«ذاكرة مشفرة»... لوحات «سريالية» تسائل مصير الإنسان ومحنة وجوده

علاء بشير يفتتح معرضه الثالث عشر في العاصمة البريطانية

لوحة من المعرض
لوحة من المعرض
TT

«ذاكرة مشفرة»... لوحات «سريالية» تسائل مصير الإنسان ومحنة وجوده

لوحة من المعرض
لوحة من المعرض

بخمسة عشر عملا فنيا ذات حجوم كبيرة نسبيا ومعنونة بعناوين يغلب عليها الطابع الشعري افتتح الدكتور الفنان علاء بشير معرضه الشخصي الثالث عشر في مسيرته الفنية التي بدأت برسم الأعمال الانطباعية في خمسينيات القرن الماضي. ونظم أول معرض له في بغداد في مثل هذا الشهر من 1958. يقول عن تلك المشاركة: «كانت أول مشاركة لي مع فنانين وأساتذة فن عراقيين بارزين، بعد شهرين من الأحداث التي أطاحت النظام الملكي في العراق. ما شاهدته في ذلك اليوم وما تبعه من أحداث دموية أكثر عنفاً رفعت الغطاء عما يختبئ في النفس البشرية من روح الانتقام والشر المدمرة، جعلني أدرك مبكراً أن الفن لم ولن يكون للمتعة، وإنما هو أهم وسائل التعبير الإنساني في التحريض على البحث في معنى وغاية الوجود».
وعبر مسيرته المهنية والفنية والإنسانية، ما يزال بشير يبحث عن معنى الوجود ومعاناة الإنسان بين خطي زمانه ومكانه. وكان معرضه النحتي (أفكار من تراب) في بغداد في حقبة التسعينات من القرن الماضي أشبه بالتنبؤ لما سيؤول إليه مصير الفرد العراقي الراضخ حينئذ تحت وطأة الجوع والتهميش وهيمنة الديكتاتورية وسلطة الصوت الواحد.
بشر الروائي والناقد جبرا إبراهيم جبرا بعلاء بشير النحات حينها بأنه اجترح معجزة بالنحت العراقي وعلينا أن ننظر للنحت العراقي بعين مغايرة بعد ذلك المعرض المهم. ولاقى ذلك المعرض صدى كبيرا بين الجمهور العراقي وليس بين الفنانين فقط لأن موضوع المعرض كان عن الإنسان المحاصر والمسحوق بين الجدران وهو انعكاس بين للوضع المأساوي الذي عاشه العراقيون خلال فترة الحصار الاقتصادي الذي استمر ثلاثة عشر عاما انتهت بالاحتلال الأميركي. حينما ذكرت د. علاء بذلك المعرض وهل تعرض لمضايقات السلطة حينها نظرا لجرأة ووضوح الأفكار التي جسدتها منحوتاته، قال: «نعم تعرضت للمضايقة ووصلت الشكوى إلى رأس السلطة، الرئيس العراقي السابق صدام حسين وبحكم قربي منه قال لهم دعوا الدكتور علاء يرسم وينحت ما يريد فهو خير من يمثل الفن العراقي».
معرضه الأخير المعنون (ذاكرة مشفرة)، الذي أقيم في «غاليري ديفرنت» في قلب العاصمة البريطانية، يتضمن لوحات زيتية تغطي العشر سنوات الأخيرة، وهو يقول عن ثيماتها: «دائما كان الموضوع الأساس لأعمالي الفنية هو الإنسان لكن تناولي لهذا الموضوع تبدل عبر الزمن وعبر تطور وعيي الفني والشخصي والمهني. في بدايتي الفنية كنت أرسم بالأسلوب الواقعي وما أن شهدت بنفسي الأحداث الدموية التي أعقبت الإطاحة بالحكم الملكي، وكنت حينئذ شابا يافعا حتى بدأت التساؤل عن كيفية تحول الإنسان العادي من ضحية إلى قاتل وكيف يتم تبادل الأدوار داخل نفس الإنسان بهذه السرعة، قادتني هذه التساؤلات إلى سبر أغوار النفس البشرية عبر قراءات كثيرة وعبر اجتراح ثيمات غير معروفة بالفن العراقي وقتها، إلى أن وصل أسلوبي الفني إلى ما هو عليه الآن. بعض النقاد يطلقون عليه سريالية أو ما بعد الواقعية، لكن رؤيتي الفنية تستند إلى تاريخ وثقافة ضاربة بجذورها في حضارات الرافدين القديمة؛ حيث لم تكن وظيفة الفن للتزيين، أي أن الفن في حضارة وادي الرافدين لا يهدف إلى التسلية والإمتاع، بل يدعو إلى التفكر والتأمل في علاقة الإنسان بالقوى الخفية والغيبية، وبالموت والحب والكوارث. أؤمن بقدرة الفن على تغيير حياة الناس، واللوحات والتخطيطات المعروضة إنما هي تعبير عن مفهومي الشخصي للفن».
ثم نسأله:
- ثيمة الغراب لا تزال تتجسد في أعمالك الفنية وفي هذا المعرض هناك أكثر من لوحة تتضمن الغراب سواء كان شكلا مفردا كما في لوحة (أثر الزمن) أو شكلا مكونا ضمن بقية أشكال اللوحة مثل لوحة (الهروب من الذاكرة) هل يمكن اعتبار الغراب هو العلامة الفنية الفارقة لعلاء بشير؟
فيجيب:
«الله كرم الغراب بالاسم ليكون أول معلم للإنسان والشاهد الوحيد على أول جريمة يرتكبها الإنسان، وهي الواقعة التي تعلم الإنسان من خلالها معنى الخير والشر والصبر والندم؛ فالغراب ليس رمزا للشؤم بقدر كونه شاهدا على الجريمة والخراب وهو رمز للحكمة والعلم وربما يكون استلهامي الفني لهذا الطائر بوجوده الفلسفي في أعمالي فريدا من نوعه».
لوحات علاء بشير في هذا المعرض كما فيما سبقه من معارض، بشخوصها وألوانها لا تقدم أجوبة مطلقا وما من تفسير محدد لها، فما أن تمسك بمعنى خفي داخل أجواء اللوحة حتى يتبدى لك معنى مرعبا ومقلقا آخر. هناك غالبا هيئة بشرية مشوهة أو مكورة على نفسها كما في لوحة (تصور الظلال/2018) فالهيئة البشرية الأنثوية متكورة على نفسها، وهي تجلس في سطح أحمر كأنه بركة دم تسيل ملامح الوجه على ركبتيها المثنيتين بينما تنز من كتفها نملة مثلما تنز نافذة من جدار. ويقول الفنان عن هذه اللوحة تحديدا: «بينما كنت قد شارفت على إتمامها حلمت بهذه النملة التي تطل من أحد الكتفين وحين صحوت أضفت النملة كما رأيتها في الحلم».
هل معنى هذا أن الفنان بشير يستلهم أحلامه أو لنقل كوابيسه في أعماله الفنية؟
يجيب: «أنا مولع بالمعاني والرموز سواء على المستوى الشخصي أو من خلال الوقائع التي أشاهدها وبحكم عملي كطبيب كنت شاهدا على موت كثير وتشوه كثير يصيب الإنسان بفعل الحروب ولا بد أن هذا التماس المباشر مع الموت قد أثر في لوحاتي».
هناك أيضاً استلهام واضح للموروث الديني والشعبي في بعض لوحات المعرض كما في لوحة (تحت الرمال) حيث حصان منكس الرأس يحمل بين فكيه سيفا تتطاير من مقبضه أشرطة حمراء، أو كما في لوحة (افتداء) حيث تفاحة مشطورة تتوسط الأفق تسيل منها قطرات دلالة على السلالة البشرية التي تناسلت نتيجة قضم التفاحة.
ورغم الأسلوب السريالي الواضح، لكن ألوان اللوحات تراوحت بين الأسود والبني الكابي والمعتم إلى الأحمر المشرق والأزرق الصافي، وكذلك نلاحظ، رغم حيوية الألوان في بعض اللوحات، أن النظرة التشاؤمية والوحدة التي تكتنف مصير الإنسان ومحنة وجوده طاغية على كل أعمال علاء بشير، وأجزم بأنها ستظل كذلك في المعارض القادمة.



البحث عن بطل

البحث عن بطل
TT

البحث عن بطل

البحث عن بطل

في كتاب «البحث عن منقذ» للباحث فالح مهدي شرح مفصّل عن الشعوب التي ترزح تحت نير الظلم والإذلال، وكيف تعلّق أمرُ خلاصها برقبة منقذ تستعير اسمه من أساطين الدّين، تنتظر عودته إلى الحياة عن طريق البعث أو النشور، كي يحقّق العدل الغائب عن وجه الأرض، ويعوّض ناسها ما فاتهم من عيشة هانئة مستقرّة. اكتسى هذا المخلّص عبر مراحل التاريخ بجلابيب أسماء عديدة، منها «كريشنا» المنتظر في الديانة الهندوسيّة، و«بوذيستاوا» أي «بوذا» المنتظر، و«ماهافيرا» المنتظر في الديانة الجاينيّة، و«زرادشت» المنتظر في المجوسيّة، وفي اليهوديّة والمسيحيّة والإسلاميّة لدينا المسيح المنتظر والمهدي المنتظر وإسماعيل المنتظر والسفياني المنتظر واليمانيّ المنتظر والقحطانيّ المنتظر.

تعود هذه الفكرة في الأصل إلى اعتقاد دينيّ قديم مفاده أن الشرّ لا يمكن مواجهته من خلال البشر الفانين؛ لأن كلّ ما يأتي به الشّيطان لا يُهزم بالفعل البدنيّ، ويحتاج الإنسان إلى الاستعانة بالقوى الإلهيّة. وعلى الجميع لهذا السبب المحافظة على تقاليد دينهم وتعاليمه؛ لكي يستعجلوا هذه القوى، وإلّا فهم يقضون حياتهم في حالة انتظار دائم.

هو ليس انتظار اللاشيء، حتماً، لكنّه انتظار من أجل حبّ الانتظار، يعيش المؤمن في ظلّه في حالة وجْد لا يفتُر، يكون الزمن فيه مجمّداً عند المستقبل الأزليّ واللانهائيّ. هل جرّبتم العيش دون حاضر أو ماضٍ؟ عندما تغيب الحيوات والانفعالات والمشاعر «الصعبة» أي الحقيقيّة من المرء، يحلّ اليأس التامّ والمُطلق، وهو أحد شروط تحقيق ما يُدعى بالنيرفانا لدى البوذيّين، الخطوة الأولى في سبيل عودة «بوذا» المنتظر إلى الظهور، ويختلف الأمر كثيراً أو قليلاً بالنسبة إلى بقيّة المخلّصين. ثم يغيب الماضي كذلك، وتختفي معه أحداثه، ويبقى الوقع الأهمّ هو ظهور المُنقذ في القادم من الأيّام والشهور والسنين، وربما حلّ الموعد والمرء نائم في قبره، ويستيقظ عندها ليجد العدل والإنصاف يعمّان الأرض، ويتمّ القصاص من الأشرار والمجرمين والمفسدين.

عندما يتوقّف الدماغ تنشط آلة الخيال، ردّ فعل طبيعيّ لحالة الفقد والحرمان والإذلال، لكنّه خاصّ ببني الإنسان، وهو بالأحرى عقل مرَضيّ مُشِلّ للنّفس والبدن يؤدّي بنا إلى الجنون وخراب الدّيار. الانتظار يولّد انتظاراً آخر، ولا يوجد شيء اسمه فوات الأوان. كما أنّ الخضوع يتبعه انحناءٌ تحت نير جديد. يقول ألبير كامو: «الأمل، عكس ما نظنّ، يُعادل الرُّضوخ. والحياة هي في عدم الرُّضوخ». من فكرة المُنقذ المنتظر جاء حُلم الشعوب المقهورة والضعيفة بالبطل المُرتجى، تبحث عنه كي تؤلّهه، ولن تُرفع إليه الأبصار إن كان حيّاً، وإذا كان ميّتاً تُعينهم ذكراه على تحمُّل الضَّيم الذي يكابدونه. في كلّ بلد ضعيف لا بدّ أن يكون هناك بطلٌ يلجأ إليه الفقراء والبُؤساء، يرسمون له الأساطير التي لا تحكي الواقع بطبيعة الحال، لكنّها تعكس حالة الضعف والخَوَر اللّذيْن يستلبان نفوس المؤمنين بمنقذهم، الذين يُغالون في تبجيله إلى درجة أنهم ربما راحوا يتطلّعون إلى صورته منقوشة على صفحة القمر، وهذا ما جرى حقّاً وفعلاً للعراقيين إِثْرَ مقتل عبد الكريم قاسم على أيدي انقلابيّي «8 شباط»، ثم قام هؤلاء برمي جثمانه في النهر، كي يتخلّصوا من حُبّ النّاس وتقديسهم، فانتقل هذان الفعلان إلى السماء، بعد أن لم يعثر مُريدوه على أثر له على الأرض، وصاروا يتطلّعون إلى صورته في اللّيالي القمراء، والبعض منهم تفيض عيونه بالدُّموع.

لا يُشترط في البطل أن يكون غائباً، أو لديه صفات هذه المرتبة الخارقة من القدسيّة والبطولة، بل يمكن أن يكون أحد الذين يعيشون بيننا، أو شخصاً غريباً وقَدَرِيّاً يُرفع إلى هذه المكانة عنوة، ولا يستطيع التراجع عنها لأنّ في ذلك خطراً يتهدّد حياته، فهي صارت أوّلاً وأخيراً بأيدي مريديه. هناك نوع من اشتباك مصائر يعيشه الطرفان: الجماهير تنظر إلى البطل على أنّه حامي ديارها وأرواحها من الخراب والفناء، والمنقذ يتطلّع بدوره إلى هؤلاء، في سبيل بقاء الصفات المبجّلة التي أسبغوها على شخصه.

فكرة البحث عن قائد مظفّر تتوّجه أكاليلُ المجد والغار قديمة لدى الإنسان، وجديدة أيضاً. الأرض تدور كلّ يوم، وفي كلّ سنة من أعمارنا، في شرقنا (السعيد) ثمّة بطل دَوْماً. عندما يغيب العدل في المجتمع يحتاج كلّ جيل إلى ابتكار مُنقذ جديد، من مزاياه أنّه ليس مخلّداً مثل رموز الأساطير الدينيّة، بل هو كائن حيّ له عمرٌ لا يتجاوز عمر البشر، يتمّ دفنه بعد فنائه ليولد بطلٌ جديد يعيش مع الأبناء إلى المحطّة الأخيرة، يترجّل بعدها تاركاً مقعده إلى مُنقذ أكثر جِدّة يواكب الرحلة مع الأحفاد؛ لأنّه لا طاقة لنا على العيش دون هؤلاء الفاتحين.

البطل في الحُلم يُقابله إنسان مهزوم ومأزوم في الواقع، هكذا هي القاعدة في علوم الاجتماع والطبّ والنفس، والفارق بين الاثنين كبير إلى درجة أن الناس يعيشون في ظلّ منقذهم في حال من الرِّقّ الجماعيّ، بكلّ ما في قوّة أنظمة الاسترقاق القديمة من سلطة القانون، وما كانت تحمل من أغلال اجتماعيّة وأخلاقيّة. وإن كان الأمر يحصل بصورة غير ظاهرة للعِيان، لكنّ شكل الحياة الأخير مطابق لذلك الناتج من حالة الاستعباد الجماعي الذي ودّعته البشريّة منذ قرون.

بالإضافة إلى العبوديّة، لا يمثّل البطل في هذا الزمان رمزاً قوميّاً يشدّ من أزر الجميع؛ لأننا نعيش في بلدان متعدّدة الأعراق والمعتقدات والأرومات، ولهذا السبب رحنا نبتكر أكثر من بطلٍ واحد: اثنين أو ثلاثة أو أكثر، يتحوّلون بمرور الوقت إلى أداة للفُرقة، تصيرُ بسبب التشاحن الدائم جزءاً من دمائنا، لتدور عجلة الحرب الأهليّة (الباردة) في البلاد، تدوم طويلاً لأن أسبابها باقية وتتقوّى مع السنين، ويوماً ما سوف تسخن حتماً وتتفجّر إلى هستيريا جماعيّة تستيقظ فيها نوازع الشرّ والتوحّش القديمة النائمة، ويتقاتل عندها الجميع ضدّ الجميع، ليصير الحلّ بتدخّل قوى أجنبيّة (استعماريّة) تُنقذ بقيّة الحياة والعِباد.

عندما تكون حياة الإنسان زهيدة - لأن الشعب عبارة عن مجموعة من الرّقيق - تُرتكبُ أقسى الجرائم بشاعةً. وعندما تكون الحريّة مبذولة، وتسود العدالة الجميع، عندها فقط يختلف وعي الأمة وسوف تجد مُنقذَها من داخلها لا من الغيب. يحتاج الجمهور آنذاك إلى بطل قدوة من نوعٍ ما يتطلّع إلى بلوغ مكانته الجميع، ويحقّق لهم هذه الفكرة الرسّام والموسيقيّ والشاعر والمهندس... مثلما يجري الآن في الأمم المتحضّرة. من هنا جاءت فكرة النجم في المجتمع المستقرّ الهانئ بعيشته، وليس للأمر علاقة بالمال ورأس المال، وغير ذلك من كلام يُضيّق على النفس ويصدّع القلب والرأس.