صراع «طالبان» ـ «داعش» أحدث حلقات العنف في أفغانستان

بين التهم المتبادلة والسعي إلى استراتيجيات مشتركة

صراع «طالبان» ـ «داعش» أحدث حلقات العنف في أفغانستان
TT

صراع «طالبان» ـ «داعش» أحدث حلقات العنف في أفغانستان

صراع «طالبان» ـ «داعش» أحدث حلقات العنف في أفغانستان

تشهد الأيام الماضية، وقد تشهد الأيام والأسابيع المقبلة، صعود تنظيم «داعش» باعتباره التهديد الأقوى أمام بقاء نظام جماعة «طالبان» في العاصمة الأفغانية كابُل. ويرى خبراء إقليميون أن «داعش» أثبت قدرته على تنفيذ هجمات إرهابية ضد أهداف مدنية وعسكرية داخل أفغانستان، وقد يكون هذا أكبر عامل يتسبب في زعزعة استقرار نظام «طالبان»، خلال السنوات المقبلة.
أيضاً، يمكن أن يلقي هذا العامل بظلال من الشك على تقديرات القوى الإقليمية، التي ظلَّت تدعم نظام «طالبان» حتى هذه اللحظة، بخصوص فرص بقاء نظام «طالبان». اللافت هنا أن نظام «طالبان» لا يواجه أي تهديد سياسي أو عسكري داخل كابل من جانب الجماعات المسلحة المنافسة، مثل «التحالف الشمالي» الأفغاني السابق، بقيادة نجل «زعيم حرب» الطاجيكي الراحل أحمد شاه مسعود.

يمكن للهجمات الإرهابية التي يشنها تنظيم «داعش» ضد أهداف مدنية وعسكرية أن تزعزع استقرار الحكومة الأفغانية بقيادة «طالبان». وما يزيد مشكلات نظام «طالبان» حقيقة أنه لا يملك القدرة على إدارة مؤسسات الدولة الحديثة بما يخدم أمن الدولة والمجتمع.
الملاحَظ أن مسألة تصميم جماعة «طالبان» الأفغانية الشديد على مطاردة «داعش» خارج أفغانستان يجعلها القوة المفضَّلَة لدى القوى الإقليمية، بما في ذلك روسيا والصين وإيران وباكستان. وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن قادة استخبارات الدول المعنيّة اجتمعوا في إسلام آباد خلال سبتمبر (أيلول) الماضي، ووافقوا على تزويد نظام «طالبان» الأفغاني بكل المعلومات الاستخباراتية والتقنية الممكنة على نحو فوري لتمكينه من التعامل مع تهديد «داعش».
ومن جانبه، يتسم «داعش» بقوة لافتة، تحديداً، في شرق وشمال أفغانستان، وهما المنطقتان القريبتان من الحدود مع دول آسيا الوسطى، التي لا تزال روسيا تعتبرها جزءاً من نطاقها الأمني.
بين عامي 2016 و2018، تعرّض الهيكل التنظيمي لـ«داعش» في أفغانستان لضغوط هائلة، في ظل إصرار الأميركيين و«طالبان» على طرد التنظيم المتطرف من شرق أفغانستان، المنطقة التي شهدت صعوده خلال عامي 2014 و2016.

