القمة التي جمعت الرئيسين الفرنسي والأميركي، في مقر السفارة الفرنسية لدى حاضرة الفاتيكان، مساء أول من أمس، حملت للجانب الفرنسي ما يكفي من الثمار لقلب صفحة الأزمة التي نشبت بين الجانبين منتصف سبتمبر (أيلول) الماضي، بعد إعلان قيام تحالف ثلاثي (أوكوس) في منطقة المحيطين الهندي - الهادئ، ضم الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا، وترافق مع إعلان كانبيرا فسخ عقد شراء 12 غواصة فرنسية الصنع بقيمة 56 مليار يورو، واستبدال 8 غواصات أميركية تعمل بالطاقة النووية بها. وبعد لوثة الغضب التي اعترت باريس، تراجعت حدة الانتقادات الفرنسية عقب اتصال هاتفي أولي بين الرئيسين إيمانويل ماكرون وجو بايدن يوم 22 سبتمبر (أيلول)، وتكثفت الاجتماعات الثنائية التي هيأت الأرضية للقمة الأخيرة، وثبتت في نص البيان المطول المشترك «مكاسب» باريس، والثمن الذي قبلت واشنطن دفعه لاسترضاء ماكرون.
بداية، حصل ماكرون من بايدن على التزام بتكثيف الدعم الأميركي للقوة الفرنسية والقوة الأوروبية العاملتين في منطقة الساحل الأفريقي، خصوصاً في مالي. وجاء في البيان المشترك أن الولايات المتحدة «التزمت بتوفير إمكانيات إضافية في منطقة الساحل لتعزيز جهود محاربة الإرهاب التي تقوم بها فرنسا ودول أوروبية أخرى»، إضافة إلى التزام الطرفين بـ«تعزيز التعاون بينهما». وحتى اليوم، كان الطرف الأميركي يوفر الدعم اللوجيستي للقوة الفرنسية المسماة «برخان»، إضافة إلى الدعم الاستخباري بفضل المسيّرات الأميركية المنطلقة من قاعدتها في شمال النيجر. وكان تخوّف باريس أن تعمد واشنطن إلى إغلاق هذه القاعدة، وتقليص انخراطها إلى جانب حلفائها في محاربة الإرهاب، في الوقت الذي قررت فيه فرنسا وضع حد لعملية «برخان»، وسحب نصف قواتها العاملة في الساحل، وتغيير استراتيجيتها بالتركيز فقط على محاربة التنظيمات الإرهابية. والحال أن قبول بايدن بتخصيص إمكانيات إضافية للجهود في منطقة الساحل من شأنه تخفيف الأعباء التي تتحملها باريس، وتحفيز الدول الأوروبية المترددة حتى اليوم في إرسال وحدات تنضم إلى قوة الكوماندوس الأوروبية «تاكوبا». كذلك التزم بايدن بزيادة المساعدات للقوة الخماسية الأفريقية المشتركة لتصبح فاعلة، إذ إنها بحاجة إلى مزيد من التمويل والتسليح والتدريب والمواكبة لتؤدي المهمات الموكلة لها.
ومنذ سنوات، يسعى ماكرون للترويج لمبدأ «الدفاع الأوروبي» الذي كان يلقى تحفظاً من جانب واشنطن، ومن جانب عدد وافر من الشركاء من وسط أوروبا وشرقها. لذا، فإن تطور الموقف الأميركي يعدّ أحد «جوائز الترضية» لماكرون. فقد نص البيان المشترك على أن الولايات المتحدة «تعترف بأهمية قيام دفاع أوروبي أكثر قوة وعملانية، إذ إنه سيساهم في المحافظة على الأمن في العالم وعلى ضفتي الأطلسي، وسيكون مكملاً لحلف الناتو». يضاف إلى ذلك أن واشنطن «تدعم الاستثمارات المتصاعدة لحلفائها وشركائها الأوروبيين لتوفير الإمكانيات العسكرية المفيدة للدفاع المشترك، وتعزيز القدرات العسكرية الأوروبية»، ذلك أن شيئاً كهذا «سيصب في مصلحة الأمن» للطرفين. لكن اللافت أن البيان المشترك لم يشر أبداً لمبدأ كان يدافع عنه ماكرون، وهو «الاستقلالية الاستراتيجية»، وكان يخيف عدداً من الأوروبيين الذين رفضوا استبدال المظلة الأميركية - الأطلسية بمظلة أوروبية غير موجودة حتى اليوم. ومن هنا، يبدو واضحاً أن الدفاع الأوروبي لن يحل محل الحلف الأطلسي، بل هو «مكمل له». واستكمالاً لما سبق، وتأكيداً لرغبة الطرفين في «تعزيز التعاون الثنائي والأطلسي لخدمة السلام والأمن والازدهار»، فقد تم الاتفاق على الدفع باتجاه قيام قاعدة مشتركة قوية للصناعات الدفاعية التي تتيح تحسين القدرات العسكرية للحلف الأطلسي، بالتوازي مع قيام «حوار استراتيجي» للتوصل إلى مقاربة مشتركة لسياسة المبيعات الدفاعية.
