«عرب أفغانستان»... وصفة لفهم تركيبة الأعراق المختلطة

يعتقدون أنهم من السلالات الأولى التي نشرت الدين الإسلامي في البلد

دونا ويلكر رفيقة المؤلف التي تمكن بمساعدتها من جمع بيانات حول النساء في أفغانستان
دونا ويلكر رفيقة المؤلف التي تمكن بمساعدتها من جمع بيانات حول النساء في أفغانستان
TT

«عرب أفغانستان»... وصفة لفهم تركيبة الأعراق المختلطة

دونا ويلكر رفيقة المؤلف التي تمكن بمساعدتها من جمع بيانات حول النساء في أفغانستان
دونا ويلكر رفيقة المؤلف التي تمكن بمساعدتها من جمع بيانات حول النساء في أفغانستان

تتميز دراسة «عرب وسط آسيا في أفغانستان... التحول في نظام الرعي البدوي»، التي صدرت طبعتها العربية الثالثة أخيراً، بأنها تتعدى مساحة البحث الأفغانية لتساهم في فهم تركيبة الدول مختلطة الأعراق، والتعامل معها على أسس علمية دقيقة، في المجالات الاقتصادية والسياسية والثقافية على السواء.
وهي دراسة جادة دخلت أعماق مجموعة من الناس ينتسبون إلى العرب، ويعتقدون أنهم من السلالات العربية الأولى التي نشرت الدين الإسلامي في تلك الديار. ومنهم من يعتقد أنهم من العرب الذين أحضرهم تيمورلنك إلى تلك الديار بعد أن استولى على دمشق.
صدرت الدراسة عن «مركز البحوث والتواصل المعرفي»، وأعدها البروفسور توماس جي. بارفيلد، ونقلها إلى العربية المترجم المختص في شؤون وسط آسيا محمد بن عودة المحيميد. وتصّور هذه الدراسة وضع أقلية عربية في السبعينات من القرن العشرين، تعيش في شمال شرقي أفغانستان، وتمارس الرعي بالارتحال إلى مواطن الكلأ في منطقة قطغن من محافظة قندوز وجبال بدخشان فوق جبال البامير، وتتميز بعاداتها وتقاليدها، ورغم أنها فقدت لغتها العربية، لكن ظلت هويتها العربية راسخة.
وكانت الدراسة في الأصل مشروعاً تقدم به بارفيلد لنيل درجة الدكتوراه في جامعة هارفارد عام 1978، ونشر باللغة العربية بترجمة محمد المحيميد في طبعته الأولى والثانية في «مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية» عامي 2002 و2010. أما الطبعة الثالثة فصدرت مؤخراً عن «مركز البحوث والتواصل المعرفي». وتميزت الطبعة الأخيرة بدقة تحريرها واحتوائها على تصويبات وإضافات وملحق بالصور المعبرة من أرشيف المؤلف نفسه.
يتوزع الكتاب على مقدمة، وخاتمة، و6 فصول... فقد هدف بارفيلد من خطة البحث إلى الوصول لفهم للاقتصاد الرعوي وعلاقته بالتركيبة الاجتماعية البدوية، بيد أنه سرعان ما أصبح من الواضح على أرض الواقع، أن البحث يجب أن يتوسع ليتناول البدو بصفتهم جزءاً من نظام إقليمي، ويشمل اتصالاتهم مع الأسواق الحضرية، والقرى الزراعية، والهياكل الحكومية. ويركز بصورة أساسية على تحول الرعي من الأغراض المعيشية إلى غرض تجاري بحت لكثير من البدو، ومنهم العرب، بعد التنمية التي حدثت في أفغانستان وفي منطقة قطغن بوجه خاص، وتشييد الطرق واستصلاح الأرض للزراعة وفتح منافذ لتسويق الفائض من الأغنام، فارتفعت أسعار الأغنام بشكل كبير، مما جعل كثيراً من العرب يتخلى عن الرحيل بأسرهم من أجل الكلأ إلى المراعي دون أن يتخلوا عن مهنة الرعي، وعملوا بالاستثمار في حواضر المدن والاشتغال بالزراعة إضافة إلى الرعي.

- دراسة أنثروبولوجية
تُمثل الدراسة - كما يقول المؤلف - وصفاً إثنوغرافيّاً لعرب وسط آسيا، وهم فئة لا يُعرف عنهم إلا القليل، يقطنون في الشمال الشرقي لأفغانستان، كما تُقدّم توضيحاً للتغيرات التي طرأت على طريقة معيشتهم خلال السنوات الخمسين الماضية.
تميّز الدراسة الأنثروبولوجية (علم الإنسان الوصفي)، بين نظام الرعي الذي تُعد الأغنام فيه جزءاً من الاقتصاد للأغراض المعيشية، وبين النظام الذي تُعد الأغنام فيه أشياء ربحية؛ «محصولاً نقديّاً». وجاء هذا التمييز ليكون المفتاح في فهم التحول الذي طرأ على نظام الرعي البدوي في قَطَغن، إلى صيغة تجارية على نطاق واسع، وهو أيضاً يساعد على شرح ما يبدو أنهما نموذجان متعارضان للعمليات الاقتصادية في محيط البدو الرعاة.
ويلاحظ مترجم الكتاب محمد بن عودة المحيميد أن هذه الدراسة تسدّ نقصاً في المكتبة العربية التي تعاني نقصاً شديداً في الدراسات الأنثروبولوجية الإثنوغرافية التي تتناول المجموعات العرقية في العالم.
ويضيف أن «هذه الدراسات مهمة في فهم تركيبة الدول المختلطة الأعراق، والتعامل معها على أسس علمية دقيقة، في المجالات الاقتصادية والسياسية والثقافية على السواء». وقد أفاد الغرب من هذه الدراسات كثيراً وأخذ المعلومات التي تتعلق بشعوب العالم مأخذ الجد، فنفعته ودعمت مصالحه السياسية والاقتصادية والثقافية.
ولا يقتصر المؤلف في دراسته على هذه المجموعة الموجودة في أفغانستان، وإن كانت محوراً رئيسياً فيها؛ إذ يعود إلى الخلف ليلقي الضوء على تاريخ هذه المجموعة، والهجرات التي قامت بها. ويحدثنا عن تاريخ العرب في وسط آسيا عموماً، ويستعرض الدراسات والإحصاءات المتعلقة بها.
يقول المؤلف: وصلتُ إلى أفغانستان في يناير (كانون الثاني) عام 1975 وفي ذهني هذه المشكلة الأنثروبولوجية، وكنت قد قمت قبل ذلك برحلتين استكشافيتين في صيفي عام 1973 و1974، وعلى عدم توفيرهما بيانات إثنوجرافية لي؛ إلا إنهما مكنتاني من إجراء اتصالات ثبت في النهاية أنها في غاية النفع».

- تعريف البدو
يرى الكتاب أن القضية الأولى التي لا بد من إثارتها؛ هي: تعريف البدوي محترف الرعي، فقد ابتُليت دراسة البدو بالافتتان بالتصنيفات الأكاديمية، وأدت هذه الدراسات التصنيفية النابعة من علم الجغرافيا الثقافية إلى سوء فهمنا للبداوة أكثر من أن تقدم تبصراً أعمق لطبيعة هذا النمط من الحياة.
في حين قدم بيكون (1954) تصنيفاً كلاسيكياً للبداوة غالباً ما يستشهد به؛ وهذا التصنيف قسّم البدو إلى ثلاث طبقات: البدو الأقحاح، وأشباه البدو، وأشباه المستقرين، معتمداً في هذا التقسيم على المدة الزمنية التي تقضيها كل فئة في الترحال ومزاولة الزراعة... فالبدوي القح يعيش في خيمة طوال السنة، ويربي الحيوانات فقط، أما غيره شبه المستقر فيعيش في منزل، ويزاول بعض الزراعة، ويربي الحيوانات، ويمضي جزءاً من العام في خيمة.
ويرى المؤلف أن هناك مشكلات في التعامل مع هذا التصنيف، فالتحرك وعدم مزاولة الزراعة إذا لم يجر تناولهما وفق بيئة محددة؛ فلن يقدما إلا القليل في إطار هذا التصنيف، وظاهريّاً؛ فإن البدوي القح لا بد من أن يكون مختلفاً جداً عن البدوي شبه المستقر، إلا إن النظرة الفاحصة إلى الأسباب التي تجعل بعض البدو أكثر تحركاً من بدو آخرين تؤدي إلى نتيجة غير السابقة.
وهو يعتقد أن النتيجة المؤسفة لهذه التصانيف هي استدامة أسطورة «البدوي القح»، وبالطبع؛ فإن أفضل البدو الأقحاح هم الذين يقطنون في الخيام طوال السنة ولا يشتغلون بالزراعة مطلقاً، ويعدّ وسط آسيا؛ الذي تشكل حدوده الجنوبية مجال هذه الدراسة، الموطن التقليدي للبدو الأقحاح. يلاحظ كذلك أن البدوي «القح»، رغم هذا النموذج الأول؛ ظل غامضاً إلى حد بعيد عبر القرون... فلقد بدا «الهسيونج نو» الذين عاشوا على الحدود الصينية في القرن الثاني قبل الميلاد بدواً أقحاحاً مثاليين حتى كُشف النقاب عن أن خُمس مجموع دخل الإمبراطورية الصينية السنوي قد استخدم لاستمالتهم. ومنذ ذلك الوقت كانت للقبائل البدوية على الحدود الصينية علاقات تجارية وابتزاز مع الإمبراطورية الصينية. هذه العلاقات أنتجت القليل فقط من المشردين الذين كانوا هم حقاً بدواً أقحاحاً، وهذا ما حدا بـ«لاتيمور» أن يعلن: «إن البدوي القح هو حتماً البدوي الفقير» (1940).

- العرب في قَطَغن
يتناول الكتاب وضع الأقلّية العربية في منطقة قطغن من محافظة قندوز وجبال بدخشان فوق جبال البامير، والتي كانت تعيش في شمال شرقي أفغانستان، وتمارس الرعي بالارتحال إلى مواطن الكلأ، ولها عاداتها وتقاليدها، ومع أنها فقدت لغتها العربية، إلا إن هويتها العربية ظلت راسخة.
المنطقة التي تعيش فيها هذه الأقلية العربية كانت محفوفة بالمخاطر، من حيث الأوبئة وعمليات الترحيل. ويقول المؤلف: «تحتضن منطقة قَطَغن نهري قندز وخان آباد مجتمعين مع جزء من نهر آمو قبل دخوله الصحراء... وعندما تنساب هذه الأنهار من منابعها الجبلية وتصل إلى السهول تغمر مياهها وديان مستنقعات القصب الواسعة بالراسب الطفالي مع الملاريا المستوطنة المشهورة ببشاعتها في جميع أنحاء أفغانستان، وكان المثل المشهور يقول: (إذا أردت أن تموت؛ فاذهب إلى قندز)، وقد وجد (وود) الذي كان يزور قندز عام 1838 أنها: (مكان لا يصلح إلا لسكن الطيور المائية، ونتيجة لذلك لم تكن المنطقة جميعها مأهولة بالبشر إلا بقدر ضئيل جداً».
أما جبال بدخشان؛ فقد نجت من الأوبئة لأنها منطقة جبلية، لم تُبْتَلَ بأمراض السهول؛ إلا إنها في الثلاثينات من القرن التاسع عشر عانت أعمال السلب التي كان يقوم بها مير قندز مراد بك، الذي لم يكتف بشن الغارات على المناطق الحدودية من الغرب، بل أخلى شخصيّاً بدخشان من السكان في محاولة منه لإحلال أقوام من طاجيك الجبال في قَطَغن.
وقد سببت سياسة إجلاء السكان التي اتبعها مراد بك أولاً، ثم سيطرة الأفغان على بدخشان ثانياً، توفير المراعي الجبلية، وهذا سهل قدوم العرب إلى الأراضي المرتفعة، وكما كانت الحال في بخارى: تحالف العرب مع الأوزبك وخضعوا لسيطرة الدولة التي كانت في هذه الحالة الدولة الأفغانية، مقابل استخدام أفضل المراعي في المنطقة.
وحتى عهد أمان الله (1919 – 1929)، كانت قَطَغن تُحكم بشكل عشائري، وفي عام 1921 أعاد نادر خان، وزير الحرب الذي أصبح ملكاً فيما بعد، تنظيم قَطَغن على نمط بيروقراطي.
في عام 1884 قدرت تقارير سريّة عن العرب على حدود أفغانستان كتبتها الفرق البريطانية التي قامت بمهمة مسح الحدود الأفغانية، وهي التي تقدم معلومات غزيرة عن العرب أفضل مما تضمنته أحدث المصادر، فقد وجد الإنجليز أن العرب كانوا في عام 1884 يشكلون المجموعة الثانية من حيث الكثافة السكانية في سهول تركستان، وهذا (الإحصاء) يستبعد أولئك العرب الذين استوطنوا في قَطَغن؛ لأنهم مع قدم استيطانهم في هذه المنطقة، تحاشوا أن يكونوا طرفاً في النزاعات السياسية.
يخلص الكتاب كذلك إلى أن العرب في أفغانستان مرتبطون بالاقتصاد الإقليمي ومشروعات الدولة والحكومة الوطنية. وعلى انعزالهم، فيما يبدو، إلا إنهم عبر تاريخهم كانوا متأثرين بالعالم الخارجي. فقد تأثر نظامهم الرعوي البدوي بالتغيرات السياسية، والمعاهدات العالمية، والتحولات في طلبات السوق. وعملهم أكثر من مجرّد نقل الأغنام من مكان إلى آخر، فالبدو الرعاة في قَطَغن ملتحمون بالاقتصاد الإقليمي بشكل فعلي، وبمقارنتهم بمزارعي القمح؛ فهم أكثر ارتباطاً بالأسواق الحضرية.


مقالات ذات صلة

«فلسفة هيوم»... زيارة جديدة لأحد أهم مفكري القرن الثامن عشر

ثقافة وفنون «فلسفة هيوم»... زيارة جديدة لأحد أهم مفكري القرن الثامن عشر

«فلسفة هيوم»... زيارة جديدة لأحد أهم مفكري القرن الثامن عشر

عن دار «أقلام عربية» بالقاهرة، صدرت طبعة جديدة من كتاب «فلسفة هيوم: بين الشك والاعتقاد» الذي ألفه الباحث والأكاديمي المصري د. محمد فتحي الشنيطي عام 1956

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق ذاكرة إسطنبول المعاصرة ورواية أورهان باموك الشهيرة في متحف واحد في إسطنبول (الشرق الأوسط)

«متحف البراءة»... جولة في ذاكرة إسطنبول حسب توقيت أورهان باموك

لعلّه المتحف الوحيد الذي تُعرض فيه عيدان كبريت، وبطاقات يانصيب، وأعقاب سجائر... لكن، على غرابتها وبساطتها، تروي تفاصيل "متحف البراءة" إحدى أجمل حكايات إسطنبول.

كريستين حبيب (إسطنبول)
كتب فرويد

كبار العلماء في رسائلهم الشخصية

ما أول شيء يتبادر إلى ذهنك إذا ذكر اسم عالم الطبيعة والرياضيات الألماني ألبرت آينشتاين؟ نظرية النسبية، بلا شك، ومعادلته التي كانت أساساً لصنع القنبلة الذرية

د. ماهر شفيق فريد
كتب ناثان هيل

«الرفاهية»... تشريح للمجتمع الأميركي في زمن الرقميات

فلنفرض أن روميو وجولييت تزوَّجا، بعد مرور عشرين سنة سنكتشف أن روميو ليس أباً مثالياً لأبنائه، وأن جولييت تشعر بالملل في حياتها وفي عملها.

أنيسة مخالدي (باريس)
كتب ترجمة عربية لـ«دليل الإنسايية»

ترجمة عربية لـ«دليل الإنسايية»

صدر حديثاً عن دار نوفل - هاشيت أنطوان كتاب «دليل الإنسايية» للكاتبة والمخرجة الآيسلندية رند غنستاينردوتر، وذلك ضمن سلسلة «إشراقات».

«الشرق الأوسط» (بيروت)

كبار العلماء في رسائلهم الشخصية

فرويد
فرويد
TT

كبار العلماء في رسائلهم الشخصية

فرويد
فرويد

ما أول شيء يتبادر إلى ذهنك إذا ذكر اسم عالم الطبيعة والرياضيات الألماني ألبرت آينشتاين؟ نظرية النسبية، بلا شك، ومعادلته التي كانت أساساً لصنع القنبلة الذرية: الطاقة = الكتلة × مربع سرعة الضوء. واسم العالم الإيطالي غاليليو؟ سرعة سقوط الأجسام واكتشاف أقمار كوكب المشترى وذلك باستخدام تلسكوب بدائي. واسم العالم الإنجليزي إسحق نيوتن؟ قانون الحركة. واسم عالم التاريخ الطبيعي الإنجليزي تشارلز دارون؟ نظرية التطور وأصل الأنواع عن طريق الانتخاب الطبيعي. واسم عالم النفس النمساوي سيغموند فرويد؟ نظرية التحليل النفسي ودراسة اللاشعور. نحن إذن نعرف هؤلاء الرجال من خلال اكتشافاتهم أو اختراعاتهم العلمية. ولكن كيف كانوا في حياتهم الشخصية؟ ما الجوانب البشرية، بكل قوتها وضعفها، في شخصياتهم؟ أسئلة يجيب عنها كتاب صادر في 2024 عن دار نشر «بلومز برى كونتنام» في لندن عنوانه الكامل: «رسائل من أجل العصور: علماء عظماء. رسائل شخصية من أعظم العقول في العلم».

Letters for the Ages: Great Scientists. Personal Letters from the Greatest Minds in Science.

غلاف الكتاب

أشرف على تحرير الكتاب جيمز دريك James Drake، ويقع في 275 صفحة ويمتد من «الثورة الكوبرنطيقية» إلى نظرية «الانفجار الكبير» التي تحاول تفسير أصل الكون. أي من عالم الفلك البولندي نيقولا كوبرنيكوس في القرن السادس عشر، وقد أحدث ثورة علمية بإثباته أن الشمس تقع في مركز النظام الشمسي وأن الأرض وسائر الكواكب تدور حولها، وصولاً إلى عالم الطبيعة الإنجليزي ستيفن هوكنغ في القرن العشرين ونظرياته عن الدقائق الأولى من عمر الكون والانفجار الكبير والثقوب السوداء.

الكتاب مقسم إلى عشرة فصول تحمل هذه العناوين: الإلهام، النظرية، التجريب، المنافسة، الاختراق، الابتكار، خارج المعمل، العلم والدولة، العلم والمجتمع، على مائدة التشريح.

تسجل هذه الرسائل الصداقات والمنافسات التي حفلت بها حياة هؤلاء العلماء، دراما النجاح والإخفاق، ومضات الإلهام والشك، وكيف حققوا منجزاتهم العلمية: اللقاحات الطبية ضد الأوبئة والأمراض، اختراع التليفون، محركات السيارات والقطارات والطائرات، الأشعة السينية التي تخترق البدن، إلخ... وتكشف الرسائل عن سعي هؤلاء العلماء إلى فهم ظواهر الكون ورغبتهم المحرقة في المعرفة والاكتشاف والابتكار وما لاقوه في غمرة عملهم من صعوبات وإخفاقات وإحباطات، ولحظة الانتصار التي تعوض كل معاناة، ومعنى البحث عن الحقيقة.

مدام كيوري

إنهم رجال غيروا العالم أو بالأحرى غيروا فكرتنا عنه، إذ أحلوا الحقائق محل الأوهام وشقوا الطريق إلى مزيد من الاقتحامات الفكرية والوجدانية.

هذه رسالة من غاليليو إلى كبلر الفلكي الألماني (مؤرخة في 19 أغسطس 1610) وفيها يشكو غاليليو من تجاهل الناس – بمن فيهم العلماء - لنظرياته على الرغم من الأدلة التي قدمها على صحتها: «في بيزا وفلورنسا وبولونيا والبندقية وبادوا رأى كثيرون الكواكب ولكن الجميع يلزم الصمت حول المسألة ولا يستطيع أن يحزم أمره لأن العدد الأكبر لا يعترف بأن المشترى أو المريخ أو القمر كواكب. وأظن يا عزيزي كبلر أننا سنضحك من الغباء غير العادي للجموع. حقاً كما أن الثعابين تغمض أعينها فإن هؤلاء الرجال يغمضون أعينهم عن نور الحقيقة».

آينشتاين

وفي مطلع القرن العشرين أجرت ميري كوري – بالاشتراك مع زوجها جوليو كوري - أبحاثاً مهمة عن عنصر الراديوم. وقد كتب لها آينشتاين في 1911 يشد من عزمها ويعلن وقوفه بجانبها في وجه حملات ظالمة كانت قد تعرضت لها: «السيدة كوري التي أكن لها تقديراً عالياً... إنني مدفوع إلى أن أخبرك بمدى إعجابي بعقلك ونشاطك وأمانتك، وأعد نفسي محظوظاً إذ تعرفت على شخصك في بروكسل».

