«سيّد اللعبة» يكشف أصعب اللحظات في دبلوماسية كيسنجر

مارتن إنديك يرصد في كتابه كيف تعامل وزير الخارجية الأميركي السابق مع الصراع في الشرق الأوسط

الملك فيصل بن عبد العزيز مستقبلاً كيسنجر عام 1973 في الرياض (غيتي)
الملك فيصل بن عبد العزيز مستقبلاً كيسنجر عام 1973 في الرياض (غيتي)
TT

«سيّد اللعبة» يكشف أصعب اللحظات في دبلوماسية كيسنجر

الملك فيصل بن عبد العزيز مستقبلاً كيسنجر عام 1973 في الرياض (غيتي)
الملك فيصل بن عبد العزيز مستقبلاً كيسنجر عام 1973 في الرياض (غيتي)

حينما ترد كلمة «عرّاب السياسة» العالمي في العصر الحديث، تتبادر إلى أذهان الكثيرين أسماء متعددة من الشرق إلى الغرب، إلا أن الغالبية تكاد تجمع على أنه هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأميركي الأسبق. ربما تعد هذه النظرة من صيغ المبالغة، فلا يجمع الكل على حبه، ولا على كرهه أيضاً، إلا أن الجميع يحفظ له حقوق «ملكية الفكرية الدبلوماسية»، في التعامل مع أحلك وأصعب الأحداث السياسية في العالم العربي، وكذلك التعامل مع أصعب «المنعطفات» في العالم الغربي.
ويحق للقارئ التساؤل، لماذا هذه «الهالة» التي تحيط بالوزير كيسنجر ولا يزال يتردد صداها إلى يومنا هذا؟ ولماذا لم تنتهِ في حقبة السبعينات من القرن الماضي؟ للإجابة عن هذه «التساؤلات المشروعة»، كتب مارتن إنديك السفير الأميركي السابق في إسرائيل، ومساعد وزير الخارجية للرئيس بيل كلينتون لشؤون الشرق الأدنى، ومبعوث الرئيس باراك أوباما للمفاوضات الإسرائيلية – الفلسطينية، كتاباً بعنوان: «سيد اللعبة، هنري كيسنجر وفن دبلوماسية الشرق الأوسط»، يسرد في كتابه قصصاً عن مشاركة الدكتور هنري كيسنجر في دبلوماسية السلام في الشرق الأوسط، بصفته مستشاراً للأمن القومي للرئيس ريتشارد نيكسون، ووزيراً للخارجية أيضاً، والذي ظل في منصبه كذلك في عهد الرئيس جيرالد فورد كوزير خارجيته.
كان لأستاذ العلوم السياسية الألماني المولد، واليهودي بجامعة هارفارد كيسنجر تأثير كبير على علاقات إسرائيل مع جيرانها العرب، وهدف المؤلف إنديك سرد الكثير من القصص حول تعامل كيسنجر مع العرب والإسرائيليين، إذ يصور إنديك كيف تعامل كيسنجر مع العديد من الشخصيات بوضع الأساس لمحادثات السلام في الشرق الأوسط، متتبعاً فترة ولاية هنري كيسنجر من يناير (كانون الثاني) 1969 حتى ترك البيت الأبيض بعد ثماني سنوات حتى 1977. ويقر المؤلف باهتمامه بعملية السلام في الشرق الأوسط باعتباره يهودياً وُلد في أستراليا، وعاش أيضاً في إسرائيل خلال حرب أكتوبر (تشرين الأول) عام 1973.
ولم يخفِ إنديك الذي يتشارك مع كيسنجر الديانة اليهودية، والاهتمام بالمنطقة العربية، ميوله وإعجابه بالوزير الأسبق، بل كشف أن زوجته كانت تعمل سكرتيرة شخصية لكيسنجر، وتتعامل مع الكثير من الأمور الشخصية والعملية، وكذلك الإدارية أيضاً.
استخدم الكاتب أسلوباً في كتابة الكتاب يتحدث فيه عن مهمة دبلوماسية لكيسنجر في الشرق الأوسط، تليها حلقة أخيرة في المفاوضات المعاصرة بين الإسرائيليين والفلسطينيين، ثم يقارن بين هذين الحدثين في تاريخ العلاقات الخارجية للولايات المتحدة في الصراع العربي الإسرائيلي، مقسماً الكتاب إلى خمسة أقسام ولكل قسم عدة فصول يبلغ مجموعها 17 فصلاً، و672 صفحة، نشر برعاية مجلس العلاقات الخارجية ومقره نيويورك، ودار النشر «ألفريد أ. كنوبف»، في خريف عام 2021.
- كيسنجر استطاع إدارة الصراع في الشرق الأوسط كما تعامل مع معاداة نيكسون للسامية
بدأ الكتاب بأداء كيسنجر اليمين الدستورية كوزير خارجية للولايات المتحدة في سبتمبر (أيلول) 1973. وكيف أجرى مكالمات هاتفية عاجلة ومبكرة يوم السبت 6 أكتوبر 1973، إلى السفير السوفياتي في واشنطن أناتولي دوبرينين، ووزيري خارجية مصر وإسرائيل الذين أكدوا جميعاً أن المصريين والسوريين يهاجمون إسرائيل، وأن هناك حملة عسكرية لعبور قناة السويس، إذ أرسل على الفور رسالة إلى الرئيس نيكسون يخبره فيها أن أميركا ستشهد اليوم حرباً في الشرق الأوسط.
وسلط الكاتب الضوء على بعض الصعوبات التي واجهها كيسنجر في التعامل مع الرئيس نيكسون، كاشفاً أن حقيقة كون كيسنجر يهودياً أعاقت رغبته رئيس للولايات المتحدة في تحسين علاقات أميركا مع الدول العربية، إذ يشير إنديك أيضاً إلى معاداة نيكسون للسامية وكيف أنه غالباً ما كان يضايق كيسنجر بشأن يهوديته في محادثاتهما الخاصة، ومع ذلك، فقد شارك الاثنان في رغبة قوية في الحفاظ على مواجهة الاتحاد السوفياتي، باعتباره توجهاً أساسياً في العلاقات الخارجية لأميركا، وفي الوقت نفسه لاستبعاد السوفيات من الشرق الأوسط قبل وبعد حرب أكتوبر رمضان عام 1973.
- العلاقة بين كيسنجر ومائير لم تكن سهلة لكنه انتزع منها تعهداً حول البرنامج النووي الإسرائيلي
يروي المؤلف كيف أن العلاقة بين هنري كيسنجر ورئيس الوزراء الإسرائيلي غولدا مائير لم تكن سهلة أيضاً، أولاً، في ربيع عام 1969 انتزع كيسنجر من مائير تعهداً بعدم الكشف علناً عن مدى تقدم البرنامج النووي الإسرائيلي، ورفض خيار حكومة الولايات المتحدة بعدم إرسال «طائرات فانتوم» العسكرية لإسرائيل، مقابل الاحتفاظ بمعلومات سرية حول أنشطتها النووية. وذلك لأن نيكسون وكيسنجر خشيا من أن السوفيات سيساعدون العرب في الحصول على قدرات نووية، وذلك لو أصدرت إسرائيل مثل هذا الإعلان. ثانياً، كرهت غولدا مائير توصيف كيسنجر لضحايا حرب إسرائيل في عام 1973، على أنه شيء مشابه لخسارة الأميركيين في الأرواح في حرب فيتنام، إذ شعرت أن ذلك كان محبطاً لإسرائيل. وأخيراً، كانت رئيس الوزراء الإسرائيلية قلقة للغاية من رغبة كيسنجر في إطالة أمد الحرب في أكتوبر 1973، لأن هذا قد يعني دخول السوفيات إلى الحرب جنباً إلى جنب مع السوريين والمصريين.
وربما يلاحظ القارئ للكتاب، كيف أن مارتن إنديك أسهب في تقدير كيسنجر لدور مصر في الحرب والسلام في الشرق الأوسط، ففي فبراير (شباط) 1973، التقى كيسنجر مع مستشار الأمن القومي المصري حافظ إسماعيل في نيويورك، وساهم الاجتماع في فهم كيسنجر لرغبة مصر القوية في استعادة سيادتها على شبه جزيرة سيناء، إلى جانب ذلك كانت أفكار كيسنجر حول كيفية منح إسرائيل عدة إجراءات أمنية لضمان أمنها في سيناء محل فهم وإدراك للمصريين أيضاً.
يحدد المؤلف نقطة الانطلاق لسلام كيسنجر في الشرق الأوسط عندما ذهب للتفاوض على وقف إطلاق النار بين مصر وإسرائيل في أواخر أكتوبر وأوائل نوفمبر (تشرين الثاني) 1973، حيث اضطر كيسنجر لزيارة موسكو والتحدث في الكرملين مع الأمين العام للحزب الشيوعي السوفياتي، ليونيد بريجنيف، وكانت الأولوية القصوى والملحة لكيسنجر هي التعاون مع السوفيات لفرض عدم استمرار النزاع المسلح، أو الاتفاق على هدنة بين المصريين والسوريين والإسرائيليين، وكيف أن ذلك ساهم في مقاربة وزير الخارجية الأميركية بإقامة علاقة ودية مع الرئيس المصري محمد أنور السادات لاحقاً.
ويجادل الكاتب، بأن المقاربة بين كيسنجر والسادات أدت إلى قيام كيسنجر بالتفاوض على اتفاق فك الارتباط بين القاهرة وتل أبيب في يناير 1974. وسبتمبر 1975 على التوالي، ومع ذلك، فإن العلاقة بين كيسنجر والرئيس السوري حافظ الأسد لم تكن وثيقة وناجحة كما هي الحال مع السادات، وكانت جهود كيسنجر متواضعة فيما يتعلق بالمسألة السورية كما يتضح من توقيع اتفاقية فك الارتباط السورية - الإسرائيلية في مايو (أيار) 1974.
- «أوبك» تفشل مساعي كيسنجر
ومع ذلك، فإن أصعب جوانب دبلوماسية كيسنجر للسلام في الشرق الأوسط كانت محاولاته لإنهاء منظمة «أوبك» لسياسة تسعير النفط المرتفعة أثناء وبعد اندلاع حرب أكتوبر، والمراسلات بين الملك فيصل بن عبد العزيز ملك المملكة العربية السعودية ووزير النفط السابق الدكتور أحمد زكي اليماني. ويشرح المؤلف كيف كان كيسنجر يتصارع مع الفلسطينيين، حيث رفض كيسنجر الدفاع عن حقوق الفلسطينيين بشكل مباشر. وبدلاً من ذلك، فوّض هذه المهمة إلى هارولد سوندرز، مساعده لشؤون الشرق الأوسط، لمعالجة مواضيع الاستحقاقات الأساسية للفلسطينيين في عملية السلام، كما أشار إنديك إلى كيفية تعامل كيسنجر مع الملك حسين ملك الأردن، ووصف كيسنجر بأنه متردد في تأييد دور أكثر حزماً للأردن في الضفة الغربية.
لكن كيسنجر كان أيضاً داعماً للملك حسين، ولم يكن يريد للولايات المتحدة أن تتدخل عسكرياً في الأردن في سبتمبر (أيلول) 1970 أثناء مواجهة العاهل الأردني مع الفدائيين الفلسطينيين، وفي الواقع، لم يمانع كيسنجر من أن تقف إسرائيل إلى جانب الملك حسين لدحر التمرد ضده، والجزء الأكثر روعة في الكتاب هو شهادة الجالية اليهودية الأميركية على مشاركة كيسنجر في ترتيب مفاوضات، بشكل مباشر أو غير مباشر، بين الدول العربية وإسرائيل.
كان هناك خوف واضح ومتزايد بين العديد من اليهود الأميركيين من أن كيسنجر كان يقدم الكثير من التنازلات للعرب، وكان رئيسه الجديد الرئيس جيرالد فورد، مستاءً للغاية من مثل هذا الضغط اليهودي المتصاعد حول كيفية صياغة إدارته لدبلوماسية السلام في الشرق الأوسط، التي كان العقل المدبر لها هنري كيسنجر، ويشير مارتن إنديك إلى أن اللوبي اليهودي في أميركا نجح في تجنب صراع مفتوح مع إدارة الرئيس جيرالد فورد، من خلال الحفاظ على القنوات القوية التي كانت لديه مع العديد من المكاتب في حكومة الولايات المتحدة، ومن خلال الثقة في أن فورد وكيسنجر يحافظان على الاتصالات مع إسرائيل والدول العربية، وأنها لن تكون متحيزة ضد إسرائيل أو اليهود.
- ملك المغرب أوصى السادات بالتعامل مع كيسنجر وأنه «يمكن الوثوق به»
وبشكل عام، يُظهر إنديك أن كيسنجر كان ناجحاً في كسب ثقة العرب، وهو ما يفتقره العديد من وزراء الخارجية الذين جاءوا من بعده وتعاملهم مع هيكلة عملية السلام في الشرق الأوسط، والتي يعززها دور ناشط للولايات المتحدة، وحاز هذا الانفتاح الشامل على ثقة الملك الحسن الثاني ملك المغرب، كما كتب المؤلف، قائلاً: «كان الحسن الثاني قادماً. لقد قبل حجة كيسنجر بأنه ليس من المنطقي إضاعة رأس المال الدبلوماسي الثمين في تحديد خط 22 أكتوبر وأنه من الحكمة الانتقال مباشرة إلى فك الاشتباك الأوسع للقوات».
كما بعث الملك المغربي برسالة إلى الرئيس أنور السادات مفادها: «انطباعنا الرئيسي، هو إذا التزم كيسنجر بالتزام فسوف يحترمه... يمكنك أن تضع ثقتك فيه»، ويجسد الكتاب كيف جسّد كيسنجر البحث الأميركي عن السلام بين مصر وإسرائيل، وإصراره على دعوة السوفيات إلى مؤتمر السلام في جنيف، وهذا من شأنه أن يثبت التزامهم بالسلام في الشرق الأوسط من حيث المبدأ. وبعد ذلك، سيعزز وزير الخارجية الأميركية دوره في لعب دور الوسيط بين مصر وإسرائيل، وجاء في الكتاب، «سعى كيسنجر بشكل غير مباشر إلى تقديم فكرة أنه سيكون الشخص الذي يدير هذه المفاوضات مع السادات ومجلس الوزراء الإسرائيلي».
- فشل كيسنجر بنقل نظام الأسد إلى المعسكر الأميركي
كان هذا انتصاراً دبلوماسياً آخر لكيسنجر، لأن مصر وإسرائيل وافقتا على دبلوماسية الوساطة الخاصة به، وتعاونتا معه للعمل أكثر نحو السلام بين الاثنين. وحاول كيسنجر أيضاً تحييد سوريا، كما كتب مارتن إنديك، قائلاً: «بدأ كيسنجر المفاوضات مع الأسد على أمل أن تنتهي في لحظة شبيهة بلحظة السادات عندما ينقلب ضد الاتحاد السوفياتي وينتقل بالكامل إلى المعسكر الأميركي. لكنه لم يعمل حقاً لتحقيق هذه النتيجة، أو يعتقد أنها ضرورية. كان كافياً لنظامه الجديد في الشرق الأوسط أن يحسب الأسد من الآن فصاعداً أنه من مصلحة سوريا تجنب الصراع مع إسرائيل».
ومع ذلك، يلخص الكتاب حدود ما يمكن أن يحققه كيسنجر، ونقلاً عن المؤلف، «كان كيسنجر ملتزماً جداً باستراتيجية التدرج هذه، ومع ذلك، فقد فشل في إدراك أنه بحلول عام 1975 وصل السادات إلى نقطة الإنهاك. وسيكون عملاً دراماتيكياً أحادياً من جانب السادات في هذه الحالة، وقراره بالذهاب إلى القدس بعد عامين لإثبات استعداده للسلام. بحلول ذلك الوقت، كيسنجر كان خارج المكتب. ومع ذلك، فإن رحلة السادات إلى القدس أثبتت صحة نهج كيسنجر».
وذكر الكاتب أن كيسنجر كان رائداً في استراتيجية الدبلوماسية المكوكية التي تلبي الاحتياجات الملحة للمصريين والسوريين والإسرائيليين لإنهاء حالة الحرب فيما بينهم. رغم ذلك، فشل في تضييق فجوة كبيرة بين إسرائيل وفلسطين كانت تتسع يوماً بعد يوم، كما فشل أيضاً كاتب الكتاب مارتن إنديك في عملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين خلال فترة الرئيس باراك أوباما، الذي عمل عن كثب مع قادة البلدين والدول العربية في المنطقة.
- السعودية تسببت بخلق «أصعب لحظات» في حياة كيسنجر
وتطرق مارتن إلى تعاملات كيسنجر مع السعودية، مشيراً إلى الدور الحاسم الذي لعبته الرياض قبل وبعد حرب أكتوبر عام 1973، وذكر أن كيسنجر اتبع تقليد «الواقعية في السياسة الخارجية»، ومن ثم، اعتبر السعودية قوة أساسية لموازنة نفوذ جمال عبد الناصر في العالم العربي، ولاحظ لاحقاً أن الرئيس أنور السادات كان يتخذ خطوات منسقة للتخطيط للحرب مع سوريا، وللحصول على الدعم المالي من الملك فيصل بن عبد العزيز لتمويل المجهود الحربي الوشيك في وقت واحد.
في 14 أكتوبر 1973، كتب كيسنجر رسالة إلى الملك فيصل يخبره فيها أن قرار الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون بإنشاء قناة جوية تزود إسرائيل بالأسلحة، كان رداً على تسليح السوفيات للقوات العسكرية لمصر وسوريا، وقال وزير الداخلية آنذاك الأمير فهد بن عبد العزيز، لكيسنجر إن الملك فيصل بن عبد العزيز لم يعجب من مراسلات كيسنجر، لأنه صوّر السعودية وكأنها تقف مع دعم أميركا لإسرائيل خلال الحرب، على افتراض أن واشنطن والرياض كانا في تحالف مناهض للشيوعية، وبالطبع، لم يكن هذا هو الحال.
- كيسنجر على خلاف نيكسون لم يكن يتوقع أن الملك فيصل سيستخدم سلاح النفط
بالمقابل قلل كيسنجر من شأن إمكانات السعودية، ولم يتوقع استخدام النفط كسلاح في حرب أكتوبر، حيث كان على خلاف بشأن هذه المسألة مع نائب وزير الخارجية كينيث راش، كما كتب إنديك، مستطرداً: «كان نيكسون مثل شليزنجر وراش قلقاً بشأن النفط. ومع ذلك، كان كيسنجر غير متوقع بشأن احتمالية فرض حظر نفطي عربي، ليس لأنه كان متجاهلاً للقلق، بل لأنه كان يعتقد أن جهوده لاستخدام الأزمة للتوصل إلى تسوية سياسية ستبقى في أيدي منتجي النفط».
وحصل ما لم يتوقعه كيسنجر، لتصدر مجلس وزراء النفط العرب قراراً بوقف تصدير النفط إلى الولايات المتحدة في 19 أكتوبر 1973، وخلال الأشهر الستة التالية، تضاعفت أسعار النفط أربع مرات، وظلت الأسعار عند مستويات أعلى حتى بعد انتهاء الحظر في مارس (آذار) 1974، إلا أنه خلال الحظر، ارتفعت أسعار النفط المعدلة حسب التضخم من 25.97 دولار للبرميل في عام 1973 إلى 46.35 دولار للبرميل في عام 1974.
- «حظر النفط» غيّر المعادلة السياسية خلال «حرب أكتوبر» وأربك الأسواق
نتيجة لذلك، بدأت أصعب المواقف الدبلوماسية في حياة المخضرم هنري كيسنجر، وصناعة السلام في الشرق الأوسط مما دفعه إلى البدء في محاولات لإنهاء تكتل «منظمة أوبك»، والسياسة التي اتبعتها في تسعير النفط المرتفع أثناء وبعد اندلاع حرب أكتوبر، وقال إنديك إن الكثير من المراسلات جرت خلال تلك الفترة بين الملك فيصل بن عبد العزيز ووزير النفط السابق الدكتور أحمد زكي يماني من جهة، وهنري كيسنجر وزير الخارجية الأميركي من جهة أخرى.
وأفاد في كتابه، بأن دائماً ما كان كيسنجر يناشد الاثنين لإنهاء مقاطعة النفط التي تضر بالاقتصاديات الصناعية للولايات المتحدة، والغرب إلى حد كبير، إلا أنه كانت هناك شروط قاسية على كيسنجر، ولم تجدِ محاولاته بحث منظمة أوبك على إنهاء حظرها النفطي، وفي البداية، كان حل وضع القدس أحد المطالب التي قدمتها «أوبك» لإعادة مستوى إنتاجها إلى ما قبل الحرب، كما كانت هناك مطالب بمنح الفلسطينيين حقوقهم وإجبار إسرائيل على منح الأراضي التي احتلتها.
وفي تطور الأحداث، لا يمكن أن تتحقق الأشياء الثلاثة التي هي الأبرز بالنسبة لـ«أوبك»، وكما هو متوقع، تغيرت السياسة النفطية الجديدة لـ«أوبك» بعد أن أدرك أعضاؤها حدوث درجة من التقدم في العلاقة بين مصر وإسرائيل، لأن مثل هذا التطور الجديد يعني أن أميركا أصبحت أقل انحيازاً لإسرائيل، على الأقل في علاقة ذلك البلد بمصر، وفي مواضع أخرى، وصف مارتن كيف أخبر كيسنجر أن الرئيس السوري حافظ الأسد على استعداد للقائه، حيث كرر مراراً لكيسنجر أنه «إذا انسحبت إسرائيل من الأراضي العربية، فإن جاذبية الشيوعية في المنطقة سوف تتضاءل».
- الملك فيصل شديد الحذر والدهاء لكنه منفتح في علاقته مع كيسنجر
ونقل إنديك، عن لقاء الملك فيصل مع كيسنجر بينما كان الحظر النفطي ساري المفعول، حيث وُصف الملك فيصل بأنه شديد الحذر في كلماته مع كيسنجر، وفي مرة من المرات قال لوزير الخارجية الأميركي إن «إبرام اتفاق فك الارتباط بين مصر وإسرائيل، سيجعل الصنابير تفتح مرة أخرى»، أي خطوط إنتاج النفط، وفي الواقع، كان هناك انقضاء شهرين عندما تم توقيع اتفاقية فك الارتباط الأولى، وعندما استأنف إنتاج النفط حصصه السابقة، كانت السعودية أكثر صرامة مع كيسنجر، مما كان يعتقد في السابق.
ورأى الكاتب، أن هذا كان له علاقة بإقامة الملك فيصل للربط بين اتفاقية فك الارتباط بين سوريا وإسرائيل، قبل إلغاء ارتفاع أسعار النفط، ففي يوم السبت الموافق 2 مارس (آذار) 1974، ذهب كيسنجر إلى السعودية والتقى بالملك فيصل مرة أخرى، وقال له إن الوزير عمر السقاف (وزير الدولة السعودي للشؤون الخارجية) اجتمع بشكل جيد مع الرئيس نيكسون، واتفقا على إنهاء الحظر النفطي، وبحسب الكاتب، «فاجأه الملك فيصل بقوله إن فصل القوات في الجولان يجب أن يأتي أولاً»، ووصف الملك فيصل هذه الخطوة بأنها «العقبة الأخيرة».
ويصور إنديك الملك فيصل على أنه منفتح وممتعض لكيسنجر، ففي مرة من المرات، «اصطحبه (الملك فيصل) إلى الباب بينما كان يغادر الاجتماع، في لفتة لطيفة منه، وتحدث معه عدة مرات باللغة الإنجليزية، وأخبره بينما كان يودعه، بأنه كان يدعو الله أن يبارك في كيسنجر ويساعده على تحقيق النجاح في دبلوماسيته المكوكية».
وبمزيد من التفاصيل، وبينما كانت أميركا لا تزال تمنح إسرائيل أسلحة بحرية، بينما كان الحظر النفطي لا يزال سارياً، صرّح مارتن إنديك أن «الملك فيصل أحبط محاولة كيسنجر في ربط إنهاء الجسر الجوي بتخفيف الحظر النفطي، وبدلاً من ذلك، أشاد بدهاء الملك فيصل»، ويوضح الكاتب أن كيسنجر أدرك إذا لم يرض الملك فيصل، «فيمكنه دائماً العودة إلى فرض حظر النفط مرة أخرى»، إلا أن ردود الملك فيصل على كيسنجر كانت دائماَ تشير إلى أن «الحظر هو قرار عربي مشترك»، والهدف من ذلك، أن الملك فيصل أراد من كيسنجر أن يفعل المزيد قبل رفع الحظر النفطي.
- استشهاد الملك فيصل نزل بشعور من الكآبة على البيت الأبيض
ويكرر الكاتب ما كتب من قبل في وسائل الإعلام الأميركية، من أن اغتيال الملك فيصل نزل بشعور من الكآبة داخل البيت الأبيض اجتاح الجميع بمن فيهم كيسنجر، وادّعى الكاتب، أن يهودية كيسنجر لم يكن لها قبول كبير في أوساط الدبلوماسية العربية آنذاك، ولكن كيسنجر حصل أيضاً على العديد من الامتيازات المماثلة لمكانته كرجل دولة أميركي بارز، ومسؤول حكومي كبير جداً، وبالتالي، كانت حكمة الدبلوماسية السعودية هي معرفة الأرضية المشتركة التي يمكن العثور عليها في الأصول الدبلوماسية مع كيسنجر. وكان هذا في تناقض مباشر مع معارضة كيسنجر المبكرة لمخاوفه من أن يتم رفضه في السعودية، لكونه يهودياً من خلال العقيدة الدينية.


مقالات ذات صلة

مكتبة سينمائية متنوعة من «مهرجان أفلام السعودية»

سينما غلاف «جمالية التلقي» (مهرجان أفلام السعودية)

مكتبة سينمائية متنوعة من «مهرجان أفلام السعودية»

لا يختلف اثنان على أن نشر بعض مؤسسات ومهرجانات السينما العربية كتباً متخصصة في مختلف شؤون الفن السابع، هو فعل ثقافي تماماً كحالة تلك المؤسسات والمهرجانات.

محمد رُضا (لندن)
كتب جوزفين كوين

كيف صنع العالمُ الغربَ؟

ثمّة نموذج (غربيّ) راسخ في النظر إلى التاريخ بوصفه قراءة لحضارات منفصلة متمايزة، ويجعل من الحضارة الغربيّة المعاصرة نتاج مرحلة النهضة

ندى حطيط
كتب هل يملك الأطفال وعياً طبقياً؟

هل يملك الأطفال وعياً طبقياً؟

أصدرت المجلة «Siences humaines» عدداً خاصاً في خريف عام 2023 تحت عنوان عريض «الملفات الكبرى»، وكان موضوعه الأساسي تحت عنوان «كيف ينظر الأطفال إلى العالم؟».

د. حسن منصور الحاج
كتب «القناع والشعر»... دراسات في المشهد الشعري الراهن

«القناع والشعر»... دراسات في المشهد الشعري الراهن

مجموعة من الدراسات والأفكار اللافتة يضمها كتاب «القناع والشعر» للناقد الأكاديمي دكتور عبد الحكيم العلَّامي، تعتمد بشكل أساسي على النظرية البنيوية

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق على هذه الكنبة كان يجلس نعيمة وقد حوّلت سهى كل زاوية إلى ذكرى (الشرق الأوسط) play-circle 04:01

على آخر خُطى ميخائيل نعيمة... «حارسة الذاكرة» تكشف خبايا السنوات الأخيرة

زيارة لمنزل المفكّر ميخائيل نعيمة، حيث كل غرفة وجدار وطاولة وكنَبة يحكي ذكريات أحد أهمّ أعمدة الأدب العربي وصنّاعه.

كريستين حبيب (بيروت)

كيف صنع العالمُ الغربَ؟

جوزفين كوين
جوزفين كوين
TT

كيف صنع العالمُ الغربَ؟

جوزفين كوين
جوزفين كوين

ثمّة نموذج (غربيّ) راسخ في النظر إلى التاريخ بوصفه قراءة لحضارات منفصلة متمايزة، ويجعل من الحضارة الغربيّة المعاصرة نتاج مرحلة النهضة واستعادة للقيم الحضارية في الفضاء الجغرافي الأوروبي، أي تراث الإغريق والرومان، بعد فترة من الظلام المديد خلال العصور الوسطى. وإذا كان ثمة من ذِكر لحضارات أخرى قديمة في سياق التأريخ للغرب، فيقتصر الأمر عندئذ على مجرد تطعيم لمنجزات أثينا وروما من الفلسفة والعمارة إلى المسرح والديمقراطيّة بمزيج غامض من الحكايا والأساطير التوراتية.

هذا النموذج الذي يشكل منطق الكتابة التاريخيّة المعاصرة يعترف حتماً بوجود حضارات قديمة قد تثير بعض منجزاتها وتركتها الماديّة الإعجاب، كما في العراق القديم، أو مصر الفرعونية، والهند والصين، مثلاً. لكنّه يتعامل معها بوصفها حضارات الآخرين، خارج الغرب، صعد كل منها على حدة ليسود في فضاء جغرافي وبيئي وزمني محدد قبل أن يهوِي، كما لو أنها كانت مجموعة من الأشجار الأكزوتيكيّة المتباعدة التي كبر كل منها في وقت ما فأزهرت قبل أن تبيد تاركة كومة من الآثار الغريبة لتشهد عليها. وهذه الأخيرة، أي اللقى الأثرية، أصبحت تجارة رابحة وموضوعاً للنهب الرسمي، لينتهي جزء كبير منها في خزائن عرض لإرضاء فضول رواد المتاحف على جانبي الأطلسي.

من هذه الأرضيّة في النّظر إلى التاريخ نشأ خطاب الإمبرياليّة المعاصرة كما تجسد في سجال عالم السياسة الأميركي المعروف صمويل هانتنغتون حول صراع الحضارات - كما في مقالته الشهيرة من عام (1996) بعد انحسار الحرب الباردة بين الشرق والغرب. عند هانتنغتون فإن ما يفرّق البشر عوامل ثقافيّة ودينية أكثر منها سياسية أو اقتصاديّة، ونظّر لحضارات معاصرة متناقضة ومتمايزة على أسس من الدّين والجغرافيا من بينها الغرب اليهودي المسيحي الممتد من أقصى الغرب الأميركي حتى حدود الستار الحديدي الفاصل بين الأوروبيتين الشرقية والغربيّة، في مقابل الحضارات الأخرى: الأرثوذكسية الشرقية، والإسلامية، والكونفوشيوسية وغيرها، زاعماً بأن «تاريخ البشر ليس سوى تاريخ حضارات، بحيث يستحيل النّظر في تطور تجربة النوع الإنساني عبر الأيام بأي صيغة أخرى، مع الأخذ بعين الاعتبار بأنه وخلال الحقب الأطول من التاريخ البشري فإن التّواصل بين الحضارات المختلفة كان معدوماً أو عابراً في أفضل الأحوال».

جوزفين كوين، أستاذة التاريخ القديم بجامعة أكسفورد (المملكة المتحدة)، تطيح بجذريّة واثقة بكل هذا الهراء الفكري المتراكم، وتقدّم في كتابها الأحدث «كيف صنع العالمُ الغرب: تاريخ أربعة آلاف عام»، مقاربة مغايرة تذهب إلى جعْل النموذج التأريخي القائم على ربط ما يعرف بالغرب المعاصر حصراً بجذور كلاسيكية إغريقية ورومانية نظرة قاصرة وفقيرة ومحدودة، نشأت في العصر الفيكتوري ضمن المزاج الثقافي للإمبراطوريات الاستعمارية الأوروبية، فأضاعت الكثير من التاريخ الإنساني المشترك، وأعمت أجيالاً متتابعة عن الحكاية الحقيقية لنشوء (الغرب)، والتي تراها كوين أقدم وأعقد وأكثر ثراءً بكثير من فكرة (الحضارات) المتمايزة.

تبدأ كوين كتابها بمقدمة تنقض فيها منطق النموذج التأريخي القائم من ثلاثة أوجه: أولها بالإشارة إلى أن الحضارتين الإغريقية والرومانية ذاتهما كانتا بشكل أو آخر نتاج تبادل كثيف مع شعوب أقدم؛ إذ استلهمتا أفكارهما وتقنياتهما من الجوار: القوانين والشرائع والآداب من بلاد ما بين النهرين، وفنون النحت والمعمار من مصر القديمة، والأبجدية من بلاد الشام، وهندسة الريّ من الآشوريين. ومن الجليّ، وفق النصوص الكلاسيكيّة، أن الإغريق والرومان أقرّا بذلك، واحتفيا به، وثمة إشارات صريحة إلى أن الإغريق كانوا واعين إلى تشاطئهم المتوسط بالشراكة مع شعوب أخرى: كالقرطاجيين، والأتروسكان، والأيبيريين، والفينيقيين، ناهيك عن الإمبراطوريات القوية في الشرق، وهم لم يتورعوا عن استلهام ثقافات هذه الشعوب في صياغتهم لتصورهم الذاتي عن العالم بما في ذلك آلهتها وأساطيرها الدينية، فيما تجعل الأسطورة المؤسسة لروما من المدينة العظيمة ملاذاً للاجئين، ويتغنى شاعرهم غايوس فاليريوس كتولوس برحلات متخيلة مع أصدقاء ورفاق من الهند، وبلاد العرب، وفارس، ومصر، وحتى من «أولئك البريطانيين المقيمين على أطراف العالم».

الوجه الآخر الذي ترى منه كوين فساد منطق النموذج التأريخي القائم متأتٍ من حقيقة تباين القيم الغربيّة الحالية عمّا كانت عليه قيم المجتمعات الإغريقية والرومانية. فـ«الديمقراطيّة» كانت في أثينا امتيازاً مقتصراً على صنف الرجال، ضمن ثقافة تمجّد إغواء الغلمان، فيما كانت نساؤهم مغيبة وخارج الحياة العامة تماماً، أما في روما فقد كانت الإعدامات العلنية تسلية شعبية في مجتمع يقوم اقتصاده بشكل كليّ على العبوديّة واسترقاق البشر.

أما ثالث أوجه النقض فمتأتٍّ من واقع تؤكده الآثار المادية والوثائق عن انعدام وجود صلة مباشرة بين الغرب المعاصر وحضارات الإغريق والرومان؛ إذ انتقلت عاصمة الإمبراطورية الرومانية من روما إلى (الشرق) - القسطنطينية - منذ منتصف القرن الأول الميلادي، وظلت هناك لأكثر من ألف عام، فيما تولى العرب مزج المعارف الإغريقية بالعلوم والتقنيات الفارسية والهندية والأفريقية، وعبرهم انتقل المنجز الحضاري المتراكم إلى أوروبا، توازياً مع حركة فرسان السهوب الآسيوية الذين حملوا بضائع الصين وأفكارها إلى أوروبا - حتى آيرلندا - وأيضاً غزوات شعوب بحر الشمال تجاه البر الأوروبي والجزيرة البريطانية. لقد كانت أمم أوروبا الصاعدة منذ القرن الخامس عشر بالمحصلة هبة تقاطع ثريّ مع عالم عريق وهجين ممتد من المحيط الباسيفيكي إلى المحيط الأطلسي استمر لألف عام، ولم يقتصر بأي حال على صلة مزعومة مباشرة أعيد إحياؤها بالإغريق والرّومان.

تجادل كوين بأن وراء هذا النموذج التأريخي المتهافت خطاب انطلق بداية من فرنسا نحو عام 1750، يتحدث عن الحضارة بوصفها صيغة تجريد لوصف شعب متقدم، ليستعير التعبير منهم فلاسفة أسكوتلنديون عدّوا الحضارة بمثابة سلسلة متراكمة من التطور باتجاه تعظيم سيطرة الإنسان على عالمه من الصيادين إلى الرّعاة، فالمزارعين، والتجار، والصناعيين، قبل أن يدّعي جون ستيورات ميل - الذي عمل لثلاثة عقود لدى شركة الهند الشرقية، أداة الاستعمار البريطاني - بأن المجتمعات الغربية لا سيما بريطانيا اكتسبت بفضل تمتعها بأعلى درجات التحضر الحق بالسيادة والتحرر في مقابل الشعوب الأخرى المتخلفة، مبرراً في ذلك التوسعات الاستعمارية كمهمات لنشر التحضر والتنوير. على أن الفرنسيين كانوا وراء نقل مفهوم (الحضارة) من نتاج بشري عام إلى حضارات كثيرة متمايزة، وشرعوا في البحث عن مصادر لحضارة أوروبا الغربية: الجرمان وروما والكنيسة الغربيّة وما لبثوا تحت تأثير حرب الاستقلال اليونانية عن الدولة العثمانية (1821 – 1830) أن ألحقوا الإغريق بها، ليتكرس بعدها تدريجياً بين المثقفين الأوروبيين نموذج التأريخ القائم على تمايز حضارات ذات خصائص ثقافية مرتبطة بفضاء جغرافي محدد، في ذات الوقت الذي انتشرت فيه خرافة أخرى لا تقل فساداً: خرافة الأعراق.

ترى الباحثة البريطانية أن ربط ما يعرف بالغرب المعاصر حصراً بجذور كلاسيكية إغريقية ورومانية نظرة قاصرة وفقيرة ومحدودة؛ لأنها تتجاهل التاريخ الإنساني المشترك.

جوزفين كوين

ولا يبدو أننا الآن، مع مرور أكثر من عقدين على بداية القرن الحادي والعشرين وتكاثر الدلائل من الدراسات الآثارية والوثائق المكتشفة كما التقدم الثوري في الدراسات الجينية، بقادرين بعد على إزاحة المفهوم الناتج من تلاقح فلسفة التأريخ للغرب كحضارة متمايزة جذورها مستقلة عن بقية الحضارات مع النظرة الاستعلائية لعرق أبيض متفوق عن عرش الهيمنة على الخطاب العام، بحكم أن هذا الخليط يخدم بالضرورة أغراض هيمنة (الغرب) بقيادة الولايات المتحدة في مواجهة (الشرق)، مع أن حدود الشرق/غرب هذه متحركة لتعكس الظروف السياسية السائدة - فهي وقفت عند أطراف الستار الحديدي في أثناء الحرب الباردة، لتتسع بعد سقوط الاتحاد السوفياتي فتنضم أوروبا الشرقية إلى الغرب، فيما تسببت العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا بإعادة رسم للحدود مجدداً ليمكن استيعاب الأوكرانيين ضمن نسيج هذا الغرب الأبيض.

كتاب كوين مرافعة عقلانية ضرورية لبناء نموذج معرفي تأريخي جديد - بديل للنموذج الحالي الشوفينيّ المتهافت - وذلك استناداً إلى الحقائق المؤسسة كما الاكتشافات الأحدث عن أربعة آلاف عام من التقاطعات الحضارية التي بمجموعها تقدم منظوراً محدّثاً للعالم: حيث الاتصال والصلات - سلميّة كانت أو مواجهات عنفيّة - هي التي تدفع عجلة التغيير التاريخي، لا حضارات أمم بعينها. إن لدينا من الدلائل الآن ما يكفي لكي ندرك أن الشعوب منفردة لا تصنع التاريخ. فالتاريخ كما دائماً، تصنعه الإنسانية.

كيف صنع العالمُ الغرب: تاريخ أربعة آلاف عام

How the World Made the West: A 4، 000 - Year His¬tory، Blooms¬bury، 2024.

المؤلفة: جوزفين كوين

by Josephine Quinn

الناشر: بلومز بيري

2024


هل يملك الأطفال وعياً طبقياً؟

هل يملك الأطفال وعياً طبقياً؟
TT

هل يملك الأطفال وعياً طبقياً؟

هل يملك الأطفال وعياً طبقياً؟

أصدرت المجلة الفرنسية «Siences humaines» عدداً خاصاً في خريف عام 2023 تحت عنوان عريض «الملفات الكبرى»، وكان موضوعه الأساسي تحت عنوان «كيف ينظر الأطفال إلى العالم؟». ولقد تناول هذا الملف الموضوعات المتعلقة بحياة الأطفال في العالم منذ نشأتهم وصولاً إلى بلوغهم مرحلة المراهقة. وعرض الملف وجهات نظر علماء الاجتماع والتربية والنفس الذين عالجوا العناوين الآتية: بروز الوعي، علم نفس النمو والانفعالات أمام فجر الحياة، ومسألة الوعي الطبقي، ومسألة جنس الطفل، وإمكان عدم التكيف لدى بعض الأطفال مع هويتهم الجنسية. أما الموضوع الثاني فقد تناول مسألة وزن البعد الاجتماعي وتأثيره على حياة الأطفال والمراهقين منذ أن يصبح الطفل تلميذاً وعضواً في المجتمع، وكيف يكبر في زمن الثقافة التقنية. ومن جهة أخرى، بحث الملف في مسألة تكيف الأطفال المتحدرين من عائلات المهاجرين مع المجتمع المضيف، كما عالج موضوع سعادة الأطفال وأمنهم الاجتماعي، وطرح مشاكل المراهقين الذين يعانون من صعوبات التكيف مع المجتمع.