وعند الإعلان عن قيام تحالف «أوكوس»، شعرت باريس، ومعها العواصم الأوروبية المعنية، بأنها استبعدت من منطقة تتسم بأهمية استراتيجية أساسية لها. ومن هنا، يمكن فهم أهمية اعتراف الجانب الأميركي بالدور الفرنسي. فقد جاء في البيان المشترك أن الولايات المتحدة «تعبّر عن ارتياحها للدور القديم الذي تقوم به فرنسا، بصفتها شريكاً في منطقة الهندي - الهادئ، آخذة بعين الاعتبار التزامها وجغرافيتها وإمكانياتها العسكرية المنتشرة في المنطقة، وهو ما يجعل منها لاعباً محورياً لضمان أمن المنطقة، بحيث تبقى حرة مفتوحة». وبما أن باريس تريد اعترافاً أميركياً بالدور الأوروبي، فإن واشنطن «رحبت» بالاستراتيجية الأوروبية الداعية للتعاون المشترك، وهي عازمة على القيام بمشاورات بشأن استراتيجيتها الخاصة. وبالنظر لزيادة الحضور الجوي والبحري الأوروبي في المنطقة، فإن واشنطن أعربت عن «استعدادها لتوفير الدعم والمساهمة المادية في ذلك». وعوض الجهود الفردية أو الثلاثية التي استبعدت باريس والأوروبيين، فإن الموقف الأميركي الجديد يقوم على اعتبار أنه «من المهم توحيد الجهود (الأميركية والأوروبية) من أجل تدعيم النظام الدولي القائم على قواعد قانونية، والتوصل إلى مقاربة مشتركة» بشأن المسائل الناشئة.
ما سبق غيض من فيض مما توافق عليه ماكرون وبايدن. والواضح أن الرئيس الأميركي جاء إلى روما مع رغبة في الاستجابة لمطالب الرئيس الفرنسي في «تظهير» الدور المهم لبلاده عالمياً، وجعلها شريكاً مميزاً للولايات المتحدة. ومما جاء في البيان المشترك أن الطرفين «يعيان (أهمية) الدور الرائد الذي يتحملانه للبحث عن حلول دولية للمشكلات الجماعية، والعمل على (تعميق) التعاون الثابت بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة لتعزيز النظام العالمي القائم على قواعد قانونية».
ويبدو واضحاً أن بايدن جعل من ماكرون محاوره الأول على المستوى الأوروبي، فيما تتأهب المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل لترك المسرح السياسي في بلادها. كذلك فإن بايدن جعل من فرنسا شريكاً أساسياً لبلاده، وقدم التزامات تفصيلية للتعاون معها على الصعد الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية والعلمية، وبالتالي فإنه قد أعاد «تأهيلها» بعد الصدمة التي تلقتها منتصف الشهر الماضي، والتي وصفها وزير خارجيتها جان إيف لودريان بأنها «طعنة في الظهر».
يبقى أن ما سبق بالغ الأهمية، لكن الأهم هو وضع ما تم الاتفاق عليه موضع التنفيذ. غير أن هذه قصة أخرى ستتضح في المقبل من الأيام.
ماكرون حصل من بايدن على «جوائز ترضية» لقلب صفحة الخلاف مع واشنطن
اعتراف أميركي بالرئيس الفرنسي محاوراً وشريكاً رئيسياً
ماكرون حصل من بايدن على «جوائز ترضية» لقلب صفحة الخلاف مع واشنطن
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة