شيرين أبو النجا: حلمي الدائم أن يتحول النص النقدي لنص إبداعي

الناقدة المصرية قالت إن تمسكها بنزاهة التحكيم في الجوائز يغضب الكثيرين

شيرين أبو النجا
شيرين أبو النجا
TT

شيرين أبو النجا: حلمي الدائم أن يتحول النص النقدي لنص إبداعي

شيرين أبو النجا
شيرين أبو النجا

ترى الكاتبة والناقدة الأدبية شيرين أبو النجا، أن القراءة فعل إبداعي لا يقل أهمية عن الكتابة؛ ومن خلال عملها أستاذة للأدب الإنجليزي والنقد النسوي في كلية الآداب بجامعة القاهرة، ومتابعتها مجريات الحياة الثقافية على الساحتين العربية والدولية؛ استطاعت أن تُبلور صيغة أدبية تجمع فيها بين النقد والإبداع، في رؤية مهمومة بالواقع الإنساني وقضايا المرأة، لافتة إلى تراجع السؤال النسوي، وأنه أصبح دخيلاً يُطلب منه المغادرة، كما أن المشهد الثقافي لا يبالي كثيراً بأهميته واعتداده باستقلاليته.
في هذا السياق، أصدرت أبو النجا عدداً من الأعمال المهمة، منها «عاطفة الاختلاف»، «نسائي أم نسوى»، «مفهوم الوطن في فكر الكاتبة العربية»، «من أوراق شاهندة مقلد»، «المثقف الانتقالي من الاستبداد إلى التمرد»، ولها رواية وحيدة بعنوان «خيانة القاهرة». بهذه الحمولة المعرفية استطاعت أيضاً أن تحتل موقعاً بين محكّمي الجوائز الأدبية في العالم العربي، عرّضها أحياناً لغضب الكثيرين، مثلما حدث عقب انسحابها من لجنة تحكيم جائزة البوكر العربية 2009.
هنا حوار معها حول هذه المحطات والقضايا، وإلى مدى تشكل اتساقاً في منظومة رؤيتها للواقع والحياة.

> عادة ما يتجاوز صوتك النقدي النظريات التطبيقية إلى سياقات أكثر رحابة حول النص ومشروع الكاتب والجماليات الأدبية، هل تضعين في اعتبارك فكرة الخروج بالنص النقدي من سياجه الجاف والتقليدي؟
- لنقل إنني دائماً ما أطمح إلى تحويل النص النقدي إلى نص إبداعي، فالقراءة فعل إبداعي لا يقل أهمية عن الكتابة - بل ربما أنه فعل يمنح المكتوب وجوداً فكرياً وحيزاً أدبياً. وفي حين أن الكاتب والكاتبة يكتسبان رأسمالهما الرمزي من القدرة على فتح ثغرات جديدة في إمكانية الوجود من خلال مستويات التخييل التي تحول النص إلى عالم مستقل، فإن الناقد والناقدة يكتسبان التميز عبر إعادة ربط النص التخييلي بالواقع «تلك الكلمة المبتذلة». بهذا الربط بين تفاصيل اليومي المعيش والفني المكتوب يمكن أن نتحدث عن إنتاج المعرفة.
بالعودة إلى سؤالك، أعتقد أنه ينبغي علينا أن نؤكد أن النقد التطبيقي لا يكون له أي صدى أو تأثير في الحقل المعرفي إذا لم يكن مستنداً إلى رؤية فكرية متسقة تساعده على إيجاد طريقه في متاهات النظرية. التعامل مع النظريات وكأنها معروضة لنختار منها ما يعجبنا لا يؤدي إلى أي فكرة، بل يتحول إلى رطانة نقدية لا يقرأها أحد ولا تمنح النص حياة جديدة. رؤية العالم ورؤيتنا موقعنا في العالم وهدفنا من توظيف النظرية والمبررات الفكرية والآيديولوجية لاختيار مسار نظري بعينه هو ما يساعد الناقد والناقدة على أن يكون واعياً بموقعه في المجال الأدبي من ناحية وأن يستعيد الهالة المفقودة للنقد الأدبي. تقريباً مع مطلع الألفية تم تحديد وتحجيم واختزال النقد الأدبي في شكل واحد، وهو الاحتفاء بصدور عمل جديد؛ وهو ما دفعني إلى الابتعاد قدر المستطاع عن المشاركة في الندوات وتوقيع الكتب.
> لكِ تجارب طويلة مع التحكيم في الجوائز الأدبية، ما هي برأيكِ العوامل المهيئة لنزاهة النقد والتحكيم؟
- الإجابة أبسط مما تتخيلين: أن تكوني نزيهة فعلياً - من دون أن تحاولي إثبات ذلك - ولديك خبرة حقيقية في القراءة بما يجعلك تختارين هذا الكتاب وليس الآخر. النزاهة أمر يستدعي ألا تكوني واقعة تحت أي ضغوط مؤسسية أو شخصية، وأن يكون لديك الشجاعة الكافية التي تجعلك تدافعين عن اختيارك؛ وأن تكون روحك في النهاية بمنأى عن كل ما لا بد أن تسمعيه وعن كل ثرثرة مواقع التواصل الاجتماعي.
> ما الذي غيّرته الجوائز في خريطة سوق النشر واختيارات القراءة، وهل استطاعت تلك الجوائز أن تحرّك النقد لساحة أكثر جماهيرية؟
- الجوائز فكرة مشروعة للغاية ومن حق الإبداع أن يتم الاحتفاء به ومن حق المبدعين أن يصلهم شعور بالإنجاز والتميز والتقدير. لا يمكن أن أجزم أن الجوائز غيرت سوق النشر؛ فأي دار نشر لا بد أن لها ضوابط ومعايير خاصة ولجنة قراءة، لكن كلمة «لا بد» توحي بحتمية لا أقول إنها متوافرة دائماً، فما أكثر الأشجار التي فقدت حياتها لتتحول إلى ورق به كتابة بائسة لا تعي من نفسها شيئاً. لكن بالتأكيد أصبح القارئ متلهفاً لقراءة كتب اللوائح الطويلة والقصيرة والنصوص التي يُثار حولها زوابع وخلافات. الغريب أن التطور الحادث في أشكال الكتابة التي تحصل على جوائز لم يكن دافعاً لتطور الخطاب النقدي، فقد بقي السؤال عن ماهية الرواية كما هو.
> احتل الأدب النسوي جانباً كبيراً من اهتمامك النقدي، ما هي أبرز أسئلته التي ما زالت برأيك مطروحة إلى اليوم في المشهد الثقافي العربي؟
لم يكن السؤال النسوي مطروحاً إطلاقاً في المشهد الثقافي العربي سوى من أجل التزين ببعض مصطلحات حداثية! وهو ما يفسر طرح البدايات في كل نقاش، وغياب التراكم المعرفي. هناك أصوات نسوية - بأشكال وإيقاعات متعددة - تثير قضايا جادة بعيدة عن الثرثرة والتسطيح وتسعى إلى إعادة قراءة الأرشيف والكشف عن المهمل والمغمور من أجل إعادة التوازن لعلاقات القوى. تنبع إشكالية وجود السؤال النسوي من كونه وُلد من عباءة القومية والتيارات الوطنية بما يجعله مؤقتاً وتابعاً، وظل السؤال محاصراً على مدار التاريخ الحديث بخطابات آيديولوجية وسياسية وفكرية تسعى إلى توظيفه لصالحها، وفي نهاية الطريق دائماً ما يعتبر السؤال النسوي دخيلاً يُطلب منه المغادرة لأنه