«الجدار»... أحدث أسلحة الحرب ضد «المهاجرين» حول العالم

ترصد تنامي الظاهرة من «سور ترمب» إلى أسوار تركيا وباكستان وبولندا... مروراً بـ«جدار الفصل» الإسرائيلي... و«بوابات بلفاست»

مهاجرون يتجمعون قرب سياج من أسلاك شائكة بمنطقة غرودنو في بيلاروسيا محاولين العبور إلى بولندا أمس (رويترز)
مهاجرون يتجمعون قرب سياج من أسلاك شائكة بمنطقة غرودنو في بيلاروسيا محاولين العبور إلى بولندا أمس (رويترز)
TT

«الجدار»... أحدث أسلحة الحرب ضد «المهاجرين» حول العالم

مهاجرون يتجمعون قرب سياج من أسلاك شائكة بمنطقة غرودنو في بيلاروسيا محاولين العبور إلى بولندا أمس (رويترز)
مهاجرون يتجمعون قرب سياج من أسلاك شائكة بمنطقة غرودنو في بيلاروسيا محاولين العبور إلى بولندا أمس (رويترز)

جدران. أسوار. سواتر. أسلاك شائكة. حواجز. بوابات... تعابير مختلفة، لكنها تصبّ في المعنى نفسه: «الفصل» بين شيئين. تاريخياً، كان الهدف منها التصدي للغزوات الأجنبية. في العصر الحديث تنوعت الأهداف. أحياناً كان هدفها فصل المتخاصمين عن بعضهم بعضاً. أحياناً أخرى، كان الهدف «سجن» المواطنين داخل بلدهم. أما اليوم فقد باتت «موضة» منتشرة حول العالم، بعدما حوّلتها دول عديدة إلى أحدث أسلحة التصدي لما يصفه بعضهم بـ«غزو خارجي» لا يتم على أيدي جيوش أجنبية، كما في الماضي، بل عبر جحافل من «المهاجرين».
هذا التقرير يسلّط الضوء على بعض «جدران الفصل» الكثيرة حول العالم، عارضاً نجاحاتها وإخفاقاتها...

كان المشهد في بلفاست صادماً حقاً، لا سيما للبناني عاش سنوات الحرب الأهلية على خطوط التماس التي فصلت بين شطري بيروت. فكما كان الانقسام اللبناني يحمل طابعاً طائفياً إلى حد كبير، بين شطر بيروت الشرقي، المسيحي في غالبه، وشطر بيروت الغربي، المسلم في غالبه، كذلك كان المشهد في عاصمة آيرلندا الشمالية في تسعينات القرن الماضي. هنا أيضاً كان الانقسام طائفياً، لكنه كان بين المسيحيين أنفسهم: البروتستانت الذين يريدون بقاء آيرلندا الشمالية جزءاً من المملكة المتحدة وبالتالي جزءاً من التاج البريطاني، وبين الكاثوليك الذين يريدون توحيد الجزء الشمالي من الجزيرة مع شطرها الجنوبي، جمهورية آيرلندا.
الانقسام في شطري بيروت عبّرت عنه «خطوط تماس» تكرّست خلال سنوات الحرب. كانت في الغالب عبارة عن شوارع محصّنة على جانبيها وعلى الطرقات المتفرعة منها بسواتر ترابية أو خرسانية مرتفعة أو بقايا حافلات نُصبت فوق بعضها بعضاً للفصل بين منطقتين متجاورتين، لكنهما مختلفتان طائفياً، كعين الرمانة المسيحية والشياح المسلمة. وفي الواقع، كرّست خطوط التماس تلك الفصل بين السكان الذين لم يكن بإمكانهم الوصول إلى مناطق «خصومهم» سوى عبر نقاط عبور قليلة «تخترق خطوط الفصل»، كمعبر المتحف الشهير بين البيروتيين.
«خطوط التماس» في بلفاست كانت مختلفة إلى حد ما. هنا، «جدار الفصل» كان جداراً بحق، يمتد على مدى كيلومترات عدة، بارتفاع يصل إلى أكثر من خمسة أمتار، مع بوابات تُغلق ليلاً لئلا يتسلل الكاثوليك إلى أحياء جيرانهم البروتستانت، أو بالعكس، ثم يُعاد فتحها مع طلوع صباح اليوم التالي. كان هذا هو الوضع منذ أغسطس (آب) 1969، عندما أقيم جدار أمني في بلفاست يفصل «القوميين» الكاثوليك في ضاحية «فولز رود» عن جيرانهم «الوحدويين» البروتستانت في ضاحية «شانكيل رود»، تماماً كما هو الحال بين «الجيران» اللبنانيين في الشياح وعين الرمانة مثلاً.
تمكّن «اتفاق الجمعة العظيمة» الذي أُبرم عام 1998 بهدف جلب السلام إلى آيرلندا الشمالية، من تهدئة العلاقات إلى حد كبير بين «الجيران – الخصوم»، لا سيما بعد تفكيك أسلحة «الجيش الجمهوري الآيرلندي» (الكاثوليكي) وتشكيل حكومة محلية تضم طرفي النزاع. إلا أن «جدران الفصل» بين مناطق الكاثوليك والبروتستانت ما زالت قائمة حتى اليوم؛ إذ تفيد استطلاعات رأي بأن غالبية من السكان ترى ضرورة بقائها لتفادي حصول احتكاكات بين الأطراف المتخاصمة. وكان العام 2019 قد شهد بادرة تدل على تكرّس التهدئة بين «الجيران» المختلفين دينياً في بلفاست، إذ تم نصب «بوابة» فصل جديدة في شارع «تاونساند ستريت»، وهو شارع فرعي يربط بين «فولز رود» (الكاثوليك) و«شانكيل رود» (البروتستانت). كانت البوابة الجديدة «شفافة» تسمح برؤية ما يقع وراءها، وتم بناؤها قرب «البوابة الصلبة» الفولاذية التي تفصل الضاحيتين، وهي تُفتح في السابعة صباحاً ثم تقفل مع حلول المساء، وتبقى مقفلة خلال عطلة نهاية الأسبوع.
وفي الواقع، يمثّل معبر «تاونساند ستريت» مثالاً واحداً على «جدران الفصل» بين المتخاصمين الآيرلنديين الذين يسمونها «خطوط السلام» كونها تمنع الحرب. وتشير تقديرات إلى أن هناك ما يقرب من 116 من «حواجز الفصل» حالياً بين الكاثوليك والبروتستانت في آيرلندا الشمالية، يتركز معظمها في بلفاست، لكنها تنتشر أيضاً في منطقتي ديري وكو آرماه.
عادت «بوابات الفصل» بين الآيرلنديين إلى الذاكرة مع عودة «خطوط التماس»، ولو لفترة وجيزة أخيراً، بين عين الرمانة والشياح في بيروت، ومع انتشار ظاهرة بناء الأسوار والجدران والحواجز بهدف «الفصل» بين منطقة وأخرى. وفي حين أن البوابات الآيرلندية والسواتر المحصنة اللبنانية كانت تهدف إلى «فصل» المتحاربين عن بعضهم بعضاً ومنع دخول طرف إلى منطقة طرف آخر، فإن «موضة» أسوار الفصل الحديثة هدفها إلى حد كبير هذه الأيام منع عبور «غرباء» من منطقة إلى أخرى. الغرباء في أوروبا وأميركا هم بالطبع المهاجرون. شيّد الرئيس السابق دونالد ترمب «جداراً» ضخماً بهدف صدهم على طول حدود الولايات المتحدة مع المكسيك. يبني البولنديون بدورهم جداراً على حدودهم مع بيلاروسيا بهدف صد المهاجرين الذي يحاولون طرق بوابات الاتحاد الأوروبي من حدوده الشرقية. وللهدف نفسه؛ تبني تركيا حالياً جداراً ضخماً على حدودها مع إيران. إسرائيل بدورها تشيّد جدراناً وأسواراً بهدف فصل الفلسطينيين عن مناطق سيطرتها، سواء في قلب الضفة الغربية أو حول قطاع غزة. إسبانيا، كذلك، شيّدت أسواراً حول جيبيها في شمال المغرب، سبتة ومليلية؛ في محاولة لصد موجات المهاجرين الحالمين بالوصول إلى أوروبا. وحتى باكستان المتهمة بالتعاطف مع حركة «طالبان» الأفغانية، تبني بدورها سورا على «خط دوراند» الذي يفصلها عن أفغانستان في قلب مناطق البشتون على جانبي الحدود.
هل تنفع هذه الأسوار والجدران والحواجز في تحقيق الغاية منها؟ «سور ترمب» نجح كما يبدو في خفض منسوب الهجرة عبر الحدود مع المكسيك. «سور الفصل العنصري» ساهم بدوره، كما يقول الإسرائيليون، في خفض العمليات التي كان يقوم بها الفلسطينيون داخل إسرائيل قبل بناء السور. سبتة ومليلية نجحتا في خفض محاولات الهجرة، بالتعاون بالطبع مع السلطات المغربية. أسوار بولندا وتركيا وباكستان لم ينته بعد تشييدها، وبالتالي ربما ما زال مبكراً الحكم عليها.

- «سور ترمب»
كان بناء سور على الحدود المكسيكية أحد المحاور الأساسية لحملة دونالد ترمب الانتخابية عام 2016. التزم ترمب تنفيذ وعده بعد وصوله إلى البيت الأبيض، عام 2017، ودفع باتجاه بناء جدار يمتد عبر حدود ولايات كاليفورنيا، أريزونا، نيو مكسيكو وتكساس، متعهداً أن يجعل المكسيك تدفع ثمن تكاليف تشييده، وهو أمر رفضته هذه الدولة. وفي الواقع، كان هناك قرابة 1000 كلم من الحدود الأميركية مع المكسيك بها أنواع مختلفة من الحواجز العازلة قبل وصول ترمب إلى سدة الحكم. لكن في عهده تم مد جدار بطول 727 كلم ليحل إلى حد كبير محل الحواجز الحدودية التي كانت موجودة أصلاً والتي وصفها ترمب بأنها «قديمة وبلا قيمة».
نجح الجدار في السنة الأخيرة من حكم ترمب في خفض تدفق اللاجئين عبر الحدود مع المكسيك. إلا أن الرئيس الأميركي الحالي جو بايدن وعد بأنه لن يبني «خطوة واحدة» إضافية في الجدار، معارضاً استخدام أموال رصدها الرئيس السابق من موازنة وزارة الدفاع لتمويل تشييده. وليس واضحاً اليوم ماذا سيحل بالجدار الذي تتراوح تقديرات تكاليف بنائه بين 15 مليار دولار و40 مليار دولار.

- الجدار التركي مع إيران
تعزز تركيا حالياً حدودها مع إيران بجدار ضخم يضم قطعاً خرسانية بعلو ثلاثة أمتار؛ بهدف التصدي لتدفق اللاجئين، خصوصاً الأفغان في الفترة الأخيرة التي تلت سقوط النظام في كابل في أيدي حركة «طالبان». وأنجزت تركيا حتى الآن بناء 155 كلم من الجدار العازل المفترض أن يمتد بطول 241 كلم مقابل حدودها الشرقية مع إيران. ويقول الرئيس رجب طيب إردوغان، إن بلاده لن تكون «مخزن اللاجئين» نيابة عن أوروبا، علماً بأن بلاده تؤوي أعداداً ضخمة من اللاجئين السوريين، وهو يحصل على مليارات الدولارات من الاتحاد الأوروبي لقاء إيوائهم ومنع تدفقهم نحو أوروبا، كما حصل قبل سنوات.