من رسومات المجلة

وفي نهاية هذا الملف، تم أخذ شهادات من الأطفال من عمر السبع سنوات وصولاً إلى المراهقين حول رؤيتهم وتفاعلهم مع العالم ومع المجتمع. وفي هذا المقال المحدود اخترنا الإضاءة على موضوع أساسي في علم الاجتماع، وهو موضوع الصراع والوعي الطبقي الذي كان ولا يزال يحرك تاريخ البشرية. ولكن السؤال المطروح هو: هل يظهر الوعي الطبقي منذ الطفولة؟ وكيف يمكن إثبات ذلك؟ ترى عالمة الاجتماع الفرنسية الأستاذة الجامعية (Martine Court) مارتين كور أن الأطفال، منذ المدرسة الابتدائية، يدركون حالات التفاوت وعدم المساواة الاجتماعية، وهم يستطيعون التموضع ضمن هذه التراتبية بدقة نسبية.

وهنا تستشهد مارتين كور بالفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر عندما يستحضر في سيرته الذاتية، مع بعض الفكاهة، الشعور بالتفوق الاجتماعي الذي كان يتمتع به عندما كان طفلاً، وبالمواقف المتسامحة التي كان يتبناها أحياناً تجاه الآخرين. ولكن هذا الإدراك المبكر للهرميات أو للتراتبيات الاجتماعية وللوضعية المسيطرة أو الخاضعة التي يتميز بها المرء، هو إدراك مشترك بين معظم الأطفال. وهم، قبل أن يحصلوا على مكانة في عالم العمل، يتمتعون بما يسميه عالم الاجتماع بيار بورديو (Bourdieu) «الحس العملي الخاص بالفضاء الاجتماعي»، ومن دون أن يكونوا بالضرورة واعين لذلك. إنهم يفهمون أن العالم الاجتماعي مبني من خلال هرميات أو تراتبيات اقتصادية، ثقافية ورمزية ويدركون بالحدس كيف أن عائلاتهم تتموضع داخل هذه التراتبيات الهرمية. ولكن كيف تم إثبات الإدراك المبكر للهرمية الاجتماعية؟ منذ عام 1970 تم تخصيص العديد من الأبحاث حول بناء هذا البعد الاجتماعي لدى الأطفال. وأحد أحدث الأعمال حصل في بلجيكا عام 2021 عندما عرضت هذه الدراسة على الأطفال لعبة متكونة من سبع عائلات، حيث تظهر أربع عائلات من أوساط اجتماعية مختلفة يمكن معرفتها من خلال مميزات تتعلق بالأناقة والثياب والأجسام على الطريقة النمطية (الطقم، ربطة العنق، الجواهر... إلخ). إذن، اللعبة تقضي بعرض سلسلة من الألعاب الصغيرة حول هذه العائلات، تهدف إلى اكتشاف إلى أي حد وكيف يدرك الأطفال الفروقات بين الأوساط الاجتماعية.

الإدراك المبكر للهرميات أو للتراتبيات الاجتماعية وللوضعية المسيطرة أو الخاضعة التي يتميز بها المرء هو إدراك مشترك بين معظم الأطفال

ولقد بينت النتائج أولاً أن الأطفال قادرون على وضع الأفراد في المكانة الاجتماعية المناسبة لهم انطلاقاً من المؤشرات الطبقية، وذلك منذ سن المدرسة الابتدائية. وتشير التجارب إلى أنه بين 50 و70 في المائة من الأطفال من سن 10 إلى 12 سنة يستطيعون أن يربطوا بين آباء وأمهات يتمتعون بالمستوى الاجتماعي نفسه؛ نظراً لمظهرهم ولطريقة لبسهم ولأناقتهم.

ولقد أثبتت التجربة أن أغلبية الأطفال من سن الثامنة وأكثر يستطيعون تحديد أغلب المهن التي يمارسها الأشخاص موضوع التجربة. ومع استكمال أعمال أخرى، بينت الدراسة أيضاً أن الأطفال منذ المدرسة الابتدائية يتمتعون بإدراك صحيح لحالات عدم المساواة الاجتماعية. وعندما تم الطلب من الأطفال أن يسموا من هم الأهل الأكثر والأقل ثراءً كانت إجاباتهم وهم في سن الثامنة قريبة من إجابات الراشدين. وعندما طُلب من الأطفال أن يعلنوا عن المهن التي يرغبون بممارستها في المستقبل، استبعدوا المهن التي تأتي في أسفل السلسلة الاجتماعية. ومنذ سن 4 - 5 سنوات 40 في المائة منهم استبعدوا وظيفة مدبرة المنزل. وهذه النسبة ارتفعت إلى 80 في المائة لدى الأطفال في سن 10 - 12 سنة.

ولكن كيف يعرف الأطفال التموضع في الفضاء الاجتماعي؟ إذا كان لدى الأطفال، منذ وجودهم في المدرسة الابتدائية، وعياً معيناً بالتراتبيات التي تحدد بنيات المجتمع، فإنهم يستطيعون أيضاً أن يتموضعوا في هذه التراتبيات بدقة نسبية. وفي تحقيق تم إعداده في الولايات المتحدة الأميركية حول إدماج الأطفال في المجتمع، وحضر عدد معين من الاستشارات الطبية فيه، بيّنت عالمة الاجتماع Annette Lareau أن الأطفال يتصرفون بشكل مختلف مع طبيب الأطفال تبعاً للمسافة الاجتماعية القائمة بينهم. فالطفل المتحدر من عائلة تحتل مرتبة عالية في السلم الاجتماعي يظهر سلوكاً طبيعياً مع الطبيب، ولا يتردد في طرح الأسئلة عليه وفي مقاطعته، وحتى في مخالفة أوامره، بينما نجد أن المولود في عائلة ذات منزلة أدنى، اجتماعياً وثقافياً واقتصادياً يتصرف على النقيض من الطفل الأول، فيبدو مرعوباً، ويتحدث بصوت خافت مع الطبيب، ويجيب عن الأسئلة المطروحة عليه بكلمة محدودة ولا يطرح أي سؤال بالمقابل.


«القناع والشعر»... دراسات في المشهد الشعري الراهن

«القناع والشعر»... دراسات في المشهد الشعري الراهن
TT

«القناع والشعر»... دراسات في المشهد الشعري الراهن

«القناع والشعر»... دراسات في المشهد الشعري الراهن

مجموعة من الدراسات والأفكار اللافتة يضمها كتاب «القناع والشعر» للناقد الأكاديمي دكتور عبد الحكيم العلَّامي، تعتمد بشكل أساسي على النظرية البنيوية، التي يرى أنها المدار الأقرب لتحليل النص في المشهد الشعري العربي الراهن، بخاصة في كينونته اللغوية المتعددة التراكيب والرؤى والأنساق، مبرراً ذلك بأن البنيوية تعد نموذجاً فكرياً شاملاً لتفسير الظواهر والأفكار في مجال العلوم الإنسانية، فهي تجمع ما بين «الرومانسية» كإطار فكري يعني بشطحات الخيال والإعلاء من شأن المشاعر والذات الإنسانية وبين «المنطقية الوضعية» كإطار فلسفي يعتمد على الحقائق العلمية المستقاة من الحواس والتجربة الحية الملموسة.

من هذا المنحى البنيوي، وبالتطبيق على عدد من أعمال مجموعة من الشعراء، معظمهم ينتمون للتيارات الشعرية الجديدة، بخاصة قصيدة النثر، يحلل المؤلف فكرة القناع، عبر مبحثين يضمهما الكتاب الواقع في 145 صفحة، فيرصد في المبحث الأول «محايثات القناع في الشعر» طرق تأويل القناع في النص، كموضوع، وإطار واسم ورمز، ثم يتناول علاقة القناع بفاعلية الأثر والوجه، كما يتوقف عند القناع كمسمّى وشاهد... وغيرها من الأفكار التي تجعل القناع أشبه بمنصة مسرح عليها تتنوع الأدوار والرؤى والتفاصيل، ودالاً مركزياً يتمتع بحيوية فنية ودرامية خاصة، تحفظ للذات الشاعرة إمكانية الدخول في القناع والخروج منه، بل كسره أحياناً، في لعبة أشبه بجدلية الخفاء والتجلي، يتم من خلالها تقمص أدوار لشخوص ورموز تراوح ما بين الغياب والحضور، يحفظ لها النص الشعري امتداداً حياً في جسد الزمان والمكان، ويرى المؤلف أن فاعلية القناع تكمن في أن الشاعر يريد من خلاله إيهام الآخرين بأن الذي يتحدث ليس هو الشاعر نفسه، إنما شخص آخر متخفٍّ تحت القناع، مؤكداً بذلك أن «الشخصية القناع إذن رمز يتخذه الشاعر العربي المعاصر ليضفي على صوته نبرة موضوعية شبه محايدة، تنأى به عن التدفق المباشر للذات، دون أن يخفي الرمز المنظور الذي يحدد موقف الشاعر من عصره، وغالباً ما يتمثل رمز القناع في شخصية من الشخصيات تنطق القصيدة صوتها، وتقدمها تقديماً متميزاً، يكشف عالم هذه الشخصية في مواقفها، أو هواجسها، أو تأملاتها، أو علاقاتها بغيرها، فتسيطر هذه الشخصية على قصيدة القناع، وتتحدث بضمير المتكلم، إلى درجة يخيل إلينا معها أننا نستمع إلى صوت الشخصية، لكننا ندرك - شيئاً فشيئاً - أن الشخصية في القصيدة ليست سوى قناع ينطق الشاعر من خلاله، فيتجاوب صوت الشخصية مع صوت الشاعر الضمني تجاوباً يصل بنا إلى معنى القناع في القصيدة».

ويوضح المؤلف أنه بهذا المعنى استلهم الشاعر المعاصر الشخصية التاريخية ذات الأثر مترسماً خطاها ومتحدثاً من خلال صوتها، لافتاً إلى أن لجوء الشاعر المعاصر إلى التعبير من خلال القناع يعد محاولة منه لاستقصاء آلامه وعذاباته على هذه الأرض، ومحاولة تجاوزها بعيداً عن أي مؤثر خارجي قد يعوق وجوده كإنسان.

وفي المبحث الثاني وهو بعنوان «الشعر احتياج»، يتوقف المؤلف عند عدد من التجارب الشعرية التي يرى أنها تحمل بذوراً قويةً لتأسيس شعرية الاحتياج، وتتعامل مع الشعر كضرورة وجود وحياة. ومن ثم فإذا كانت شعرية القناع تزاوج ما بين صوت الشاعر وصوت الشخصية المستدعاة ليكون الناتج صوتاً جديداً ومتميزاً يحمل شرعية نسبه إلى كلا الصوتين في آن؛ فإن شعرية الاحتياج هي التي تؤسس لكل هذا، وتضعه في سياق رؤية تنهض على التفاعل الحي بين النص والوجود؛ فأن يخلق الشاعر قناعاً ما، معنى ذلك أنه يخلق وجوداً خاصاً به، وفي سياق حر، ما يعكس محاولة للفرار من أثر وجوده الزائف مع الغير.

ويخلص دكتور العلَّامي في ختام دراسته الثرية إلى أنه أثناء تأمله للشخصيات المستدعاة من قبل الشاعر بحسبانها أقنعة، ومن أشهرها، الحلاج، بشر الحافي، النفري، وجد أنه من خلال هذه الاستدعاء يتوخى أموراً ثلاثة: أنه يستدعي ذات الشخصيات بحسبانها متكأ يستجير به أثناء عملية بثه لرسائله ذات الشفرات الشعرية. كما أنه يستلهمها بغية التأمين على مواقفها سعياً منه إلى مناصرتها منافحاً عنها ومقراً بمصداقية توجهها. وأخيراً أنه يستثمرها وصولاً إلى التأمين على مواقفه هو متخف وراءها فيما يشبه الإيهام بأن المتحدث ليس هو، مؤثراً بذلك السلامة، ومتجنباً مغبة المساءلة.


خزانة التُّراث... كتبٌ تنقذ كتباً مِن الضّياع

رسم تخيلي للجاحظ
رسم تخيلي للجاحظ
TT

خزانة التُّراث... كتبٌ تنقذ كتباً مِن الضّياع

رسم تخيلي للجاحظ
رسم تخيلي للجاحظ

كان كتاب محمّد بن إسحاق النَّديم الوراق (تـ: 380هـ) «الفهرست» معجماً لأسماء الكُتب أكثر مِنه للرِّجال؛ وهو مِن الأعمال المبكرة في هذا الشّأن، ثم أتت مِن بعده الفهارس. تجد في هذا المعجم مئات الكتب المفقودة، التي لا أثر لها حتّى يومنا هذا، لكن العديد مِن هذه المفقودات، التي ذكرها النّديم، ثم ياقوت الحموي (تـ: 626هـ) في «إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب» (معجم الأدباء)، ظهرت نصوص في كتب اطلع مؤلفوها عليها واقتبسوا منها، ومَن جمع هذه الاقتباسات وأظهرها في كتاب مثل جهود مصطفى جواد (تـ: 1969) وجمعه للضائع مِن «معجم الأدباء»، جامعاً مادة كتابه ممن اعترفوا بالأخذ مِن الحموي، مطلعاً على معجمه قبل ضياع صفحات أو فصول منه. هذا يجعلنا نقرُّ للمؤلفين الأقدمين بأنهم أمناء في ذِكر مصادرهم، وليس مثلما يُشاع، ويؤخذ عذر للسرقة والاعتداء على جهود الآخرين.