- «داعش» في أفغانستان
تتمحور قصة «داعش» داخل أفغانستان حول التراجع المستمر، وذلك بعد الصعود الهائل الذي حققته هناك بين عامي 2014 و2016، بارتفاع عدد أعضاء التنظيم إلى الآلاف.
ولكن على مدى العامين الماضيين، عانى «داعش» من خسائر متتالية بسبب العمليات العسكرية الأميركية والحكومية الأفغانية في ولايتي كونر وننغرهار الشرقيتين. وتفاقمت هذه الخسائر مع الحملة العسكرية المنفصلة التي تشنها حركة «طالبان» الأفغانية ضد «داعش». ووفق تقرير قائم على آراء خبراء غربيين، يضم «داعش» نحو 2200 مقاتل، إلا أن مساره العام شابه انشقاقات بين القادة والجنود، بجانب خسارة التنظيم بعض الأراضي التي كان يسيطر عليها، وكذلك تشرذم الحلفاء في ساحات المعارك.
اليوم، لا يبدو «داعش» في أفغانستان سوى مجرد ظل لما كان عليه في السابق، بيد أن عدداً من الخبراء الغربيين عبّروا عن مخاوفهم من أن مقاتليه المتبقين يمكن استغلالهم من قبل وكالات الاستخبارات الإقليمية لإلحاق الضرر بالدول المنافسة لها، في إطار ما يُطلَق عليه «عنف المفسد».
في الوقت الحالي، ثمة خلاف بين «داعش» وطالبان أفغانستان، ومع ذلك يبقى الأول على علاقة ودية مع جماعة «طالبان» الباكستانية. والملاحَظ أن «طالبان» الأفغانية اقتربت من إيران خلال السنوات الأخيرة، في حين تتشارك «طالبان» الباكستانية مع «داعش» العداء تجاه المجتمع الشيعي المحلي.
من ناحية أخرى، يرى عدد من الخبراء والمحللين الأمنيين أن «طالبان» ليست متطورة بما يكفي للتعامل مع مشكلة «عنف المفسد»، التي يمكن أن تتجلى في عدة أشكال مختلفة في أفغانستان، وأن تؤثر أيضاً على دول المنطقة. ويمكن أن يتخذ «عنف المفسد» شكل هجمات إرهابية داخل الأراضي الباكستانية.
أيضاً، يعتقد خبراء على صلة بوكالات استخباراتية غربية أن الاستخبارات الهندية يمكن أن تكون مفيدة في استخدام فلول الجماعات الإرهابية ضد باكستان. ولا يبدو هذا بعيد المنال عند رؤيته في ضوء المزاعم الباكستانية بأن الاستخبارات الهندية قد اخترقت «طالبان» الباكستانية، ولعبت دوراً فاعلاً في تحريض الجماعة المسلحة على تنفيذ هجمات داخل باكستان. وثمة تقارير لا حصر لها تزعم وجود شبكات تربط بين «طالبان» الباكستانية، وجماعات إرهابية، مثل «القاعدة» و«داعش».
ورغم أن «داعش» يكاد تكون قد اختفى، فإن شبكة الجماعات التابعة له لا ينطبق عليها هذا القول. وهنا تجدر الإشارة إلى أن مقر «داعش» كان في ولاية ننغرهار الأفغانية قرب الحدود الباكستانية وجذب المتطرفين من جميع أنحاء المنطقة، وكذلك من مناطق بعيدة في الخارج.

- تقرير الأمم المتحدة
ووفقاً لتقرير أصدرته الأمم المتحدة في أبريل (نيسان) 2021، أدَّى العمل العسكري الذي نفَّذته قوات أمنية أميركية وأفغانية عام 2018 إلى خفض القوة الفعلية لـ«داعش» إلى 1500 - 2000 مقاتل، ما اضطره للعمل في خلايا لا مركزية تعمل على نحو شبه ذاتي.
ومع ذلك، فإن الهجوم الوحشي على مدرسة للبنات في كابل يوم 8 مايو (أيار) 2021، وأسفر عن مقتل أكثر عن 80 شخصاً (معظمهم من الأطفال)، والهجوم الأخير على مطار كابل يشيران إلى أن «داعش خراسان» ربما عاود الصعود خلال السنوات الثلاث الماضية، حسبما ذكر التقرير الصادر عن الأمم المتحدة.
لقد حمل الهجوم على المطار هدفين اثنين: الأول أن «داعش خراسان» سعى بالتأكيد لقتل أميركيين وإذلال واشنطن، التي تضرّرت مصداقيتها بالفعل بسبب الانهيار السريع للحكومة الأفغانية. وتمثل الثاني في تقويض شرعية حكم «طالبان». وراهناً، تتعاون «طالبان» مع الجيش الأميركي لتسريع جلاء القوات الأميركية. وبالنظر إلى تولي «طالبان» مسؤولية حفظ الأمن خارج المطار، فهذا الهجوم يصوّروهم ضعفاء.

- الاجتماع الاستخباراتي
وحول الاجتماع الاستخباراتي - المشار إليه سابقاً - فإن الاستخبارات الباكستانية استضافت أخيراً اجتماعاً لقادة عدد من الوكالات الاستخباراتية في إسلام آباد، تركَّز النقاش حول التهديد الذي يمثله وجود «داعش» في الولايات الشمالية والشرقية من أفغانستان. واتفق قادة الاستخبارات في إيران والصين وروسيا وباكستان ودول آسيا الوسطى على «تنسيق جهودهم» ضد نشاطات «داعش» في أفغانستان، ومساعدة نظام «طالبان» على التعامل مع التهديد الذي يشكله التنظيم.
وفي لقاءات مع «الشرق الأوسط» قال مسؤولون باكستانيون إن الروس قلقون، بشكل خاص، من صعود «داعش» في شمال أفغانستان على تخوم دول آسيا الوسطى، التي تعتبرها موسكو ضمن نطاقها الأمني.
كذلك يساور القلق الباكستانيين أنفسهم إزاء صعود «داعش» في أفغانستان، ويتركز قلقهم الرئيسي حول «الشراكة» التي دخل فيها مع عدد من التنظيمات الطائفية الباكستانية، وتنفيذه خلال الفترة الأخيرة عدداً من الهجمات الإرهابية ضد المجتمعات الشيعية في باكستان. وهذا، بينما تواصل قوات «طالبان» الأمنية في أفغانستان عملياتها ضد «داعش» في كابُل والمدن الكبرى الأخرى. ولكن الخبراء يشيرون إلى أن نقص الخبراء الفنيين وغياب أي قوات أمنية محترفة حال دون نجاح «طالبان» في هذه العمليات. وفي هذا الصدد، قال مسؤول أمني بارز في إسلام آباد: «لقد اعتقلوا بعض أعضاء (داعش) في ننغرهار، الذي كان معقلاً لـ(داعش) خراسان، وأفادت تقارير بأنهم اعتقلوا ما لا يقل عن80 من المقاتلين في ننغرهار».
وزعمت حركة «طالبان» في وقت قريب أنها قتلت ضياء الحق، المعروف كذلك باسم «أبو عمر الخراساني» داخل سجن بول الشارخي في كابل. كذلك واجهت «طالبان» اتهامات بقتل فاروق بنغالزاي، زعيم «داعش» في باكستان الذي أفادت أنباء بأنه تعرض للقتل أثناء سفره إلى جنوب غربي أفغانستان. وفي 28 أغسطس (آب)، تعرضت «طالبان» لاتهامات باعتقال أبو عبيد الله متوكل، العالم الديني المتهم بصلة بالتنظيم داخل كابل. وبعد أسبوع، عُثر عليه ميتاً.

- التحدي الأكبر أمام «طالبان»
يتمثل التحدي الأكبر الذي يواجه «طالبان» اليوم في حقيقة أن معظم أفراد «داعش» كانوا ينتمون سابقاً إلى «طالبان» قبل انشقاقهم عن تنظيمهم الأم. ويعتقد خبراء أنه نظراً لأنه سيتعين على «طالبان» تقديم تنازلات لكونهم في الحكومة في كابل، فإن الأفراد الأكثر تطرّفاً داخل «طالبان» قد يواصلون مسيرة الانشقاق وينضمون إلى «داعش» ما قد يعزز صفوفه.
وتميل الدول الإقليمية التي تشعر بعدم الارتياح تجاه نمو التشدد السنّي الراديكالي في أفغانستان، على وجه الخصوص، إلى دعم حركة «طالبان» الأفغانية كحصن ضد «داعش» والمنظمات المتطرفة الأخرى. ولا يستبعد الخبراء الباكستانيون إمكانية مساعدة الأميركيين لـ«طالبان» في عملياتهم ضد «داعش»، لكن الخشية من أن هذا قد يسرّع وتيرة الانشقاق في صفوف «طالبان» أفغانستان.