- جدار باكستاني مع أفغانستان
تقول باكستان اليوم، إنها أنجزت تشييد 90 في المائة من ساتر على حدودها مع أفغانستان. ونقلت وكالة «أسوشييتد برس» عن الكولونيل رضوان نذير، المسؤول العسكري الباكستاني الذي كان يتحدث لصحافيين أجانب في طورخام (منطقة خيبر الحدودية)، في أغسطس الماضي، أن الجيش الباكستاني انتهى بالفعل من إقامة 90 في المائة من سياج مقرر على الحدود مع أفغانستان، متعهداً الانتهاء من عملية تشييد الـ10 في المائة المتبقية بحلول نهاية السنة. وهدف باكستان من بناء السياج هو منع هجمات المتشددين التي تتم عبر الحدود. وعملية بناء السياج الحدودي بدأت في الواقع منذ عام 2017 على طول الحدود مع أفغانستان والتي تمتد 2611 كلم وهي الحدود المعروفة بـ«خط دوراند».
والسور الحدودي بين البلدين يتألف من مجموعتين من السلاسل المترابطة من الأسوار تفصل بينهما مسافة تبلغ مترين مملوئين بلفائف من الأسلاك الشائكة. ويبلغ علو كل سور قرابة 4 أمتار. وبالإضافة إلى ذلك، ينصب الجيش الباكستاني كاميرات مراقبة لرصد أي محاولة لاختراق الحدود. ولا تعترف أفغانستان بالحدود مع باكستان كونها تفصل مناطق البشتون عن بعضها بعضاً. وليس واضحاً بعد كيف ستتعامل حركة «طالبان» بعد وصولها إلى السلطة في كابل، مع هذه الحدود مع باكستان.

- سور بولندي على حدود بيلاروسيا
بدورها، تقوم بولندا ببناء جدار مثير للجدل على حدودها الشرقية مع بيلاروسيا، في رد على تدفق موجة غير مسبوقة من المهاجرين، ومعظمهم من الشرق الأوسط وأفغانستان.
وتقدّر تكاليف السور بنحو 353 مليون يورو، ومن المخطط أن يمتد على مسافة تزيد على 100 كلم على الحدود الشرقية للاتحاد الأوروبي. ومنذ أغسطس الماضي، يتدفق آلاف المهاجرين عبر حدود بيلاروسيا نحو بولندا العضو في الاتحاد الأوروبي. ويتهم الاتحاد حكومة الرئيس الكسندر لوكاشينكو في مينسك بترتيب تدفق المهاجرين رداً على العقوبات الأوروبية التي فُرضت ضد نظامه في أعقاب الانتخابات المثيرة للجدل التي فاز فيها بولاية جديدة وأيضاً رداً على قمع نظامه للمعارضة.
وأرسلت بولندا جيشها إلى الحدود مع بيلاروسيا في محاولة لوقف موجات المهاجرين، وبدأت نصب سور من الأسلاك الشائكة. لكن رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون در لاين رفضت طلباً قدمته بولندا و11 دولة أخرى في الاتحاد لتمويل تشييد «حواجز» حدودية بهدف وقف دخول اللاجئين، وقالت «لن يكون هناك تمويل لأسلاك شائكة وجدران».

- إسرائيل وجدار الضفة
أقرَّت إسرائيل خلال حكومة إيهود باراك عام 2000 بناء الجدار بالضفة الغربية، عقب سنوات شهدت موجة ضخمة من عمليات التفجير التي قام بها فلسطينيون ضد أهداف إسرائيلية. ويبلغ طول الجدار 810 كلم، وقد بدأ العمل فيه قرب جنين عام 2002، وهو، كما يقول منتقدون، لا يلتف حول الضفة بل يمر عبرها، متسبباً في تقسيمها إلى مناطق متفرقة. إذ إن مسار الجدار سيسمح للإسرائيليين بالضم الفعلي لقرابة 46 في المائة من الضفة الغربية، وسيتسبب في تقسيم بقية الضفة إلى «غيتوهات، بانتوستانات ومناطق عسكرية»، بحسب ما يقول موقع منظمة «أوقفوا الجدار» المناهضة لعملية تشييده. وتوضح هذه المنظمة، أن 20 في المائة من طول الجدار يشيّد بكتل خرسانية، وتحديداً في بيت لحم وبعض أجزاء رام الله، وقلقيلية، وأجزاء من طولكرم، وعبر غلاف مدينة القدس. ويبلغ ارتفاع الجدار 8 أمتار – أي ما يوازي بمرتين علو جدار برلين – مع أبراج للمراقبة و«مناطق عازلة» بعرض يتراوح بين 30 متراً و100 متر لنصب أسوار مكهربة، خنادق، كاميرات، أجهزة استشعار حساسة، إضافة إلى دوريات عسكرية. وفي مناطق أخرى، يتألف الجدار من طبقات من أسيجة وأسلاك شائكة، وطرقات مخصصة للدوريات العسكرية، وممرات رملية لرصد آثار الأقدام، وأقنية وخنادق، وكاميرات مراقبة.
في العام 2019، خصصت إسرائيل 74 بوابة و5 نقاط تفتيش عبر فتحات في الجدار مخصصة لمرور المزارعين. وتقول منظمة «أوقفوا الجدار»، إن 11 فقط من هذه المعابر والبوابات كانت تفتح يومياً، بينما فتحت 10 لبعض الوقت خلال أيام الأسبوع وخلال موسم قطاف الزيتون، لكن الغالبية العظمى منها (53) لم تفتح سوى خلال موسم حصاد الزيتون.

- الجدار حول غزة
يعيش في قطاع غزة قرابة مليونَي شخص في مساحة تقدر بـ365 كلم مربع؛ ما يجعل المنطقة من أكثر مناطق العالم اكتظاظاً بالسكان. وتبني إسرائيل حول القطاع جداراً تحيط به منطقة عازلة (بافر زون) تمتد بين 300 و600 متر. وفي العام 2019، بدأت وزارة الدفاع الإسرائيلية المرحلة النهائية من تشييد سور فولاذي بعلو 20 قدماً سيحيط بقطاع غزة. وسيمتد السور بطول 65 كلم حول القطاع – جزء منه من الإسمنت وجزء من الفولاذ، وهو يمتد تحت الأرض وفوقها.

