وزير الثقافة العراقي لـ «الشرق الأوسط»: نخطط لشراكات حقيقية مع السعودية

أكد أن الثقافة هي المظلة الكبرى التي تجمع البلدان العربية

وزير الثقافة والسياحة والآثار العراقي
وزير الثقافة والسياحة والآثار العراقي
TT

وزير الثقافة العراقي لـ «الشرق الأوسط»: نخطط لشراكات حقيقية مع السعودية

وزير الثقافة والسياحة والآثار العراقي
وزير الثقافة والسياحة والآثار العراقي

قال وزير الثقافة والسياحة والآثار العراقي الدكتور حسن ناظم، إن مشاركة بلاده ضيف شرف معرض الرياض الدولي للكتاب هذا العام، تأتي في أجواء متنامية بين العراق والسعودية، وعمل دبلوماسي دؤوب لبناء شراكات حقيقية على مختلف المستويات. وقال ناظم، إن مشاركة العراق في معرض الرياض الدولي للكتاب «تأتي في ظرف استثنائي يعزز الشراكات بين البلدين ويعزز الصلات بين الثقافتين». وقال في حوار مع «الشرق الأوسط»، إن العلاقات الدبلوماسية بين العراق ومحيطه العربي تمثل مرحلة جديدة من التواصل، مضيفاً أن «الثقافة العراقية مقبلة على ظروف نوعية تعيد صلاتها، خاصة بالثقافة العربية، حيث هي المظلة الكبرى التي تجمع البلدان العربية، والعراق باعتباره فاعلاً في هذه الثقافة عبر قرن من الزمان يعود الآن بوضع جديد في صلاته مع العالم العربي، ولا سيما مع السعودية».
كما أوضح وزير الثقافة العراقية، أن زيارة الأمير بدر بن عبد الله بن فرحان، وزير الثقافة السعودي، للعاصمة العراقية بغداد في أبريل (نيسان) 2019 كانت لها أصداء إيجابية رائعة لدى الأوساط العراقية، واصفاً الزيارة بأنها «غير تقليدية»، وكانت بداية لتعاون ثقافي حقيقي بين البلدين.
تحدث الوزير العراقي لـ«الشرق الأوسط» من واشنطن، حيث كان يحضر تسلم «لوح جلجامش» إحدى النفائس الاثرية التي تمّ تهريبها من العراق... وذلك قبيل افتتاح معرض الرياض الدولي للكتاب، حيث يشارك في فعالياته:

