ظل المجتمع المحافظ في المملكة العربية السعودية؛ والشرعي منه خاصة، يستنكر إطلاق مصطلح «الدستور» المتعارف عليه في العصور المتأخرة، وذلك خشية إعطاء الانطباع بأن الحاكمية والسيادة التشريعيّة هي ولو جزئيّا، للقوانين الوضعيّة المألوفة في المجتمعات الأخرى، وظلت الدولة السعودية في قرونها وعهودها الثلاثة تؤكّد دوما على أن المرجعيّة التشريعيّة المطلقة والوحيدة لكل الأنظمة هي للقرآن الكريم والسنة النبوية، وبقيت السلطات الثلاث؛ القضائية والتنظيمية والتنفيذية، تلتزم بهما أساسا لإصدار الأنظمة وتتلافى الأخذ بما يتعارض معهما، بل وتتجنّب إطلاق تعبير «القانون» الدال كناية على التشريعات الوضعية.
ولو تأمل المرء مصطلح «الدستور» الشائع في المجتمعات الأخرى، لوجد أنه من حيث القوة والمدلول لا يوازي فضل القرآن الكريم والسنة النبوية المطهّرة، ومع ذلك صار البعض يحمّله أكثر مما يحتمل، وربما وضعه في مرتبة تماهي مكانتهما، في حين أنهما مصدران «فوق الدستورية» وأن قدرهما أكبر من المصطلحات المستحدثة، مما يعني أن وصفهما بالدستور هو انتقاص من مقدارهما، فالدستور (constitution) معني بالعلاقة بين الحاكم والمحكوم، يدلّل في القانون الدولي على «المبادئ الأساسية المنظّمة للسلطات الرئيسية الثلاث والعلاقة بينها، ولتبيان نظام الحكم وشكل الدولة، ولتوضيح حقوق الحاكم والمحكوم وواجباتهما» في حين أن القرآن الكريم نظام سماوي والسنة المطهّرة تشريع نبوي ينظّمان حياة الإنسان وشؤونه فيما هو أعمّ وأشمل.
ولقد صار الحرج في المملكة العربية السعودية يتوارى تدريجيا، بعد أن صدر النظام الأساسي للحكم عام 1992 وأصبح بعض الفقهاء كالشيخ محمد بن جبير رئيس مجلس الشورى يعُدّونه مجازا في المحافل الدولية بمثابة الدستور شكلا ومضمونا، لأنه يضمّ في مواده كثيرا من القواعد المنظّمة لشؤون الحكم وشكل الدولة وعلمها، كما يؤكّد على ديانة المجتمع وعلى مرجع السلطات الدستورية الثلاث، وعرَف بأسس اقتصادها ومواردها وبجغرافيتها، إلى غير ذلك من القواعد المكتوبة المنظّمة للحكم، فالمقصود بـ«الإصلاحات الدستورية» هنا هو: مجموعة الإصلاحات الإداريّة والسياسيّة والتنظيميّة التي تبنّاها الملك فهد منذ أن كان نائبا ثانيا لرئيس مجلس الوزراء، ثم وليّا للعهد، وانتهاء بالأنظمة الأساسية التي صدرت بعد تولّيه الحكم، بهدف تنظيم السلطات العليا ومجالسها في البلاد.
وأحسب أن توظيف مصطلح «الإصلاحات الدستورية» في العنوان يبقى الأكثر ملاءمة للدلالة على المعاني المقصودة في السياق، لكونه يمسّ جميع مؤسسات الدولة وسلطاتها ويجمع بين الإداري والسياسي والتنظيمي، أما المقصود بالشقّ الثاني من العنوان «الحوارات» فهو النهج الذي اتّبعه - ملكا - في لقاءاته الدوريّة المتكرّرة للحديث مع طلّاب الجامعات وفروعها والمبتعثين ومع أعضاء مجلس الشورى ومع القيادات الإعلامية، وكانت حوارات عامة تبادليّة مفتوحة تمتدّ لساعات، ولعل بين نهج الحوار المفتوح ومنهج الإصلاح المجتمعين في فكره، من التلازم ما سوّغ جمعهما في عنوان واحد، لكونهما يُمثّلان - في العلوم السياسية - جناحي الفكر الحديث المنفتح للقيادة، وبعض مرتكزات رجل الدولة والزعامة السياسية المتطوّرة.
