السودان بين خطوات «تصحيح المسار» ومخاوف «الانقلاب»

الصراع بين المكونين المدني والعسكري يُدخل البلاد نفقاً مظلماً

السودان بين خطوات «تصحيح المسار» ومخاوف «الانقلاب»
TT

السودان بين خطوات «تصحيح المسار» ومخاوف «الانقلاب»

السودان بين خطوات «تصحيح المسار» ومخاوف «الانقلاب»

التصاعد في أحداث السودان الأخيرة ليس وليد الصدفة، أو محض مفاجأة سواء للداخل أو الخارج. إذ سبق أن أكد المراقبون والمتابعون لسير عملية الانتقال السياسي هناك عقب إطاحة نظام عمر البشير في 11 أبريل (نيسان) 2019 هشاشة العملية في ظل استمرار الصراع بين المكونين المدني والعسكري المسؤولين عن تنفيذ عملية الانتقال الديمقراطي. وهو صراع تزايد في الآونة الأخيرة مع تمسك كل طرف بمواقفه.
بين مؤيدين يصفون التطورات الأخيرة في السودان بأنها «خطوة لتصحيح المسار»، ومعارضين يرونها «انقلابا على الثورة»، تتأزم الأوضاع وسط تهديدات بالعزلة الدولية، واحتجاجات داخلية تنذر بحالة «عصيان مدني»، وضغوط اقتصادية في ظل نفاد المخزون الاستراتيجي لعدد من السلع الرئيسة... وكل هذا ينتج مشهدا مربكاً للداخل والخارج، وسط مخاوف من أن تنزلق البلاد إلى نفق الحرب الأهلية.
وتيرة الأحداث تسارعت بعد البيان المتلفز الذي ألقاه عبد الفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة في السودان، يوم الاثنين الماضي، معلنا «حل مجلسي السيادة والوزراء، وتولي الجيش السلطة، لإكمال الفترة الانتقالية وتجميد بعض بنود الوثيقة الدستورية، وتجميد لجنة تفكيك تمكين الرئيس السابق عمر البشير». وتزامن البيان مع أنباء عن حملة اعتقالات لعدد من المسؤولين المدنيين، بينهم رئيس الوزراء السوداني الدكتور عبد الله حمدوك، لتبدأ موجة من الانتقادات الدولية التي وصفت ما حدث بـ«الانقلاب»، رغم تأكيد البرهان «التزامه بالوثيقة الدستورية، وأن القوات المسلحة ستواصل مسيرتها لاستكمال عملية التحول الديمقراطي، وتسليم القيادة لحكومة مدنية منتخبة بحلول يوليو (تموز) 2023 لتشتعل الساحة السودانية، مهددة الأمن القومي في الإقليم.