> كيف تصفون مشاركة العراق هذا العام في معرض الرياض الدول للكتاب؟
- مشاركة العراق هذا العام في معرض الرياض الدولي للكتاب، هي مشاركة حيوية وتأتي في ظروف استثنائية؛ فالعلاقات مع المملكة العربية السعودية تتصاعد وتتزايد على صُعد كثيرة في جانبها الثقافي وفي جانبها الاقتصادي. هذه المشاركة هي أيضاً تتويج لكل الجهود التي بذلتها المملكة والعراق من أجل استعادة هذه الصلات المحورية والأساسية بين البلدين. نحن نعلم أن الصلات الثقافية هي صلات أساسية لصياغة علاقات بين المجتمعات. وأنا أحسب أن الصلات الثقافية لم تنقطع أساساً لأن المثقفين والفنانين والأساتذة الجامعيين في كلا البلدين ظلوا يعملون في حقول الثقافة والفن، وبينهم صلات متواصلة. أنا عن نفسي لي علاقات مميزة في الوسط الأكاديمي السعودي والوسط الثقافي السعودي، وكانت لنا زيارات قبل هذه المشاركة في المعرض. إذن، تأتي مشاركة العراق في معرض الرياض الدولي للكتاب في ظرف استثنائي يعزز الشراكات بين البلدين ويعزز الصلات بين الثقافتين، ويعزز أيضاً الأنشطة الفنية، ويتيح مزيداً من الأعمال المشتركة في ضوء مذكرة التفاهم التي وُقّعت بين البلدين قبل فترة قريبة.
> ماذا يعني لكم هذا التواصل الثقافي بين البلدين... وبين التراث الثقافي والأدبي في كلا البلدين؟
- التواصل الثقافي بين البلدين هو أمرٌ حتمي؛ لأن البلدين ينطويان على ثقافة مشتركة، لسنا في حاجة إلى أدلة لإثبات هذه الصلات التراثية والتاريخية والثقافية. المملكة العربية السعودية والعراق بلدان متجاوران؛ هناك امتدادات ثقافية، وامتدادات أسريّة وعشائرية، وهناك تشارك في كثير من ظواهر الثقافة بين البلدين، وبالتالي ليس هناك غرابة في أن تجد سماتٍ مشتركة بين البلدين. الثقافة في المملكة العربية السعودية لها جذور في العراق على مستوى الشعر وعلى مستوى الأدب إجمالاً وحتى الفكر، وبالتالي العراق بوصفه بلداً أساسياً من أعمدة الثقافة العربية، يجد أيضاً له وجهاً في المملكة العربية السعودية، لنا تاريخ من أولئك الأساتذة الكبار الذين عملوا في المملكة منذ السبعينات، وما زالت إلى الآن تجاربهم في المملكة لها صدى مشهود، وأيضاً التأثير الثقافي للمثقفين السعوديين الذين أثروا الثقافة العربية، وتركوا تأثيراً في الثقافة العراقية. هذا التبادل والاشتراك هو أساس كبير لتطوير العلاقات بين البلدين.
> يحتفي معرض الرياض هذا العام برموز الأدب والفكر والفن العراقي، حيث يلتقي على ضفافه محمد مهدي الجواهري وبدر شاكر السياب مع علي جواد الطاهر، على إيقاع موسيقى نصير شمة، وأغاني سعدون جابر، وأطلال مدن «أور، بابل، النمرود»... كيف تقيّمون هذا الحضور العراقي الباذخ؟
- البرنامج الذي هيأه معرض الرياض الدولي للكتاب لجمهورية العراق بوصفها ضيف شرف على هذا المعرض، برنامج واسع وكريم ومنظّم، يشمل أماسي شعرية، وندوات فكرية، ومحاضرات؛ ولذلك فالوفد الكبير الذي نصطحبه معنا يضم مثقفين وفنانين وشعراء عراقيين لهم إسهامات. المعرض أيضاً احتفى بالراحلين من كبار الأدباء والنقاد العراقيين، مثل شاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري، وشاعر الحداثة الشعرية العربية بدر شاكر السياب، وأيضاً الناقد الكبير علي جواد الطاهر، الذي له خصوصية في المملكة العربية السعودية؛ لأنه قضى سنوات يدرس في الجامعات السعودية.هذا برنامج غني ويشمل الفنّ أيضاً بحضور الموسيقار نصير شمة وسعدون جابر، وهناك محاضرات عن الآثار في العراق... إذن، هناك شمولية في تنظيم الأنشطة العراقية، وهذه مناسبة لأن نشكر فريق العمل السعودي الذي بذل جهوداً كبيرة في متابعة وتنظيم المشاركة العراقية.

الثقافة عابرة للحدود

> كيف يمكن للثقافة والتراث أن يعيدا إحياء ما يجمع بين المملكة العربية والسعودية والعراق من أواصر؟
- الحقيقة، حتى في تلك السنوات التي وضعت فيها ظروف سياسية معينة حقبة من الانقطاع - للأسف – لم تتمكن أن تقطع الأواصر الثقافية... خاصة أن تلك الحقبة من الانقطاع لم تمثل انقطاعاً كاملاً على المستوى الثقافي والتراثي؛ المثقفون العراقيون والأساتذة الجامعيون في كلا البلدين كانوا على تواصل. لأن الحقول الفكرية والحقول النقدية وحقول الفلسفة والترجمة وعلم اللغة هي مستمرة لا تنقطع... الباحث في المملكة العربية السعودية يتطلع لإنتاج العرب جميعاً وليس العراق فقط، والباحث في العراق يتطلع إلى الإنتاج الثقافي والتراثي في المملكة وفي غيرها من البلدان العربية. فالحقيقة أن الثقافة عابرة للحدود، وليس شرطاً أن تتأثر بالظروف السياسية ومما تحتمه – أحياناً - من انقطاعات بين البلدان.
> هذا يضع مسؤولية إضافية على الثقافة والمثقفين؟
- نعم، أمام الثقافة مهمة أكبر الآن، في ضوء ملاءمة الظروف لاستعادة صلات أساسية بين الثقافة السعودية والثقافة العراقية. بالتأكيد، حقبة الانقطاع تؤثر بنحوٍ ما، لكن نحن الآن أمام حقبة فيها إقبال رائع، وفيها قرار سياسي شجاع، يؤسس إلى ترك الماضي وراءنا، والانطلاق في علاقات جديدة وعلى مستويات عديدة، ومن خلال المجلس التنسيقي السعودي – العراقي، الذي يمثل إطاراً للتعاون في مجالات متعددة، بينها الثقافة، والمذكرات التي وُقّعت بين البلدين؛ سنشهد في الحقبة المقبلة تلاحماً وتوطيداً للصلات الثقافية أكبر، وفيها بشائر خير لكلا الشعبين ولكل البلدين.
> كانت هناك زيارات متبادلة، بينكم وبين وزير الثقافة السعودي الأمير بدر بن عبد الله بن فرحان... كيف تقيّمون التعاون الثقافي بين البلدين... وإلى أين يتجه؟
- وزير الثقافة السعودي الأمير بدر بن عبد الله بن فرحان، زار العراق قبل مدة، ورأى بعينيه أثر الثقافة العراقية، وزار شارع المتنبي - وكثيراً ما أشار إلى ذلك - وهو شارع «الأيقونة» للثقافة العراقية، وفي لقائي معه عبر برنامج «زووم» كان هناك تبادل للأفكار بأريحية عالية وبجوٍ إيجابي ورائع، خططنا فيه (الحوار) لمشاركتنا في هذا المعرض، وخططنا فيه للقيام بتنظيم أسابيع ثقافية وفنية في بغداد والرياض، وهناك انفتاح لدى وزير الثقافة على كل ما يمكن أن نفعله في هذه المدة وفي هذه الظروف، بمعنى آخر؛ إن الأساسات أقيمت، وإن العجلة تقدمت إلى الأمام، ولن يكون هناك حاجة إلى الالتفات إلى الوراء.
في العراق، نحن أيضاً في وزارة الثقافة والسياحة والآثار، لدينا رغبة وانفتاح شديدان على العمل مع الحاضنة العربية، ومع إخواننا العرب والبلدان العربية جميعاً، ناهيك عن العمل مع المملكة العربية السعودية؛ التي لها معنى كبير لحضورها في بلدنا، وصلاتها التاريخية بنا.
> ماذا بشأن معرض الكتاب؟
- في معرض الرياض للكتاب كان هناك عناية فائقة، وخاصة من الأمير بدر، بالجناح العراقي والأنشطة العراقية، للتخطيط لحضور ثقافي عراقي في معرض الرياض، واستثمار وجودنا كضيف شرف للمعرض، هناك أنشطة عديدة أخرى وعروض موسيقية ومحاضرات خاصة، وبرنامج واسع ولمسنا حسن التنظيم ودقته والتشجيع على طرح المزيد من الفعاليات... وقد أبدت وزارة الثقافة السعودية استعدادها لإقامتها خلال معرض الرياض الدولي للكتاب، وهذا أمر يدعو للبهجة والتفاؤل لمستقبل هذه العلاقات وتنميتها.
> هل هناك مشاريع ثقافية وأدبية وفنية عراقية - سعودية يجري تنفيذها الآن؟ وما هي المشاريع التي تدرسونها مع الجانب السعودي للسنوات المقبلة؟
- هناك عمل مشترك ضمن أعمال المجلس التنسيقي العراقي - السعودي، ففي الآثار هناك جهد مشترك لتسجيل «درب زبيدة» طريق الحج القديمة على لائحة التراث العالمي، أيضاً هناك مشتركات آثارية لهذا الامتداد الجغرافي والثقافي بين البلدين، كذلك هناك تفكير في وضع خطط لإنجاز مشروعات فنية، وعلى المستوى الثقافي كان هناك اتفاق مبدئي في إقامة أسابيع ثقافية وفنية في بغداد والرياض.
> كم عدد دور النشر العراقية والعناوين المشاركة في معرض الرياض للكتاب؟
- أعداد دور النشر العراقية في معرض الرياض الدولي للكتاب قد تبلغ 20 داراً، ضمنها الدور الحكومية لوزارة الثقافة والسياحة والآثار، وهي دار الشؤون الثقافية العامة المسؤولة عن طباعة الكتب، ودار المأمون للترجمة، ودار ثقافة الأطفال، ودار النشر الكردية، المسؤولة عن جسر وربط الثقافتين الكردية والعربية، إضافة إلى الهيئة العامة للآثار والتراث التي تشارك بإنتاجها من الكتب والمجلات، مثل مجلة «سومر» ذات الصيت الذائع وغيرها، وستبلغ العناوين التي تقدمها الدور العراقية في معرض الرياض ما يقرب من 500 عنوان.

آثار العراق

> أنتم حالياً في واشنطن بعد تسلم «لوح جلجامش» إحدى النفائس الاثرية التي تمّ تهريبها من العراق... هل لديكم إحصاء بهذه الآثار وأماكن وجودها؟
- فيما يتعلق بالآثار المنهوبة من العراق، فأعدادها كبيرة جداً. لا نتحدث هنا عن تلك الآثار التي سُرقت من المتحف العراقي، فهذه مسجلة، وهناك فيها إحصاء ووثائق، ونحن نلاحقها. استرددنا بعضاً منها، ونعمل على استرداد الباقي والهيئة العامة للآثار والتراث تساعدنا في ذلك، كما تساعدنا وزارة الخارجية العراقية، عبر صلاتها وسفاراتها في العالم. وأيضاً تساعدنا قوانين الدول الصديقة التي تمنع تهريب الآثار العراقية وتجرّم التعامل بها.
بقية الآثار المسروقة هي مسروقة نتيجة للنبش العشوائي في الأراضي العراقية. تعلم أن العراق يضم مساحة جغرافية كبيرة وفيه حضارات متنوعة عبر التاريخ، وأينما ذهبت وحفرت تجد آثاراً لحضارات آشور وحضارات بابل وسومر وأكد وكيش، وغيرها من الحضارات التي تعاقبت على العراق. فالعراق كله آثار وبالتالي تصعب السيطرة على أراضيه لا بالشرطة الآثارية ولا حتى بالتكنولوجيا، ونحن نتعرض إلى هجمات كثيرة في هذا الصدد، وهي خفّت الآن، وليست كما كانت مستعرة في الأيام الأولى بعد العام 2003، لكن الآن هناك سيطرة نوعاً ما على أراضينا.
> ما هي الجهود الإقليمية المبذولة لحماية الآثار في هذه المنطقة عموماً؟
- دعاني أوضح، أولاً على الصعيد العراقي المحلي، هناك وعي يتنامى الآن أكثر من السابق في مسألة معنى هذه الآثار ومعنى استردادها، حيث بدأ كثير من الذين حصلوا على بعض الآثار يعيدونها طوعاً إلى وزارة الثقافة والآثار. هذا الوعي ضروري أن ينتشر أيضاً في البلدان المجاورة. حيث شكلت البلدان المجاورة للعراق محطات لتهريب الآثار العراقية. تلك الآثار التي وصلت إلى الولايات المتحدة وإلى أوروبا لم تخرج من العراق مباشرة، بل ذهبت عبر بلدان الجوار؛ ولذلك نحن نهيب بهذه الدول التي هي دول صديقة وغيورة على تراث المنطقة أن تمنع تهريب الآثار، وأن تصدر قوانين تجرّم الاتجار بهذه الآثار؛ حفظاً لتراث المنطقة التي تضم تراثاً عظيماً، لا يقتصر على العراق فحسب، فكل هذه الدول كالسعودية وسوريا وتركيا وإيران غنية بالآثار، ومن الصالح للجميع أن يحافظوا عليها، وأن يصدروا قوانين تحول دون تسهيل عمليات تهريب وسرقة الآثار.
> برأيكم، متى ستكون مناطق الآثار العراقية جاهزة لاستقبال الزوار من مختلف العالم؟
- السياحة الأثرية في العراق لم تكن منتعشة في أي يوم من الأيام، ويجب أن نعترف بهذه الحقيقة! إذا أخذنا بالحسبان سياسات الديكتاتوريات قبل عام 2003 نجد الأنظمة المستبدة عموماً لا تشجع على السياحة؛ لأن نظرتها إلى السياح وإلى كل زائر هي نظرة مريبة، فالسياحة الآثارية لم تكن منتعشة في العراق قبل 2003، فقد كانت مقتصرة على الآثاريين الدارسين والمنقبين وعلى البعثات التنقيبية الأجنبية التي تأتي باتفاق مع الحكومة.
بعد التغيير وانفتاح البلد مرّ العراق بظروف أمنية، وبموجة عاتية من الإرهاب، هذه الأحداث خلقت بيئة غير آمنة للسياحة عموماً وليس فقط للسياحة الآثارية. لكن هناك تصميماً الآن بعد كل الإنجازات التي تحققت في القضاء على الإرهاب، وبعد توفير بيئة آمنة نسبياً، هناك عمل حثيث وهناك خطط لإنعاش السياحة الآثارية وعدم الاقتصار على البعثات التنقيبية وعلى الدارسين الآثاريين الأجانب... هناك تشجيع، خاصة بعد زيارة البابا لمحافظة «ذي قار» في الناصرية وزيارة «بيت إبراهيم» الذي يقع في المنطقة الأثرية المهمة (أور)، لدينا خطة لإنعاش السياحة الآثارية في العراق، وخاصة تلك الأماكن التي تمثل قدسية لبعض الديانات، وأيضاً الآثار في بابل وآشور التي دخلت لائحة التراث العالمي (اليونيسكو)... على الصعيد الاقتصادي، يلزمنا شيء من التعافي؛ لأن إنعاش المواقع السياحية يقتضي القيام بصيانات للمواقع الاثرية ويقتضي إقامة بنى تحتية في هذه المواقع لكي تكون في خدمة الزائرين والسائحين؛ ولذلك نحن نضع خطة لذلك - وإن شاء الله - يتعافى الاقتصاد فتتعافى معه السياحة الآثارية.

المشهد الثقافي

> بصفتكم أستاذاً وباحثاً وناقداً ومؤلفاً كيف تقيمون المشهد الثقافي في العراق؟
- أنا أرى أن الثقافة في العراق ما زالت منتجة وفاعلة، واعتقادي، أن الظواهر الثقافية في البلدان لا تنهار بانهيار الأنظمة السياسية. نعم، كانت هناك لدينا مشاكل ومعضلات وظروف عصيبة. بعد العام 2003 تعرّض البلد للغزو والاحتلال، فضلاً عن الصعوبات والتحديات التي خلفها النظام الديكتاتوري... وكل هذا بالتأكيد خلّف آثاراً على الثقافة العراقية وعلى إنتاجها... لكن أنا أقول إن الدول تنهار، والحضارات تنهار، والثقافة تستمر!
ما زال العراق ولّاداً للمثقفين والأساتذة الجامعيين، وما زالت المبادرات الفردية لدى مثقفينا موجودة هنا وهناك؛ مبادرات في الفكر والفن... كل ما هنالك نحن نحتاج إلى مزيد من البنى التحتية التي تؤهل المثقفين والفنانين للاستمرار في عملهم، ولدعم عملهم.
> تتحدثون عن توجه الحكومة نحو التواصل مع المحيط، كيف تعملون لتحقيق هذه الغاية؟
- نعم، المرحلة الراهنة ترسم مرحلة جديدة من التواصل مع المحيط والعالم، هي هذه الظروف التي نراها هذه الأيام، وخاصة عبر السنتين الأخيرتين، وهناك جهود تبذلها الحكومة العراقية التي أسمت العام الحالي بعام الدبلوماسية، هذا الانفتاح الذي تقوده الحكومة يمثل وجهة نظر جديدة في العلاقات مع دول الجوار الإقليمي، فعودة العراق إلى دوره الفاعل في المنطقة؛ كونه نقطة لقاء حتى للمتصارعين في الشرق الأوسط، والرحلات المكوكية التي تبذلها الحكومة بشخص رئيس مجلس الوزراء مصطفى الكاظمي، سواء رحلاته باتجاه المملكة العربية السعودية أو زياراته إلى الإمارات العربية المتحدة أو القمة الثلاثية مع الأردن ومصر، خلقت بيئة ملائمة جداً، ليس فقط لإنعاش الثقافة العراقية وإعادة صلتها بالعالم، بل بإنعاش بلادنا عموماً على المستوى الاقتصادي والاجتماعي..
الثقافة العراقية مقبلة على ظروف نوعية تعيد صلاتها، خاصة بالثقافة العربية، حيث هي المظلة الكبرى التي تجمع البلدان العربية، والعراق باعتباره فاعلاً في هذه الثقافة عبر قرن من الزمان يعود الآن بوضع جديد في صلاته مع العالم العربي ولا سيما في البلدان العربية المجاورة وخاصة المملكة العربية السعودية.



ثلاثية الحب والحرب والفقر في «سنوات النمش»

ثلاثية الحب والحرب والفقر في «سنوات النمش»
TT

ثلاثية الحب والحرب والفقر في «سنوات النمش»

ثلاثية الحب والحرب والفقر في «سنوات النمش»

بعد تطواف روائي بين تونس في «باب الليل»، وسوريا في «حذاء فلليني»، يعود الروائي المصري وحيد الطويلة في روايته الأحدث: «سنوات النمش»، إلى عالمه الأثير في القرية المصرية، تلك التي عايَن بعض جوانبها في روايات سابقة، مثل «أحمر خفيف» و«الحب بمن حضر»، وفي كل مرة يقدم هذه القرية من منظور مغاير، مكتشفاً جانباً جديداً من قوانينها وجمالياتها، وقواعدها الصارمة ظاهرياً. هذه القواعد والتقاليد نفسها التي لا يتوقف أهل القرية عن انتهاكها سراً، في تواطؤ ضمني مفضوح يعرفه الجميع، لكنهم لا يجرؤون على الإفصاح عنه وإعلانه.

«سنوات النمش» (الصادرة عن «دار المحرر») يشير عنوانها إلى البقع التي تعكِّر البياض، أو اللون الأصلي، فكأن الراوي يرصد السنوات التي كانت مليئة بالبقع في حياته وحياة قريته وناسها، وتدور أحداثها في إحدى قرى الدلتا، شمال القاهرة، عبر راوٍ طفل يسرد الأحداث كلها بعينيه ورؤيته؛ فهو راوٍ مراقِب ومشارِك ومتورِّط؛ إما في الأحداث بشكل مباشر، أو بتعاطفه مع حدث هنا أو هناك، حتى ما وقع قبل ولادته، ويظل يكبر مع الأحداث متابعاً هذه القرية البعيدة عن سيطرة الحكومات المتعاقبة واهتماماتها، أو كما يعتبرها أهلها «على شمال الدنيا»، وأنها ليست موجودة على الخريطة؛ فهي قرية غارقة في الجهل والمرض والخرافة.

زمنياً، يغطي فضاء الرواية المساحة منذ الأربعينات تقريباً، وحتى نهاية القرن العشرين، حين نرى الراوي الطفل وقد صار شيخاً كبيراً يزور المعالم الأثرية في الأقصر مع ابنتيه الشابتين، ويغني مع المغنين الشعبيين. وطوال هذه الفترة ترصد الرواية تحولات هذه القرية منذ العهد الملكي، حين كانت براري لا يسكنها سوى اللصوص وقُطّاع الطرق؛ إذ كانت اللصوصية المهنة الأشهر التي تتباهى بها عائلات القرية، مروراً بثورة يوليو (تموز) وزعامة جمال عبد الناصر، وصولاً لمرحلة الرئيس الأسبق أنور السادات، وانعكاس هذه التحولات السياسية الكبيرة على القرية وقاطنيها.

رواية الطفل للأحداث منحت السرد قدرة كبيرة على الفضح والتعرية، وكشف علاقات الحب الخفية، وما ينتج عنها أحياناً من صراعات، يكون الحب سببها الحقيقي المضمر، الذي يعلمه الجميع، لكن كل أطراف الصراع تدّعي أسباباً أخرى معلنة.

هذه القدرة الطفولية على الفضح منحت السرد قدراً كبيراً من السخرية والكوميديا، فالفضح بطبيعته له سمت كرنفالي ساخر وكوميدي، أقرب إلى المسخرة؛ فمن يبدو في الظاهر وقوراً نرى (بعين الطفل المندهش) باطنه المتهتِّك المحتجب عن الجميع.

قدرة الراوي الطفل على الفضح والتعرية، تطال حتى أخته، كاشفاً عن مدى عشقها للتحكُّم والتسلُّط؛ إذ يمنحها القدر فرصة لممارسة ميولها السلطوية الكامنة فيها، عبر زواجها من ضابط طيب يستجيب لكل طلباتها، فتجد الفرصة سانحة لتمارس أدواره الرسمية في غيابه، فتعطي هي الأوامر للعساكر، وتتواصل مع مديرية الأمن نيابة عنه، كاشفة عن جانبها المتسلِّط الكامن فيها، الذي ما يني يجد نافذة صغيرة لينشط، معلناً وجوده وتمدُّده، حتى إنها تنتظر عودة زوجها الخاضع لسطوتها حباً فيها، لتمارس عليه سطوتها، وتمسك بالميكروفون كأنها ديكتاتور يخطب في شعبه الخاضع، ويكون هو كل جمهورها ورعيتها.

ثمة جانب آخر، تفضحه الحكاية، أو الحكايات التي تترى في تتابع مدهش، وهو الجانب الذكوري المسيطر على هذا العالم القروي البسيط، ممثلاً في استئثار الرجل بالمواريث، ومنع الميراث عن المرأة، فضلاً عن رفض كثير من الرجال أن تتزوج شقيقاتهم، ويكون المعلن أن هذا الرفض بسبب عدم خروج الميراث لرجل غريب، لكن السبب المضمر هو رفض الرجل أن يطأ رجل غريب شقيقته. لكن رغم هذه الذكورية المهيمنة، ثمة تمثيلات على التمرُّد النسوي لكسر هذه القواعد الذكورية المتصلبة، مثل العمة فريال، العزباء التي تصدم الجميع، وتخترق الأعراف والمواضعات الاجتماعية، وتعلن رغبتها في الزواج ثانية، بعد طلاقها من زوجها اللص، ولا تكتفي بإعلان هذه الرغبة التي تنتهك السائد، بل تمعن في التحدي، ولا تكف عن البحث بنفسها عن عريس.

يعتمد الراوي على صيغة الحكي الشعبي الشفاهي؛ فتبدو الرواية كلها وكأنها سلسلة محكيات يرويها الطفل (بعدما كبر) فيستدعي حياته وعلاقاته وما رآه وسمعه في القرية وعنها وعن شخوصها طوال طفولتها، بطريقة أقرب إلى جلسات السمر واستدعاء الذكريات بشكل شفاهي، دون أن يحكمه رابط واضح، فالحكايات تتناسل، دون التزام بتتابع زمني دقيق؛ فقد تأتي حكاية حديثة عن الأب، ثم تتلوها حكاية عن الجد، ثم حكاية عن أحد أصدقاء الطفولة، وحكاية أخرى عن إحدى العمات، فحلقات الحكي تتداخل وتتابع بلا تخطيط مسبق، وتتمثل شفاهية الحكي في أن الراوي قد ينسى بعض الذكريات، وسرعان ما يتذكرها، مثلما يقول في أحد المواضع: «كنت وأبي على الطريق، لا أتذكر إلى أين... لا، لا، تذكرت الآن، كنا في نهاية فقرة من فقرات الشتاء المتقطعة، يغزونا المطر ثم يتوقف ليومين»... هذه الآلية في إعلان النسيان والاستدراك بالتذكر، آلية شفاهية بامتياز. فضلاً عن بدء التذكر بالأجواء والطقس والمطر، وكأن الراوي يعيد تذكر المشهد كاملاً بصرياً، وأنه يحدث الآن أمام عينيه؛ فالحكاية لا تكتمل إلا بتذكُّر تفاصيلها كاملة، بأجوائها، وبتعبيرات الوجوه أحياناً؛ فهو دائماً يرسم مشاهد بصرية مكتملة، ليضع المتلقي الضمني، في قلب الحدث والحكاية.