- أسوار سبتة ومليلية
أقامت إسبانيا في تسعينات القرن الماضي أسواراً حول الجيبين اللذين يخضعان لسيطرتها في شمال المغرب: سبتة ومليلية. كان الهدف منها وقف عمليات التهريب غير الشرعية ومنع دخول المهاجرين الطامعين بالوصول إلى أوروبا. فالجيبان في النهاية هما «الحدود» الوحيدة للاتحاد الأوروبي على الضفة الجنوبية للبحر المتوسط. يتألف السور من سورين متوازيين تعلوهما أسلاك شائكة تفصل بينهما مسافة تسمح بمرور سيارات إسعاف ودوريات للشرطة. وفد بدأت عمليات تشييد هذا السور في سبتة عام 1993، وكان في البداية بعلو مترين ونصف المتر وبطول 8.4 كلم. في العام 1995، تمت زيادة علو السور إلى ثلاثة أمتار، ولاحقا إلى علو يصل إلى ستة أمتار. وأقام الإسبان أيضاً سوراً مماثلاً بعلو ثلاثة أمتار حول مليلية بطول 11 كلم.
وعلى رغم تسجيل محاولات سنوية يقوم بها مئات من الأفارقة لاقتحام السياجات والوصول إلى «الجنة الأوروبية»، يبدو أن الأسوار الإسبانية نجحت، كما يبدو، بالتعاون مع السلطات المغربية، في وقف تدفق موجات المهاجرين.

- سور الصين العظيم
يعود بناء الجزء الأساسي من سور الصين إلى حقبة أسرة مينغ، بين العامين 1358 و1644، وتقول الصين، إنه يمتد على مسافة 13 ألف ميل (21 ألف كلم) – علماً بأن تقديرات أخرى تقول، إن طوله يتراوح بين 1500 ميل و5000 ميل. ولا يطلق الصينيون على السور في الواقع اسم «العظيم». يسمونه فقط «جدار المدينة» ويضيفون للاسم صفة «الطويل».
وبحسب موقع مجلة التاريخ في «بي بي سي»، كان الهدف من بناء السور - المصنوع من طوب يحوي الرز المطحون اللزج - منع الغزو الأجنبي، لكن جنكيز خان أظهر كيف يمكن استغلال «عيب» في سور عظيم كسور الصين؛ إذ قاد جحافل المغول عام 1449 عبر أحد جوانبه ودخل الصين (نجحت أسرة مينغ لاحقاً في طرد المغول من أراضيها).

- سور هيدريان في شمال إنجلترا
شكّل «سور هيدريان» الشهير، بين شمال إنجلترا واسكوتلندا، الحدود الشمالية الغربية للإمبراطورية الرومانية على مدى 300 سنة. بناه الجيش الروماني بناءً على أوامر الإمبراطور هيدريان بعد زيارته بريطانيا عام 122 ميلادية، علماً بأن الغزو الروماني لبريطانيا بدأ في العام 43 قبل الميلاد. يمتد السور على مسافة 73 ميلاً (80 ميلاً بحسب مقاييس الرومان) من شرق إنجلترا إلى غربها (من وولزأند على نهر تاين إلى باونس - أون - سولواي). يُعدّ السور من أشهر أسوار الرومان وقد بُني خلال ست سنوات. كانت خطة بناء السور تقضي ببناء جدار من الصخور أو الطبقات العشبية، على أن تكون هناك بوابة عبور محروسة كل ميل، وبرجا مراقبة كل ميلين. ولتحصين السور أكثر بنى الرومان 14 حصناً على مساره، وحفروا حوله خندقاً عميقاً وواسعاً.
وفي الواقع، لا يختلف هدف بناء هذا السور الروماني عن الأسوار التي تُشيّد في العالم اليوم. فإذا كانت الأسوار الحالية تُشيّد لفصل سكان البلد عن «جحافل المهاجرين»، كان هدف هيدريان من بناء السور «فصل البرابرة عن الرومان». برابرة ذلك الزمان كانوا، كما يبدو، قبائل اسكوتلندا التي فشل الرومان في إخضاعها!

- جدار برلين
كان الهدف الأساسي من بناء «الجدار» في برلين هو وقف «الهجرة»، ولكن ليس بمفهومها الحالي. «الجدران» التي يتم نصبها في العالم اليوم هدفها الأساسي منع دخول الغرباء إلى بلد لا يريدهم. جدار برلين كان هدفه معاكساً. منع دولة ألمانيا الشرقية مواطنيها من «الهجرة» منها والفرار إلى الخارج.
كانت برلين مقسّمة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945 إلى أربعة أقسام. القسم الشرقي تحت سيطرة السوفيات والحكومة الشيوعية في ألمانيا الشرقية. وقسم غربي تتقاسمه الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا.
وبما أن برلين نفسها كانت تقع كلياً في الجزء الذي يسيطر عليه الاتحاد السوفياتي في ألمانيا الشرقية (المدينة تبعد أكثر من 100 ميل عن الحدود مع ألمانيا الغربية) فقد كانت القيادة السوفياتية تعتبر أن الوجود الغربي «الرأسمالي» في قلب منطقة نفوذها بمثابة «شوكة في الحلق»، بحسب تعبير رئيس الوزراء السوفياتي آنذاك نيكيتا خروتشوف. فرض الروس حصاراً على القسم الغربي من برلين، عام 1958؛ لدفع الأميركيين وحلفائهم إلى المغادرة. لكن هؤلاء لم يخضعوا وردوا بإقامة جسر جوي نقل المؤن إلى برلين الغربية المحاصرة. والأنكى من ذلك بالنسبة إلى السوفيات، أنهم كانوا يشاهدون آلاف الألمان يتفقدون سنوياً عبر برلين الشرقية إلى غربها.
في يونيو (حزيران) 1961، غادر 19 ألف ألماني شرقي إلى ألمانيا الغربية عبر برلين. في الشهر التالي، وصل العدد إلى 30 ألفاً. في الأيام الـ11 الأولى من أغسطس، فرّ 16 ألفاً. وهكذا كرّت سبحة المهاجرين الفارين من «نعيم» الحكم الشيوعي في ألمانيا الشرقية للإقامة في «جحيم» الحكم «الرأسمالي» في جارتها الغربية. كان رد السوفيات سريعاً. أعطوا حكومة ألمانيا الشرقية الإذن بإقفال الحدود.
وخلال أسبوعين فقط، كان جيش ألمانيا الشرقية وشرطتها ومتطوعون قد نصبوا جداراً معززاً بأسلاك شائكة بين شطري برلين؛ ما أدى إلى قطع التواصل بين السكان الذين كانوا في السابق يتنقلون بحرية في الأقسام الأربعة لبرلين، ولم يعد ذلك متاحاً سوى عبر إجراءات أمنية مشددة من خلال ثلاث بوابات: «حاجز ألفا» و«حاجز برافو» و«حاجز تشارلي». أقامت ألمانيا الشرقية لاحقاً 12 نقطة مرور عبر الجدار الذي نجح إلى حد كبير في «غلق» الباب أمام «المهاجرين» من داخل البلاد إلى خارجها. من بين الذين حاولوا العبور خلسة من تحت الجدار أو من فوقه، قُتل 171 شخصاً بين العامين 1961 و1989، في حين نجح خمسة آلاف في العبور. في العام 1989 سقط «الجدار» بعد انهيار الحكم الشيوعي في برلين الشرقية عقب ثورة شعبية.