يلحظ من يقرأ في تطوّر الحكم والإدارة في المملكة العربية السعودية، أن عملية الإصلاح، قد بدأت - وبكثافة - منذ أن تفرّغ الملك المؤسس في العشرينات لتنظيم شؤون الدولة بعد دخول الحجاز في الحكم السعودي، ولقد سهّل وجود بعض التنظيمات العثمانية في الحجاز لأن يُبنى عليها ويُعمل على تطويرها، وكان الأخذ بمنهج الشورى من الأمثلة الواضحة على ذلك، فلقد بدأ بتكوين نواة سميّت المجلس الأهلي ثم المجلس الاستشاري ثم الشوري في خطوات متسارعة انتهت - في غضون عامين - إلى الرسوّ على تسميته مجلس الشورى مكوّنا من ثمانية أعضاء منتخبين مع إصدار نظام له مطلع عام 1926م وصار يتطوّر - عددا وتنظيما واختصاصات - حتى عام 1932م الذي أُعلن فيه بيانُ توحيد البلاد تحت اسمها الحالي: المملكة العربية السعودية، وفي ذلك البيان، وجّه الملك عبد العزيز مجلس الوكلاء - السلطة التنفيذية في حينه - بوضع نظام أساسي مكتوب للبلاد، يوضح قواعد توارث الحكم وانتقال السلطة في البلاد، وقد أعد مجلسا الوكلاء والشورى بعد ثلاثة أعوام مشروع النظام المطلوب، وشاء الله أن تنشغل البلاد بعد تلك الفترة - بالتطورات السياسية والإدارية ومن بينها ظروف نشوب الحرب العالمية الثانية وتبعاتها الاقتصادية والأمنية - قبل أن يتحقق ما أمر به الملك، غير أن السلطات الثلاث، القضائية والتشريعية والتنفيذية، كانت تعمل متناغمة مع وجود مجلس الوكلاء طيلة السنوات الثلاثين الأخيرة من عهد الملك عبد العزيز، ثم بعد تحويله إلى مجلس للوزراء قبيل عهد الملك سعود. وفي أواخر عهد الملك سعود (1962) تبنّى مجلس الوزراء برئاسة ولي العهد الأمير فيصل مشروعا من عشرة بنود سُمّي «منهج الإصلاح الداخلي» تضمّن الكثير من أوجه التطوير والإصلاح التي كان الرأي العام المحلي يتطلّع إليها، وقد نُفّذ في حينه معظم بنود ذلك البرنامج، ثم بدأ في عهد الملك خالد - الذي استمر نحو ثمانية أعوام اضطلع فيها ولي العهد الأمير فهد بتسيير مقاليد الأمور السياسية والإدارية للبلاد - بدأ نشاط متواصل لإعادة النظر في العلاقة بين السلطات الدستورية، ولوضع التنظيمات الحديثة لكل من مجلسي الوزراء والشورى على أسس جديدة وواضحة من التكامل في المسؤولية وفصل السلطات، فتشكّلت في عام 1980م برئاسة وزير الداخلية (الأمير نايف) لجان لإعداد مشروع للنظام الأساسي للحكم، ولتحديث أنظمة مجلسي الوزراء والشورى ومجالس المناطق، وكان المراقب الإعلامي والإداري يستطيع - من خلال تكوين اللجان وصياغة الأفكار ومن لغة التنظيمات التي أفرزتها تلك الاجتماعات - أن يلحظ بصمات النفس التنظيمي والفكر السياسي للفهد، خاصة وقد ظهرت نتائجها في عهده، وكان من الواضح للكثيرين من معاصريه قبل تولّيه الحكم وفي أثنائه، أنه كان ذا فكر يميل نحو الانفتاح والتجديد ومواصلة مسيرة الإصلاح التي بدأت نواتها (لجنة التفتيش والإصلاح) في عهد والده المؤسّس منذ العشرينات.
ومع أن الظروف السياسية المعقّدة التي أحاطت بالبلاد في عهدي الملك خالد والملك فهد - منذ حادثة احتلال الحرم المكّي (1989) والمشكلة الأفغانية والحرب العراقية الإيرانية ثم حادثة احتلال الكويت (1990) وما أفرزته تلك الأزمات من مخاضات عميقة التأثير في الأوساط المحلية والإقليمية - قد جعلت صياغة الأنظمة تأخذ منحى متحفّظا نسبيّا عن أن تولد بمستوى التوقّعات المأمولة (كمشاركة المرأة والانتخابات في مجلس الشورى) لكنها لم تكن لتمنع الملك فهد من تلمّس «فن الممكن» لمواصلة مسيرة الإصلاح السياسي، وقد أشبهت تلك الظروف إلى حد ما، التحوّلات التي أحاطت بالبلاد في أعقاب ثورة اليمن وجعلت الملك فيصل المعروف بفكره التقدّمي يتبع سياسة حذرة ومتدرّجة في تنفيذ منهجه الإصلاحي السابق ذكره.