- باكستان تخشى تهديداً أمنياًتشكّله جماعات تابعة لـ {داعش}
عام 2018، استعرض كبار القادة المدنيين والعسكريين الباكستانيين الوضع الأمني الإقليمي الذي تطوّر في أعقاب موجة العنف المتزامنة في العاصمة الأفغانية كابُل ومدينة كويتا قاعدة إقليم بلوشستان الباكستاني، في مايو (أيار) 2018. وكان من شأن التورط المحتمل لـ«داعش» في هجمات كابل وكويتا خلق بُعد أمني جديد على الوضع الأمني الإقليمي.
في حينه، أسفرت الهجمات الإرهابية في كابُل وكويتا عن مقتل العشرات من المواطنين العاديين وإصابة كثيرين، وخلفت الهجمات شعوراً بانعدام الأمن داخل المراكز الحضرية بباكستان وأفغانستان. وعلاوة على ذلك، ولّدت الهجمات في المدينتين انطباعاً بأنها ربما تكون متصلة بطريقة ما.
وبمرور الوقت، أصبح هذا أمراً معتاداً، بينما أجرت السلطات الأمنية الباكستانية مراجعة أمنية لمراقبة أعمال العنف التي يقودها تنظيم «داعش» في أفغانستان، وتوقع أي تداعيات محتملة على أمن باكستان. وفي معظم الحالات، كان للعنف الطائفي في أفغانستان تأثير سلبي على الوضع الطائفي في البلدات والمدن الحدودية الباكستانية.
من ناحيتهم، صرح مسؤولون عسكريون باكستانيون بأن ليس لـ«داعش» أي وجود منظَّم في باكستان، ومع ذلك، يخشى المسؤولون العسكريون من أن ظهور «داعش» في شرق أفغانستان يمكن أن يشكل تهديداً لأمن الأراضي الباكستانية. وأضاف أحد هؤلاء المسؤولين العسكريين أن «الجماعات التابعة لداعش في شرق أفغانستان يمكن أن تسبب مشكلات في شمال غربي باكستان».
من جهة أخرى، لا يكاد يوجد أي خلاف بين الخبراء العسكريين الإقليميين على أن «داعش» يتقدم في شمال أفغانستان وبعض أجزاء شرقها. وبالفعل، وقعت عمليات إرهابية في مدن أفغانية أعلن «داعش» مسؤوليته عنها أو جرى نسبها إليه. وتتيح وسائل الإعلام الأفغانية والدولية مساحة للتقارير التي تحدثت عن أنشطة التنظيم المتطرف في أفغانستان.
وقبل فترة، وردت أنباء عن اندلاع اشتباكات بين مقاتلي جماعة «طالبان» الأفغانية و«داعش» من جهة، وقوات الأمن الأفغانية ومقاتلي «داعش» من جهة أخرى. وبدأ الجيش والاستخبارات الأميركية في استخدام تكنولوجيا الطائرات من دون طيار ضد مقاتلي «داعش» في جميع أنحاء أفغانستان منذ الأشهر الأخيرة من عام 2018.
كان هؤلاء المتشددون عبر الحدود يحاولون خلق انقسامات طائفية في باكستان.
وجرى طرد هؤلاء المسلحين من باكستان في عملية عسكرية ناجحة، لكنهم وجدوا ملاذاً في مناطق عبر الحدود. وقال مسؤول عسكري إن هذا التركيز للإرهابيين بالقرب من الحدود سمح لهم بجعل باراشينار (المناطق القبلية في باكستان التي تضم ما يمكن وصفه بخطوط صدع طائفية) هدفاً سهلاً، حيث توجد أصلاً توترات طائفية.



منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
TT

منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)

يسدلُ الستارُ على آخر مشاهد عام 2024 في منطقة الساحل الأفريقي، ورغم أن هذه الصحراء الشاسعة ظلت رتيبة لعقود طويلة، فإن المشهد الأخير جاء ليكسر رتابتها، فلم يكن أحد يتوقع أن ينتهي العام والمنطقة خالية من القوات الفرنسية، وأن يحل محلها مئات المسلحين الروس، وأنّ موسكو ستكون أقربَ من باريس لكثير من أنظمة الحكم في العديد من بلدان القارة السمراء.ورغم أن الفرنسيين كانوا ينشرون في الساحل أكثر من 5 آلاف جندي لمحاربة الإرهاب، بينما أرسل الروس بدورهم مرتزقة شركة «فاغنر» للمساعدة في المهمة نفسها، التي فشل فيها الفرنسيون، فإن الإرهاب ما زال يتمدد، بل إنه ضرب في قلب دول الساحل هذا العام، كما لم يفعل من قبل.

لم يكن الإرهاب حجةً للتدخل العسكري الأجنبي فقط، وإنما كان حجة جيوش دول الساحل للهيمنة على الحكم في انقلابات عسكرية أدخلت الدول الثلاث، مالي، النيجر وبوركينا فاسو، في أزمة حادة مع جيرانها في المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، انتهت بالقطيعة التامة وانسحاب الدول الثلاث من المنظمة الإقليمية التي كانت حتى وقت قريب تمثّلُ حلماً جميلاً بالاندماج والتكامل الاقتصادي.

بالإضافة إلى تصاعد الإرهاب والعزلة الإقليمية، حمل عام 2024 معه لدول الساحل تداعيات مدمرة للتغيّر المناخي، فضرب الجفاف كثيراً من المحاصيل الزراعية، وجاءت بعد ذلك فيضانات دمّرت ما بقي من حقول وقرى متناثرة في السافانا، وتسببت في موت الآلاف، وتشريد الملايين في النيجر وتشاد ومالي وبوركينا فاسو.

صورة وزعها الجيش الفرنسي لمقاتلين من المرتزقة الروس خلال صعودهم إلى مروحية في شمال مالي في أبريل 2022 (الجيش الفرنسي - أ.ب)

الخروج الفرنسي

الساحل الذي يصنّف واحدة من أفقر مناطق العالم وأكثرها هشاشة، كان يمثّلُ الجبهة الثانية للحرب الروسية - الأوكرانية، فكان مسرحاً للصراع بين الغرب وروسيا، وقد تصاعد هذا الصراع في عام 2024، وتجاوز النفوذ السياسي والاستراتيجي، إلى ما يشبه المواجهة المباشرة من أجل الهيمنة على مناجم الذهب واليورانيوم وحقول النفط، والموارد الهائلة المدفونة في قلب صحراء يقطنها قرابة 100 مليون إنسان، أغلبهم يعيشون في فقر مدقع.

يمكن القول إن عام 2024 محطة فاصلة في تاريخ الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل، خصوصاً أن الفرنسيين دخلوا المنطقة مطلع القرن التاسع عشر، تحت غطاء تجاري واقتصادي، ولكن سرعان ما تحوّل إلى استعمار عسكري وسياسي، هيمن بموجبه الفرنسيون على المنطقة لأكثر من قرن من الزمان، وبعد استقلال هذه الدول، ظلت فرنسا موجودة عسكرياً بموجب اتفاقات للتعاون العسكري والأمني.

ازداد الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل بشكل واضح، عام 2013، بعد أن توجّه تنظيم «القاعدة» إلى منطقة الساحل الأفريقي، ليتخذ منها مركزاً لأنشطته بعد الضربات التي تلقاها في أفغانستان والعراق، ومستغلاً في الوقت ذاته الفوضى التي عمّت المنطقة عقب سقوط نظام العقيد الليبي معمر القذافي عام 2011. حينها أصبح الفرنسيون يقودون «الحرب العالمية على الإرهاب» في الساحل، وأطلقوا عملية «سيرفال» العسكرية في يناير (كانون الثاني) 2013، التي تحوّلت عام 2014 إلى عملية «برخان» العسكرية التي كان ينفق عليها الفرنسيون سنوياً مليار يورو، وينشرون فيها أكثر من 5 آلاف جندي في دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد.

على وقع هذه الحرب الطاحنة بين الفرنسيين وتنظيم «القاعدة»، وانتشار الجنود الفرنسيين بشكل لافت في شوارع المدن الأفريقية، تصاعد الشعور المعادي لفرنسا في الأوساط الشعبية، ما قاد إلى انهيار الأنظمة السياسية الموالية لباريس، وسيطر عسكريون شباب على الحكم في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وكان أول قرار اتخذوه هو «مراجعة» العلاقة مع فرنسا، وهي مراجعة انتهت بالقطيعة التامة.

حزمت القوات الفرنسية أمتعتها وغادرت مالي، ثم بوركينا فاسو والنيجر، ولكن المفاجأة الأكبر جاءت يوم 28 نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 حين قررت تشاد إنهاء اتفاقية التعاون العسكري مع فرنسا، وهي التي ظلت دوماً توصف بأنها «حليف استراتيجي» للفرنسيين والغرب في المنطقة.

وبالفعل بدأ الفرنسيون حزم أمتعتهم ومغادرة تشاد دون أي تأخير، وغادرت مقاتلات «ميراج» الفرنسية قاعدة عسكرية في عاصمة تشاد، إنجامينا، يوم الثلاثاء 10 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، في حين بدأ الحديث عن خطة زمنية لخروج أكثر من ألف جندي فرنسي كانوا يتمركزون في تشاد.

ربما كان تطور الأحداث خلال السنوات الأخيرة يوحي بأن الفرنسيين في طريقهم إلى فقدان نفوذهم التقليدي في منطقة الساحل، ولكن ما يمكن تأكيده هو أن عام 2024 شكّل «لحظة الإدراك» التي بدأ بعدها الفرنسيون يحاولون التحكم في صيغة «الخروج» من الساحل.

صورة جماعية لقادة دول "الإيكواس" خلال قمتهم في أبوجا بنيجيريا يوم 15 ديسمبر 2024 (أ.ف.ب)

لقد قرَّر الفرنسيون التأقلم مع الوضع الجديد في أفريقيا، حين أدركوا حجم الجهد الضائع في محاولة المواجهة والضغط على الأنظمة العسكرية المتحالفة مع روسيا، فهذه الأنظمة لا تتوقف عن «إذلال» القوة الاستعمارية السابقة بقرارات «استفزازية» على غرار اعتقال 4 موظفين بالسفارة الفرنسية في بوركينا فاسو، واتهامهم بالتجسس، وبعد عام من السجن، أُفرج عنهم بوساطة قادها العاهل المغربي الملك محمد السادس يوم 19 ديسمبر 2024.