مقالات ذات صلة

ترحيل المهاجرين ضمن مهام ترمب في أول أيامه الرئاسية

الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (رويترز)

ترحيل المهاجرين ضمن مهام ترمب في أول أيامه الرئاسية

قالت ثلاثة مصادر مطلعة لـ«رويترز» إنه من المتوقع أن يتخذ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب عدة إجراءات تنفيذية في أول أيام رئاسته لإنفاذ قوانين الهجرة.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (رويترز)

ترمب: لن يكون أمامنا خيار سوى تنفيذ «ترحيل جماعي» للمهاجرين غير الشرعيين

قال الرئيس الأميركي المنتخب إن قضية الحدود تعد إحدى أولوياته القصوى، وإن إدارته لن يكون أمامها خيار سوى تنفيذ عمليات «ترحيل جماعي» للمهاجرين غير الشرعيين.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
الولايات المتحدة​ مهاجرون يستمعون إلى التوجيهات قبل عبور الحدود من المكسيك إلى إل باسو بولاية تكساس الأميركية (أ.ف.ب)

الهجرة غير الشرعية تتراجع مع ارتفاع حدة الخطاب الانتخابي الأميركي

تبدو ضفاف نهر يفصل بين المكسيك وأميركا شبه مهجورة، وغدت ملاجئ مخصصة للمهاجرين شبه خاوية، بعد أن كانت مكتظة سابقاً، نتيجة سياسات أميركية للهجرة باتت أكثر صرامة.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
أوروبا السويد تعزز المساعدات للدول القريبة من مناطق النزاع في محاولة لخفض تدفق المهاجرين (إ.ب.أ)

الحكومة السويدية تخصص مساعدات إنمائية للدول التي يتدفق منها المهاجرون

أعلنت السويد أنها ستعزز المساعدات للدول القريبة من مناطق النزاع وعلى طرق الهجرة، في أول بادرة من نوعها تربط بين المساعدات الإنمائية ومحاولة خفض تدفق المهاجرين.

«الشرق الأوسط» (ستوكهولم)
أوروبا مبنى المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان (رويترز)

القضاء الأوروبي يدين قبرص لإعادتها لاجئيْن سورييْن إلى لبنان

دانت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، الثلاثاء، قبرص لاعتراضها في البحر لاجئيْن سورييْن وإعادتهما إلى لبنان، دون النظر في طلب اللجوء الخاص بهما.

«الشرق الأوسط» (ستراسبورغ)

كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
TT

كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)

فيما كانت الستينية كاميليا محمود تعبر بسيارتها أحد شوارع مدينة نصر بالقاهرة، لفتتها مطاعم كثيرة تزدحم واجهاتها بمواطنين اصطفوا لشراء «ساندويتش شاورما»، ما أثار لديها تساؤلات حول انتشار المطاعم السورية «بهذا الشكل المبالغ فيه»، على حساب نظيراتها المصرية، مبدية مخاوفها من «هيمنة اقتصادية سورية قد يكون لها تبعات أكبر في المستقبل».

كاميليا، التي كانت تعمل موظفة بإحدى شركات القطاع الخاص قبل بلوغها سن التقاعد، رصدت خلال السنوات العشر الأخيرة انتشاراً كبيراً للمطاعم السورية في مختلف الأحياء والمدن المصرية لا سيما مدينة 6 أكتوبر (غرب القاهرة) حيث تقطن. لم تستغرب الأمر في البداية، بل على العكس كان حدثاً جاذباً، ولو بدافع استكشاف ما تقدمه تلك المطاعم من نكهات جديدة وغير معتادة في المطبخ المصري، من الشاورما إلى الدجاج المسحب والكبة وغيرها.

صبغة شامية

خلال أكثر من عقد من الزمان، منذ تكثف التوافد السوري على مصر، زاد عدد المطاعم التي تقدم مأكولات سورية، لدرجة صبغت أحياءً بكاملها بملامح شامية، لا تُخطئها العين، ليس فقط بسبب أسياخ الشاورما المعلقة على واجهاتها، ولا الطربوش أو الصدرية المزركشة التي تميز ملابس بعض العاملين فيها، بل بلافتات تكرس هوية أصحابها وتؤكد ارتباطهم بوطنهم الأم، فعادة ما تنتهي أسماء المطاعم بكلمات من قبيل «السوري»، «الشام»، «الدمشقي»، «الحلبي».

طوابير أمام أحد المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

محاولات تكريس الهوية تلك «أقلقت» كاميليا وغيرها من المصريين ممن باتوا يشعرون بـ«الغربة» في أحياء مثل «6 أكتوبر»، أو «الرحاب (شرق القاهرة)» التي باتت وكأنها «أحياء سورية وسط القاهرة». وتتساءل كاميليا في حديثها لـ«الشرق الأوسط»: «ألا يقتطع وجود السوريين من حصة المصريين في سوق العمل؟ ألا يشكل وجودهم خطراً سياسياً لا سيما مع هيمنة اقتصادية في قطاعات عدة؟».