مِن أسباب الضّياع، مِن غير عوادي الزّمن، أو حرق المكتبات، أو أفعال الغزاة، أو منعها مِن التداول فيقضي عليها الإهمال، التلخيصات التي يقوم بها بعضهم، فيهمل الأصل لطوله ويظل المختصر متداولاً، مثل كتاب «مختصر كتاب البلدان»، والكتاب الأصل عنوانه «أخبار البلدان» لابن الفقيه (القرن الثّالث الهجريّ)، الذي ضاع ثم عُثر عليه بعد الاختصار، فوجد أن المُختصر أهمل بلداناً عديدة مِن الأصل، فورد في خاتمة الكتاب «تم الاختصار» (طبعة ليدن 1302هـ)، ثم جاء مَن نشر النَّاقص (السّواد، والأهواز، والتُّرك) محققاً، بجهود المحققين: ضيف الله الزّهراني ومريزن عسري، وصدر عن جامعة أم القرى بمكة (1997).

غلاف «الضائع من معجم الأدباء»

حصل الإنقاذ مِن أعداء ومِن أصحاب، فلولا ردود المعتزلي أبي الحُسين الخياط (تـ: 290هـ) على أبي الحُسين أحمد بن يحيى الرّاونديّ (تـ: 245هـ)، ما وصلنا كتابه «فضيحة المعتزلة»، الذي ردَّ به على كتاب عمرو بن بحر الجاحظ (تـ: 255هـ) «فضيلة المعتزلة»، فكان كتاب «الانتصار والرّد على الملحد بن الرّاونديّ»، والأخير كان معتزلياً ثم عدل عن الاعتزال، فصار عدواً. لا وجود لأصل ولا منسوخ لـ«فضيحة المعتزلة» لكنه وصل كاملاً بفضل الرّد عليه، ولو عَلم الخياط شيخ المعتزلة في زمانه أنَّ رده سيحيي كتاب عدوه، ما ردّ عليه، وفي العصر الحديث قام الباحث عبد الأمير الأعسم (تـ: 2019) بجمع نصوص الرّاونديّ، التي رد عليها الخياط، وأصدرها بعنوانها: «فضيحة المعتزلة»، لكن جاءت بعض نصوص الفضيحة متداخلة مع نصوص الرَّدِّ، فظهر كأن الراوندي يرد على نفسه، ويرميها بأقذع النُّعوت.

كذلك لولا رد ابن الرّاوندي ما شمر شيخ المعتزلة الخياط عن ذراعه؛ وترك لنّا تاريخاً لأفكار ومقالات المعتزلة، وكان دفاعه عن الجاحظ، الذي يشير إليه بشيخنا، وبالفعل كان الجاحظ أحد شيوخ الاعتزال، مع كل مَن ردَّ عليهم الرَّاوندي. كذلك كتاب «فضيحة المعتزلة» أرخ لمقالات مَن عاصرهم مِن المعتزلة، وكان هو مِن داخلهم. إنها أسباب ومسببات، فكمْ مِن كتابٍ صار سبباً لتأليف ضده، وبذلك تنتعش الأفكار، فلا نعلم أن للجاحظ كتاباً في «حيل اللُّصوص» لولا مَن عيره به قائلاً: «وأما كتبه المزخرفة فأصناف منها حيل اللُّصوص، وقد عَلم بها الفسقة وجوه السَّرقة» (البغداديّ، الفرق بين الفِرقِ)، ولولا ما استشهد به الآخرون فيما كتبوا عن اللُّصُوص.

إذا كان الخياط أنقذ كتاب «فضيحة المعتزلة» لخصمه اللدود أبي الحسين الرّاونديّ، فإن محباً أنقذ كتاب «الأخبار» للجاحظ، الذي ما زال مِن المفقودات، ولم يجمعه أحد، كي يصدر مستقلاً؛ فنشوان الحميريّ (تـ: 573هـ)، وهو يُعد مِن معتزلة اليمن، وهم بالأصل الزّيدية، مِن معتزلة بغداد، أنقذ جزءاً مِن كتاب الجاحظ المفقود «الأخبار»، ذكره أبو الحُسين الخياط بعنوان «تصحيح مجيء الأخبار».

شغل كتاب «الأخبار» مِن كتاب نشوان الحميريّ «الحور العين» (دار أزال 1985) تسع عشرة صفحة (270 - 289)، نقدرها بنحو أربعة آلاف كلمة، ولا نظن أن الكتاب كامل، لكن أهميته لنشوان الحميريّ كمعتزلي هو ما يُعد بمثابة الجرح والتّعديل في الحديث؛ فيما قاله شيخ المعتزلة وفيلسوفهم إبراهيم بن سيار النَّظام (تـ: نحو 230هـ)، وهو أستاذ الجاحظ، فعنوان «الأخبار» المقصود به روايات الحديث، التي يراها النّظام متناقضة، ويتهم الرواة في هذا التّناقض.

بطبيعة الحال، لم يهتم أصحاب السنن والصّحاح، ولا أصحاب الجرح والتّعديل بمثل هذا الكتاب، لِما بين المعتزلة وأهل الحديث مِن خلاف كبير؛ يصعّب اعتراف بعضهم ببعض. بعد نشوان الحميريّ، وربّما عنه مباشرة، لا عن كتاب «الأخبار» نفسه، نقل النصّ إمام زيديّ ومعتزلي، متأخر عن الحميري بنحو ثلاثة قرون، مِن اليمن أيضاً، المهدي لدين الله أحمد بن يحيى بن المرتضى (تـ: 840هـ)، في كتابه «المُنية والأمل في شرح الملل والنِّحل» (ص 46- 59). كانت مجلة «لغة العرب» البغداديّة قد اهتمت بكتاب «الأخبار» (1931)، ونشرت النّص نقلاً عن «المُنية والأمل» (المجلة التاسع 1931).

ورد في مقدمة النّص: «قال أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ في كتاب (الأخبار): بعد، فإن الناس يحضون الدين من فاحش الخطأ، وقبيح المقال، بما لا يحضون به سواه من جميع العلوم والآراء والآداب، والصناعات؛ ألا ترى أن الفلاح والصائغ والنَّجار، والمهندس، والمصور، والكاتب والحاسب، من كل أمة، لا تجد بينهم من التفاوت في الفهم والعقل والصناعة، ولا من فاحشة الخطأ وإفراط النقص، مثل الذي تجد في أديانهم، وفي عقولهم، عند اختيار الأديان؛ والدَّليل على ما وصفت لك: أنَّ الأمم التي عليها المعتمد، في العقل، والبيان، والرَّأي، والأدب، والاختلاف في الصِّناعات، من ولد سام خاصة: العرب والهند والرُّوم والفرس، ومتى نقلتهم من علم الدِّين، حسبت عقولهم مجتبلة وفطرهم مسترقة» (الحميريّ، الحور العين).

يميز الجاحظ في كتابه بين الأُمم، وكلُّ أمة بما تختص، أو ما تحسنه، وعدَّ العرب مخصوصة بالبيان واللُّغة «ليس مثلها في السِّعة لغةً، وقيافة الأثر مع قيافة البشر... وللعرب الشّعر الذي لم يشاركهم في أحد مِن العجم». ثم يميزها عن العجم قائلاً: «وقد سمعتُ للعجم كلاماً حسناً، وخطباً طوالاً، يسمونها أشعاراً، فأمَّا أن يكون لهم شعرٌ على أعاريض معلومة، وأوزان معروفة، إذا نقص منها حرفٌ أو زاد حرفٌ، أو ترك ساكن، أو سكن متحرك، كسره وغيره، فليس يوجد إلا للعرب» (نفسه). ثم يُعدد خصائص بقية الأُمم.

لا وجود لأصل ولا منسوخ لكتاب «فضيحة المعتزلة» لكنه وصل كاملاً بفضل الرّد عليه، ولو عَلم الخياط شيخ المعتزلة في زمانه أنَّ رده سيحيي كتاب عدوه ما ردّ عليه

غير أنّ الأهم في الكتاب هو توضح التقليد في العقائد، الدّينية والمذهبيّة، أنها لا تؤخذ بالنّظر إنما بالتقليد، قال: «وقد تجد الأخوين ينظران في الشَّيء الواحد فيختلفان في النَّظر، ولربما نظر النَّاظر فيصير له في كلِّ عامٍ قول، ولربما كان ذلك في كل شهر؛ فصح أنَّ دين النَّاس بالتقليد لا بالنَّظر، وليس التَّقليد إلى الحقِّ بأسرع منه إلى الباطل» (نفسه).

كذلك جاء في أهمية الكتاب نقد الأخبار في رواية الحديث؛ وهذا يفيد بالحث على مراجعة الرّواية، فعليها توضع قوانين العقوبات، والعبادات والمعاملات، وكلُّها تهم النّاس وسياسات القضاء، فتراه يقول: «كيف يجيز السَّامع صدق المخبر، إذا كان لا يضطره خبره، ولم يكن معه علم يدل على صدق غيبه؛ ولا شاهد قياس يصدقه، وكون الكذب غير مستحيل منه مع كثرة العلل؛ التي يكذب النَّاس لها، ودقة حيلهم فيها، ولو كان الصَّادق عند النَّاس لا يكذب، والأمين لا يخون، والثِّقة لا ينسى، والوفي لا يغدر، لطابت المعيشة، ولسلموا من سوء العاقبة» (نفسه).

ليس كتابا «فضيحة المعتزلة»، و«الأخبار»، الفريدين اللذين أنقذتهما مِن الضِّياع كُتب، للرد في الكتاب الأول، أو الاستشهاد في الكتاب الثّاني، بل كتبٌ كثيرةٌ، فُقدت أصولها وضاع ما نُسخ منها، لكن يمكن إحياؤها باستخراج نصوصها مِن بطون الكتب، بهدى ما قام به المحقق المعروف إحسان عباس (تـ: 1993) في كتابه «شذرات مِن كُتب مفقودة في التَّاريخ» (1988)، جمع فيه نصوصاً لثلاثين كتاباً مفقوداً، على شاكلة كتاب «الأخبار» للجاحظ، فالرَّجل كان محققاً، والتحقيق عادةً يحتاج إلى مطالعة وتصفح مئات الكتب المصادر، فوجد ما وجده من الاستشهادات مِن كتب مفقودة، وقال عما دونه يسيراً، قياساً بالعدد الهائل مِن الضَّائعات.


مختارات شعرية للسلطاني تغطي أربعين عاماً

مختارات شعرية للسلطاني تغطي أربعين عاماً
TT

مختارات شعرية للسلطاني تغطي أربعين عاماً

مختارات شعرية للسلطاني تغطي أربعين عاماً

عن سلسلة «شعر»، التي تصدرها دار الشؤون الثقافية العامة - وزارة الثقافة والسياحة والآثار العراقية، صدرت حديثاً للشاعر فاضل السلطاني مختارات تغطي أربعين عاماً من تجربته الشعرية. جاءت المختارات تحت عنوان «عند منتصف الذاكرة»، وضمت أكثر من 103 قصائد مختارة من المجاميع الشعرية التي أصدرها الشاعر في الفترة 1970 - 2010. وكُتب قسمٌ من القصائد في العراق في السبعينات، ومعظمها في المنفى، بين المغرب، والجزائر، وسوريا، ولندن.

على الغلاف الأخير، جاء في كلمة للكاتب الإيراني أمير طاهري:

«لقد أخذ السلطاني، ربما بشكل غير واعٍ، بنصيحة الشاعر الصوفي العظيم رومي بـ«القبض على اللب ورمي القشرة للحمير». وأسلوب هنا أقرب إلى موسيقى الحجرة منه إلى عرض سيمفوني. صوته حميمي، وغالباً مفجع، ولكنه دائماً مقاس بإخلاص... إنه يتحدث اللغة الكونية للشعر، ولو بلكنة عراقية».

وعلى الغلاف أيضاً، مقطع من رأي نقدي للشاعر السوري الراحل شوقي بغدادي، جاء فيه: «يقف فاضل السلطاني ممزقاً بين المنفى والوطن وما يتصل بهذه الدراما من أبعاد نفسية واجتماعية وسياسية. ومن هنا ستتطور المضامين ليس من حيث النوع، بل من حيث العلاقة، وبالتالي تتطور الأشكال الفنية ليس من خلال المهارات اللغوية، بل من حيث النضج النفسي الذي يتداخل مع النضج اللغوي».

كذلك نقرأ رأياً للقاص والناقد العراقي الراحل سعد محمد رحيم: «ماذا يفعل الشعر غير أن يُلقيك في حالة من الدهشة والتساؤل، وأن يُبقيك على صلة حميمة وعميقة مع الحياة... ولن يكون الكلام شعراً ما لم يُشعرك وكأن روحك ترتعش وهي في مهب نسمة رخية، أو كما لو أنها تغتسل برذاذ عذب تُسقطه عليها الكلمات... هذا هو الخاطر الذي يستحوذ عليّ كلما قرأت قصيدة، أو مجموعة شعرية للشاعر فاضل السلطاني».

وكتب القاص والروائي العراقي لؤي عبد الإله: «ينشغل فاضل السلطاني، وخاصة في قصائده الأخيرة، بثيمات وجودية تتعلق بالمصير الفردي أكثر منها بمصير الجماعة. مع ذلك فهو ينجح بكسب قراء أكثر لأنه استطاع أن يمس وعبر المجاز والبناء الدرامي للقصيدة والصور المكثفة والتناص مع شعراء آخرين مخزوناً مشتركاً يتمثل بتلك الصور أو المركبات البدئية القائمة في اللاشعور الجمعي».

أما الشاعر السوري المثنى الشيخ عطية، فكتب: «يحاول الشاعر في بنيته العميقة، بما امتلك من معرفةٍ بمفاهيم الديالكتيك، تجسيدَ وحدة الشكل والمحتوى، في المنتصف الذي يقي قصيدته من المشابهة التي تعني الفناء، ويمنحها التفرد الذي يعني الخلود. ويفعل ذلك على صراط هذا المنتصف أولاً: بالتفعيلة البسيطة المسترسلة، التي توحي بقصيدة النثر، وثانياً: بقصائد نثر تنبض فيها إيقاعات التفعيلة، وثالثاً: بمزاوجة الشعر والنثر».

تقع المختارات في 312 صفحة من القطع المتوسط، وصمم غلافها الفنان رائد مهدي.

من قصيدة «حفلة في سوهو»:

كيف تكلكلَ فوقي الليلُ،

تلك اللحظةَ في سوهو،

حيث تعبُّ الأرضُ الضوءَ من كلِّ زوايا الكونِ،

فتكوّرت الحربُ،

وانتشر الجندُ الموتى فوق البارِ،

حيث انهمر النورُ من زاويةٍ في الكونِ

على ساقِ امرأةٍ عابرةٍ،

في تلك اللحظةِ، في سوهو؟

من أين أتى الجند الموتى

وهمُ ماتوا قبلي

ورأيتُ قبورهمُ

في زاويةٍ في تلك الأرضِ؟

كيف انتشروا في البارِ

نظيفين من الموتِ؟ ثمَّ تصاحبنا،

ورفعنا نخبَ العشاق المخدوعين

وتبادلنا الرقصَ على الأرضِ...


ماذا يعني أن تكون مسلماً في القرن الحادي والعشرين؟

جون تولان
جون تولان
TT

ماذا يعني أن تكون مسلماً في القرن الحادي والعشرين؟

جون تولان
جون تولان

أحمد الله على أنني عندما غادرت فرنسا قبل سنوات عدة لم أذهب إلى بلد آخر غير المغرب. أولاً ليس لأنه أجمل بلد في العالم، وإنما لأنه يحتوي على كلتا الحضارتين الكبيرتين: الحضارة العربية الإسلامية من جهة، والحضارة الأوروبية الفرنسية من جهة أخرى. إنه ملتقى الحضارات. لقد كان فعلاً المكان الأنسب لمنفاي الجديد. ولكن هل أنا في منفى حقاً؟ لماذا أقول هذا الكلام؟ لماذا أمجد المغرب كل هذا التمجيد؟ لأنك تجد فيه الحرية الفكرية، ثم بالأخص لأنك تجد فيه كلتا المكتبتين: العربية والفرنسية. وهذا كل ما أريده في الواقع. أحيانًا عندما أتجول في رحاب مكتبة الألفية الثالثة (أي مكتبة القرن الحادي والعشرين) الواقعة في مركز العاصمة مقابل البرلمان والمحطة الكبرى أشعر كأنني أتجول في رحاب إحدى مكتبات الحي اللاتيني أو شارع السان ميشيل أو السان جيرمان في قلب العاصمة الفرنسية، بل يخيَّل لي أن مكتبة الألفية الثالثة أجمل وأرقى. وقل الأمر ذاته عن مكتبة «كليلة ودمنة»، هذا ناهيك عن مكتبات الدار البيضاء العملاقة... إلخ. عندما سألت بتلهف الأخ المشرف على بيع الكتب: هل عندكم كتاب «تاريخ جديد للإسلام» يا تُرى؟ أجابني على الفور: «انتظر لحظة حتى أرى». مجرد ثوانٍ وإذا بالكتاب بين يدي.

شعرت بسعادة حقيقية. هذه حداثة. هذه حضارة. أما الكتاب العربي فتجده في مكتبة «دار الأمان» الضخمة العملاقة الواقعة خلف وزارة العدل. كل شيء متوافر في هذا البلد الأمين: الكتاب العربي موجود، والكتاب الفرنسي موجود. ماذا تريد أكثر من ذلك أيها الإنسان؟ عم يتحدث كتاب «تاريخ جديد للإسلام» من القرن السابع إلى القرن الحادي والعشرين؟ عن تاريخ الإسلام كله من أوله إلى آخره. ولكن من الباحث الضليع القادر على تحقيق ذلك غير البروفيسور الأميركي - الفرنسي جون تولان المختص والمتبحر بالتراث الإسلامي؟ في أقل من 350 صفحة يستعرض هذا الباحث الكبير تاريخ الثقافة العربية الإسلامية منذ ظهور الإسلام في القرن السابع الميلادي وحتى يومنا هذا. الكتاب مؤلف من 3 أجزاء. الجزء الأول مخصص لدراسة مرحلة التأسيس. وهو ينقسم إلى 4 فصول. الفصل الأول يتحدث عن القرآن الكريم وولادة جماعة المؤمنين الأولى. والفصل الثاني يتحدث لنا عن مرحلة السلالة الأموية وولادة دين إمبراطوري كبير في دمشق على يدها. والفصل الثالث يتحدث عن بغداد العباسية حيث تَشَكَّلَ دينٌ إمبراطوري أكبر من السابق وأعظم حضارياً. إنها الإمبراطورية العربية الإسلامية الكبرى التي صهرت كل الأقوام والشعوب والحضارات في بوتقتها. والفصل الرابع يتحدث عن أنظمة الخلافة الثلاثة التي كانت مهيمنة على العالم الإسلامي نحو عام 1000 للميلاد: أي الخلافة الفاطمية في القاهرة، والخلافة الأموية في قرطبة، والخلافة العباسية في بغداد طبعاً.

وأما الجزء الثاني من الكتاب فيتحدث لنا عن مرحلة التوسع للحضارة العربية الإسلامية. وهنا نجد 3 فصول تتحدث عن الفتوحات والتوسعات والتشكلات الجديدة لعالم الإسلام بين القرنين الحادي عشر والثالث عشر. ثم يجيء فصل كامل ممتع جداً بعنوان: عالم ابن بطوطة! ثم يختتم المؤلف هذا الجزء الثالث بفصل يحمل العنوان التالي: الإمبراطوريات الإسلامية للحداثة الأولى ما بين القرنين الرابع عشر والسابع عشر.

وأما الجزء الثالث والأخير من هذا الكتاب الطموح جداً فمكرس لعصر الحداثة أو حتى الحداثات بصيغة الجمع. إنه يدرس حضارتنا العربية الإسلامية طيلة القرن التاسع عشر وحتى القرن الحادي والعشرين مروراً بالعشرين بطبيعة الحال. وهو مقسوم أيضاً إلى 3 فصول. الفصل الأول بعنوان: الاستعمار ومقاومته ما بين حملة نابليون بونابرت على مصر عام 1798 وحتى تاريخ سقوط الإمبراطورية العثمانية عام 1918. وأما الفصل الثاني فمكرس لدراسة مرحلة الاستقلال وظهور الإسلام السياسي في القرن العشرين. وأما الفصل الثالث والأخير من الكتاب فمكرس لدراسة الموضوع التالي: الإسلام ما بين الإصلاح والتطرف الراديكالي. ماذا يعني أن تكون مسلماً في القرن الحادي والعشرين؟ ثم ينهي المؤلف كتابه بخاتمة تحمل العنوان التالي: المسلمون والإسلام في الغرب.

هكذا تلاحظون أن الرجل يعرف عن أي شيء يتحدث بالضبط، بل أكاد أقول إنه يعرف أوضاعنا من الداخل والخارج أكثر من أي مثقف عربي. والسبب هو أنه باحث كبير كرَّس حياته كلها لدراسة تاريخ الإسلام. وهو بالمناسبة أستاذ في الجامعات الفرنسية والأميركية. إنه مختص بدراسة العلاقات الثقافية والدينية ما بين العالم العربي وأوروبا طيلة العصور الوسطى. وكان قد نشر سابقاً عدة كتب لفتت الأنظار. نذكر من بينها كتاباً بعنوان: «أوروبا والإسلام: قصة حياة خمسة عشر قرناً من الزمن». وذلك بالاشتراك مع باحثين آخرين. كما أنه نشر مؤخراً كتاباً هاماً وممتعاً جداً بعنوان: «محمد الأوروبي. سرد لتاريخ التصورات التي شكلت عن النبي الأعظم في الغرب». هذا بالإضافة إلى مراجع أخرى عديدة.

والآن دعونا ندخل في التفاصيل أكثر.

ماذا يريد المؤلف من تأليف هذا الكتاب؟ إنه يريد الإجابة عن التساؤل التالي: ماذا يعني أن تكون مسلماً في القرن الحادي والعشرين؟ وبالنسبة للبعض فإن جوهر الإسلام هو التزمت والتشدد وتكفير الآخرين، بل وحتى ذبحهم واستئصالهم على الطريقة الإخوانية الداعشية إذا أمكن. ولكن بالنسبة للمسلمين الآخرين (وهم الأغلبية لحسن الحظ) فإن الإسلام يعني ثقافة روحانية إيمانية منفتحة على العالم. إنها ثقافة روحانية أخلاقية تحتفل بالسلام والتسامح والمودة بين الشعوب والأقوام طبقاً للآية الكريمة: «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم». هنا تكمن عظمة القرآن وحقيقة الإسلام. إنها ثقافة روحانية ربانية تعترف بتعددية الأديان في العالم ومشروعية هذه التعددية، بل ترحب أيضاً بها. ولكن هل يعترف الإخوان المسلمون وكل ما نتج عنهم من حركات تطرف وترويع بذلك؟ أبداً لا. وهنا تكمن مشكلة الإسلام مع العالم أو مشكلة العالم مع الإسلام حالياً. هنا يكمن الفرق الأساسي بين المسلم الحداثي التنويري والمسلم الإخواني المتزمت المكفهر. ولكن هذا الاختلاف ليس جديداً كما يقول المؤلف، وإنما هو يضرب بجذوره في أعماق التاريخ الإسلامي. على مدار التاريخ كان هناك صراع بين التيار العقلاني والإنساني المنفتح للإسلام، والتيار المتشدد الانغلاقي الكاره للآخرين. تارة ينتصر هذا التيار وتارة ذاك. تارة ينتصر العصر الذهبي، وتارة ينتصر عصر الانحطاط، ولكن ما كنا نتوقع أن ينتصر عصر الانحطاط والظلمات في عز القرن الحادي والعشرين! هذا شيء ما كان يخطر لنا على بال. ما كنا نتوقع أن نصبح في مؤخرة الأمم والشعوب بعد أن كنا في مقدمتها. يقول المؤلف في أواخر الكتاب ما معناه: في 19 سبتمبر (أيلول) من عام 2014 وجه 126 عالماً مسلماً كبيراً من شتى الأقطار رسالة شديدة اللهجة إلى الخليفة الداعشي وكل المتعاطفين مع الدولة الإسلامية المزعومة، وقالوا لهم ما معناه: إن أفعالكم وفظائعكم مضادة لجوهر الإسلام والقرآن، لقد شوهتم صورتنا في شتى أنحاء العالم. إن ممارسة العنف الأعمى والتفجيرات العشوائية ضد المدنيين المسالمين (مسلمين كانوا أم غير مسلمين) أمور مضادة لأحكام الشرع والدين. وكذلك ممارسة التعذيب الوحشين واستباحة النساء واستعبادهن وحرمان المسيحيين والإيزيديين من حقوقهم. وطالب هؤلاء العلماء الخليفة الداعشي وجماعته بالتراجع عن هذه الأفعال والتوبة عنها.

على مدار التاريخ كان هناك صراع بين التيار العقلاني والإنساني المنفتح للإسلام، والتيار المتشدد الانغلاقي الكاره للآخرين

جون تولان

ولكن هنا يلاحظ المؤلف ما يلي:

وهو أن علماء الدين الأفاضل هؤلاء لا تذهب بهم الإدانة لـ«داعش» إلى حد تكفيرها، بل حتى سلطات الأزهر رفضت أن تكفر «داعش» على الرغم من كل فظاعات أفعالها وأعمالها. وبالمقابل سرعان ما تكفر السلطات الدينية المسلمين الحداثيين أو المثقفين العرب الليبراليين على حرية الكتابة والإبداع. وهذا شيء صادم جداً ومدهش. هذا شيء غير مفهوم على الإطلاق، بل هذا شيء مرعب؛ إذ كيف يمكن أن نكفر مثقفاً عربياً على رواية نشرها ولا نتجرأ على تكفير «داعش»؟ كيف يمكن تكفير نجيب محفوظ الذي هو مجد الآداب العربية على رواية عبقرية مثل «أولاد حارتنا»، ولا نستطيع تكفير أولئك الوحوش الهمج الذين استباحوا إخواننا الإيزيديين الشرفاء في جبل سنجار بكل نسائهم وأرزاقهم وأعراضهم؟ هنا تكمن معضلة الثقافة الدينية عندنا حالياً. وهذا أكبر دليل على أن إسلام الظلمات لا يزال متغلباً على إسلام الأنوار. هذا أكبر دليل على أن لاهوت العصور الوسطى لا يزال يتحكم في رقابنا وليس لاهوت العصور الحديثة. الكلمة العليا لا تزال للاهوت التكفير لا للاهوت التحرير والتنوير. ولكن وراء الأكمة ما وراءها. والتاريخ لم يقل كلمته الأخيرة بعد؛ فالعالم العربي مليء بالتيارات الفكرية الإبداعية التحديثية التي سوف تغير الخريطة، وتقلب الموازين لاحقاً.


هل تتمكن البشرية يوماً من هزيمة زهرة الخشخاش؟

هل تتمكن البشرية يوماً من هزيمة زهرة الخشخاش؟
TT

هل تتمكن البشرية يوماً من هزيمة زهرة الخشخاش؟

هل تتمكن البشرية يوماً من هزيمة زهرة الخشخاش؟

اشتهر أميتاف غوش، الروائي الهندي، بثلاثيته «طائر أبو منجل» التي ظهر الجزء الأوّل منها «بحر الخشخاش» في 2008، قبل أن يستكملها في «نهر الدّخان» عام 2011، ويختمها بـ«فيضان النار» في 2015. وقد حاز هذا العمل نجاحاً تجاريّاً مرموقاً، وأشاد به النقّاد لصوته المتحرر من المزاج الغربيّ وعمق أبحاثه في تاريخ منطقة المحيط الهندي خلال ثلاثينات القرن التاسع عشر الميلادي، فيما يتم الإعداد لتحويله إلى مسلسل تلفزيونيّ ضخم. لكن تتويج هذه الثلاثية جاء على شكل نصّ تاريخيّ غير خيالي أطلق عليه اسم «الدّخان والرّماد: تاريخ الأفيون الخفي». ويسجّل خلاصة المعارف التي حصلّها غوش من خلال تحضيره لعمله الروائي، ويسرد فيه، عبر مزيج من الشخصيّ والعام والأرشيف، حكاية تجارة الأفيون بين الهند والصين وبريطانيا، متتبعاً خيوطها الخفيّة التي حكمت حياة ملايين الأشخاص، ولا تزال امتداداتها موجودة إلى اليوم في أصول بعض أكبر الشركات والعائلات والمؤسسات في العالم، لا سيّما الولايات المتحدة.

عرف الأطباء والعشابون خصائص مسكنات الأفيون منذ أزمنة قديمة، وكان عقاراً مفضلاً لدى العديد من السلالات الحاكمة في التاريخ، لكن استخدامه لم ينتشر على نطاق واسع حتى القرن التاسع عشر، عندما تم تبسيط عمليات الزراعة والتصنيع الشاقة والمتطلبة، حيث يستغرق تحويل عصارة الخشخاش إلى أفيون قابل للاستخدام ما يقرب من عام كامل.

على أن غوش يبدأ سرديته عن الأفيون من الشاي، إذ بحلول القرن الثامن عشر، أصبحت إنجلترا تعد هذه النبتة التي عرفها الصينيون منذ أكثر من ألف عام بمثابة مشروب قوميّ للبلاد، لدرجة أن الرسوم الجمركيّة التي كانت تحصلها السلطات على الواردات منه شكلت ما يقرب من عشر إيرادات المملكة خلال معظم فترة الثورة الصناعيّة، ومكنّتها من تمويل حروبها الاستعمارية العديدة. ومع ذلك فإن إمدادات الشاي من الشرق تسببت لبريطانيا بضغوط كبيرة من جهتين: الأولى ضرورة استمرارية الشحنات بالتقاطر إلى لندن دون انقطاع، أما الثانية فكانت العجز التجاري الفادح مع الصين التي كانت تصدّر للمملكة الشاي دون أن تحتاج إلى استيراد شيء منها بالمقابل. وللتعامل مع مسألة الإمدادات، فرض البرلمان قانوناً يتطلب من «شركة الهند الشرقية» الاحتكارية الاحتفاظ بإمدادات تكفي لمدة عام على الأقل في المخزون، فيما تفتق العقل الاستعماري البريطاني عن فكرة حل مشكلة عجز الميزان التجاري من خلال تصدير الأفيون إلى الصين من مستعمرتها الهنديّة.

ينسف غوش في «الدخان والرماد» الزعم البريطاني بأن الأفيون كان بمثابة مخدر محلي تقليدي في الهند وسمة عريقة للحياة فيها، وينفي بشكل حاسم إمكان نشوء صناعة بهذه الضخامة في شبه القارة عن طريق الصدفة، وهو يورد ما يشير إلى أن زراعة زهرة الخشخاش - التي يصنع منها الأفيون - لم تكن من تقاليد البلاد قبل أن يؤسس البريطانيون «دولة مخدرات» حقيقية في ستينات القرن الثامن عشر لأغراض التصدير إلى الصين.

تدريجيّاً، وفق غوش، أصبحت إدارة تجارة الأفيون بمراحلها من الزراعة إلى التصنيع إلى التصدير محور حياة عدة ملايين الأشخاص في كل شرقيّ آسيا، فغير أكثر من مليون أسرة فلاحيّة تفرّغت بالكليّة لزراعة زهرة خشخاش الأفيون الأبيض، كانت هناك بيروقراطيّة متطورة ومنظومة أمنية تدير عمليات جمع المحصول ونقله كمادة خام إلى المصانع الضخمة، قبل تسليمها جاهزة للتصدير إلى تجار يتولون نقلها باتجاه الصين.

خشي الحكام الصينيون من آثار الأفيون على مواطنيهم الذين تفشى فيهم الإدمان، ففرضوا حظراً جزئياً على استيراده عبر الحدود والموانئ منذ عام 1729، وذهب ممثل للإمبراطور إلى مركز تجارة الأفيون وأجبر التجار البريطانيين والأميركيين على تسليم مخزونهم من المخدّر الذي تجاوز حينها ألف طن وقام بإحراقه في احتفالية كبيرة شهدها الآلاف من المواطنين. إلا أن البريطانيين نقلوا منتجهم من المصانع في شرقي وشمال الهند إلى كلكتا، حيث كان يباع بالمزاد العلني إلى تجار من القطاع الخاص يتولون تهريبه عبر القوارب إلى جنوب الصين، حيث يشتريه منهم هناك المهربون المحليّون. وقد تسببت هذه التجارة تالياً في حربين بين الصين وبريطانيا، أولاهما في 1840 - 1842 وكان من نتائجها أن أصبحت هونغ كونغ مستعمرة بريطانيّة ورأس جسر لتوزيع الأفيون عبر الصين، واضطر الإمبراطور الصيني وقتها تحت الضغط العسكري لتوقيع اتفاقية مع لندن تفتح أبواب أسواق بلاده للتجار الأوروبيين والأمريكيين، والحرب الثانية في 1856 – 1860، انضمت فيها فرنسا إلى بريطانيا واضطرت في أثرها الصين إلى الخضوع مجدداً وتوقيع اتفاقيّة تمنح كلاً من بريطانيا وفرنسا وروسيا والولايات المتحدة امتيازات تجاريّة عبر خمسة موانئ رئيسية شملت رفع القيود عن تجارة الأفيون وحريّة إقامة رعاياها في بكين، وكذلك حريّة التبشير بالدين المسيحيّ في أرجاء البلاد. وبعد تردد الإمبراطور في التصديق على الاتفاقية اندفعت القوات البريطانية والفرنسية عبر الأراضي الصينية، فنفذت مذابح بشعة وقضت على المقاومة بالقوة الغاشمة، ودخلت طلائعها بكين في عام 1860 ونهبت المقر الصيفي للإمبراطور وأضرمت فيه النار، لتفتح الباب على مصراعيه لنشر تعاطي الأفيون بين الصينيين الذين ارتفع عدد المدمنين من بينهم إلى 120 مليوناً سنة 1878، بعد أن كان عددهم أقل من مليوني مدمن عام 1850، ولتبقى هذه الآفة مستشرية في طول البلاد وعرضها حتى مطلع القرن العشرين عندما قُضي على تعاطيه نهائياً في عهد الزعيم الشيوعيّ ماو تسي تونغ.

ينعكس الحجم الهائل لتجارة الأفيون في عدد المؤلفين والأدباء البريطانيين المشهورين الذين يرد ذكرهم في نص غوش - الذي كان أسلافه بدورهم قد استقروا في شابرا الهنديّة للعمل في حسابات الأفيون المكتوبة باللغة البنغاليّة -. فهناك روديارد كيبلينغ الذي شُوهد متجولاً في أحد مصانع هذا المخدّر، وجورج أورويل (إريك بلير) المولود في بيهار بالهند عندما كان والده نائباً لوكيل تجارة الأفيون في الإقليم، وأيضاً تشارلز ديكنز الذي كتب في تأييدها. لقد جمع العديد من الأوروبيين والأمريكيين ثروات طائلة من خلال العمل بهذه التجارة في الصين لسنوات قليلة قبل أن يعودوا إلى بلادهم لإنفاقها دون خجل محملين وزر إدمان الصينيين على ميلهم للشهوات وفسادهم الفطري. وفي «الدّخان والرّماد» تفاصيل ملفتة حول تشابك عوائد تجارة الأفيون مع الفنون في هندسة المعمار وصناعة الأثاث وتنسيق الحدائق وحتى اللوحات الفنية، لكن الأكثر إثارةً ربما تكون تلك الارتباطات السلالية لأباطرة تجارة الأفيون من الأمريكيين – يطلق عليهم في الوثائق التاريخيّة اسم «بوسطن براهمينز» - الذين كان من أحفادهم شخصيات معروفة أمثال جون موراي فوربس وفرانكلين دي روزفلت.

مأساة الشعبين الصيني والهندي التي أطلقها الوحش الاستعماري الغربيّ على شكل تجارة الأفيون ربما تكون قد تقلصت الآن بفضل نضالات الشعبين وتراكم إنجازاتهما - مع أن أكبر مصانع إنتاج الأفيون في العالم ما زالت إلى يومنا في الهند كما يقول غوش -. ومع ذلك، فإن الإرث الأكثر ديمومةً لمغامرة الغرب المشؤومة تلك ما زال شاخصاً حتى وقتنا الراهن كوباء عالمي في إدمان المواد الأفيونية، التي بأشكالها المختلفة أودت مثلاً بحياة أكثر من نصف مليون أميركي في العقد الماضي وحده. لقد أطلقت «بوسطن براهمينز» و«شركة الهند الشرقية» جنيّاً مجرماً لم يتمكنوا مطلقاً من إعادته إلى قمقمه، إذ اعتقدوا أن بإمكانهم إبقاء الأفيون تجارة لاستغلال الشرقيين «الكسالى الذين يميلون بشكل طبيعي إلى الرذيلة»، لكنهم انتهوا أن جلبوا الكارثة معهم إلى بلادهم. ونتساءل اليوم مع غوش ما إذا كانت البشرية ستتمكن يوماً من هزيمة هذه الزهرة المتطلبة القاتلة!

«الدّخان والرّماد»: تاريخ الأفيون الخفي

Smoke And Ashes: A Journey Through Hidden Histories

المؤلف: أميتاف غوش

الناشر: موراي، 2024 أميتاف غوش: زراعة الخشخاش لم تكن من تقاليد الهند قبل أن يؤسس البريطانيون «دولة مخدرات» في ستينات القرن الـ18 لأغراض التصدير

إلى الصين


سيرة توازي بين القراءة والكتابة بدون تفاصيل الحياة

سيرة توازي بين القراءة والكتابة بدون تفاصيل الحياة
TT

سيرة توازي بين القراءة والكتابة بدون تفاصيل الحياة

سيرة توازي بين القراءة والكتابة بدون تفاصيل الحياة

يأتي كتاب «مسرات القراءة ومخاض الكتابة - فصل من سيرة كاتب» (تكوين - دار الرفدين - 2023)، للدكتور عبد الجبار الرفاعي، ليضيء جانباً من سيرته الذاتية انطلاقاً من العلاقة التي ربطته بعالم القراءة. وهو الدافع الرئيس لتحديد «فصل من سيرة كاتب». لكن السيرة الذاتية للرفاعي لا تنحصر بالتحديد في هذا الجانب، وإنما تمتد لتشمل فصولاً أخرى يتداخل فيها الحياتي بالثقافي والفكري.

من ثم فـ«مسرات القراءة ومخاض الكتابة» جزء من حياة دون أن يعني كونه الحياة في كليتها. وهو ما يوحي على السواء بكون هذه السيرة سوف تتشكل من أجزاء أخرى وفق ما طالعنا، مثلاً، في تجربة عميد الأدب العربي طه حسين، وصولاً إلى الأدباء جلال أمين ومصطفى الفقي وغيرهما. ويحق الحديث على أن المفهوم الذي يرسخه الرفاعي للسيرة الذاتية، يتجسد - كما سلف - في الجمع بين عالمين: عالم القراءة وعالم الحياة. وبذلك، فإنه يغاير ويخالف السائد والمتداول في كتابة السيرة الذاتية. ويمكن التمثيل بما كتبه هنري ميللر في «الكتب في حياتي» وكولن ويلسون في «الكتب في حياتي» (والعنوان متداخلان)، وإيتالو كالفينو في «لماذا نقرأ الأدب الكلاسيكي؟»، وألبرتو مانغويل منذ «تاريخ القراءة» إلى «حياة متخيلة». وإذا كان الصوغ في هذه المؤلفات مباشراً، فإنه في غيرها تحقق على نمط كتابة روائية، كمثال «عاشق الكتب» و«جنون كتاب» لهوفر بارتليت. وأما عربياً فيمكن التمثيل بكتابات عبد الفتاح كيليطو في أغلبها، إلى الروائي والقاص لؤي حمزة عباس في كتابة «النوم إلى جوار الكتب»، وبثينة العيسى في «الحقيقة والكتابة»، وطريف الخالدي في «أنا والكتب»، وصفاء ذياب في «أن نحكي»، وحسن مدن في «حبر أسود».