وفي أثناء الحرب العالمية الثانية كتب عالم الطبيعة الدنماركي نيلز بور إلى رئيس وزراء بريطانيا ونستون تشرشل (22 مايو 1944) عن التقدم الذي أحرزه بور وزملاؤه في صنع السلاح النووي: «الحق إن ما كان يمكن أن يعد منذ سنوات قليلة ماضية حلماً مغرقاً في الخيال قد غدا الآن يتحقق في معامل كبرى ومصانع إنتاج ضخمة بنيت سراً في أكثر بقاع الولايات المتحدة عزلة».

يونغ

وتبين الرسائل أن هؤلاء العلماء – على كل عظمتهم في ميادين تخصصهم - كانوا بشراً يخضعون لما يخضع له سائر البشر من عواطف الحب والكراهية والغيرة. فعالم الرياضيات الإنجليزي إسحق نيوتن، مثلاً، دخل في خصومة مريرة مع معاصره الفيلسوف الألماني لايبنتز حول: أيهما الأسبق إلى وضع قواعد حساب التفاضل والتكامل؟ وظل كل منهما حتى نهاية حياته يأبى أن يعترف للآخر بالسبق في هذا المجال.

وسيغموند فرويد دخل في مساجلة مع كارل غوستاف يونغ تلميذه السابق الذي اختلف معه فيما بعد وانشق على تعاليمه. وآذنت الرسائل المتبادلة بين هذين العالمين بقطع كل صلة شخصية بينهما. كتب يونغ إلى فرويد في 18 ديسمبر (كانوا الأول) 1912: «عزيزي البروفيسور فرويد: أود أن أوضح أن أسلوبك في معاملة تلاميذك كما لو كانوا مرضى خطأ. فأنت على هذا النحو تنتج إما أبناء أرقاء أو جراء (كلاباً صغيرة) وقحة. ليتك تتخلص من عقدك وتكف عن لعب دور الأب لأبنائك. وبدلاً من أن تبحث باستمرار عن نقاط ضعفهم، ليتك على سبيل التغيير تمعن النظر في نقاط ضعفك أنت».

تبين الرسائل أن هؤلاء العلماء ـــ على كل عظمتهم في ميادين تخصصهم ــ كانوا بشراً يخضعون لما يخضع له سائر البشر من عواطف الحب والكراهية والغيرة

وقد رد عليه فرويد من فيينا بخطاب مؤرخ في 3 يناير (كانوا الثاني) 1913 قال فيه: «عزيزي الدكتور: إن زعمك أنني أعامل أتباعي كما لو كانوا مرضى زعم غير صادق على نحو جليّ. وأنا أقترح أن ننهي أي صلات شخصية بيننا كلية. ولن أخسر شيئاً بذلك».

ما الذي تقوله لنا هذه الرسائل بصرف النظر عن الخصومات الشخصية العارضة؟ إنها تقول إن العلم جهد جماعي وبناء يرتفع حجراً فوق حجر فآينشتاين لم يهدم نيوتن وإنما مضى باكتشافاته شوطاً أبعد في مجالات المكان والزمان والجاذبية.

إن العلم ثقافة كونية عابرة للحدود والقوميات والأديان، والعلماء بحاجة دائمة إلى صحبة فكرية والحوار مع الأقران وإلى زمالة عقلية وتبادل للآراء والنظريات والاحتمالات. والعالم الحق يعترف بفضل من سبقوه. فنيوتن الذي رأيناه يخاصم لايبنتز يقر في سياق آخر بدينه لأسلافه إذ يقول في رسالة إلى روبرت هوك – عالم إنجليزي آخر – نحو عام 1675: «إذا كنت قد أبصرت أبعد مما أبصره غيري فذلك لأنني كنت أقف على أكتاف عمالقة» (يعني العلماء الذين سبقوه). وفى موضع آخر يقول – وهو العبقري الذي وضع قوانين الحركة والجاذبية - ما معناه: «لست أكثر من طفل جالس أمام محيط المعرفة الواسع يلهو ببضع حصى ملونة رماها الموج على الشاطئ».