حكاية القرية، أو مجموع الحكايات الصغيرة التي تشكل عبر تضافرها حكايتها ككل (بما فيها من علاقات حب وصراعات عائلية، وثارات وفقر وحفاء، وطموحات وانكسارات للشخوص الأفراد من آحاد الناس) لا تنفصل عن حكايات أكبر، فحكايتها محض دائرة صغرى، تحتويها دوائر أكبر، منها حكاية الوطن وتحولاته السياسية، من ملكية، إلى نظام جمهوري وأحلام القومية العربية، وتعلّق الأب بزعامة عبد الناصر، ثم مرحلة الانفتاح، وهناك أيضاً دائرة الحروب، بدءاً من الاحتلال الإنجليزي وآثاره الممثلة في بعض الطرق والكباري التي شُيّدت في ظل حكم الاحتلال، ثم حرب فلسطين، ونكسة 67، وصولاً إلى حرب أكتوبر (تشرين الأول) 73؛ فهذه دائرة أخرى تلقي بظلال تحولاتها على دائرة حكاية القرية. ثمة دائرة عربية لا تنفصل عن الدوائر الأصغر، تتجلى أحيان عبر سفر أحد أقارب الطفل الراوي إلى الشام وإقامته في لبنان فترة طويلة، ثم فراره منها قبل الحرب الأهلية، وعودته إلى قريته/ وقوقعته؛ إذ تنكمش أحلام أبناء القرية، في استعارة لانكماش الأحلام العربية الكبرى تحت وطأة الحروب والنزاعات الطائفية والقومية، وعودة كل شخص للانزواء والتقوقع في قريته/ طائفته/ قوميته، حتى لو لم يكن متناغماً معها، بعد تبدُّد حلم اندماج الجميع في كلٍّ جامع.

ثمة ملمح آخر يتصل بكسر تخييلية الحكاية، وإيجاد صلة بها بالوقع المعيش؛ فالرواية رغم كونها بالأساس عملاً تخييلياً، فإنها المؤلف يتعمد (كعادته) خلق وشائج تربطها بالواقع السياسي والثقافي والفني، كما فعل في «جنازة جديدة لعماد حمدي» التي جعل اسم بطلها على اسم النجم السينمائي الشهير، أو «حذاء فلليني» التي تحيل للمخرج الإيطالي الشهير، فإنه (هنا) في «سنوات النمش» يجعل اسم أحد أبطال الرواية «القذافي»، وهو شخصية نرجسية بامتياز في روايته، ويعاني جنون عظمة واضحاً، ويجعل اسم شقيقه «العكش»، في إشارة للاسم الذي أطلقه المصريون على إعلامي شهير، إضافة إلى حيلة أخرى؛ فقد أراد والد الراوي إنشاء مدرسة في القرية، واشترطت عليه الدولة وجود 30 طالباً لإطلاقها، فلم يجد سوى 23 طفلاً، فاضطر لتزوير شهادة ميلاد لطفل متخيَّل باسم وهمي، فجعل اسم هذا الطفل غير الموجود «خيري شلبي». وبالطبع لا يخفى أن هذه ليست مصادفة، بل أقرب إلى تحية لاسم الروائي الكبير الراحل خيري شلبي، ابن قرية بالمحافظة نفسها، كما أن الإحالات لأسماء واقعية شهيرة توجِّه القارئ إلى أن العمل الروائي المتخيَّل غير منقطع الصلة بالعالم والواقع من حوله؛ فهو تمثيل لهما، وترتبط به بدرجة ما، رغم اعتماد المنطق السردي على الاسترسال الحكائي، الذي يفيد من تقنيات الحكي التراثية في «ألف ليلة وليلة»؛ حيث امتزاج الواقعي بالغرائبي، وتناسل الحكايات من بعضها، مشكلة في النهاية من هذه الطبقات الحكائية حكاية كبرى، أشبه بجدارية ضخمة، تؤرخ لقرية مصرية «على شمال السما» ظلّت عقودا رازحة تحت وطأة الفقر والجهل والمرض.