «روث» الفنانة المكسيكية وابنة الفنان العالمي «دييجوا ريفييرا» وقد وثقها الأديب إيمان يحيى في روايته «الزوجة المكسيكية»، أما الشاعر فاروق شوشة فقد كانت هالة الحديدي ملهمته خلال سنوات زواجه الأولى، وقد كانت حاضرة في قصائد ديوانه «لؤلؤة في القلب»، وهو الثالث في ترتيب دواوينه، واعتبره النقاد ديوانا استثنائيا، لأن قصائده كانت مليئة بالسعادة، والبهجة والحب وحب الحياة.
وعن بحثه في «الملف العاطفي لنجيب محفوظ» لم يعثر المؤلف أيمن الحكيم سوى على قصة غرام كبيرة وزيجة واحدة وبعص العلاقات السريعة والمؤقتة، فقد كان نجيب محفوظ حسب ما كان معروفا عنه «مستعداً لأن ينتزع قلبه من صدره إذا أحس أنه سيعطله عن الكتابة، وقرر طواعية أن يمنحها حياته كلها، ويضحي بمتع الحياة ومسراتها من أجلها، ومن هنا يمكن تفسير تأخره في الزواج حتى بعد سن الأربعين من عمره، وقد جاء زواجه مصادفة وبلا تخطيط، وتم في وقت ركود إبداعي، وفي ظرف وصفه هو بنفسه بأنه كان «غريباً وعجيباً».

ملهمات نجيب محفوظ

ويشير الحكيم إلى أن نجيب محفوظ حين كان يسكن وأهله في حي «العباسية» كان على موعد مع قصة حب حقيقية، وهي تجربة تركت أثرها في قلبه وفي رواياته، كانت الحبيبة جارة له وابنة عائلة ثرية، تسكن في «سرايا» لوالدها تقع في شارع «حسن عيد» الذي يربط بين شارعي العباسية و«الملكة نازلي»، كان أيامها على أعتاب مرحلة المراهقة، في الثالثة عشرة من عمره، أما هي فكانت في العشرين، وكان وجهها «أشبه بلوحة «الجيوكندا»، لم تكن فتاة تقليدية، بل كانت تميل إلى الطابع الأوروبي في مظهرها وتحركاتها، وهو طابع لم يكن مألوفاً آنذاك».
«وظل حبه لها قائماً وصامتا عاما كاملا حسب ما جاء في كتاب «نجيب محفوظ... صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته» لرجاء النقاش»، وقد حالت الفوارق الطبقية والعمرية دون أن تكتمل العلاقة، التي كانت مجرد حب من طرف واحد، وهي التي جسدها محفوظ في روايته «قصر الشوق» وفي شخصية «عايدة شداد التي وقع «كمال عبد الجواد» في غرامها وسحرها، ولم يكن كمال عبد الجواد سوى نجيب محفوظ، ولم تكن «عايدة شداد» سوى حبيبته «فاتنة العباسية»، حسب قسم من النقاد.
وقد عاد نجيب محفوظ ليستلهم قصتها ويكتب عنها في «المرايا»، وسماها «صفاء» الفتاة الجميلة ذات العشرين ربيعاً التي تسكن «سرايا الكاتب»، والتي أحبها نجيب الصبي الصغير ابن الخامسة عشرة وملكت قلبه، وقد كان حبه لها حسب ما وصفه في الرواية بلا مواقع ولا مواقف ولا تاريخ يذكر، وقد اعترف نجيب محفوظ للأديب جمال الغيطاني أنه عاش مأساة وجدانية بعد أن فارقته هذه الفتاة، ولم ينس ليلة زفافها في قصر أبيها حيث حرص على أن يذهب ليراها لآخر مرة.

زواج سري

ظل لسنوات طويلة يهرب من الزواج ويعتبره خطراً على مستقبله الأدبي، أما كيف تزوج، فيذكر «الحكيم» أن القرار كان محسوبا وبمواصفات عقلية بحتة، وقد اختار زوجة مناسبة لظروفه وشخصيته ولمهمته الكبرى في الحياة، وقد اعترف لرجاء النقاش وهو يروي سيرته، قائلا «كنت في حاجة إلى زوجة تساعدني على الكتابة، تفهم أنني لست كائنا اجتماعيا، ولا أحب أن أزور أحداً أو يزورني أحد، وأنني وهبت حياتي كلها للأدب».
وفي الإسكندرية كان محفوظ على موعد مع مبتغاه وقد وجد ضالته في «عطية الله»، قابلها مصادفة، كانت صغيرة، ربما لم تبلغ بعد الثامنة عشرة من عمرها، رآها حين كان يزور صديق له، أعجبه هدوؤها ورزانتها ورجاحة عقلها، وبحساباته العقلية وجد فيها الزوجة التي يبحث عنها، وأدرك أنها فرصته الأخيرة للزوج، كانت العقبة الكبرى هي فارق العمر الكبير بينهما، كان يكبرها بنحو ربع قرن، لكنه فوجئ بموافقتها، وهكذا تزوج العازب الشهير من «عطية الله إبراهيم رزق» في العام 1954، ولم يستطع أن يخبر أمه بأمر زواجه، وكان الحل الوحيد هو أن يكون زواجه سريا، وأن يتكتم خبره حتى لا يتسرب لها، ولذلك لم يعرف به إلا إخوته.
وظل زواج محفوظ سريا، إلى أن انكشف بعد نحو عشر سنوات، وبمصادفة بحتة، فقد تشاجرت ابنته «أم كلثوم» في المدرسة الابتدائية مع زميلة لها، وقد كشفت المشاجرة عن هويتها، ووصل الخبر بالصدفة إلى الشاعر صلاح جاهين، وما هي إلا ساعات حتى كان الخبر يتصدر جلسات النميمة.

نساء درويش وقصائدهن

وفي الفصل الذي خصصه الحكيم للحديث عن الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش ونسائه العابرات والساكنات في قلبه، جاءت اليهودية «تمارا باهي» الشهيرة بـ«ريتا» في صدارة المشهد، كانت تعمل راقصة، والتقى بها درويش لأول مرة، وهي في السادسة عشرة من عمرها، بعد انتهائها من الرقص، خلال حفل للحزب الشيوعي الإسرائيلي، كان درويش أحد أعضائه، وقد ربط الحب بينهما، واستمرت علاقة درويش بها لفترة من الزمن، ولكن نشوب حرب يونيو (حزيران) 1967 عجل بالفراق بينهما بعد أن علم درويش أنها التحقت بسلاح البحرية الإسرائيلي.
ولم يظهر لدرويش قصائد تشير لعلاقته بريتا إلا في عام 1967، نعم أرسل لها الكثير من الخطابات العاطفية، لكن نصيبها من الشعر بدأ بقصيدة «ريتا والبندقية»، ثم قصائد «ريتا أحبيني»، و«تقاسيم على الماء» و«الحديقة النائمة»، وقد تكرر اسم ريتا في دواوين درويش «آخر الليل»، و«العصافير تموت في الجليل»، و«حبيبتي تنهض من نومها»، و«أحبك أو لا أحبك»، و«أعراس». كما ظهرت أيضاً في قصيدة «شتاء ريتا الطويل» بديوان «أحد عشر كوكباً» الذي صدر عن دار العودة في 1993، ولم يتوقف ظهور «ريتا» عند الإبداع الشعري لكنها ظلت تتردد أيضاً في أعمال درويش النثرية حتى رحيله.
حاول الحكيم خلال رحلته في حياة محمود درويش رصد ما قاله أصدقاؤه من حكايات وأسرار ظلت خافية حتى رحيله، وقد كانت أكثرها قوة وضجيجا ما كشفه الكاتب سليم بركات، حين تحدث عن وجود ابنة غير شرعية لدرويش من علاقة أو نزوة مع امرأة غامضة، كما تحدث الحكيم عن زواج درويش السريع من رنا قباني ابنة شقيق الشاعر السوري نزار قباني، والمصرية حياة الحيني التي وافقت بلا تردد على الزواج منه، وأحبته بصدق وأحبها درويش كذلك.



فتاة العبّاسية في أحلام نجيب محفوظ

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ
TT

فتاة العبّاسية في أحلام نجيب محفوظ

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ

كان في حياة نجيب محفوظ قصة حب غريبة الشأن. قصة حب صامت ومن طرف واحد. حب عابدٍ مُتَوَلِّهٍ، خاشعٍ يرفع القرابين لإله لا يعلم حتى بوجوده. كمثل امتناننا للشمس كل صباح وهي لا تدري بوجودنا ولا نحن نتوقع منها ذلك. إلا أن الغرابة لا تتوقف عند هذا الحد. فهذا الحب الذي خبره محفوظ وهو صبي على عتبات المراهقة بقي معه طوال عمره المديد، وكان له أثر بليغ في قصصه ورواياته في كل مراحله الإبداعية، وحتى النهاية، حيث تتجلى تلك المحبوبة التي أسميها بـ«فتاة العباسية» تجلياً عظيماً في آخر أعماله إطلاقاً: «أحلام فترة النقاهة».

كان محفوظ يتحدَّث حديثاً مباشراً وإن كان نادراً عن تلك الفتاة ما بين الفينة والفينة، أذكر منه على سبيل التخصيص ما قاله في أحاديث سيرته الشخصية إلى رجاء النقاش والتي نُشرت بعنوان «نجيب محفوظ: صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته» (1998). ها هو يحكي القصة في اختصار: «في العباسية عشت أول قصة حب حقيقية في حياتي، وهي قصة غريبة ما زلت أشعر بالدهشة لغرابتها كلما مرت بذهني، وكنت أيامها على أعتاب مرحلة المراهقة (...) كنت ألعب كرة القدم في الشارع مع أصدقائي، وكان بيتها يطل على المكان الذي نلعب فيه. وأثناء اللعب شدني وجه ساحر لفتاة تطل من الشرفة. كنت في الثالثة عشرة من عمري، أما هي فكانت في العشرين، فتاة جميلة من أسرة معروفة في العباسية. رأيت وجهاً أشبه بلوحة (الجيوكاندا) التي تجذب الناظر إليها من اللحظة الأولى. ربما جذبني إليها بالإضافة إلى جمالها أنها كانت مختلفة عن كل البنات اللاتي عرفتهن قبلها. لم تكن فتاة تقليدية مثل بنات العباسية، بل كانت تميل إلى الطابع الأوروبي في مظهرها وتحركاتها، وهو طابع لم يكن مألوفا آنذاك... ظل حبي قائماً لهذه الفتاة الجميلة من بعيد ومن طرف واحد، ولم أجرؤ على محادثتها أو لفت انتباهها إلى حبي الصامت، واكتفيت منها بمجرد النظر (...) استمر الحب الصامت لمدة عام كامل. وكم كان حزني شديداً عندما تزوجت فتاتي وانتقلت إلى بيتها الجديد. كنت أعلم أن ارتباطي بها شبه مستحيل، رغم ذلك همت بها حباً (...) وصدمت لزواجها بشدة. انقطعت عني أخبارها، ومضت الأيام (...) إلا أن حبي لها لم يهدأ أبداً، وظلت آثاره عالقة بقلبي وذاكرتي (...) ولقد صورت قصتي مع تلك الفتاة في رواية (قصر الشوق) مع تعديلات تتفق مع الإطار العام الذي وضعته للرواية». (ص105 - 106).

كانت «قصر الشوق»، ثاني أجزاء «الثلاثية»، هي العمل الأكبر الذي تجلت فيه قصة الحب تلك وتجسدت فتاة العباسية في شخصية «عايدة شداد» وتجسد حب محفوظ لها في افتتان كمال عبد الجواد ابن التاجر البسيط بعايدة ابنة الباشا، قاطنة القصور. لكن حضور فتاة العباسية ملحوظ لمن يتقصَّاه في أعمال محفوظ منذ مجموعته القصصية الأولى «همس الجنون» في باكورة حياته فصاعداً، وقد رصدت ذلك في أحد فصول كتابي «استنطاق النص» (2006). أما آخر تجليات فتاة العباسية فكانت في آخر مراحل حياته، فالفتاة التي طاردت وعيه الظاهر طوال عمره، انتقلت إلى مطاردة وعيه الباطن أيضاً في الختام، كما نرى في «أحلام فترة النقاهة» الذي نُشر سنة 2005 قبيل رحيله. وقد أحصيتُ في كتاب الأحلام هذا وحده (ناهيك عن القسم الثاني منه الذي نُشر لاحقاً بعنوان «الأحلام الأخيرة» في 2015 بعد أن اكتشفت أسرته المزيد من نصوص الأحلام) - أحصيت 16 نصاً من مجموع 239. سأقتصر هنا على ثلاثة منها مع محاولة لتفسيرها.

ها هو نص الحلم رقم 18: «تمَّ مجلسنا على الجانبين في القارب البخاري. بدا كل واحد وحده لا علاقة له بالآخرين. وجاء الملَّاح ودار الموتور. الملَّاح فتاة جميلة ارتعش لمرآها قلبي. أطلَّت من النافذة وأنا واقف تحت الشجرة، وكان الوقت بين الصبا ومطلع الشباب. وركَّزتُ عينَي في رأسها النبيل وهي تمرق بنا في النهر. وتتناغم خفقات قلبي مع دفقات النسيم. وفكَّرتُ أن أسير إليها لأرى كيف يكون استقبالها لي. لكني وجدت نفسي في شارعٍ شعبي لعله الغورية، وهو مكتظٌّ بالخلق في مولد الحسين، ولمحتها تشق طريقها بصعوبة عند أحد المنعطفات، فصممت على اللحاق بها. وحيَّا فريق من المنشدين الحسين الشهيد. وسرعان ما رجعتُ إلى مجلسي في القارب، وكان قد توغَّل في النهر شوطاً طويلاً. ونظرت إلى مكان القيادة فرأيتُ ملَّاحاً عجوزاً متجهِّم الوجه، ونظرتُ حولي لأسأل عن الجميلة الغائبة، ولكني لم أرَ إلا مقاعد خالية».

يستدعي هذا الحلم فتاة العباسية. تلك الفتاة التي كانت تطل من النافذة حيناً بينما يتأملها الفتى محفوظ المشدوه بجمالها من الطريق، أو التي تمر في عربة تجرها الخيل فيراها في نافذتها. أظن الرحلة في القارب هنا هي رحلة الحياة وكون الفتاة هي الملّاح في تلك الرحلة إشارة إلى كونها كانت منارة هادية للكاتب في حياته الإبداعية. تَحوُّل المشهد من القارب البخاري إلى شارع مكتظ، ليس مما يُستغرب في الأحلام لكن الفتاة تبقى مبتغاه. يقتفي أثرها حتى تختفي منه في الزحام، كما اختفت فتاة العباسية من حياته في صدر شبابه. كما أن الإشارة لمولد الحسين والمنشدين الذين يتغنون بمأساته وشهادته لعلها لا تخلو من إلماع إلى «استشهاد» الراوي في هذا الحب العصيّ. وعلى عادة الأحلام في تنقل مسارح الأحداث يعود المشهد من حي الحسين إلى القارب. وأظنه هذه المرة هو قارب الموت الذي يحمل الموتى إلى العالم السفلي كما في الأساطير القديمة. فالمقاعد التي كانت مشغولة في البداية صارت كلها خالية إلا من الراوي الذي يبدو أن دوره قد حان. كما أن الملاح لم يعد الفتاة الفاتنة وإنما عجوز متجهم الوجه يُذكّر بـ«شارون» ملّاح الأساطير الإغريقية الذي كان ينقل أرواح الموتى في قاربه إلى مملكة «هاديز» رب العالم السفلي. انقضت رحلة الحياة إذن، وها هو الراوي يشق طريقه إلى عالم الأموات حاملاً معه شوقه الدائم إلى الفتاة الجميلة التي لم تكن له في أي وقت من الأوقات، ولا حتى في الأحلام.

ننتقل الآن إلى الحلم رقم 83: «رأيت الكارِتَّة مقبلة حاملة فاتنة درب قرمز، ويجرها جواد مجنَّح. اتخذت مجلسي فيما وراءها، وفرَد الجواد جناحَيه فبدأت ترتفع حتى علونا الأسطح والمآذن، وفي ثوانٍ وصلنا قمة الهرم الأكبر، وأخذنا في عبوره على ارتفاع ذراع، فجازفتُ وقفزتُ إلى قمته وعيناي لا تتحوَّلان عن الفاتنة وهي تعلو وتصعد، والليل يهبط والظلام يسود، حتى استقرَّت كوكباً مضيئاً».