فلقد شهد عهد الملك فهد مشاريع إصلاحية مدروسة بُني عليها تحديث الكثير من المؤسسات الدستورية، وتأسيس حقبة من الحراك السياسي الداخلي والمشاركة الشعبيّة، وقيام صور جديدة من نشاطات المجتمع المدني، مثل: إنشاء الجمعية الوطنية (الشعبية) لحقوق الإنسان وهيئة حقوق الإنسان (الرسمية) وتأسيس مركز الحوار الوطني، وتنظيم عودة انتخابات المجالس البلدية في ظل نظام المناطق، ونحوها مما يصبّ في تعزيز الإصلاحات الحقوقية وإشاعة ثقافة الحوارات.
من بين حزمة الأنظمة المهمة التي صدرت مجتمعة عام 1992 كان النظام الأساسي للحكم الوثيقة الأهم والأشمل، وكان المظلة الدستورية التي تغطّي الثوابت والأسس وكل ما يتعلق بشؤون الحكم وشكل الدولة وديانتها ونظامها السياسي والشوري واقتصادها وحقوق الإنسان فيها وأسلوب توارث الحكم الملكي فيها، فضلا عن التأكيد على أنها دولة مؤسسات، فصدر النظام في تسعة أبواب تضمّ ثلاثا وثمانين مادة، تناولت مختلف الجوانب التي تتضمّنها الدساتير عادة، كما تناول أحد أبوابها بشكل مجمل قضية وراثة الحكم. في عام 1992 أيضا صدر أمران ملكيان بنظامين ؛ أحدهما لتحديث مجلس الوزراء (بوصفه السلطة التنفيذية) والآخر لتحديث مجلس الشورى (بصفته السلطة التنظيمية - التشريعية) وقد حدد النظامان اختصاصات المجلسين وارتباطهما بالملك بوصفه مرجع السلطات، كما حدّدا العلاقة التكاملية بين المجلسين، بما جعلهما معا يشتركان في إصدار الأنظمة، وعلى جانب السلطة القضائية، صدرت في أواخر عهد الملك فهد مجموعة تشريعات بالغة الأهمية لاستكمال منظومة الهيكل القضائي للبلاد وتطوير الإجراءات، كان منها نظاما القضاء والمرافعات.
ولم تتوقّف مسيرة الإصلاح في عهد الملك فهد عند إصدار الأنظمة الرئيسية المذكورة، فلقد تضمّنت كلمة الملك في مجلس الشورى عام 2003 نصوصا بالغة الصراحة والشفافية تعبّر عن النيّة في المضي بمنهج الإصلاح السياسي والدستوري، وبتوسيع آفاق المشاركة السياسية للمواطنين، وقد طلب الملك من الوزراء موافاته بجوانب التطوير والإصلاح التي يمكن أن تحقق مزيدا من تلك الأهداف، وكان ذلك الخطاب من أقوى ما مر على مجلس الشورى في تاريخ المملكة من كلمات سامية، واكتسب مجلس الشورى في العام نفسه زيادة في صلاحياته كان من شأنها تكريس مسؤوليّته التشريعية وتعزيز مرجعيّته بالنسبة للأمور التي يختلف معه مجلس الوزراء بشأنها، وقد جاء ذلك الخطاب قبل نحو عامين من وفاة الملك فهد.
أما بالنسبة لمجالس المناطق، فكان قد صدر أول نظام حديث للمقاطعات عام 1963 عندما كان الأمير فهد على سدة وزارة الداخلية، وأوضح النظام التقسيمات الإدارية للمناطق على نحو مقارب لما هي عليه الآن، في حين أُحدث في وزارة الداخلية قطاع يعنى بشؤون تلك المقاطعات، وقد بقي النظام معمولا به نحو أربعين عاما، حلّ محله نظام المناطق الذي أصدره الملك فهد في أربعين مادة عام 1992 قُسّمت المناطق بموجبه إلى ثلاث عشرة منطقة، تتضمن عددا من المحافظات والمراكز بُنيت على أساس التقسيم الإداري والجغرافي والسكاني للبلاد، ويتولّى أمراء المناطق إدارتها وحفظ الأمن والنظام فيها وتنفيذ الأحكام الشرعية، وتطوير الخدمات الاجتماعية والاقتصادية والإدارية، وبحسب هذا النظام أُنشئ مجلس لكل منطقة برئاسة الأمير وعضوية نائبه ووكلائه ورؤساء الأجهزة الرئيسية الحكومية ومحافظي المحافظات وعدد من الأهالي من أهل العلم والخبرة.