بين «العشق» و«القلق»

رغم مشاعر القلق والغربة، فإن السيدة لا تخفي «عشقها» للمأكولات السورية. فهي تحرص بين الحين والآخر على الذهاب مع أسرتها لأحد تلك المطاعم، مستمتعة بنكهات متنوعة من أطباق «الشاورما والفتوش والكبة وغيرها». فـ«الطعام السوري لذيذ ومتنوع وخفيف على المعدة، وله نكهة مميزة»، وبات بالنسبة لها ولغيرها «عنصراً مضافاً على المائدة حتى داخل المنزل». وبالطبع لا يمكن لكاميليا إغفال «جودة الضيافة»، لا سيما مع كلمات ترحيبية مثل «تكرم عينك» التي تدخل كثيراً من البهجة على نفسها كما تقول.

حال كاميليا لا يختلف عن حال كثير من المصريين، الذين غيرت المطاعم السورية ذائقتهم الغذائية، وأدخلت النكهات الشامية إلى موائدهم عبر وصفات نشرتها وسائل إعلام محلية، لكنهم في نفس الوقت يخشون تنامي الوجود السوري وتأثيره على اقتصاد بلادهم، الأمر الذي بات يُعكر مزاجهم ويحول دون استمتاعهم بالمأكولات الشامية.

ومع موافقة مجلس النواب المصري، الثلاثاء الماضي، على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين، تزايدت حدة الجدل بشأن وجود الأجانب في مصر، لا سيما السوريون، وسط مخاوف عبر عنها البعض من أن يكون القانون «مقدمة لتوطينهم»، ما يعني زيادة الأعباء الاقتصادية على البلاد، وربما التأثير على حصة المواطن المصري في سوق العمل وفق متابعين مصريين.

مجلس النواب المصري وافق على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين (الشرق الأوسط)

تزايد عدد السوريين في مصر خلال العقد الأخير عكسته بيانات «المفوضية الدولية لشؤون اللاجئين» حيث ارتفع عدد السوريين المسجلين في مصر لدى المفوضية من 12800 في نهاية عام 2012 إلى أكثر من 153 ألفاً في نهاية عام 2023، ليحتلوا المرتبة الثانية بعد السودانيين ضمن نحو 670 ألف لاجئ وطالب لجوء مسجلين لدى المفوضية من 62 جنسية مختلفة.

جاءت هذه الزيادة مدفوعة بالحرب السورية، ودفعت مواطنيها إلى دول عدة، بينها مصر، لتبدأ المفوضية في تلقي طلبات اللجوء منذ عام 2012، مؤكدة دعمها «الفارين من أتون الحرب».

ومع ذلك، لا تعكس البيانات التي تقدمها مفوضية اللاجئين العدد الحقيقي للسوريين في مصر، والذي تقدره المنظمة الدولية للهجرة، بنحو 1.5 مليون سوري من بين نحو 9 ملايين مهاجر موجودين في البلاد.

لكن التقدير الأخير لا يُقره الرئيس السابق لرابطة الجالية السورية في مصر، راسم الأتاسي، الذي يشير إلى أن «عدد السوريين في مصر لا يتجاوز 700 ألف، ولم يصل أبداً لمليون ونصف المليون، حيث كان أعلى تقدير لعددهم هو 800 ألف، انخفض إلى 500 ألف في فترة من الفترات، قبل أن يعود ويرتفع مؤخراً مع تطورات الوضع في السودان». وكان السودان عموماً والخرطوم خصوصاً وجهة لكثير من السوريين عقب 2011 حيث كانوا معفيين من التأشيرات وسمح لهم بالإقامة والعمل حتى 2020.

دعوات مقاطعة

تسبب الوجود السوري المتنامي في مصر في انطلاق حملات على مواقع التواصل الاجتماعي بين الحين والآخر تنتقد السوريين، من بينها الدعوة لمقاطعة أحد المطاعم بسبب إعلان عن ساندويتش شاورما بحجم كبير، قال فيه مخاطباً الزبائن: «تعالى كل يا فقير»، مثيراً غضب مصريين عدوا تلك الجملة «إهانة».

حملات الهجوم على السوريين، وإن كانت تكررت على مدار العقد الماضي لأسباب كثيرة، لكنها تزايدت أخيراً تزامناً مع معاناة المصريين من أوضاع اقتصادية صعبة، دفعت إلى مهاجمة اللاجئين عموماً باعتبارهم «يشكلون ضغطاً على موارد البلاد»، وهو ما عززته منابر إعلامية، فخرجت الإعلامية المصرية قصواء الخلالي في معرض حديثها عن «تأثير زيادة عدد اللاجئين في مصر»، لتتساءل عن سبب بقاء السوريين كل هذه السنوات في بلادها، لا سيما أن «سوريا لم يعد بها حرب»، على حد تعبيرها.

وعزز تلك الحملات مخاوف من التمييز ضد المصريين في فرص العمل مع إعلان البعض عن وظائف للسوريين واللبنانيين والسودانيين فقط.

وانتقد رواد مواقع التواصل الاجتماعي المطاعم السورية باعتبارها «ليست استثماراً».

في حين طالب البعض بـ«إغلاق المطاعم السورية والحصول على حق الدولة من الضرائب»، متهماً إياهم بـ«منافسة المصريين بهدف إفلاسهم»، لدرجة وصلت إلى حد المطالبة بمقاطعة المطاعم السورية بدعوى «سرقتها رزق المصريين».