وفي النيجر، قرَّر المجلس العسكري الحاكم، في يونيو (حزيران) 2024، إلغاء رخصة شركة فرنسية كانت تستغل منجماً لليورانيوم شمال البلاد، وسبق أن قرَّرت النيجر، على غرار مالي وبوركينا فاسو، منع وسائل الإعلام الفرنسية من البث في البلاد بعد أن اتهمتها بنشر «أخبار كاذبة».

يدخل مثل هذه القرارات ضمن مسار يؤكد أن «النقمة» تجاه الفرنسيين في دول الساحل تحوّلت إلى قرار نهائي بالقطيعة والخروج من عباءة المستعمِر السابق. وفي ظل مخاوف من اتساع رقعة هذه القطيعة لتشمل دولاً أفريقية أخرى ما زالت قريبةً من باريس، وضع الفرنسيون خطةً لإعادة هيكلة وجودهم العسكري في أفريقيا، من خلال تخفيض قواتهم المتمركزة في السنغال، وكوت ديفوار، والغابون، وجيبوتي.

أسند الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مهمة إعداد هذه الخطة إلى جان-ماري بوكل، حين عيّنه في شهر فبراير (شباط) 2024 مبعوثاً خاصاً إلى أفريقيا، وهي المهمة التي انتهت في نحو 10 أشهر، قدّم بعدها تقريراً خاصاً سلّمه إلى ماكرون، يوم 27 نوفمبر الماضي، ينصح فيه بتقليص عدد القوات الفرنسية المتمركزة إلى الحد الأدنى، وتَحوُّل القواعد العسكرية إلى «مراكز» أكثر مرونة وخفة، هدفها التركيز على التدريب العسكري، وجمع المعلومات الاستخباراتية، وتعزيز الشراكات الاستراتيجية.

الأميركيون أيضاً

حين كان الجميعُ يتحدَّث خلال العقدين الأخيرين عن الانتشار العسكري الفرنسي، والنفوذ الذي تتمتع به باريس في منطقة الساحل وغرب أفريقيا، كان الأميركيون حاضرين ولكن بصمت، ينشرون مئات الجنود من قواتهم الخاصة في النيجر؛ لمساعدة هذا البلد في حربه ضد جماعات مثل «القاعدة»، و«بوكو حرام»، و«داعش». واستخدم الأميركيون في عملياتهم قاعدة جوية في منطقة «أغاديز» خاصة بالطائرات المسيّرة التي تمكِّنهم من مراقبة الصحراء الكبرى وتحركات «القاعدة» من جنوب ليبيا وصولاً إلى شمال مالي.

ولا يزال الأميركيون أوفياء لاستراتيجية الحضور العسكري الصامت في أفريقيا، على العكس من حلفائهم الفرنسيين وخصومهم الروس، ولكن التحولات الأخيرة في منطقة الساحل أرغمتهم على الخروج إلى العلن، خصوصاً حين بدأت مجموعة «فاغنر» تتمتع بالنفوذ في النيجر. حينها أبلغ الأميركيون نظام الحكم في نيامي بأنه لا مجال لدخول «فاغنر» إلى بلد هم موجودون فيه.

وحين اختارت النيجر التوجه نحو روسيا و«فاغنر»، قرَّر الأميركيون في شهر أغسطس (آب) 2024 سحب قواتهم من النيجر، وإغلاق قاعدتهم العسكرية الجوية الموجودة في شمال البلاد.

وأعلن الأميركيون خطةً لإعادة تموضع قواتهم في غرب أفريقيا، فتوجَّهت واشنطن نحو غانا وكوت ديفوار وبنين، وهي دول رفعت من مستوى تعاونها العسكري مع الولايات المتحدة، وتسلّمت مساعدات عسكرية كانت موجهة إلى النيجر، عبارة عن مدرعات وآليات حربية.

دبابة فرنسية على مقربة من نهر النيجر عند مدخل مدينة غاو بشمال مالي يوم 31 يناير 2013 (أ.ب)

البديل الروسي

لقد كانت روسيا جاهزة لاستغلال تراجع النفوذ الغربي في منطقة الساحل، وهي المتمركزة منذ سنوات في ليبيا وجمهورية أفريقيا الوسطى، فنشرت المئات من مقاتلي «فاغنر» في مالي أولاً، ثم في بوركينا فاسو والنيجر، كما عقدت صفقات سلاح كبيرة مع هذه الدول.

لكن موسكو حاولت في العام الماضي أن ترفع من مستوى تحالفها مع دول الساحل إلى مستويات جديدة. فبالإضافة إلى الشراكة الأمنية والعسكرية، كان الروس يطمحون إلى شراكة اقتصادية وتجارية.

ولعل الحدث الأبرز في هذا الاتجاه كان جولة قام بها وفد روسي بقيادة نائب رئيس الوزراء ألكسندر نوفاك، نهاية نوفمبر الماضي، وقادته إلى دول الساحل الثلاث: مالي وبوركينا فاسو والنيجر.

كان الهدف من الجولة هو «تعزيز الشراكة الاقتصادية»، مع تركيز روسي واضح على مجال «الطاقة». فقد ضم الوفد الروسي رجال أعمال وفاعلين في قطاع الطاقة، وسط حديث عن اتفاقات لإقامة محطات لإنتاج الطاقة الشمسية، تتولى شركات روسية تنفيذها في الدول الثلاث.

وفي شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، وقَّع رؤساء مالي وبوركينا فاسو والنيجر اتفاقاً مع وكالة الفضاء الروسية، ستقدم بموجبه الوكالة الروسية لهذه الدول «صور الأقمار الاصطناعية»؛ من أجل تعزيز مراقبة الحدود وتحسين الاتصالات، أي أن روسيا أصبحت العين الرقيبة على دول الساحل بعد أن أُغمضت العين الفرنسية. هذا عدا عن نجاح روسيا في اللعب بورقة الأمن الغذائي، فكان القمح الروسي أهم سفير لموسكو لدى دول الساحل، وفي العام الماضي أصبحت موسكو أكبر مورِّد للحبوب لهذه الدول التي تواجه مشكلات كبيرة في توفير حاجياتها من الغذاء، فأصبح القمح الروسي يسيطر على سوق حجمها 100 مليون نسمة.

رغم المكاسب التي حققتها روسيا في منطقة الساحل الأفريقي، فإن عام 2024 حمل معه أول هزيمة تتعرَّض لها مجموعة «فاغنر» الخاصة، منذ أن بدأت القتال إلى جانب الجيش المالي، قبل سنوات عدة.

جاء ذلك حين تصاعدت وتيرة المعارك بين الجيش المالي والمتمردين الطوارق، إثر انسحاب مالي من اتفاقية الجزائر المُوقَّعة بين الطرفين عام 2015، ودخل الطرفان في هدنة بموجبها امتدت لقرابة 10 سنوات. لكن الهدنة انتهت حين قرر الماليون الزحف العسكري نحو الشمال حيث يتمركز المتمردون.

استطاع الجيش المالي، المدعوم من «فاغنر»، أن يسيطر سريعاً على كبريات مدن الشمال، حتى لم تتبقَّ في قبضة المتمردين سوى قرية صغيرة، اسمها تينزواتين، على الحدود مع الجزائر، وعلى مشارفها وقعت معركة نهاية يوليو (تموز) 2024، قُتل فيها العشرات من الجيش المالي و«فاغنر»، ووقع عدد منهم في الأسر.

كانت هزيمة مفاجئة ومذلة، خصوصاً حين نشر المتمردون مقاطع فيديو لعشرات الجثث المتفحمة، بعضها يعود لمقاتلين من «فاغنر»، كان من بينهم قائد الفرقة التي تقدّم الدعم للجيش المالي من أجل استعادة السيطرة على شمال البلاد.

طائرة ميراج فرنسية تُقلع من قاعدة في إنجامينا... (أ.ف.ب)

المفاجأة الأوكرانية

اللافت بعد هزيمة «فاغنر» والجيش المالي في «معركة تينزواتين» هو اكتشاف دور لعبته أوكرانيا في دعم المتمردين من أجل كسر كبرياء روسيا، من خلال إذلال «فاغنر»، وهو ما أكدته مصادر أمنية وعسكرية أوكرانية.

تحدَّثت مصادر عدة عن حصول المتمردين في شمال مالي على تدريب خاص في أوكرانيا، واستفادتهم من طائرات مسيّرة حصلوا عليها من كييف مكّنتهم من حسم المعركة بسرعة، بالإضافة إلى معلومات استخباراتية وفّرتها لهم المخابرات الأوكرانية وكان لها الأثر الكبير في الهزيمة التي لحقت بقوات «فاغنر» وجيش مالي.

