في أغسطس (آب) 1991، عاد ميخائيل غورباتشوف، آخر زعيم للاتحاد السوفياتي، إلى موسكو مع عائلته من الإقامة الجبرية في شبه جزيرة القرم بعد فشل انقلاب مناهض للديمقراطية قاده جهاز الاستخبارات (كي جي بي) في الإطاحة به.
وبدلاً من الانضمام إلى مئات الآلاف من سكان موسكو المنتشين الذين تجمعوا في ساحات المدينة للاحتفال بانتصاره وانتصارهم، ذهب غورباتشوف إلى المستشفى مع زوجته رايسا التي أصيبت بجلطة دماغية.
كان المشهد محورياً للتاريخ الحديث لروسيا، وكان كذلك لمسرحية «غورباتشوف» وهي أحدث إنتاج ناجح من مسرح الدولة في موسكو والذي استمر في تقديم عروضه الحية، وإن كان بجمهور محدود، رغم الوباء.
كتب غورباتشوف، الذي يبلغ من العمر الآن 90 عاماً ولا يزال يعيش في موسكو، في مذكراته «لم أكن متزوجاً من الدولة - روسيا أو الاتحاد السوفياتي. كنت متزوجاً من حبيبتي؛ ولذلك ذهبت معها إلى المستشفى في تلك الليلة»، هكذا قال الممثل يفغيني ميرونوف، الذي أدى شخصيته ببراعة على خشبة المسرح، مضيفاً «ربما كان القرار الأكثر أهمية في حياتي السياسية».
مسرحية «غورباتشوف» التي عرضت لأول مرة في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، كانت بمثابة قصيدة عن قصة حب غورباتشوف. فبوضع تلك القصة في بؤرة الأحداث، فقد قدمت تلك المسرحية شيئاً غير عادي لثقافة الفنون المسرحية الروسية. فهي تصور زعيم البلاد على أنه إنسان، لا كشخص مسؤول عن دولة وعن مستقبلها. يُظهر العمل غورباتشوف كشخص ذي مشاعر والتزامات أخلاقية تجاه زوجته وأصدقائه ومواطنيه، بصورة فاقت التزاماته السياسية.
في بلد تحظى فيه صور الحكام المستبدين وحياتهم، بمن فيهم الحاكم الحالي، بالحماية، فإن مسرحية «غورباتشوف» نسمة هواء عليل. فهي تحتفي بإنسانية شخص يجري الاحتفال به عالمياً كمحرر، ويبغضه بالقدر نفسه الكثيرون في روسيا باعتباره جزاراً قطّع أوصال الدولة العظمى.
حاول ألفيس هيرمانيس، المخرج الشهير القادم من لاتفيا الذي كتب المسرحية وقام بإعدادها، أن يظهر كيف تبدو الأمور السياسية ثانوية في وجود الحب الحقيقي. ففي تقليد الكلاسيكيات الروسية، يجعل هيرمانيس موضوع الحب أساسياً للأحداث التاريخية، التي تعمل كخلفية فقط. فهو جعل منها قصة عالمية لا تنطبق فقط على زعيم أمة كبيرة، ولكن علينا جميعاً أيضاً.
وفي سبيل تحقيق ذلك، يستخدم هيرمانيس أدوات تقليد الواقعية النفسية في روسيا. الممثلان الوحيدان على خشبة المسرح، تشولبان خاماتوفا في دور رايسا جورباتشيفا وميرونوف بصفته الرئيس السوفياتي الأخير، يلعبان الأدوار بدقة كبيرة؛ مما يخلق جواً يوحي بخلود الشخصية وفي الوقت نفسه بالحزن. وتحت إشراف هيرمانيس، تمنح سرعة سير المسرحية المشاهد مساحة كافية للتأمل في الشخصيات.
تجري أحداث المسرحية بالكامل في غرفة تبديل الملابس بطاولتي ماكياج ومرآتين، وهناك رفوف للفساتين والشعر المستعار منتشرة في جميع المكان. وعلى الباب لافتة كبيرة تقول «صمت... العمل جارٍ».