- انسداد سياسي
الدكتورة أماني الطويل، مديرة البرنامج الأفريقي في مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية ورئيسة تحرير سلسلة «أفريقيات»، رأت في تصريح لـ«الشرق الأوسط» أن تحرك البرهان في أعقاب «انسداد أفق الحل السياسي، وشخصنة الأزمة بين المكونين المدني والعسكري على خلفية التراشق اللفظي بين الجانبين في الفترة الأخيرة، وإصرار المكون العسكري على حل الحكومة، في الوقت الذي يشعر المكون المدني بالتفوق في ظل الدعم الأميركي المطلق له». وأردفت أنه «فشلت كل المحاولات للتوصل إلى حل سياسي، بما في ذلك مبادرات حمدوك نفسه».
وحقاً، كان السودان قد شهد محاولة انقلاب فاشلة في 21 سبتمبر (أيلول) الماضي، حين أعلن مجلس السيادة السوداني إحباطه محاولة للاستيلاء على السلطة، مؤكداً «انتصار الثورة التي أطاحت بنظام البشير». وهذه المحاولة وصفها مراقبون في حينه بأنها «قد تكون بالون اختبار لمحاولة انقلاب عسكري». إلا أن ما فاقم الأزمة توتر الأوضاع في إقليم شرق السودان مع احتجاجات قبائل البِجا على تهميشهم في «اتفاق جوبا للسلام» الموقع عام 2020، وإغلاقهم الموانئ الرئيسية للبلاد، متسببين في تفاقم الأزمة الاقتصادية، ونفاد السلع الاستراتيجية، وبخاصة القمح والوقود.
وهنا يقول الدكتور هاني رسلان، مستشار مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية، لـ«الشرق الأوسط» إن التراشق اللفظي بين المكونين العسكري والمدني وصل لاحقاً، إلى حدود «تجاوزت كل الأعراف العسكرية، مع تزايد الاستقطاب بين الجانبين، وفشل كل الحلول الوسط للخروج من الأزمة، ما دفع البرهان للإطاحة بالحكومة حفاظاً على استقرار البلاد، فيما يشبه الانقلاب على الوثيقة الدستورية». ويضيف رسلان أن الوضع في السودان «معقد ومركب، بوجود الخلافات داخل المكون المدني نفسه، وخروج جماعة الميثاق من تحالف الحرية والتغيير... واعتصامها أمام القصر الرئاسي».
جدير بالذكر أنه بموجب الوثيقة الدستورية السودانية الموقعة في أغسطس (آب) 2019، يجري تقاسم الحكم بين مكون عسكري يمثله مجلس السيادة، ومكون مدني ممثل بمجلس الوزراء. ومن ثم يقود الجانبان البلاد خلال مرحلة انتقالية تمهد لعقد انتخابات ديمقراطية.
وبالفعل، شُكلت حكومة حمدوك في فبراير (شباط) الماضي، وهي الثانية منذ الإطاحة بالبشير، وكان المراقبون يعلقون عليها الآمال في قيادة عملية التحول الديمقراطي «الصعبة»، لكن يبدو أن هذه الآمال تبددت مع حملة اتهامات متبادلة بين المكونين المدني والعسكري وصلت إلى حد مطالبة الجيش بإقالة البرهان، وأدت في النهاية إلى الإطاحة بحمدوك، بعد عدة محاولات فاشلة.

- بيانات وإدانات دولية
فور إعلان البرهان حالة الطوارئ توالت البيانات والقرارات الدولية التي تهدد بعزل السودان دولياً. إذ أصدر الاتحاد الأوروبي و10 دول غربية بياناً مشتركاً بعد الإفراج عن حمدوك، شددوا فيه على ضرورة الإفراج عن جميع المعتقلين السياسيين دون تأخير، مؤكدين «اعترافهم بحمدوك رئيسا لمجلس الوزراء». أما الولايات المتحدة، التي كانت داعمة للمكون المدني منذ البداية، فباشرت ضغوطاً على البرهان لإعادة السلطة إلى الدكتور حمدوك، وعلقت المساعدات الأميركية للسودان وقيمتها 700 مليون دولار، وأجرى وزير الخارجية الأميركي أنطوني بلينكن اتصالات دوليا وعربيا للضغط على البرهان، بينما علق البنك الدولي مساعداته للسودان في أعقاب ما وصفه بـ«الانقلاب العسكري».
كذلك أصدرت دول «الترويكا» المعنية بملف السودان، وهي الولايات المتحدة وبريطانيا والنرويج، بيانا تنديدياً مطالبة بعودة الحكم للمدنيين، كما أعلن الاتحاد الأفريقي، تعليق عضوية السودان في الاتحاد لحين الاستعادة الفعلية للسلطة الانتقالية بقيادة المدنيين».
ورغم ردود الفعل الدولية المنددة بتحركات البرهان، فإن مجلس الأمن الدولي فشل في اتخاذ قرار يندد بـ«استيلاء العسكريين على السلطة» في السودان. وبرر مراقبون ذلك بصراع القوى الخارجية على النفوذ، بين واشنطن المطالبة بإدانة الانقلاب، وموسكو وبكين الباحثتين عن دور في المنطقة. وهنا يقول رسلان إن «الصين وروسيا طامحتان إلى أن تحلا مكان الولايات المتحدة في السودان... والغرب يتصرف تجاه ما حدث بقدر كبير من الحدة، كما يتضح في بيانات دوله الرافضة لإجراءات البرهان».
القوى الدولية تصر على عودة السلطة للمدنيين، على أساس الوثيقة الدستورية. وفي السياق نفسه أكد رئيس البعثة الأممية فولكر بيترس، عقب لقائه والبرهان أن «الأمم المتحدة قدمت بعض الاقتراحات للعودة إلى حوار شامل وعاجل لاستعادة الشراكة على أساس الوثيقة الدستورية واتفاقية جوبا للسلام».
أما عربياً، فقد أعربت جامعة الدول العربية عن قلقها من تطورات الوضع، مطالبة بالالتزام بالخطوات الانتقالية المتضمنة في الوثيقة الدستورية واتفاق جوبا. وتضمنت بيانات الدول العربية إبداء القلق ومتابعة التطورات، فدعت مصر جميع الأطراف لضبط النفس وتغليب مصلحة الوطن، وأكدت المملكة العربية السعودية دعمها شعب السودان، داعية إلى الحفاظ على ما تحقق من مكتسبات سياسية واقتصادية.
وبينما يؤكد مراقبون معارضة المجتمع الدولي ما حدث في السودان، يرى آخرون أن «المجتمع الدولي منقسم بين مؤيد وداعم لخطوات البرهان، ورافض لها»، من بينهم السفير صلاح حليمة، نائب رئيس المجلس المصري للشؤون الأفريقية، الذي قال لـ«الشرق الأوسط» إن «المجتمع الدولي، مثله مثل الشارعين العربي والسوداني، منقسم إزاء ما يحدث، فحتى الآن لم يصدر بيان من مجلس الأمن يصف ما حدث بالانقلاب».

- تصحيح المسار
البرهان، في مؤتمره الصحافي، قال عن تحركات الجيش إنها «ليست انقلابا بل محاولة لتصحيح المسار، وإن حمدوك ليس معتقلا، وسيعود إلى منزله». وهو ما حدث، إذ عاد حمدوك إلى منزله - رغم وضعه تحت الحراسة - وأجرى عدة مقابلات مع ممثلين للأمم المتحدة ودول العالم، وأدلى بتصريحات صحافية أكد فيها أن «أي تراجع عن المسار الديمقراطي يشكل تهديداً لاستقرار السودان وأمنه».
ويعتبر مؤيدو خطوات البرهان أن «ما حدث كان ضرورياً، وأن البرهان لم ينقلب على السلطة لأنه كان في السلطة». ويقول حليمة إن «ما فعله البرهان خطوة لتصحيح المسار، ولحماية أمن واستقرار السودان»، فمفهوم الانقلاب أن تتولى سلطة الحكم مكان سلطة أخرى وهذا لم يحدث، إذ إن البرهان كان ولا يزال رئيس المجلس السيادي، إضافة إلى أن اللجوء لحالة الطوارئ منصوص عليه في الوثيقة الدستورية ولا يعد خرقا لها، مشيرا إلى أن «البرهان تعهد بالتمسك بالوثيقة، واتفاق جوبا، ووعد ببرنامجين لانتقال السلطة طويل وقصير المدى، مع إعادة تشكيل المكون المدني على أسس تشمل كافة مناطق السودان، والتخلص من احتكار جماعة الحرية والتغيير للسلطة».
ولكن، على الأرض انتشرت دعوات للعصيان المدني، وأعلن عمال نفط وأطباء عزمهم الانضمام للاضطرابات، وتواصلت الاحتجاجات في الشارع ما أسفر عن قتلى في صفوف المدنيين، بحسب تقارير إعلامية. ومن الشارع إلى الحكومة انتقلت حالة العصيان والتمرد، فأصدر عدد من سفراء السودان في الخارج بيانات يرفضون فيها إجراءات البرهان، ما دفع الأخير إلى إقالة 6 سفراء هم سفراء الاتحاد الأوروبي وقطر والصين وفرنسا، والولايات المتحدة، ورئيس البعثة السودانية بجنيف.
اليوم العصيان المدني هو «الخطر الأكبر» الذي يهدد السودان. وترى أماني الطويل أن «حسم الصراع في السودان الآن في يد الشارع. وهو الذي يستطيع توجيه دفة الأحداث، لو استطاع تعطيل الدولة، بالتزامن مع تمرد بعض الوزارات على البرهان، وبعض السفراء أيضا، وهو ما سيدفع البرهان في النهاية لتسليم السلطة»، وذلك بالتزامن مع الأوضاع الاقتصادية التي يفاقمها التضييق الخارجي على المساعدات والتمويل.