قام بدوره. يتم إقصاؤه بعنف مجتمعي لصالح استخدام النساء كمؤشر على هوية ثقافية، أي هوية. فكما تظهر الدمية «باربي» في السوق العالمية تظهر أمامها الدمى «سارة» و«فلة» و«وردة». وسط كل هذا لا يبالي كثيراً المشهد الثقافي بأهمية السؤال النسوي الذي يكافح حتى الآن ليحافظ على استقلاليته عن السياسي والديني والمؤسسي، وكأن حضور النساء - المتعلمات، المثقفات، الملبيات للصورة الذهنية المؤسسية - في المجال العام أفقد السؤال أهميته. وهو ما يجعلنا نعيده إلى الصدارة في تقاطعه مع الطبقة، بما يسمح بقراءة خريطة علاقات القوى بوضوح في المجتمع.
> «خيانة القاهرة» هي روايتك الوحيدة. لماذا لم تُكرري تجربة الكتابة الروائية؟ هل النقد والاشتباك مع مئات النصوص الأخرى أحد تلك الأسباب؟
- في «خيانة القاهرة» كنت أخون المحروسة وأفشي أجمل أسرارها، أردت أن أكتبها كما أراها من بعيد. منذ أن كتبت تلك الرواية وأنا أتقدم خطوة وأتأخر عشر خطوات في اتجاه الكتابة، ربما لأن هناك كتابات بديعة كثيرة، ربما أنانية تجعلنا نختفي خلف قناع ما، ربما أنني أكتب ثم أقرأ بعين ناقدة قاسية (الصفات تعود على العين أرجوك). لكن الأكيد أن كتابة رواية ليست بالعمل السهل وقرار وضع اسمك على عمل ما يستحق التفكير سنوات.
> عادة ما تُواكب الاستقالات والانسحابات من الجوائز ثرثرة وشائعات، كالتي صاحبت قرار استقالتك من البوكر، لماذا تُثير لدينا هذه الزوابع برأيك رغم أن الاستقالات حاضرة في تاريخ جوائز الأدبية العالمية؟
- طبعاً، الاستقالات موجودة في كل مكان، لكن ليس في العالم العربي. لن يقبل الآخر - الأعضاء والإعلام والكتاب والمنافسون ومجلس الإدارة - أن استقالة عضو من لجنة التحكيم حدثت بسبب وجود «رائحة عفنة في الدانمرك»، على حد قول هاملت. لا بد أن يكون هناك سيناريو محكم لا يجعلك قادرة على المغادرة ببساطة. فتسمعين أنك استقلت بسبب كتاب لصديقة أو بسبب أحدهم الذي دفعك إلى ذلك، أو مثلاً أنك حصلت على نصف المبلغ....إلى آخره من أسباب تجعل البشر قادرين على مواصلة العيش وعلى النظر إلى وجوههم في المرآة كل صباح. على الجانب الآخر، أرى أن لديهم كل الحق في عدم التصديق، فلم نسمع كثيراً عن استقالات منزّهة عن الأغراض الشخصية. إنه العالم العربي يا عزيزتي: التجييش، القبلية، الشللية، والصراع الدموي على الفتات والانغماس في صغائر الأمور. اللهم أخرجنا منها سالمين وآدميين.
> هناك إرث طويل في العالم العربي من الخلط بين النقد والأهواء الشخصية والمُجاملات. كيف نأيتِ بنفسك من التورط في كل هذا، واستطعت عبر تلك السنوات الحفاظ على نزاهة اسمك النقدي؟
- بنفس بساطة معادلة النزاهة، أرفض التورط وأعرض عن ذلك. وأقبل غضب الكثيرين مني، أسوأ ما في الأمر أنه غضب مسكوت عنه. «يصطفلوا» كما يقول أهل الشام ولبنان.
> من اللافت أن التجريب السردي وألاعيبه وتقنياته بات سمة غالبة في أغلب الأعمال الأدبية خلال السنوات الأخيرة، في مقابل الابتعاد عن كلاسيكية وبساطة البناء السردي، كيف ترين هذه الصورة؟
- العملية الأدبية تواكب - في اللاوعي الجمعي وبعفوية شديدة - العملية الاجتماعية ورؤية العالم - الذي يتغير على مدار الساعة - الذي لم يعد العالم القديم الذي نعرفه. وبالتالي، لا بد من النظر إلى التجريب وعوالم الفانتازيا بوصفها مؤشرات على رفض القائم والكائن، تجريب رؤى جديدة في عالم مغاير. فالتجريب في حد ذاته هو أحد أشكال الثورة على القديم المتكلس عبر اختيار التعبير بشكل غير مألوف ولغة مكثفة ترفض أي فائض إنشائي عتيق. العملية الأدبية ليست ثابتة بل متغيرة وهي أحد أهم المنافذ التي يُمكن من خلالها فهم التغيرات السوسيولوجية المعقدة المختفية تحت السطح. ورغم ذلك، هناك كُتاب لا يزالون ملتزمين بالبناء الكلاسيكي وأعمالهم ممتعة. سمة العصر - عصر الجماهير الغفيرة كما أسماه جلال أمين - أنه يقبل كل أشكال الكتابة الجديدة. كما أن السمة الغالبة الآن هي خوض المغامرة والاستمتاع بالتجريب الفني كالاستمتاع باللعب، فيتورط القارئ مع النص ويجد نفسه مستمتعاً باللعب هو الآخر...تدريجياً تلوح معالم حياة مختلفة.



ثلاثية الحب والحرب والفقر في «سنوات النمش»

ثلاثية الحب والحرب والفقر في «سنوات النمش»
TT

ثلاثية الحب والحرب والفقر في «سنوات النمش»

ثلاثية الحب والحرب والفقر في «سنوات النمش»

بعد تطواف روائي بين تونس في «باب الليل»، وسوريا في «حذاء فلليني»، يعود الروائي المصري وحيد الطويلة في روايته الأحدث: «سنوات النمش»، إلى عالمه الأثير في القرية المصرية، تلك التي عايَن بعض جوانبها في روايات سابقة، مثل «أحمر خفيف» و«الحب بمن حضر»، وفي كل مرة يقدم هذه القرية من منظور مغاير، مكتشفاً جانباً جديداً من قوانينها وجمالياتها، وقواعدها الصارمة ظاهرياً. هذه القواعد والتقاليد نفسها التي لا يتوقف أهل القرية عن انتهاكها سراً، في تواطؤ ضمني مفضوح يعرفه الجميع، لكنهم لا يجرؤون على الإفصاح عنه وإعلانه.

«سنوات النمش» (الصادرة عن «دار المحرر») يشير عنوانها إلى البقع التي تعكِّر البياض، أو اللون الأصلي، فكأن الراوي يرصد السنوات التي كانت مليئة بالبقع في حياته وحياة قريته وناسها، وتدور أحداثها في إحدى قرى الدلتا، شمال القاهرة، عبر راوٍ طفل يسرد الأحداث كلها بعينيه ورؤيته؛ فهو راوٍ مراقِب ومشارِك ومتورِّط؛ إما في الأحداث بشكل مباشر، أو بتعاطفه مع حدث هنا أو هناك، حتى ما وقع قبل ولادته، ويظل يكبر مع الأحداث متابعاً هذه القرية البعيدة عن سيطرة الحكومات المتعاقبة واهتماماتها، أو كما يعتبرها أهلها «على شمال الدنيا»، وأنها ليست موجودة على الخريطة؛ فهي قرية غارقة في الجهل والمرض والخرافة.

زمنياً، يغطي فضاء الرواية المساحة منذ الأربعينات تقريباً، وحتى نهاية القرن العشرين، حين نرى الراوي الطفل وقد صار شيخاً كبيراً يزور المعالم الأثرية في الأقصر مع ابنتيه الشابتين، ويغني مع المغنين الشعبيين. وطوال هذه الفترة ترصد الرواية تحولات هذه القرية منذ العهد الملكي، حين كانت براري لا يسكنها سوى اللصوص وقُطّاع الطرق؛ إذ كانت اللصوصية المهنة الأشهر التي تتباهى بها عائلات القرية، مروراً بثورة يوليو (تموز) وزعامة جمال عبد الناصر، وصولاً لمرحلة الرئيس الأسبق أنور السادات، وانعكاس هذه التحولات السياسية الكبيرة على القرية وقاطنيها.

رواية الطفل للأحداث منحت السرد قدرة كبيرة على الفضح والتعرية، وكشف علاقات الحب الخفية، وما ينتج عنها أحياناً من صراعات، يكون الحب سببها الحقيقي المضمر، الذي يعلمه الجميع، لكن كل أطراف الصراع تدّعي أسباباً أخرى معلنة.

هذه القدرة الطفولية على الفضح منحت السرد قدراً كبيراً من السخرية والكوميديا، فالفضح بطبيعته له سمت كرنفالي ساخر وكوميدي، أقرب إلى المسخرة؛ فمن يبدو في الظاهر وقوراً نرى (بعين الطفل المندهش) باطنه المتهتِّك المحتجب عن الجميع.

قدرة الراوي الطفل على الفضح والتعرية، تطال حتى أخته، كاشفاً عن مدى عشقها للتحكُّم والتسلُّط؛ إذ يمنحها القدر فرصة لممارسة ميولها السلطوية الكامنة فيها، عبر زواجها من ضابط طيب يستجيب لكل طلباتها، فتجد الفرصة سانحة لتمارس أدواره الرسمية في غيابه، فتعطي هي الأوامر للعساكر، وتتواصل مع مديرية الأمن نيابة عنه، كاشفة عن جانبها المتسلِّط الكامن فيها، الذي ما يني يجد نافذة صغيرة لينشط، معلناً وجوده وتمدُّده، حتى إنها تنتظر عودة زوجها الخاضع لسطوتها حباً فيها، لتمارس عليه سطوتها، وتمسك بالميكروفون كأنها ديكتاتور يخطب في شعبه الخاضع، ويكون هو كل جمهورها ورعيتها.

ثمة جانب آخر، تفضحه الحكاية، أو الحكايات التي تترى في تتابع مدهش، وهو الجانب الذكوري المسيطر على هذا العالم القروي البسيط، ممثلاً في استئثار الرجل بالمواريث، ومنع الميراث عن المرأة، فضلاً عن رفض كثير من الرجال أن تتزوج شقيقاتهم، ويكون المعلن أن هذا الرفض بسبب عدم خروج الميراث لرجل غريب، لكن السبب المضمر هو رفض الرجل أن يطأ رجل غريب شقيقته. لكن رغم هذه الذكورية المهيمنة، ثمة تمثيلات على التمرُّد النسوي لكسر هذه القواعد الذكورية المتصلبة، مثل العمة فريال، العزباء التي تصدم الجميع، وتخترق الأعراف والمواضعات الاجتماعية، وتعلن رغبتها في الزواج ثانية، بعد طلاقها من زوجها اللص، ولا تكتفي بإعلان هذه الرغبة التي تنتهك السائد، بل تمعن في التحدي، ولا تكف عن البحث بنفسها عن عريس.

يعتمد الراوي على صيغة الحكي الشعبي الشفاهي؛ فتبدو الرواية كلها وكأنها سلسلة محكيات يرويها الطفل (بعدما كبر) فيستدعي حياته وعلاقاته وما رآه وسمعه في القرية وعنها وعن شخوصها طوال طفولتها، بطريقة أقرب إلى جلسات السمر واستدعاء الذكريات بشكل شفاهي، دون أن يحكمه رابط واضح، فالحكايات تتناسل، دون التزام بتتابع زمني دقيق؛ فقد تأتي حكاية حديثة عن الأب، ثم تتلوها حكاية عن الجد، ثم حكاية عن أحد أصدقاء الطفولة، وحكاية أخرى عن إحدى العمات، فحلقات الحكي تتداخل وتتابع بلا تخطيط مسبق، وتتمثل شفاهية الحكي في أن الراوي قد ينسى بعض الذكريات، وسرعان ما يتذكرها، مثلما يقول في أحد المواضع: «كنت وأبي على الطريق، لا أتذكر إلى أين... لا، لا، تذكرت الآن، كنا في نهاية فقرة من فقرات الشتاء المتقطعة، يغزونا المطر ثم يتوقف ليومين»... هذه الآلية في إعلان النسيان والاستدراك بالتذكر، آلية شفاهية بامتياز. فضلاً عن بدء التذكر بالأجواء والطقس والمطر، وكأن الراوي يعيد تذكر المشهد كاملاً بصرياً، وأنه يحدث الآن أمام عينيه؛ فالحكاية لا تكتمل إلا بتذكُّر تفاصيلها كاملة، بأجوائها، وبتعبيرات الوجوه أحياناً؛ فهو دائماً يرسم مشاهد بصرية مكتملة، ليضع المتلقي الضمني، في قلب الحدث والحكاية.

