أثار قرار الحكومة الأردنية بتكليف وزارة البيئة تعديل حدود محمية ضانا، لاقتطاع مساحة منها بهدف التنقيب عن النحاس، جدلاً واسعاً بين الجمعية الملكية لحماية الطبيعة التي تدير المحمية ويؤيدها دعاة الحفاظ على البيئة، في مقابل الداعمين لأي مشروع يحمل فرصة توفير مصدر دخل إضافي يخفّف من آثار الأزمة الاقتصادية التي تواجهها البلاد منذ سنوات.
وتتعرض المناطق المحمية والموائل الطبيعية في العديد من البلدان لتعديات متزايدة تستهدف اقتطاع مساحات منها، بغطاء رسمي في كثير من الأحيان، أو تجزئتها وتمزيقها بشبكات الطرق والبنى التحتية. فمنذ سنة 2000، خسرت النُظم الإيكولوجية البرية نحو 1.9 مليون كيلومتر مربع من موائلها الطبيعية، أي ما يزيد على 180 مرة مساحة بلد مثل لبنان. وفي البحر، وجد تقييم أممي أن 3 في المائة فقط من مساحة محيطات العالم لم تتعرض بعد للضغط البشري.
- المحميات كأصول اقتصادية
تشكِّل المحميات، إلى جانب كونها حجر الزاوية في حفظ التنوع الحيوي، مخزوناً مهماً لرأس المال الطبيعي والثقافي والاجتماعي، وما ينتج عنه من تدفق للسلع والخدمات التي تعود بالنفع على المجتمعات المهمّشة والفقيرة. وحول العالم، يعتمد نحو 1.1 مليار شخص على مناطق الغابات المحمية لكسب عيشهم. كما تمثّل المحميات البحرية والبحيرات مورداً يضمن للأسر الفقيرة العيش الكريم والأمن الغذائي عبر صيد الأسماك.
وتعدّ المحميات عنصراً فاعلاً في الحدّ من الآثار الحتمية لتغيُّر المناخ، لا سيما ما يتعذر التنبؤ به. وفي حال إدارتها على نحو جيد، يمكن للمناطق المحمية أن تحقق فوائد كبيرة تظهر على شكل عوائد تراكمية تدعم الاقتصاد الوطني وتساعد في تحقيق الأهداف الإنمائية.
في كندا، على سبيل المثال، تحتجز المتنزهات الوطنية نحو 4.43 مليار طن من انبعاثات الكربون، ويمكن أن تصل الكلفة المالية الحقيقية لتحقيق الوظيفة ذاتها بأساليب أخرى إلى نحو 2.2 تريليون دولار. وتختزن المناطق المحمية في المكسيك ما يوازي انبعاثات البلاد من الكربون على مدى 6 سنوات. وعالمياً، يتسبب تغيير استخدام الغابات والنُظم البيئية في إطلاق نحو ربع انبعاثات غازات الدفيئة سنوياً.
وفيما يُعدّ بناء الحواجز الاصطناعية لمواجهة طغيان البحر والعواصف العنيفة أمراً صعباً ومكلفاً، تمثّل الشعاب المرجانية وأشجار المنغروف أكثر الخيارات فعالية من حيث الكلفة في الحفاظ على سلامة السواحل. وتقدّر القيمة الحقيقية للمنغروف كحاجز يحمي السواحل بما يصل إلى 300 ألف دولار لكل كيلومتر من الخط الساحلي.
ولا يدرك أغلب الساسة وعامة الناس القيمة الحقيقية للمناطق المحمية، ولا يتم تسجيل أثرها في الأسواق التقليدية، وبالتالي لا يعتبرها صانعو السياسات أصولاً اقتصادية حقيقية. وعلى سلّم الأولويات الحكومية، تتراجع المحميات إلى مراكز متأخرة، فيندر التمويل المخصص لإنشائها وإدارتها، وعند ظهور أي بوادر لعوائد مالية مباشرة يجري التخلي عنها.
محمية ضانا الأردنية من أهم المحميات في العالم العربي، لما تحويه من تنوع حيوي كبير وبنك جيني طبيعي لمختلف عناصر الحياة البرية، مما أكسبها شهرة عالمية، خاصة في برامج الدراسات والأبحاث. وتنبع أهمية المحمية من وجود بيئات طبيعية مختلفة في مكان واحد، وهي البيئية الجبلية في جبال الطفيلة وبيئة السهوب والبيئة الصحراوية في وادي عربة.
هذا التنوع الطبيعي في محمية ضانا، الذي جعلها موئلاً لنحو 900 نوع نباتي و217 نوعاً من الطيور و38 نوعاً من الثدييات و24 نوعاً من الزواحف، لم يحل دون التوجه رسمياً لاقتطاع مساحات منها بهدف التنقيب عن النحاس. ويهدد التلوث البيئي الناتج عن عمليات التعدين ضانا وجودياً، مثلما فعلت سابقاً صناعة الأسمدة وصناعة الإسمنت بالقضاء على الكثير من أشكال الحياة البرية على الأراضي الأردنية.
وتتكرر في الأردن حالات التعدي على المناطق المحمية. ففي عام 2014 جرى قطع آلاف الأشجار لإنشاء أبنية حكومية في غابات برقش وعجلان. وفي عام 2020 تم تجريف نحو 1600 دونم في أهم المناطق بيئياً ضمن أراضي محمية فيفا واقتلاع قرابة 40 ألف شجيرة لأسباب ترتبط بطبيعة المنطقة الحدودية. ويخشى ناشطون من قضم المزيد من أراضي محمية فيفا بهدف التنقيب عن البوتاس.
ويعيد تقليص مساحة محمية ضانا التذكير بما حصل في محمية الكائنات الحية والفطرية في محافظة الوسطى العُمانية، عندما قررت السلطات تقليص مساحة المحمية إلى 10 في المائة فقط من مساحتها المعلنة سابقاً، بهدف استغلال الأرض في أعمال التنقيب عن النفط والغاز، مما جعل المحمية عام 2007 خارج قائمة مواقع التراث العالمي الطبيعي.
وتحتوي المحمية، التي تعدّ الأولى في عُمان، على تنوع أحيائي فريد وتضاريس وموارد مائية وجيولوجية ضاربة في القدم. ويعيش على أرض المحمية العديد من الحيوانات البرية، إلى جانب 50 نوعاً من الطيور المهاجرة والمستوطنة و189 نوعاً من النباتات البرية. وكان من نتائج تقليص مساحة المحمية القضاء فعلياً على معظم موائل الكائنات المهددة بالانقراض، بما فيها المها، التي تراجعت أعدادها من 450 رأساً عام 1996 إلى 65 رأساً فقط عام 2007.
وفي مصر، تواجه المحميات تهديداً متكرراً بتقليص مساحاتها أو تخصيص قطاعات فيها للاستثمارات السياحية لتحقيق عوائد مادية. وكانت محمية «الغابة المتحجرة» قرب القاهرة قفزت إلى واجهة الإعلام عام 2017 بعد قرار الحكومة المصرية اقتطاع ثلث مساحتها لصالح إقامة مشاريع استثمارية. واستندت وزارة البيئة في تعليل هذا الإجراء إلى تقرير أعده مجموعة من الخبراء خلُص إلى أن المساحة المستبعدة قد فقدت التنوع البيولوجي ولا توجد بها أي أشجار متحجرة.
وتزخر محمية الغابة المتحجرة بجذوع أشجار ضخمة متحجرة ضمن تكوين يُعرف باسم «جبل الخشب»، الذي يبلغ عمره نحو 35 مليون سنة. كما تضم مجتمعاً نباتياً مهمّاً يزيد على 120 نوعاً، إلى جانب تشكيل نادر من الحيوانات والحشرات والزواحف. وسبق للمحمية أن تعرضت إلى تعديات واسعة شملت سرقة الرمال والمتحجرات وإلقاء مخلّفات البناء والقمامة على أطرافها.
وفي سوريا، تسعى السلطات إلى دعم مواردها المالية من خلال طرح عدد من المناطق الشاطئية للاستثمار السياحي، كما في وادي قنديل وبرج إسلام ورأس البسيط وأم الطيور، التي تُصنّف رسمياً مناطق محمية. ويخشى متابعون أن يترك هذا التوجه أثره الكبير على الموائل الطبيعية للأنواع الحية المهددة بالانقراض، مثل السلاحف البحرية والفقمة الناسكة والدلافين وغيرها.
المحميات تخسر مقومات البقاء
يوجد حالياً 22 مليون كيلومتر مربع (16.6 في المائة) من النُظم البيئية للأراضي والمياه الداخلية، و28.1 مليون كيلومتر مربع (7.7 في المائة) من المياه الساحلية والمحيطات، ضمن المناطق الموثّقة المحمية والمحافظ عليها في جميع أنحاء العالم. وهي مساحات تزيد بمقدار 21 مليون كيلومتر مربع عن مساحات المناطق المحمية عام 2010.
ورغم التقدم الحاصل، يعتبر برنامج الأمم المتحدة للبيئة (يونيب) أن العالم فشل في الوفاء بالالتزامات المتعلقة بجودة هذه المناطق المحمية، ذلك أن ثلث مناطق التنوع الحيوي الرئيسية على الأرض أو المياه الداخلية أو المحيط ليست محمية على الإطلاق. كما أن أقل من 8 في المائة من الأراضي المحمية متصلة تتيح للأنواع الحية التحرك بشكل طبيعي وتساهم في صون العمليات البيئية.
ومن أبرز التجاوزات العالمية في المناطق المحمية ما يجري حالياً ضمن الدائرة القطبية الشمالية من تنافس بين الدول على موارد النفط والغاز البحرية، التي باتت في المتناول نتيجة ذوبان الجليد بفعل تغيُّر المناخ. ومثّل التنقيب عن النفط والغاز ضمن المناطق المحمية في ألاسكا موضوعاً أساسياً في الانتخابات الرئاسية الأميركية وهو مثار خلاف مستمر بين السياسيين.
وفي البرازيل، التي تعهد رئيسها بولسونارو خلال حملته الانتخابية سنة 2019 بفتح غاباتها المطيرة أمام الاستثمارات الاقتصادية، تستمر أعمال التحطيب على قدم وساق. ويشير تقرير صدر مؤخراً إلى أن المساحة التي فقدتها غابات الأمازون خلال الفترة بين منتصف 2020 ومنتصف 2021 تزيد قليلاً على مساحة بلد مثل لبنان. وفي جنوب شرقي آسيا، تؤدي زراعة زيت النخيل إلى تدمير مساحة تعادل 300 ملعب كرة قدم من الغابات المطيرة كل ساعة، وفق تقرير صدر عن الصندوق العالمي للطبيعة. كما تؤدي إلى تعريض عدد كبير من الكائنات الحية للانقراض، ولها تأثير كبير في تغيُّر المناخ، ناهيك بتشغيل الأطفال بما يخالف القوانين الدولية.
وتزداد المطالبات حول العالم بتوفير حماية حقيقية للمناطق المحمية تضمن عدم تقليصها أو تمزيقها. وكان آخرها الدعوة التي أطلقتها أمانة «اتفاقية الأمم المتحدة بشأن التنوع الحيوي» للحفاظ على ما لا يقل عن 30 في المائة من المناطق البرية والبحرية العالمية من خلال أنظمة محمية بفعالية، ومدارة على نحو منصف، وممثلة إيكولوجياً، ومتواصلة فيما بينها.
إن ما تشهده المناطق المحمية حول العالم، وفي المنطقة العربية على نحو خاص، يمثّل تراجعاً غير مسبوق بفعل غياب الاستقرار والبحث عن موارد جاهزة لتحقيق مكاسب سريعة ظاهرها التنمية بأي ثمن. وكما تتطلب أزمة المناخ تغييراً منهجياً لمواجهتها، فإن هناك حاجة لإدراك القيمة الحقيقية للمحميات والعمل بجد على تحقيق التنمية المستدامة. ومن المأمول أن تؤدي مبادرة «الشرق الأوسط الأخضر»، التي أعلنتها السعودية بداية هذه السنة وتطلقها رسمياً في منتدى عالمي تستضيفه الرياض نهاية الشهر المقبل، إلى إعادة الاعتبار إلى الموائل الطبيعية وإحيائها، فتتحول إلى سند حقيقي لتنمية مستدامة، تقوم على رعاية الطبيعة وتجديد مواردها لا استنزافها. ويُذكر أن السعودية التزمت، ضمن مبادرتها، برفع رقعة المحميات إلى 30 في المائة من مجمل مساحة المملكة.