لم يكن لأوكرانيا، في الواقع، أي نفوذ في منطقة الساحل الأفريقي، ولا يتجاوز حضورها سفارات شبه نائمة، لكنها وبشكل مفاجئ ألحقت بروسيا أول هزيمة على صحراء مالي، وأصبحت تطمح لما هو أكثر من ذلك. ولكن مالي أعلنت بعد مرور أسبوع على «معركة تينزواتين»، قطع علاقاتها الدبلوماسية مع أوكرانيا، وتبعتها في ذلك النيجر وبوركينا فاسو، كما تقدَّمت مالي بشكوى إلى مجلس الأمن الدولي تتهم فيها أوكرانيا بدعم «الإرهاب» في منطقة الساحل الأفريقي.

رغم مكاسب روسيا في الساحل، إلا إن عام 2024 حمل معه أول هزيمة لمجموعة «فاغنر» منذ أن بدأت القتال إلى جانب جيش مالي

قادة مالي الكولونيل أسيمي غويتا، والنيجر الجنرال عبدالرحمن تياني، وبوركينا فاسو النقيب إبراهيم تراوري خلال لقاء لـ "تحالف دول الساحل" في نيامي، عاصمة النيجر، يوم 6 يوليو الماضي (رويترز)

خطر الإرهاب

في 2024 كثّفت جيوش دول الساحل حربها ضد التنظيمات الإرهابية، ونجحت في تحقيق مكاسب مهمة، وقضت على مئات المقاتلين من تنظيمي «القاعدة» و«داعش»، وقد ساعدت على ذلك الشراكة مع روسيا، حيث حصلت جيوش الساحل على أسلحة روسية متطورة، كما كان هناك عامل حاسم تَمثَّل في مسيّرات «بيرقدار» التركية التي قضت على مئات المقاتلين.

لكن الخطوة الأهم في الحرب، جاءت يوم 6 مارس (آذار) 2024، حين أعلن قادة جيوش دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو إنشاء «قوة عسكرية مشتركة»؛ لمواجهة الجماعات الإرهابية التي تنشط في المنطقة، خصوصاً في المناطق الحدودية، ما قلّص من قدرة التنظيمات الإرهابية على التنقل عبر الحدود.

في هذه الأثناء قرَّرت دول الساحل رفع مستوى هذا التعاون مطلع يوليو 2024، من خلال تشكيل «تحالف دول الساحل»؛ بهدف توحيد جهودها في مجال محاربة الإرهاب، ولكن أيضاً مواقفها السياسية والاقتصادية والاستراتيجية، قبل أن تتجه نحو تشكيل عملة موحدة وجواز سفر موحد.

في غضون ذلك، لم تتوقف التنظيمات الإرهابية عن شنِّ هجماتها في الدول الثلاث، ولعل الهجوم الأهم في العام الماضي ذاك الذي نفَّذه تنظيم «القاعدة» يوم 17 سبتمبر الماضي ضد مطار عسكري ومدرسة للدرك في العاصمة المالية باماكو. شكّل الهجوم الذي خلّف أكثر من 70 قتيلاً، اختراقاً أمنياً خطيراً، أثبت من خلاله التنظيم الإرهابي قدرته على الوصول إلى واحدة من أكثر المناطق العسكرية حساسية في قلب دولة مالي.

في يوم 28 يناير 2024 أعلنت الأنظمة العسكرية الحاكمة، في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، الانسحاب من المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، التي فرضت عقوبات ضد دول الساحل إثر الانقلابات العسكرية التي وقعت فيها، وفي يوليو عادت لتُشكِّل «تحالف دول الساحل».

يؤكد التحالف الجديد رغبة هذه الدول في الانسحاب من المنظمة بشكل نهائي، ولكنه في المقابل يرسم ملامح الصراع الدولي في المنطقة. فتحالف دول الساحل يمثّل المحور الموالي لروسيا، أما منظمة «إيكواس» فهي الحليف التقليدي لفرنسا والغرب.

ورغم أن منظمة «إيكواس» في آخر قمة عقدتها خلال ديسمبر الحالي، تركت الباب مفتوحاً أمام تراجع دول الساحل عن القرار، ومنحتها مهلة 6 أشهر، إلا أن القادة العسكريين لدول الساحل ردوا على المنظمة بأن قرارهم «لا رجعة فيه».