تشكل الوعي

تبدو صيغة الوعي بالقراءة في كتاب «مسرات القراءة ومخاض الكتابة» بسيطة، لتتحول لاحقاً إلى التعقيد. فالبسيطة ترتبط بالفضاء كما الزمن، وهي انتقالات في حياة الشخصية وتكوينها. ذلك أن مرحلة التعليم الابتدائي في حياة الرفاعي لم تعرف سوى الكتب المدرسية، بحكم الارتباط بالواقع القروي وسواد الأمية بين الفلاحين على مستوى القراءة والكتابة. وفي سياق هذه المحدودية، فإن أفق التوسع والاضطلاع لم يمتلك مؤهلات التطوير وروافد الإغناء. من ثم فإن الصورة التي جاءت عليها المكتبة الشخصية الأولى، اتسمت على السواء بالبساطة ما دامت قد ضمت ما يشبه كراسات تتم العودة إليها بين فترة وأخرى في نوع من التكرار وشح الإضافة:

«لم أر في المرحلة الابتدائية كتاباً غير الكتب المدرسية، ولا أتذكر أني رأيت كتاباً في بيت أحد في قريتنا، الفلاحون من جيل آبائنا لا يقرأون ولا يكتبون». (ص/13)

«قرأت قصص: المياسة والمقداد والسندباد البحري وغزوة بئر ذات العلم وعنترة بن شداد». (ص/13)

«نشأت مكتبتي بهذه الكراسات وأشباهها، أصبحت أكرر مطالعتها، وأضيف لها ببطء وعلى فترات متباعدة ما أظفر به». (ص/14)

بيد أن الانتقال إلى بغداد بداية السبعينات بهدف الدراسة سيجسد تحولاً مغايراً على مستوى التكوين، ذلك أن ما بدا في السابق بسيطاً، سيغدو معقداً أمام وفرة الكتب وتعدد سبل المعرفة وما يترتب من دهشة وحيرة في الاختيار وتوقاً إلى امتلاك مكتبة غنية تتضمن مراجع معتمدة، علماً بأن هذه المكتبة الشخصية ستخضع لظروف قاسية تتحدد في الإجهاز عليها بالاغتيال - إذا حق - ثم القيام مجدداً بالبناء والإنشاء، وكأن الأمر يتعلق بسيرتين متداخلتين: سيرة تكوين وتكون القارئ، وسيرة نهضة مكتبة - مكتبات لا تتوقف وظيفتها في تشكيل صورة القارئ، وإنما الكاتب على السواء، من منطلق كون كل قراءة عميقة دقيقة موضوعية تقود إلى بناء شخصية الكاتب التي تقولها وفق صيغة خاصة تتفرد على مستوى التفسير والتأويل وترسيخ الفهم المغاير:

«أتذكر أولى زياراتي لشارع المتنبي سنة 1973 عندما كنت طالباً ببغداد، لم تكن المكتبات في الشارع بهذه الكثافة وهذا الحضور الواسع المتنوع اليوم». (ص/23)

«بعد انتقالي للدراسة ببغداد سنة 1973، بدأ تراكم الكتب يتنامى ويضيق معه فضاء الصندوق بالكتب المضافة». (ص/ 44)

«تجمع مكتباتي نحو 30000 من الكتب ودوريات الدراسات والمجلات الثقافية». (ص/55)

وتأسيساً على السابق، فإن تشكل الوعي بالقراءة تجسده نوعية المقروء. بمعنى آخر، إنه أمام فيض وغزارة المكتوب تحتم الضرورة انتقاء ما ينبغي قراءته من منطلق كون الزمن والحياة لا يسمحان بالإحاطة الشاملة. ثم إن التخصص المتعلق، سواء بحقل التدريس أو الكتابة، يستدعي القراءة، وبالضبط ضمن حدود المحفل، حيث تتمثل كيفية تصريف المقروء في المكتوب، إلى توظيفه التوظيف الملائم.

يقول الرفاعي في فقرة دالة مكثفة وجامعة تضعنا أمام المفهوم الحق للقارئ:

«ليس المهم كمية ما يقرأ الإنسان، المهم نوعية ما يقرأ، وكيفية تلقيه لما يقرأه، وقدرة عقله على تمثله وتوظيفه، وتجلي أثره في نمط تفكيره وشخصيته وسلوكه». (ص/29)

إن ما تقود له/ إليه صورة القارئ، ميلاد الكاتب ونشأته. والأصل أن الميلاد والنشأة يرتبطان بالقراءة. فلا يمكن ولا يتأتى خلق النص في غياب المرجعيات التي يتم الامتياح منها بغاية إنتاج المعنى الجديد الذي لا يقول الشيء نفسه، وإنما ما يغايره ويختلف عنه. وثم تتحقق الفرادة والخصوصية. على أنه ومثلما تحققت ولادة القارئ في زمن مبكر، تسنى أيضاً للكاتب فرض قوة حضوره في المراحل التي قطعها تكوينه التربوي والجامعي، وكأن تمرين الممارسة التعبيرية الإبداعية نصاً وموضوعاً يعلن عن ذات تمتلك مشاعر وأحاسيس قيض لها الاستمرار وليس التوقف كي تغدو بنفسها مرجعاً معتمداً لا يمكن تجاهله أو غض الطرف عنه:

«كتاباتي خلاصة مطالعات بدأت في مرحلة مبكرة من حياتي لم ولن تتوقف، وما زالت، كما كانت أول مرة، خلاصة عواصف ذهنية وتأملات فرضها علي عقلي الذي لا يكف عن التفكير، وأوقدتها مشاعري وانفعالاتي، وما ترسب بأعماقي من جراح محطات الحياة المتنوعة، مما لا أراه ولا أدرك تأثيره في فهمي». (ص/69)

ويبرز الاختلاف بين العالمين: عالم القراءة وعالم الكتابة، في كون الأخير كما ورد في التعريف المقتبس عن الروائية الفرنسية آني إرنو: «الكتابة كخنجر»، عالم عذابات ومعاناة ومتعة أيضاً. ذلك أن كتابة نص، أقول ولادته، لا يمكن على الإطلاق استسهالها. على أن أولى هذه العذابات والمعاناة يعكسها مكون اللغة بما هي أداة التواصل والاتصال بين الكاتب والقارئ. إذ الكاتب وهو يخوض مهمة الإنجاز يحلم بأن يكون منجزه دقيقاً من حيث الكتابة والتحرير، وهو ما يفرض عليه انتقاء العناصر المكونة للغته وبناء أفقه الإبداعي الخاص. فلا قيمة البتة لما يكتب بانتفاء القارئ الذي تصنعه الكتابة. وهذا ما يشير إليه الرفاعي بالاشتراك أو المشاركة، بحكم كون بناء النص تتداخل فيه كفاءتان: كفاءة الكاتب وكفاءة القارئ.

«اللغة كأداة هي ما يرهقني في الكتابة أكثر من الفكرة، أعيد تحرير النص عدة مرات. حين أكتب أمارس وظيفة تشبه وظيفة المهندس المعماري الذي لا يغفل عن وجه البناء الجمالي». (ص/ 69)

«الكتابة فن الحذف والاختزال». (ص/70)

«لم أجد نفسي خارج الكتابة منذ أكثر من 45 عاماً تقريباً». (ص/74)

«الكتابة اقتصاد الألفاظ وتدبير الدلالات. الكتابة تحرير النص من عبودية الكلمات الميتة، وأساليب البيان المنقرضة. كل كتابة إعادة كتابة كتابة على كتابة». (ص/ 166)

إن ما يمكن استخلاصه من السابق: كون تشكل شخصية القارئ يتداخل وصورة الكاتب كما سلف، اعتبار بدايات الوعي بالقراءة والكتابة، تحقق منذ سنوات التكوين الدراسي والجامعي، والغاية التأسيس لمنطلقات في التعبير وعلى التفكير تتفرد في خصوصياتها وتصوراتها، وهو ما يلمس في الآثار الفلسفية للرفاعي.

في سؤال السيرة

لعل السؤال الذي يفرض نفسه في نهاية هذه الكتابة النقدية: أترى يتعلق الأمر في كتاب «مسرات القراءة ومخاض الكتابة - فصل من سيرة كاتب» بسيرة محض، سيرة ذاتية، أم أنها سيرة ذهنية؟

إن التحديد الذي أقدم عليه المؤلف، والمتمثل في «فصل من سيرة كاتب»، يجسد ميثاق التعاقد الذي يربط بين المؤلف والقارئ. بمعنى آخر إننا أمام سيرة توازي بين القراءة والكتابة دون أن تشمل تفاصيل ترتبط بالحياة أو الذات برمتها كما مر مطلع هذه الكتابة، ومثلما المتداول والمعهود في السيرة الذاتية العربية التي نزع بعض مؤلفيها إلى ضبطها بالتحديد الدقيق، في حين غيب البعض التحديد، ومنهم من اختار تمرير وقائع ذاتية في كتابة روائية يتعامل معها في هذا السياق.

على أنه وإلى ميثاق التعاقد، فإن الإشارة «فصل من سيرة» تؤكد بأن أفق التلقي المنتظر مستقبلاً، سيكون أمام فصول أخرى تستكمل السيرة وتشمل الغائب مما لم يتم ذكره، وآنئذ تستوفي السيرة بعدها الذاتي في شموليته، ولئن كانت بعض الإشارات الذاتية الحياتية وردت في هذا الكتاب وفق تدقيق زمني صارم.

بيد أن اختيار الأستاذ عبد الجبار لهذه الصيغة، وليد قناعة واقتناع بأن المؤلف قارئ وكاتب بمثابة ذات، وجود وكينونة تنتج وعياً بالثقافي والفكري في ثوابته ومتغيراته. والواقع أن الاختيار يهدف في مستوى آخر من الفهم والتأويل إلى الاختلاف عن السائد في كتابة مادة السيرة، إلى التنويع والإضافة، وهو ما جنح إليه أكثر من كاتب ممن ذكرت سابقاً البعض منهم:

«كتابة السيرة بهذا الشكل من أمهر أنواع الكتابة وأكثفها وأثراها. كتابة السيرة تعني إعادة بنائها بوصفها طوراً راهناً لوجود الإنسان يبعث في حياته ولادة مستأنفة». (ص/75)

ويحق أن نضيف بأن الاختيار تمثيل عن إضاءة لجوانب من وفي حياة المؤلف. الفضول يتنازع القارئ الذي عرف الرفاعي من خلال دراساته وأبحاثه، والآن انطلاقاً من هذا الكتاب يخبر ما لم يكن يعرفه، وأقصد صورة القارئ والكاتب. ومن ثم، فإن «مسرات القراءة ومخاض الكتابة - فصل من سيرة كاتب» بمثابة المرآة العاكسة لشخصية المؤلف وتكوينه الثقافي والفكري، إلى أن غدا اسماً علماً يتفرد بموقع ومكانة وتعتمد آثاره مراجع في الأبحاث والدراسات: «كتاباتي مرآة سيرتي الفكرية والروحية والأخلاقية، أكتب تجربتي في الكتابة كما تذوقتها بوصفها تجربة وجود. تجربة الوجود فردية، كل ما هو فردي ليس ملزماً لأي إنسان». (ص/75)

* كاتب مغربي


كتاب عن تاريخ الإسكندرية في العصر الإسلامي

كتاب عن تاريخ الإسكندرية في العصر الإسلامي
TT

كتاب عن تاريخ الإسكندرية في العصر الإسلامي

كتاب عن تاريخ الإسكندرية في العصر الإسلامي

في إطار اهتمامها بإعادة نشر كتب التراث، وإلقاء الضوء على ما تطرحه من قضايا فكرية وإنسانية، أصدرت مكتبة الإسكندرية أخيراً، من خلال مركز الدراسات لحضارة البحر المتوسط (Alex Med) بقطاع البحث الأكاديمي، كتاب «متصوفة الإسكندرية ومنشآتهم المعمارية في العصر الإسلامي» تأليف الدكتور أيمن الجوهري.

يتناول الكتاب جانباً مهماً من تاريخ مدينة الإسكندرية في العصر الإسلامي والعصر الحديث. يبدأ الكتاب بمحاولة التعرف على أسباب ارتباط المؤمنين والعلماء بمدينة الإسكندرية وإقامتهم فيها، خصوصاً الوافدين من بلاد المغرب العربي، ومدى حبهم لها، واندماجهم في ثقافتها المبنية على التعدد والتنوع والتسامح. ويعرض الكتاب في الفصل الأول مفهوم التصوف الإسلامي ونشأته ومراحل تطوره، بالإضافة إلى المرتكزات الفكرية التي أثرت فيه. بينما يتناول الفصل الثاني التصوف والمتصوفة بمدينة الإسكندرية من القرن (6 - 13هـ - 12 - 19م). ومن خلال هذا التطور يركز الفصل الثالث الختامي على الحديث عن منشآت التصوف بمدينة الإسكندرية، ومنها: الرباطات والخانقاوات والتكايا والقباب الضريحية، متتبعاً طرق نشأتها، ومستعيناً في ذلك بمجموعة مهمة من الوثائق والمصادر التاريخية.


«السيميائيات ــ التداولية المسرحية» في دراسة مغربية حديثة

«السيميائيات ــ التداولية المسرحية» في دراسة مغربية حديثة
TT

«السيميائيات ــ التداولية المسرحية» في دراسة مغربية حديثة

«السيميائيات ــ التداولية المسرحية» في دراسة مغربية حديثة

صدر حديثاً للناقد المسرحي المغربي أحمد بلخيري كتاب نقدي جديد بعنوان «السيميائيات - التداولية المسرحية ودراسات مسرحية أخرى»، عن دار نشر «الأمان» بالرباط، في 229 صفحة من الحجم الكبير.

وجاء في كلمة الناشر: «هذا الكتاب يضم مجموعة من الدراسات تتعلّق كلّها بالمسرح. وتم فيه تتبّع كيفية تطبيق المنهج السيميائي في البحث المسرحي العربي من خلال بعض الدراسات المنشورة. والكتاب اهتمّ بتحديد مفهوم ما يعرف بالتداولية المسرحية التي تختلف عن التداولية اللسانية. كما يضم دراسةً عن النقد المسرحي المعياري، ومفهوم الحداثة المسرحية. هذا بالإضافة إلى بيبليوغرافيا مصغرة عن النقد المسرحي العربي، فضلاً عن تضمين الكتاب ثلاثة ملاحق، منها ملحقان تم التعريف فيهما بالفصلين الأوّلين من كتاب (سيميائيات المسرح) لطاديوز كاوزن، وهو كتاب رائد في مجال سيميائيات المسرح».

سبق لبلخيري أن أصدر «معجم المصطلحات المسرحية»، و«المصطلح المسرحي عند العرب»، و«دراسات في المسرح»، وكذلك «الوجه والقناع في المسرح»، و«نحو تحليل دراماتورجي»، و«سيميائيات المسرح»، إضافة إلى كتب «المثقف والسلطة»، و«في التحليل الدراماتورجي»، و«قراءات في المسرح».