ولقد برز من نهج الملك فهد في السنوات الثلاث الأولى من حكمه، حرصه على الالتقاء المباشر بالطلاب - ذكورا وإناثا - في الجامعات وفروعها، وبالمبتعثين الذين تجمّعوا في المدينة الرياضية بجدة، فشهدت تلك السنوات لقاءات مفتوحة مطوّلة، تحدّث فيها - مرتجِلا - أحاديث تلقائية، تطرّق فيها إلى ما كان يجول في خاطره وفي خاطر محاوريه في شؤون الوطن ومن الأحداث السياسية المحيطة بالمنطقة، كما كان يلتقي مع أعضاء مجلس الشورى في بداية كل سنة شوريّة، ويعقد لقاءات دوريّة مع الصحافيين المحليين ومسؤولي الإعلام بحضور الوزير ووكلائه، وذلك بغرض تزويدهم بالخلفيّات السياسية للأحداث ولتفسير مواقف المملكة نحوها، بما يساعدهم على قراءتها بشكل واعٍ عندما تتناولها صحفهم، وكان التلفزيون المحلي يعرض تلك الحوارات بأكملها، كما تقوم الجامعات ومجلس الشورى ووزارة الإعلام بطباعة هذه الأحاديث والحوارات في كتيّبات في حينه، وكان من ملامح تلك الحوارات وضوح الرؤية وسلاسة التعبير والإسهاب في تبيان المواقف التي تتخذها الحكومة تجاه بعض القضايا الداخلية والخارجية، ووقوفه مباشرة على المشكلات التي تواجه الشباب خاصة والمواطنين بعامة، من دون وساطة بيروقراطية، وكان يُصدر أحيانا توجيهات فوريّة بالحلول المطلوبة متى ما اقتنع بوجاهتها، أو يطلب الكتابة إليه بتفصيل الموضوع متى ما كان الأمر بحاجة إلى دراسة يليه اتخاذ قرار بأداة نظامية من مجلس الوزراء مثلا.
وقد بدت في حواراته المهارة السياسية في التوفيق بين متطلبات السريّة والكتمان من ناحية ومتطلّبات الشفافية من ناحية أخرى، كما كانت أحاديثه تتسم بدعابات تجعل من تلك الحوارات جلسات محببة للشباب، وبسعة صدر تخفف من عناء طولها، في روح من الودّ المتبادل التي أضافت إلى شعبيّته وتثبيت مكانته في قلوب الحاضرين والمتابعين، وقد شهد كل من عايش تلك الحوارات كيف كان يتقبّل بصدر رحب كل المداخلات والأسئلة، لا يستبعد شيئا منها أو يعتذر عن عدم الإجابة عنها. ومثّلت الحوارات فرصا دسمة لوسائل الإعلام الداخلية والخارجية لاستقاء المعلومات والأخبار منها، ومواد للاستشهاد بها والاقتباس منها، كما شكّلت نصوصها مادة توثيقية مهمة تضاف إلى سيرته، واستفاد منها معظم من كتب عنه في أثناء حياته وبعد وفاته، وكانت تلك الحوارات من السمات المتقدمة في شخصيّته ومنهاج حكمه، وهي سمات تلازم الزعامات السياسية المنفتحة على مواطنيها في النظم العصرية التي تهتم بقياسات الرأي العام والتواصل مع شعوبها. وكانت تلك الحوارات في حينها مؤتمرات صحافية ينتظرها الطلاب والإعلاميون والشوريّون للتعبير عن همومهم، وأعطت نماذج مثلى للمسؤولين والوزراء للانفتاح على المواطنين والخروج من المكاتب المغلقة، كما أبرزت جوانب من شخصيّته القيادية ومن فكره السياسي، ما كان من الممكن للمواطن العادي أن يستكشفها من دون هذه الوسيلة التي كانت تصل مباشرة إليه دونما تدخّل رقابي أو تحسينات. وبعد: لقد شكّلت القدرات القيادية في شخصية الملك فهد في عهوده السياسية الثلاثة، وخاصة في جانبي الإصلاحات الدستورية والإدارية والحوارات الجمعية، منعطفا تاريخيا مهما في تجديد دماء الحُكم وفي تقوية دعاماته وتوسيع دائرة المشاركة السياسية الوطنية، وهو ما وصفتُه في حينه بأنه أشبه بــ«ميلاد جديد للدولة» وأحسب أنه لو لم يتزامن عهده الذي دام قرابة ربع قرن مع بعض النوازل التي عصفت بالمنطقة وتسببت في أن تعتري تلك الفترة نظرة محافظة اضطر معها السير بدفة البلاد إلى شواطئ الأمان في عالم متلاطم الأمواج، فلربما كان لمسيرة الإصلاح السياسي والدستوري شأن آخر، ومع ذلك، فإن جوانب الإصلاح التي ذُكرت نماذج منها، لم تحظ بعد من المؤسسات التعليمية والبحثية بما تستحقه من تحليل علمي يتناسب وأهميته، خاصة أن المصادر متوافرة والمعلومات لم يمض على رحيل شخصيّتها سوى عقد من الزمن.
ـ محاضرة ألقيت في الندوة العلمية لتاريخ الملك فهد، الرياض.
* إعلامي وباحث سعودي