الهجوم على السوريين في مصر لا ينبع فقط من مخاوف الهيمنة الاقتصادية أو منافسة المصريين في فرص العمل، بل يمتد أيضاً لانتقاد شراء الأثرياء منهم عقارات فاخرة وإقامتهم حفلات كبيرة، وسط اتهامات لهم بأنهم «يتمتعون بثروات المصريين». وهو الأمر الذي يعتبره رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين في مصر المهندس خلدون الموقع «ميزة تضاف للسوريين ولا تخصم منهم، فهم يستثمرون أموالهم ويربحون في مصر، وينفقون أيضاً في مصر بدلاً من إخراجها خارج البلاد»، بحسب حديثه لـ«الشرق الأوسط».

زحام لافت على مطعم سوري بشارع فيصل بالجيزة (الشرق الأوسط)

ووسط سيل الهجوم على المطاعم السورية تجد من يدافع عنهم، ويتلذذ بمأكولاتهم، باعتبارها «أعطت تنوعاً للمطبخ المصري».

كما دافع بعض الإعلاميين عن الوجود السوري، حيث أشار الإعلامي المصري خالد أبو بكر إلى «الحقوق القانونية للسوريين المقيمين في مصر»، وقال إن «أهل سوريا والشام أحسن ناس تتعلم منهم التجارة».

ترحيب مشروط

كان الطعام أحد الملامح الواضحة للتأثير السوري في مصر، ليس فقط عبر محال في أحياء كبرى، بل أيضاً في الشوارع، فكثيراً ما يستوقفك شاب أو طفل سوري في إشارات المرور أو أمام بوابات محال تجارية، بجملة «عمو تشتري حلوى سورية؟».

ويعكس الواقع المعيش صورة مغايرة عن دعوات الهجوم والمقاطعة المنتشرة على منصات التواصل الاجتماعي، عبر طوابير وتجمعات بشرية لشباب وأطفال وأسر تقف على بوابات المحال السورية لا يثنيها زحام أو حر أو مطر، عن رغبتها في تناول ساندويتش شاورما، «لرخص ثمنه، ومذاقه الجيد»، بحسب مالك مصطفى، شاب في السابعة عشرة من عمره، التقته «الشرق الأوسط» وهو يحاول اختراق أحد طوابير «عشاق الشاورما» التي تجمهرت أمام مطعم في حي الزمالك.

مصريون طالبوا بمقاطعة المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

أما مدير فرع مطعم «الأغا» في حي الزمالك وسط القاهرة أيمن أحمد، فلم يبد «تخوفاً أو قلقاً» من تأثير حملات المقاطعة على المطاعم السورية، لا سيما مع «الإقبال الكبير والمتنامي على وجبات معينة مثل الشاورما والدجاج المسحب»، والذي أرجعه خلال حديثه لـ«الشرق الأوسط» إلى «النكهة المختلفة للمطبخ السوري التي أضافت طعاماً شعبياً جديداً أرضى ذائقة المصريين».

وكان إعجاب المصريين بالمطبخ السوري هو ما دفع مؤسس مطعم الأغا، رائد الأغا، الذي يمتلك سلسلة مطاعم في دول عربية أخرى، إلى الاستثمار في مصر ليفتح أول فروعه في الدقي (شمال الجيزة) عام 2021، ثم يقدم على افتتاح فرعين آخرين في الزمالك ثم مصر الجديدة، بمعدل فرع كل عام.

على النقيض، تُغضب حملات الهجوم المتكررة رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين بمصر، الذي يرفض الاتهامات الموجهة للسوريين بـ«أخذ رزق المصري والحصول على مكانه في الوظائف والاستثمار»، لا سيما أن «السوري استثمر وفتح مطعماً أو مصنعاً ووفر فرص عمل أيضاً ولم يأخذ محل أو مطعم مصريين».

استثمارات متنوعة

يتحدث الأتاسي بفخر عن الاستثمارات السورية في مصر، ووجودها في قطاعات اقتصادية عدة، منها أكثر من 7 آلاف مصنع سوري في مجالات مختلفة، في مدن العاشر من رمضان والعبور وغيرهما، لكن المواطن المصري ربما لا يرى من الاقتصاد السوري في بلاده سوى المطاعم «كونها أكثر اتصالاً بحياته اليومية».

ويبدي الأتاسي اندهاشه من كثرة الحملات على المطاعم السورية، رغم أن «أغلبها وخاصة الكبيرة فيها شركاء وممولون مصريون، وبعضها مصري بالكامل وبه عامل سوري واحد».

ليست الصورة كلها قاتمة، فإعلامياً، يجد السوريون في مصر ترحيباً، وإن كان مشروطا بـ«تحذير» من عدم الإضرار بـ«أمن البلاد»، وهو ما أكده الإعلامي المصري نشأت الديهي في رسالة وجهها قبل عدة أشهر إلى السوريين في مصر رداً على الحملات المناهضة لهم.

وهو ترحيب عكسته وسائل إعلام سورية في تقارير عدة أشارت إلى أن مصر «حاضنة للسوريين».

وهو أمر أكد عليه موقع الجالية بتأكيد الحديث عن تسهيلات قدمت لرجال أعمال سوريين وأصحاب مطاعم، من بينها مطاعم في حي التجمع الراقي بالقاهرة.

و«مدينة الرحاب» تعد واحدة من التجمعات الأساسية للسوريين، ما إن تدخل بعض أسواقها حتى تشعر بأنك انتقلت إلى دمشق، تطرب أذنك نغمات الموسيقى السورية الشعبية، وتجذبك رائحة المشاوي الحلبية، وأنت تتجول بين محال «باب الحارة»، و«أبو مازن السوري»، و«ابن الشام» وغيرها، وتستقطبك عبارات ترحيب من بائعين سوريين، «أهلين»، و«على راسي» و«تكرم عيونك».

«حملات موجهة»

انتشار السوريين في سوق التجارة لا سيما الغذاء فسره مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق رخا أحمد حسن، في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، بأن «بلاد الشام بشكل عام قائمة على المبادرة الفردية، فجاء السوري برأسمال بسيط وبدأ مشروعاً عائلياً وباع ما أنتجه في إشارات المرور، قبل أن يتوسع ويحول مشروعه إلى مطعم».