- سيناريوهات الحل
مراقبون يضعون الآن «سيناريوهات» متعددة للحل. منها المتفائل بقدرة البرهان على عبور الأزمة، ومنها المتشائم المتخوف من انهيار الدولة أو سقوطها في براثن الحرب الأهلية. وهنا تقول «مجموعة الأزمات الدولية» في تقريرها عن الأوضاع في السودان إن «الوضع خطير على السودان وجيرانه، وإذا استمر سيهدد بكارثة في المنطقة. والأولوية الآن حقن الدماء في الشارع، يليها عودة الأمور إلى نصابها باعتبارها السبيل الوحيد لقيادة البلاد نحو عملية تحول ديمقراطي وانتخابات حرة».
وراهناً تلعب الضغوط الخارجية دورا في تحريك الصراع على الأرض، والدفع باتجاه حل الأزمة، وخاصة من واشنطن والقاهرة والعواصم الخليجية. وتقول الطويل إن «ثقة العالم في جدارة المكون المدني ضعيفة، نتيجة لانقساماته المبكرة بانسحاب الحزب الشيوعي وما تلاها، حيث لم يظهر المكون المدني كقوة توازن وتوازي المكون العسكري... وهو ما يوحي بأن المجتمع الدولي سيضغط من أجل استمرار الشراكة بين الجانبين العسكري والمدني، مع تغيير بعض الوجوه التي كانت سبباً في الأزمة ومن بينها حمدوك نفسه».
ثم إن التطورات على الأرض تؤكد وفق مراقبين «صعوبة تراجع البرهان عن قراراته» في أعقاب الضغوط من داخل القوات المسلحة نفسها للإطاحة بالحكومة المدنية. وهنا يقول رسلان إن «البرهان سيتحمل منفردا عبء معالجة الملفات الصعبة التي تواجه البلاد، من خلل أمني واقتصاد منهار، واحتجاجات شرق السودان، وسيكون عليه حماية البلاد من الانزلاق نحو دائرة العنف». بينما يرى حليمة أن «البرهان قادر على احتواء الموقف وقيادة البلاد إلى بر الأمان».
ومعلومٌ أن البرهان يواجه حالياً تحديات كبرى ناجمة عن الانهيار الاقتصادي، الذي ازداد سوءاً بعد الاحتجاجات التي قادتها قبائل البِجا في شرق السودان، وإغلاقها للموانئ الرئيسية ما أدى إلى استفحال الأزمة. ورغم تأييد هذه القبائل لخطوات البرهان، يبدو أن على القيادة السودانية الآن حل عدد من المشاكل العالقة من بينها اتفاق جوبا - الذي ترفضه قبائل البِجا - إضافة إلى العمل على إرضاء المجتمع الدولي وإقناعه بأن إجراءاته كانت فعلا لتصحيح المسار... وأنه عازم على تسليم السلطة للمدنيين.


مقالات ذات صلة

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

حصاد الأسبوع جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب

يوسف دياب (بيروت)
حصاد الأسبوع تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني

براكريتي غوبتا (نيودلهي (الهند))
حصاد الأسبوع تشون دو - هوان (رويترز)

تاريخ مظلم للقيادات في كوريا الجنوبية

إلى جانب يون سوك - يول، فإن أربعة من رؤساء كوريا الجنوبية السبعة إما قد عُزلوا أو سُجنوا بتهمة الفساد منذ انتقال البلاد إلى الديمقراطية في أواخر الثمانينات.

«الشرق الأوسط» (نيودلهي)
حصاد الأسبوع الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

شرق السودان... نار تحت الرماد

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق

أحمد يونس (كمبالا (أوغندا))
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ب)

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

اختارت مجلة تايم الأميركية دونالد ترمب الذي انتخب لولاية ثانية على رأس الولايات المتحدة شخصية العام 2024.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.