«الشارقة للفنون» تستضيف «كائنات وافدة»

لقطة من فيلم {يا أيها الأفق} (عام 2018) (تصوير: مجموعة أوتوليث)
لقطة من فيلم {يا أيها الأفق} (عام 2018) (تصوير: مجموعة أوتوليث)
TT

«الشارقة للفنون» تستضيف «كائنات وافدة»

لقطة من فيلم {يا أيها الأفق} (عام 2018) (تصوير: مجموعة أوتوليث)
لقطة من فيلم {يا أيها الأفق} (عام 2018) (تصوير: مجموعة أوتوليث)

تنظم مؤسسة الشارقة للفنون ضمن برنامجها لخريف 2021. معرض «كائنات وافدة» لمجموعة «أوتوليث» الفنية، والذي يستمر في الفترة من 13 نوفمبر (تشرين الثاني) 2021 إلى فبراير (شباط) 2022. في المباني الفنية في ساحة المريجة.
يقدم المعرض عرضاً شاملاً لأعمال مجموعة أوتوليث التي أسسها في لندن كل من أنجليكا ساجار وكودو إشون عام 2002، حيث تشمل ممارستهم الفنية طيفاً واسعاً من الأعمال التي تؤكد على التزامهم الثابت بالعمل وخلق «خيال علمي موازٍ للحاضر» عبر الصورة والصوت، بينما تتناول الأفلام ومقاطع فيديو عالية الدقة، والأعمال التركيبية متعددة الشاشات، الأزمات العالمية للرأسمالية العنصرية، والقضايا الاجتماعية المعاصرة مثل: الإرث الذي خلفه الاستعمار الكولونيالي، وأثر البشر على الطبيعة وعلاقتهم بها، وتأثير وسائل الاتصال الحديثة على طبيعة النشاط البشري.
عُرض «كائنات وافدة» للمرة الأولى في متحف «فان آبي» في أيندهوفن في مايو (أيار) 2019. ويتولى تنظيمه في الشارقة كل من متحف فان آبي ومؤسسة الشارقة للفنون، وهو من تقييم مشترك بين آني فليتشر مدير المتحف الآيرلندي للفن الحديث، وحور بنت سلطان القاسمي رئيس مؤسسة الشارقة للفنون، بينما صمم عمارة المعرض الأصلي استوديو ديوغو باسارينهو.
يشير عنوان المعرض إلى رواية الخيال العلمي «إيكسنوجينيسيس» للكاتبة الأفرو أميركية أوكتافيا بتلر، وهو عنوان جامع لثلاثيتها «فجر» (1987)، و«طقوس البلوغ» (1988)، و«إيماغو» (1989). تتألف كلمة «إيكسنوجينيسيس» من اقتران البادئة اليونانية «إيكسونس» (xenos) بمعنى كائن غريب أو فضائي مع اللاحقة «جينيسيس» (genesis) التي تعني الأصل أو الجيل، إذ يعكس هذا الاجتراح اللفظي الجديد لبتلر انشغال إشون وساجار العميق بفكرة التحول إلى كائن وافد غريب.
ينقل أحدث عمل في المعرض بعنوان «يا أيها الأفق» (2018) شكلاً معاصراً من إرث جامعة «فيسفا بهاراتي» المؤسسة عام 1919 في سانتينيكيتان، غرب البنغال، على يد الشاعر رابندرانات طاغور، المعروف برؤيته الطليعية والاستشرافية في الفن والشعر والفلسفة، فيما يستلهم العمل التركيبي «الجزء الثالث من المقياس الثالث» (2017) أعمال الموسيقي الأفرو أميركي يوليوس إيستمان.
كما تخوض بعض الأعمال المشاركة في تأثير الوسائط الجديدة على الإنسان، بما في ذلك عمل «لعنة» (2011) الذي يعاين الطريقة التي تتداخل فيها شبكات العلاقات الإنسانية وتقنيات الكريستال السائل في شاشات اللمس فيما بينها، ويتحدى مفهوم شبكة الوسائط من خلال كشف تقلباتها المتأصلة، بينما يكشف الفيديو التركيبي «من اليسار إلى الليل» (2015)، الأنماط المجهرية للكريستال السائل الذي يشكل جزءاً من شاشات الهواتف الذكية والحواسيب والتلفزيونات المسطحة، حيث تشبعُ هذه الأنماط المخدرة مجال الرؤية، وتسلّط الضوء بعدسة مكبرة على ما يختبئ تحت الشاشة.
في حين يعاين عمل «أصول الحكم» (2014) تجليات الاستعمار، من خلال مجموعات مضاءة من الطوابع القديمة من كينيا وليبيريا وأوغندا وبوروندي، وغيرها من الدول الأفريقية، في محاولة لرسم معالم القرن الذي قضته أفريقيا في النضال لإنهاء الاستعمار.
يقام بالتزامن مع افتتاح المعرض برنامج للجلسات الحوارية بين الفنانين والمحاورين الرئيسيين، يليه حفل خاص لإطلاق وتوقيع مونوغراف جديد وشامل لمجموعة أوتوليث صادر عن المتحف الآيرلندي للفن الحديث وأركايف بوكس، بدعم من الشركاء الدوليين ومواقع العرض التي تستضيف جولة المجموعة مثل باكستون كنتيمبروري، وبيت ثقافات العالم، ومعهد الفن المعاصر في فرجينيا، ومؤسسة الشارقة للفنون، وغاليري جنوب ألبرتا للفنون، ومتحف فان آبي.
يشار إلى أن مؤسسة الشارقة للفنون تستقطب نماذج متنوعة من الفنون المعاصرة والبرامج الثقافية، لتفعيل الحراك الفني في المجتمع المحلي في الشارقة، الإمارات العربية المتحدة، والمنطقة. وتسعى إلى تحفيز الطاقات الإبداعية، وإنتاج الفنون البصرية المغايرة والمأخوذة بهاجس البحث والتجريب والتفرد، وفتح أبواب الحوار مع كافة الهويّات الثقافية والحضارية، وبما يعكس ثراء البيئة المحلية وتعدديتها الثقافية.
وتضم مؤسسة الشارقة للفنون مجموعة من المبادرات والبرامج الأساسية مثل «بينالي الشارقة» و«لقاء مارس»، وبرنامج «الفنان المقيم»، و«البرنامج التعليمي»، و«برنامج الإنتاج» والمعارض والبحوث والإصدارات، بالإضافة إلى مجموعة من المقتنيات المتنامية. كما تركّز البرامج العامة والتعليمية للمؤسسة على ترسيخ الدّور الأساسي الذي تلعبه الفنون في حياة المجتمع، وذلك من خلال تعزيز التعليم العام والنهج التفاعلي للفن.



«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!