حكاية القرية، أو مجموع الحكايات الصغيرة التي تشكل عبر تضافرها حكايتها ككل (بما فيها من علاقات حب وصراعات عائلية، وثارات وفقر وحفاء، وطموحات وانكسارات للشخوص الأفراد من آحاد الناس) لا تنفصل عن حكايات أكبر، فحكايتها محض دائرة صغرى، تحتويها دوائر أكبر، منها حكاية الوطن وتحولاته السياسية، من ملكية، إلى نظام جمهوري وأحلام القومية العربية، وتعلّق الأب بزعامة عبد الناصر، ثم مرحلة الانفتاح، وهناك أيضاً دائرة الحروب، بدءاً من الاحتلال الإنجليزي وآثاره الممثلة في بعض الطرق والكباري التي شُيّدت في ظل حكم الاحتلال، ثم حرب فلسطين، ونكسة 67، وصولاً إلى حرب أكتوبر (تشرين الأول) 73؛ فهذه دائرة أخرى تلقي بظلال تحولاتها على دائرة حكاية القرية. ثمة دائرة عربية لا تنفصل عن الدوائر الأصغر، تتجلى أحيان عبر سفر أحد أقارب الطفل الراوي إلى الشام وإقامته في لبنان فترة طويلة، ثم فراره منها قبل الحرب الأهلية، وعودته إلى قريته/ وقوقعته؛ إذ تنكمش أحلام أبناء القرية، في استعارة لانكماش الأحلام العربية الكبرى تحت وطأة الحروب والنزاعات الطائفية والقومية، وعودة كل شخص للانزواء والتقوقع في قريته/ طائفته/ قوميته، حتى لو لم يكن متناغماً معها، بعد تبدُّد حلم اندماج الجميع في كلٍّ جامع.

ثمة ملمح آخر يتصل بكسر تخييلية الحكاية، وإيجاد صلة بها بالوقع المعيش؛ فالرواية رغم كونها بالأساس عملاً تخييلياً، فإنها المؤلف يتعمد (كعادته) خلق وشائج تربطها بالواقع السياسي والثقافي والفني، كما فعل في «جنازة جديدة لعماد حمدي» التي جعل اسم بطلها على اسم النجم السينمائي الشهير، أو «حذاء فلليني» التي تحيل للمخرج الإيطالي الشهير، فإنه (هنا) في «سنوات النمش» يجعل اسم أحد أبطال الرواية «القذافي»، وهو شخصية نرجسية بامتياز في روايته، ويعاني جنون عظمة واضحاً، ويجعل اسم شقيقه «العكش»، في إشارة للاسم الذي أطلقه المصريون على إعلامي شهير، إضافة إلى حيلة أخرى؛ فقد أراد والد الراوي إنشاء مدرسة في القرية، واشترطت عليه الدولة وجود 30 طالباً لإطلاقها، فلم يجد سوى 23 طفلاً، فاضطر لتزوير شهادة ميلاد لطفل متخيَّل باسم وهمي، فجعل اسم هذا الطفل غير الموجود «خيري شلبي». وبالطبع لا يخفى أن هذه ليست مصادفة، بل أقرب إلى تحية لاسم الروائي الكبير الراحل خيري شلبي، ابن قرية بالمحافظة نفسها، كما أن الإحالات لأسماء واقعية شهيرة توجِّه القارئ إلى أن العمل الروائي المتخيَّل غير منقطع الصلة بالعالم والواقع من حوله؛ فهو تمثيل لهما، وترتبط به بدرجة ما، رغم اعتماد المنطق السردي على الاسترسال الحكائي، الذي يفيد من تقنيات الحكي التراثية في «ألف ليلة وليلة»؛ حيث امتزاج الواقعي بالغرائبي، وتناسل الحكايات من بعضها، مشكلة في النهاية من هذه الطبقات الحكائية حكاية كبرى، أشبه بجدارية ضخمة، تؤرخ لقرية مصرية «على شمال السما» ظلّت عقودا رازحة تحت وطأة الفقر والجهل والمرض.