هذا النص الغنائي الرهيف هو نموذج آخر للحنين لفاتنة الصبي المراهق محفوظ. فتاة العباسية التي كان يلمحها أحيانا تمرّ في «كارتّة» تجرها الخيل فلم تفارق خياله الغض مدى العمر. في هذا الحلم ينقلها محفوظ من العباسية حيث عرفها بعد أن انتقلت أسرته إلى العباسية في سن الثانية عشرة - ينقلها إلى درب قرمز في الجمالية حيث وُلد وعاش صباه الأول. وهي نقلة بارعة لا يقدر عليها سوى الأحلام، وكأنه يعود بها إلى السنوات الاثنتي عشرة من حياته التي خلت منها لكي تضفي عليها الشرعية وتضمها إلى بقية عمره التي قضاها في التعبُّد إليها. في هذا «الحلم» ينضم لها في عربتها، وهو ما لم يتسنَّ له في «العِلْم». كما أن حصان العربة في الواقع يترقَّى إلى جواد مجنَّح في الحلم، ولا غرابة في ذلك فالجميلة كانت دائماً مثالاً شاهقاً بعيد المنال بالنسبة له. وحتى في الحلم تبقى كذلك، فهي وإن سمحتْ له بالركوب معها، فإنه يكون «وراءها» وليس إلى جانبها. وحتى في الحلم هو يدرك تماماً أنه غير مؤهل للمضي معها في رحلتها، ولذلك يتحين الفرصة قافزاً من العربة إلى قمة الهرم الأكبر قبل أن تواصل العربة شق طريقها إلى مَراقٍ ليس هو أهلاً لها. حتى في الحلم تحتل فتاة العباسية مكانها نجماً مضيئاً بين النجوم ويبقى هو على الأرض يتطلع إليها في السماء. تماماً كما بقي يفعل طوال حياته.

نختم بالحلم رقم 84: «رأيتني في شارع الحب كما اعتدت أن أسميه في الشباب الأول. ورأيتني أهيم بين القصور والحدائق وعبير الزهور، ولكن أين قصر معبودتي؟ لم يبقَ منه أثر، وحل محله جامع جليل الأبعاد، رائع المعمار، ذو مئذنة هي غاية الطول والرشاقة. ودُهشت، وبينما أنا غارق في دهشتي انطلق الأذان داعياً إلى صلاة المغرب، دون تردُّد دخلت الجامع، وصلَّيت مع المصلِّين، ولمَّا ختمت الصلاة تباطأت كأنما لا أرغب في مغادرة المكان؛ لذلك كنت آخر الراحلين إلى الباب، وهناك اكتشفت أن حذائي قد فُقد، وأن علي أن أجد لنفسي مخرجاً».

هذا الحلم وثيق الصلة بسابقه رقم 83. المعبودة هنا هي المعبودة هناك. إلا أنه هنا يخلط بين واقع حياته الأولى وبين تجليات المعبودة في إنتاجه الأدبي. فالمعبودة الواقعية كانت عابرة في «كارتّة» أما المعبودة المطوَّرة فنياً فهي عايدة شداد، معبودة كمال عبد الجواد في «قصر الشوق»، والتي كانت من عائلة أرستقراطية من ساكني القصور. نعرف غرام محفوظ بتحولات الزمن، ومن هنا تحول القصر إلى جامع في الحلم. ولنلاحظ أن القصر لا يتحول إلى أي جامع، بل هو جامع من طبقة القصور، فهو «جليل الأبعاد»، «رائع المعمار» وله «مئذنة شاهقة». فهو مكان عبادة يليق بالمعبودة في تحوله الجديد كما في سابق عهده. وإسراع الراوي إلى دخول الجامع لدى سماعه الأذان هو فعل عبادة نحو المعبود القديم ساكن القصر بمقدار ما قد يكون فعل عبادة لرب الجامع. وإطالة المكث في الجامع حتى أن الراوي كان آخر المغادرين هو من رغبة التمسح بالموضع الذي كان سابقاً مقام المعبودة. إلا أنَّ الحلم ينتهي بمفاجأة هزلية حين يجد الراوي أن حذاءه قد سُرق عندما يقرر مغادرة الجامع. هذه نهاية واقعية عابثة لحلم مُغرِق في الرومانسية. ولعلها سخرية محفوظية ذاتية. فكما أن فتاة العباسية التي طاردت صورتها خياله طوال حياته كانت أشبه بالوهم، وكما أن كمال لم يعنِ يوماً شيئاً لمعبودته عايدة شداد، بل كان موضع سخريتها ووسيلة امتطتها لإثارة مشاعر الغيرة في مَن كانت تريده حقاً، كذلك قصر المعبودة وجامعها الشاهق وتعبُّده القديم المجدد عبر القصور والمساجد لا يتمخض إلا عن حذاء مسروق وعابد عاري القدمين لا يعرف كيف يدبر رحلة العودة من المحراب.