«طعنة في الظهر»، «خيانة»، «خيبة»، «قرار مؤسف»، «إخلال بالالتزامات»... هذه بعض العبارات التي استخدمها كبار المسؤولين الفرنسيين، أمس، تعليقاً على قرار رئيس الوزراء الأسترالي فسخ عقد «صفقة القرن» المبرم عام 2016 بين باريس وكانبيرا، الذي بموجبه تقوم شركة الصناعات البحرية بتوفير 12 غواصة تعمل بالدفع التقليدي «ديزيل - كهرباء» بقيمة 56 مليار يورو، والذي وصف وقتها بـ«صفقة العصر».
والحال، أن الجانب الأسترالي قرر التخلي عن صفقته مع باريس لصالح حيازة 8 غواصات أميركية الصنع تعمل بالطاقة النووية، الأمر الذي كان بمثابة «مفاجأة» لباريس. وتفيد معلومات متوافرة في العاصمة الفرنسية أن الجانب الفرنسي علم بالنبأ المحبط عبر الصحافة، وأن باريس لم تخطر به من قبل كانبيرا، وفق ما تقضي أعراف التعامل بين الدول، وخصوصاً التي يرتبط بعضها بعلاقات صداقة وثقة.
- انتقادات فرنسية حادّة
الرد الفرنسي جاء عنيفاً. وسهام باريس لم تستهدف أستراليا فقط، بل أيضاً لندن، وخصوصاً واشنطن، إذ إنها تعتبر أن القرار الأسترالي ما كان ليحصل من غير تشجيع أميركي. وقد أعلن القرار الأسترالي عقب قمة عبر تقنية الفيديو ضمّت الرئيس الأميركي ورئيسي وزراء بريطانيا وأستراليا. وما زاد من إحباط باريس أنه كان من المفترض أن يجتاز الاتفاق مرحلة مهمة مع نهاية الشهر الحالي، من خلال التوافق على «الهندسة الأساسية» للغواصات الـ12 مع بناء نموذج تجريبي عام 2023. وسارع وزير الخارجية الفرنسي إلى التعبير عن غضب بلاده في حديث صباحي لإذاعة «فرانس أنفو» بقوله: «كنا أقمنا علاقة مع أستراليا، والطرف الأسترالي خان الأمانة». وأضاف أن ما أصاب باريس هو «طعنة في الظهر، وأنا أشعر بالغضب، لأن أمراً كهذا لا يجب أن يحصل بين حلفاء». وصوّب لو دريان مباشرة على الرئيس الأميركي جو بايدن بقوله إن «هذا القرار أحادي الجانب، الفظّ، وغير المتوقع، يذكّرنا بما كان يقوم به السيد ترمب»، في إشارة إلى سياسة الرئيس الأميركي السابق الذي لم يكن يأخذ بعين الاعتبار مواقف ومصالح شركاء أميركا وحلفائها من الأوروبيين.
وما يزيد من قلق باريس أن ما تعتبره «فضيحة» دبلوماسية وسياسية واقتصادية يأتي بعد مأساة الانسحاب الفوضوي والكارثي من أفغانستان، الذي أمر به بايدن، ولم يستجب لنداءات الأوروبيين الذين طالبوه بتأخير إنهاء عمليات الإجلاء لما بعد نهاية أغسطس (آب)، وهو ما رفضه بشكل قطعي.
- شراكة أمنية تاريخية
لم يأتِ القرار الأسترالي من فراغ، بل جاء نتيجة توافق المثلث الأميركي - البريطاني - الأسترالي، لإقامة «شراكة أمنية» تاريخية، هدفها غير المعلن هو «احتواء» ما تعتبره الدول الثلاث «تمدداً» صينياً في منطقة استراتيجية متواصلة ما بين المحيطين الهندي والهادي. وليس سراً أن بايدن يسعى لإقامة تحالفات إقليمية مع بلاده، أحدها «الشراكة المثلثة»، ورافدها الثاني مشروع التحالف الرباعي الذي يضم الولايات المتحدة والهند وأستراليا وكوريا الجنوبية، والمسمى «كواد». ومن المرتقب أن يستضيف بايدن قمة تجمع الزعماء الأربعة في 24 من الشهر الحالي، على هامش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة.
وصدر بيان مشترك وبالغ التشدد عن وزارتي الخارجية والدفاع الفرنسيتين، أمس، جاء فيه أن قرار فسخ العقد «مخالف لروحية ونصوص التعاون بين فرنسا وأستراليا القائمة على علاقة موسومة بالثقة سياسياً، وعلى تطوير قاعدة صناعية وتكنولوجية عالية المستوى على الصعيد الدفاعي». ويضيف البيان أن الخيار الأميركي الذي يقود إلى «إبعاد شريك وحليف أوروبي كفرنسا من شراكة تأسيسية مع أستراليا، في الوقت الذي نواجه فيه تحديات غير مسبوقة في المنطقة... يعكس غياب الانسجام، وهو الأمر الذي تسجله فرنسا وتأسف له». ويشدد البيان على عزم فرنسا على الاستمرار في «العمل الطموح» الهادف إلى المحافظة على سيادة كل طرف، مؤكداً على أن باريس «شريك يمكن الوثوق به ومستمر في تنفيذ التزاماته في المستقبل وكما كان دائماً».
والخلاصة التي يتوصل إليها الوزيران هي أن قرار أستراليا «المؤسف» سيكون من نتائجه «تعزيز ضرورة التوصل إلى الاستقلالية الاستراتيجية الأوروبية التي هي الخيار الوحيد للدفاع عن مصلحنا وقيمنا في العالم، بما في ذلك في المنطقة المعنية».
وفي السياق عينه، أعلنت مجموعة «نافال غروب» المصنعة للغواصات أنها «أخذت علماً» بالقرار الأسترالي بتفضيل الحصول على غواصات تعمل بالطاقة النووية، بالتعاون مع الولايات المتحدة وبريطانيا، الأمر الذي «يشكل خيبة كبرى للمجموعة». ويشير بيان المجموعة إلى أنها كانت ستوفر للزبون الأسترالي «غواصة تقليدية متفوقة على المستوى الإقليمي مع كفاءات استثنائية»، إضافة إلى أن «نافال غروب» كانت ستوفر لأستراليا السيادة «الصناعية» بفضل نقل التكنولوجيا والمعارف وإيجاد فرص عمل محلية. أما بخصوص التبعات المالية المترتبة على فسخ العقد، فيشير البيان إلى أنها ستكون موضع درس «في الأيام المقبلة». وتقدر هذه التبعات بنحو 250 مليون يورو.
- بوادر أزمة دبلوماسية
بالطبع، سعى سكوت موريسون، رئيس الوزراء الأسترالي، إلى تبرير قراره، بتأكيد أن بلاده «لم تغير رأيها، بل إن ما تغير هو حاجاتها»، مضيفاً أن القرار المذكور كان «صعباً ويشكل خيبة لفرنسا». وتشير مصادر عسكرية إلى أن خيار الغواصات النووية سيوفر للبحرية الأسترالية تقنيات أميركية لم تحصل على مثلها سوى بريطانيا، وأن الغواصات ذات الدفع النووي قادرة على ممارسة الرقابة لمسافات بعيدة حتى بحر الصين ومقابل جزيرة تايوان.
أما الرئيس بايدن، فقد اكتفى بالقول إن لفرنسا «حضوراً مهماً في المنطقة، كما أنها شريك وحليف رئيسي»، من غير الإشارة إلى خيبة باريس التي تؤكد مصادر فرنسية أنها ستثير «أزمة دبلوماسيةّ» بين واشنطن وباريس. بل إن صحيفة «لو موند» المستقلة شبّهتها بالأزمة التي نشأت بين الطرفين عام 2003. عندما عارضت فرنسا غزو العراق. ولا شك أن الشراكة الأمنية الثلاثية، من شأنها تهميش الاتحاد الأوروبي، وخصوصاً فرنسا التي لها الحضور الأكبر على المستوى الأوروبي بشرياً وعسكرياً في المنطقة. وكان من المتوقع أن يشير الرئيس ماكرون إلى هذه المسألة لدى استقباله المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل في لقائهما ليلاً في قصر الإليزيه. ومما لا شك فيه أن «الضربة» الأميركية ستدفع باريس، أكثر فأكثر إلى الترويج لما تسميه «الاستقلالية الاستراتيجية»؛ حيث ترى أن سياسة بايدن كما ظهرت في الملف الأفغاني أو في ملف الغواصات هي «أميركا أولاً» وأن وعود سيد البيت الأبيض لا تتطابق دوماً مع ما يحصل ميدانياً.