رصد حسن بنفسه تنامي الإقبال على المطاعم السورية في حي الشيخ زايد الذي يقطنه، لا سيما أنهم «ينافسون المنتج المصري في الجودة والسعر»، معتبراً الحملات ضدهم «تحريضية تنطوي على قدر من المبالغة نتيجة عدم القدرة على منافسة ثقافة بيع أكثر بسعر أقل».

وتثير حملات الهجوم المتكررة مخاوف في نفس الكاتب والمحلل السياسي السوري المقيم في مصر عبد الرحمن ربوع، وإن كانت «موجودة على مواقع التواصل الاجتماعي، ولا وجود لها في الشارع المصري»، حيث يشير في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «على مدار السنوات الماضية لم تتغير المعاملة لا من الشعب المصري أو الجهات الرسمية في الدولة».

السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية في مصر (الشرق الأوسط)

وبالفعل، أثرت المطاعم السورية إيجابياً في سوق الأكل المصري، ورفعت من سويته، بحسب ربوع، رغم أنها لا تشكل سوى جزء صغير من استثمارات السوريين في مصر التي يتركز معظمها في صناعة الملابس، وربما كان تأثيرها دافعاً لأن تشكل الجزء الأكبر من الاستهداف للسوريين في حملات يراها ربوع «سطحية وموجهة وفاشلة»، فلا «تزال المطاعم السورية تشهد إقبالاً كثيفاً من المصريين».

ولا تجد تلك «الحملات الموجهة» صدى سياسياً، ففي فبراير (شباط) من العام الماضي وخلال زيارة لوزير الخارجية المصري السابق سامح شكري إلى دمشق، وجه الرئيس السوري بشار الأسد الشكر لمصر على «استضافة اللاجئين السوريين على أراضيها وحسن معاملتهم كأشقاء»، بحسب إفادة رسمية آنذاك للمتحدث باسم الخارجية المصرية السفير أحمد أبو زيد، أشار فيها إلى تأكيد شكري أن «السوريين يعيشون بين أشقائهم في مصر كمصريين».

لكن يبدو أن هناك تطوراً أخيراً «أثار قلقاً كبيراً لدى السوريين وهو قرار إلغاء الإقامات السياحية»، فبحسب ربوع، معظم الأجانب في مصر وبينهم السوريون كانوا يقيمون في البلاد بموجب إقامات سياحية طويلة، لا سيما الطلاب وكثير ممن ليس لديهم عمل ثابت ويأتي قرار إلغاء تجديدها مقلقاً لأنه سيجبر كثيرين على الخروج من البلاد والعودة مرة أخرى كل فترة، وهو القرار الذي يرغب الأتاسي في أن يشهد إعادة نظر من جانب السلطات المصرية خلال الفترة المقبلة كونه «يفرض أعباءً جديدة على السوريين لا سيما الطلاب منهم».

«استثمارات متنامية»

ويشكل السوريون نحو 17 في المائة من المهاجرين في مصر، وهم «من بين الجنسيات التي تشارك بإيجابية في سوق العمل والاقتصاد المصري، وتتركز مشاركتهم في الصناعات الغذائية والنسيج والحرف التقليدية والعقارات»، وبحسب تقرير لـ«منظمة الهجرة الدولية» صدر في يوليو (تموز) 2022، أوضح أن «حجم التمويل الاستثماري من جانب نحو 30 ألف مستثمر سوري مسجلين في مصر، قُدر بمليار دولار في عام 2022».

وفي عام 2012 جاء السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية، عبر تأسيس 365 شركة من بين 939 شركة تم تأسيسها خلال الفترة من ما بين يناير (كانون الثاني) وأكتوبر (تشرين الأول)، بحسب بيانات «الهيئة العامة للاستثمار» في مصر.

ولا توجد إحصائية رسمية عن حجم الاستثمارات السورية في مصر الآن، لكن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أشار، في تقرير نشره عام 2017، إلى أن «اللاجئين السوريين استثمروا في مصر 800 مليون دولار». وهو نفس الرقم الذي تبنته هيئة الاستثمار المصرية في تصريحات تداولتها وسائل إعلام محلية.

لكنه رقم يقول رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين إنه «لا يعدو كونه الرقم التأسيسي الذي بدأ به السوريون مشروعاتهم في مصر، ثم تنامى مع الوقت»، إضافة إلى أن «هناك الكثير من الأنشطة الاقتصادية غير مسجلة في هيئة الاستثمار المصرية».

مطعم سوري في وسط البلد (الشرق الأوسط)

حملات الهجوم المتكررة على السوريين لن تمنعهم من الاستثمار في مصر، فهي من وجهة نظر الموقع «ناتجة عن نقص المعلومات وعدم إدراك لطبيعة وحجم مساهمة السوريين في الاقتصاد»، إضافة إلى أن «المتضرر الأكبر من تلك الحملات هما الاقتصاد والصناعة المصريان»، لا سيما أنها «تتناقض مع سياسة الحكومة الرامية إلى تشجيع الاستثمار».

فقد جاء المستثمر السوري بأمواله لمصر واستثمر فيها، و«أنفق أرباحه فيها أيضاً»، فهو بذلك قادر على «العمل... ولم يأت ليجلس في المقاهي».

بالفعل «لا يحصل السوريون على إعانات من الدولة، بل يعملون بأموالهم ويدفعون ضرائب، ومثل هذا الحملات تقلل من دور مصر التاريخيّ أنها ملجأ لكل من يضار في وطنه أو يتعرض للخطر»، بحسب مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق، الذي اعتبر الهجوم المتكرر عليهم «محاولة لإظهار السوريين بأنهم سبّب مشكلات البلاد، وهو غير صحيح».

وفي الوقت الذي يعول فيه الموقع على الإعلام لـ«نشر الوعي بأهمية وجود السوريين في مصر»، لا تزال الستينية كاميليا محمود حائرة بين «عشقها» للمأكولات السورية، و«مخاوفها» من التأثير على اقتصاد بلادها، ما يتنقص من متعتها ويعكر مزاجها وهي تقضم «ساندويتش شاورما الدجاج» المفضل لديها.