حظرت موسوعة «ويكيبيديا» الحديثة في قرار بارز أخيراً عمل 7 محررين صينيين وألغت صلاحيات الإدارة من 12 مستخدماً، للتلاعب بالمعلومات التي تنتقد الصين.
ينتمي الأفراد الذين سُحبت صلاحياتهم أو حظرهم إلى شبكة «وسطاء الميديا من البرّ الصيني (أي جمهورية الصين الشعبية)»، وقد جرى التعامل معهم بعد ورود تقارير تفيد بأنهم يسعون إلى السيطرة على «ويكيبيديا» وتحويل محتواها إلى تبنّي وجهة نظر قومية صينية متشددة. والمعروف أن الموسوعة المجانية على الإنترنت يحرّرها متطوعون وتستضيفها مؤسسة «ويكيميديا»، وهي منظمة غير ربحية مقرها في مدينة سان فرنسيسكو بالولايات المتحدة.
مؤسسة «ويكيميديا» علّقت في بيان لها أنها اتخذت هذا الإجراء في أعقاب «تحقيقات طويلة وعميقة» في أنشطة ذات صلة ببعض أعضاء الشبكة المذكورة. ثم بلغت الأمور ذروتها بحرب كلامية بين محرّري «ويكيبيديا» المناصرين للديمقراطية وأولئك المناصرين للشيوعية في العاصمة الصينية بكين. وقد اتُّهم المناصرون بالتهجم على المحرّرين وترهيب من لهم موقف مؤيد للديمقراطية. كذلك اندلعت «حروب تحريرية» بين المجموعتين بسبب تحرير المحتوى المتعلق بالاحتجاجات والسرديات المتعلقة بالصين وحكومتها.
وفي بيان صدر في أعقاب الحظر، قالت ماغي دينيس، نائبة رئيس مؤسسة «ويكيميديا» لشؤون مرونة واستدامة المجتمع، إن هذا الإجراء جاء نتيجة «مخاوف من التسلل»، وأعقب تحقيقاً استغرق سنة كاملة، ووصفت القضية بأنها «غير مسبوقة في مجالها». ولم تستبعد المؤسسة احتمال أن يكون المستخدمون المتسببون في المشكلات مرتبطين بالحكومة الصينية، غير أنها أشارت إلى أن هذا ليس محل تركيز التحقيقات. وتابعت دينيس في رسالة بالبريد الإلكتروني: «كنا بحاجة إلى العمل على أساس معلومات موثوقة تفيد بأن بعض أفراد (وليس كل أعضاء) هذه المجموعة (WMC) تعمدوا مضايقة وترهيب وتهديد أعضاء آخرين في مجتمعنا، بما في ذلك بعض حالات الإيذاء البدني للآخرين، من أجل تأمين سلطتهم الخاصة وتخريب الطبيعة التعاونية لمشاريعنا».
أيضاً أشارت المؤسسة إلى أنها لم تتمكّن بعد من الكشف عن الأدلة المحددة التي أدت للحظر بسبب الاعتبارات القانونية والمخاطر المحتملة على سلامة المستخدم. ولفهم أفضل للظروف التي أدت إلى هذا العمل غير المسبوق، كانت على اتصال مباشر مع الكثير من المساهمين في «ويكيبيديا» الصينية. وهي مجموعة تضم المحررين في البر الصيني، الذين يصفون أنفسهم بأنهم «مؤيدون لبكين» أو على الأقل «متوافقون مع بكين». وهنا يؤيد الصحافي الهندي الكبير راتان سينغ جيل، في تعليق له، قرار «ويكيميديا»، قائلاً إنه «لفترة طويلة للغاية، استُخدمت (ويكيبيديا) لخدمة أجندات سياسية. ويتعين عليها الآن إعادة النظر في سياساتها التحريرية وسياسات المجتمع».
جيمي ويلز مؤسس «ويكيبيديا»، من جهته، أكد أن مبادئ المنصة من حرية التعبير والحيادية مطبَّقة عالمياً. وأردف: «لديّ خبرة عميقة في التحدث إلى الناس في جميع أنحاء العالم. وفكرة أن الناس في الصين، على سبيل المثال، يتعرّضون لغسل دماغ لدرجة أنهم ما عادوا يستطيعون رؤية الحياد... مجرد خطأ». وتابع ويلز: «كثيرون من الناس يستطيعون القول: هذه نظرتي للعالم. ولكن هناك وجهات نظر أخرى، ويجب على الموسوعة تقديم تفسير لوجهات النظر المختلفة بطريقة منصفة».
وفي سياق متصل، أشارت هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) في مقال لها، إلى أن التهديد بالاعتقال من الحزب الشيوعي الصيني كان بمثابة خطر «يهدد أسس (ويكيبيديا) ذاتها».
روابط بالغة التوتر
في الواقع، ترتبط بكين مع «ويكيبيديا» بعلاقات باردة جداً منذ إطلاق «ويكيبيديا» الصينية عام 2001، وكانت الحكومة الصينية لفترة طويلة متشككة في أمر «ويكيبيديا». وجرى حظرها في الصين بشكل متقطع منذ 2004.
وفي عام 2015، نشرت بكين «جدار الحماية الكبير» لحجب نسخة «ويكيبيديا» باللغة الصينية، ثم شرعت في حجب كل نسخ اللغة من الموقع خلال عام 2019 -قبل بضعة أشهر من الذكرى السنوية الثلاثين لاحتجاجات ميدان تيان آن مين الكبيرة في بكين.
ثم في عام 2020 رفضت الحكومة الصينية طلب «ويكيميديا» الحصول على وضعية المراقب الرسمي في «المنظمة العالمية للملكية الفكرية»، بسبب زعم ممثل الصين أنه رصد قدراً كبيراً من المحتوى والمعلومات المضللة في انتهاك لمبدأ «الصين الواحدة» على صفحات الإنترنت المنتسبة إلى «ويكيميديا»، وأن فرع تايوان في «ويكيميديا» «يضطلع بأنشطة سياسية يمكن أن تقوّض سيادة الدولة وسلامتها الإقليمية».
وبعد ذلك، في عام 2021 رفضت الحكومة الصينية طلب مؤسسة «ويكيميديا» الحصول على وضع المراقب في «المنظمة العالمية للملكية الفكرية» مجدداً للسبب نفسه المتذرَّع به في عام 2020.
«جدار حماية عظيم»
الجدير بالذكر، أنه من أجل الوصول إلى «ويكيبيديا» في البر الصيني، يتوجب على المستخدمين استخدام شبكة افتراضية خاصة، أو الاتصال غير المباشر «بروكسي» للتحايل على «جدار الحماية العظيم» في البلاد. وتتولى هذه التطبيقات تغيير مسار «الخادم الإلكتروني»، وتسمح للمستخدم بزيارة المواقع التي يصار إلى حظرها عادةً لنقل البيانات الآتية من عنوان بروتوكول الإنترنت الخاص بهذا الشخص.
وهنا يوضح الصحافي الهندي أنانتي شارما، أن الصين تملك موقعاً لموسوعة محلية تسمى «بايدو بايك»، يحتوي على أكثر من 24.5 مليون مقالة مقارنةً مع 1.2 مليون مقالة لـ«ويكيبيديا» الصينية. ووفقاً للتقارير، فإن «بايدو بايك» تفرض الرقابة على محتواها وفقاً لطلب الحكومة الصينية، كونها شركة صينية المنشأ بعكس «ويكيبيديا». ولاستخدام «ويكيبيديا»، على المستخدمين الوصول إليها من خلال (خادم وكيل = بروكسي) أو (VPN = الشبكة الخاصة الافتراضية).
ومن الأمثلة على «الحروب التحريرية» بين المستخدمين في هونغ كونغ والمستخدمين المؤيدين لبكين، ثمة مقالة عن حادثة وقعت في هونغ كونغ عام 2019، حيث أُجري عليها 123 تعديلاً على مدى يومين، مع استخدام كلمات مثل «الفصائل الريفية» و«الإرهابيين» بالتبادل. وفي يوليو (تموز) كشف موقع «هونغ كونغ فري برس» أن المحرّرين الصينيين في البر الصيني هددوا، حسبما زُعم، بإبلاغ السلطات عن مستخدمي هونغ كونغ بشأن «انتهاكات الأمن الوطني»، ما يشكّل أيضاً تهديداً مادياً لهم.
وجهة النظر الصينية
من ناحية أخرى، ردت شبكة «دبليو إم سي WMC» الصينية على مؤسسة «ويكيميديا»، زاعمةً أن هذا العمل كان «قمعاً محسوباً» للمحررين من البر الصيني، برعاية القوى المناهضة لبكين. كذلك أشار تقرير الشبكة الصينية في بيانها إلى أن الادعاءات الموجّهة ضدهم ليست سوى «تشهير».
أما صحيفة «غلوبال تايمز»، وهي صحيفة يومية يسيطر عليها الحزب الشيوعي الصيني، فرأت أن الحادث يرقى إلى مستوى «القمع المدروس» للمحررين في البر الصيني. ونقلت الصحيفة عن يان إينمينغ، مدير موقع «ويكيبيديا» الصيني ورئيس شبكة «دبليو إم سي» الذي جرى حظره، قوله إن قرارات الحظر أصابته بإحباط كبير وبددت آمال المستخدمين الآخرين المتضررين، الذين ساهموا كثيراً في موقع «ويكيبيديا» باللغة الصينية. وتابع يان: «بيد أن قطع العلاقات والتخلي عن الآمال في المؤسسة لا يكلفنا شيئاً، ذلك أننا لم نتلقَّ مساعدات منها على أي حال». ويسعى المحررون المطرودون حالياً إلى إنشاء موسوعة جديدة خاصة بهم لديها «مرونة وخيارات أكثر» بعد التأسيس.
أخيراً، وفقاً للصحافي الهندي مانوغ جوشي، فإن «جدار الصين الناري كان سبباً في حجب (ويكيبيديا) على نحو أو آخر لأكثر من عقد من الزمان. وعلى هذا فإن أرضية الملعب لم تكن مستوية أو متكافئة لفترة طويلة. لكنهم يواجهون اليوم مشكلة مع محرّري البر الصيني الذين يدافعون عن أجندة مؤيدة لسلطات بكين. وهذا ما حدث عند انخراط الصين في مواضيع سياسية حساسة على (ويكيبيديا): حبس مستخدمي الإنترنت المشككين في المؤسسة الصينية، والسماح للمروّجين المخلصين للنظام الحاكم بالمرور عبر الشبكة، فضلاً عن وجود عدد هائل من المواطنين في الصين، يصبح لديك جيش من مروّجي الدعايات (المستقلين) القادرين على خلق (الإجماع) الذي يدعم وجهة نظر المؤسسة الصينية».