تولى خاماتوفا وميرونوف تصميم ما يمكن أن يكون ملابس الشارع المعتادة: سترة بقلنسوة، وبنطلون جينز، وقميص أسود متواضع. وخلال ساعات الأداء تراهما يتحولان على خشبة المسرح ليغيرا ملابسهما ومظهرهما مع تقدمهم في العمر.
يبدأ الممثلان بقراءة سطورهما بصوت عال، ومناقشة كيفية انتحال شخصياتهما. ببطء ومن خلال الحوار يتقمصان شخصيتيهما، وبشكل أكثر وضوحاً من خلال تقليد اللهجات حيث ينطق ميخائيل الجنوبي القادم من كازاكستان بحروف متحركة طويلة، في حين تخرج كلمات وحروف رايسا خريجة الفلسفة المتحمسة نقية واضحة في بلد كانت المدرسة الفلسفية الوحيدة المقبولة فيه هي الماركسية.
خاماتوفا وميرونوف، اللذان يعدان من أفضل الممثلين المسرحيين في جيلهما، يغادران المسرح مرة واحدة فقط للاستراحة وسط عمل يستغرق ثلاث ساعات. بروية وسلاسة، سرد الاثنان حياتهما بدءاً من قصة تطهير ستالين التي تلتها الحرب المروعة مع ألمانيا، ثم حياتهما التي استنزفتها علاقة حبهما في الجامعة، وأخيراً صعود غورباتشوف إلى القمة بتدرجه في الحزب.
جرى التعامل مع قصة غورباتشوف على رأس إحدى القوتين العظميين في العالم على أنها ضجيج في الخلفية، حيث تقول رايسا على المسرح «لقد كانت أشبه بيوم عمل واحد دام ست سنوات».
وفي النهاية، بحلول الوقت الذي انغمس فيه الممثلان تماماً في شخصيتيهما، رأينا ميخائيل وقد بلغ من العمر 90 عاماً. (في هذه المرحلة، كان ميرونوف يرتدي قناعاً يغطي رأسه بالكامل وقد عرض وحمة غورباتشوف بوضوح. وفي الدقائق القليلة الأخيرة، وقف ميخائيل بمفرده في لحظات حداد على وفاة زوجته عام 1999 بعد إصابتها بسرطان الدم، متذكراً آخر كلماتها عندما سألته «هل تتذكر أننا أرجعنا إلى نينا حذاءها الأبيض الذي اقترضناه منها لحفل زفافنا؟».
يمكن أن يُعزى نجاح المسرحية والطلب النهم على التذاكر التي بيعت في غضون نصف ساعة رغم سعرها البالغ 250 دولاراً أميركياً إلى حقيقة أن مبدعيها لديهم شيء شخصي على المحك.
فبالنسبة إلى هيرمانيس، كان غورباتشوف، الذي حرر موطنه الأصلي لاتفيا من نير السوفيات، الشخص الثالث «الذي غير حياته كثيراً بعد والده ووالدته»، كما قال في مقابلة مع إذاعة روسية تديرها الدولة.
وبالنسبة لخاماتوفا، فقد أعطاها غورباتشوف الأمل في «حياة مختلفة مع حرية التعبير»، بحسب تصريح أدلت به لمجلة «GQ» الروسية.
وبالنسبة لميرونوف، مدير مسرح الدولة الذي نجح في تحويله إلى مؤسسة ثقافية رائدة في موسكو على مدار العقد الماضي، فقد قدم غورباتشوف الحرية الفنية في الوقت الذي كان ميرونوف يبدأ فيه للتو مسيرته المهنية في أواخر الثمانينات.
وبحسب ميرونوف أيضاً في مقابلة جرى تسجيلها خلال البروفات العام الماضي، «بعد الدخول في جلد غورباتشوف، أدركت أنه لم يكن سياسياً». واختتم «لهذا السبب فعل (غورباتشوف) ما فعله. ولهذا السبب هو مثير للاهتمام وذو قيمة كبيرة للغاية بالنسبة لي كشخص... ذلك لأنه تصرف كإنسان».
* خدمة «نيويورك تايمز»
غورباتشوف ورايسا.. {قصيدة حب} تجذب الجمهور الروسي
غورباتشوف ورايسا.. {قصيدة حب} تجذب الجمهور الروسي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة