صوفيا أندرييفنا عن تولستوي: يفهم الحياة السيكولوجية للبشر ولا يفهم زوجته وأولاده!

قالت إن كتفيها الضعيفين أوهن من أن يحملا عبء الاقتران برجل عبقري

صوفيا أندرييفنا وتولستوي
صوفيا أندرييفنا وتولستوي
TT

صوفيا أندرييفنا عن تولستوي: يفهم الحياة السيكولوجية للبشر ولا يفهم زوجته وأولاده!

صوفيا أندرييفنا وتولستوي
صوفيا أندرييفنا وتولستوي

لم تكن العلاقة العاطفية والأسرية التي جمعت بين صوفيا أندرييفنا والكاتب الروسي الشهير ليف تولستوي لتختلف، من حيث تعقيداتها ومفارقاتها الضدية، عن مسار العلاقات المماثلة التي جمعت بين كتاب العالم ومبدعيه ونسائهم الأثيرات اللواتي تقاسمن معهم في وقت لاحق مسرات الحياة ومشقاتها. لكن ما أكسب هذه العلاقة فرادتها وتميزها لا يقتصر على التباينات والخلافات الكثيرة التي عصفت بحياة الزوجين، بل على الطبيعة الإشكالية لشخصية الزوجة التي أخذ تولهها العاطفي بالزوج أشكالاً «مرضية» بالغة الخطورة، والتي حولت نفسها إلى أضحية حقيقية على المذبح المأساوي لغريزة التملك والاستئثار بالآخر المعشوق. وليس بالأمر المستغرب تبعاً لذلك ألا تكون الشخصية العاطفية المعقدة لصوفيا موضع إجماع النقاد والباحثين، بل محلاً دائماً للانقسام وتباين الآراء، بين مَن رأوا فيها صورة المرأة الأشد وفاءً لموهبة تولستوي التي كرست نفسها وحياتها لخدمة عبقريته ومنجزه الأدبي، ومَن رموها في المقابل بأبشع التهم، بدءاً من الأنانية والانهمام الكلي بالذات وصولاً إلى الغيرة القاتلة والرغبة غير المحدودة في الاستيلاء على الزوج وخنقه ومصادرة حريته.
تقدم صوفيا أندرييفنا في المذكرات التي أصدرتها بعيد رحيل تولستوي بسنوات قليلة، تحت عنوان «يوميات الكونتيسة صوفيا تولستايا»، صورة بانورامية وافية عن علاقتها الصعبة بصاحب «الحرب والسلام»، وما رافق حياتهما المشتركة من مسرات ومشقات. والواضح أن المؤلفة كانت تهدف من خلال مذكراتها المكتوبة على شكل يوميات إلى تأريخ تلك المسيرة الطويلة التي جمعتها بالزوج الاستثنائي، والتي ظلت طيلة نصف قرن تتراوح بين الصعود والهبوط، كما بين السعادة الخالصة والشقاء الكلي. ولعل أكثر ما يستوقف القارئ في هذا الإطار هو امتلاك أندرييفنا لكل العناصر التي تمكنها من إنجاح اقترانها بتولستوي، وتحويله إلى فسحة مديدة من السعادة والعطاء والتناغم الأسري. فقد نشأت صوفيا في كنف عائلة ميسورة، في أحد أجنحة قصر الكرملين الشهير، حيث كان والدها هو الطبيب الخاص للقيصر الروسي، وهو ما أتاح لها الحصول على كثير من الامتيازات، ومن بينها الاطلاع على الآداب العالمية، وتذوق كثير من الفنون، والعزف على البيانو، فضلاً عن إتقانها لكثير من اللغات. وإذا لم يكن ثمة ما يدفع الزوجة إلى الشعور بالنقص، أو يسوغ للزوج شعوره بالغربة أو المرارة التي رافقته على امتداد عقود من الزمن، فمن أين كانت تهب إذن تلك العواصف العاتية التي عكرت العلاقة بين الزوجين، والتي حولت حياتهما إلى سلسلة طويلة من المنغصات؟
إن قراءة متأنية ليوميات أندرييفنا التي تتجاوز الثمانمائة صفحة تُظهر بوضوح أن ليس ثمة خلاف يُذكر بين الزوجين حول طبيعة اهتمامات كل منهما على المستوى الثقافي والأدبي، بل كان هناك تناغم واضح بين الطرفين، حتى إن لم تكن آراؤهما حول بعض المفاهيم المتعلقة بشؤون الفن والإبداع متطابقة تماماً. وإذ كانت صوفيا هي من تتولى نسخ أعمال زوجها وطباعتها على الآلة الكاتبة، فإنها حرصت في الوقت نفسه على ألا تكون مجرد «أداة» ناقلة لهذه الأعمال، بل كانت تبدي رأيها الشخصي في كل عمل جديد، مستندة إلى ثقافتها الواسعة وذائقتها المرهفة. وفيما كان الزوج يصغي إلى ملاحظاتها، السلبية منها والإيجابية، باهتمام ملحوظ، كانت ترى في ذلك الإصغاء مدعاة للغبطة والاعتزاز البالغ، إلا أن الأمور لم تجر دائماً على هذا النحو، فإذا كان من حق صوفيا أن تفصل بين العاطفة الشخصية والنقد الموضوعي، وهو ما تمت ترجمته في كثير من نصوص اليوميات، فإن هذه القاعدة سرعان ما يجري اختراقها حين تصل المناكفات بين الزوجين إلى ذروتها. ولا تتحرج المؤلفة في هذه الحالة من القول عن زوجها الكاتب: «استنسخت كثيرًا من أعمال ليف نيقولايفيتش؛ لا تعجبني مقالاته، وهذا يحزنني كثيراً؛ ثمة حدة منفرة، وحتى حاقدة، في مقالاته. وأنا أشعر بأنه يهاجم عدواً خفياً في خياله».
والطريف في الأمر أن أندرييفنا التي تسببت غيرتها المرضية على زوجها بإفساد حياتهما معاً، لا تتردد في رد كرة الغيرة إلى مرمى الزوج نفسه، معتبرة أن مصدر تلك الحدة في أسلوبه هو غيرته القاتلة من الموسيقي الروسي سيرجي إيفانوفيتش. وهو أمر لا يَرد بشكل عرضي في يوميات الكاتبة، بل يتكرر باستمرار، وبشكل متعسف مفتعل في بعض الأحيان. ومع أن صوفيا لا تترك مناسبة تمر دون أن تشير إلى ولائها المطلق للرجل الذي اقترنت به، فهي لا تكف عن الإشارة إلى اهتمام إيفانوفيتش بها، وإلى مبادلتها ذلك الاهتمام بمثله. ولعلها ترمي من خلال ذلك إلى إصابة عصفورين بحجر واحد: الأول يتعلق بإرضاء غرورها بصفتها أنثى جميلة مرغوبة لم يفلح الزوج المنصرف إلى شؤونه الشخصية في إعطائها حق قدرها، فيما يهدف الثاني إلى إثارة غيرة تولستوي الذي ما يلبث أن يخرج غير مرة عن بروده العاطفي ليظهر قلقه وتبرمه الواضح بالعلاقة «المريبة» التي تجمع بين الزوجة الشابة التي تصغره بستة عشر عاماً والموسيقي الموهوب، وهو ما يعتقد بعضهم بأن ظلاله وتأثيراته لم تكن بعيدة تماماً عن رواية تولستوي المعروفة «أنَّا كارنينا».
لكن السبب الحقيقي للعطب الذي أصاب العلاقة بين الزوجين في صميمها هو أن كل واحد من الطرفين أراد من هذا الزواج ما يلبي احتياجاته وتطلعاته الشخصية. فتولستوي، شأنه شأن معظم المبدعين، كان يدرك في قرارته بصفته كاتباً، أنه غير معني بتدبير شؤون المنزل أو الاعتناء بالأطفال، وأن الشيء الوحيد الذي يجيد القيام به هو الكتابة. على أن صوفيا، رغم اقتناعها بخصوصية الزوج وتفهمها لمزاجية الكتاب وحاجتهم الماسة إلى الحرية، لم تستطع أن تتقبل مسألة إهماله لحقوقها الطبيعية بصفتها زوجة وأنثى، أو إهماله لأطفاله، خاصة في حالات المرض. ورأت في تذرعه بالكتابة لتبرير انصرافه عنها، وعن أبنائها الكثر الذين بلغ عددهم ستة عشر، توفي 3 منهم فيما بعد، حجة غير مقنعة لأحد، لأنه كان يقضي كثيراً من أوقاته في مجالسة أصدقائه ومريديه. ومع أنها لم تعارض بعض أنشطة زوجها الاجتماعية والإنسانية، بل إنها شجعته على إنشاء مطاعم مجانية أو شبه مجانية للفقراء والمحتاجين، فإنها رفضت بإلحاح تخليه عن حقوقه المالية لناشري رواياته وأعماله، ورفضت بإلحاح أكبر توزيع ممتلكاته الشاسعة على الفلاحين، وعلى أتباعه من طائفة «الدوخوبوريين» الذين رأوا فيه معلمهم ومرشدهم الروحي.
لم تترك صوفيا أندرييفنا أي فرصة تُذكر دون أن تعترف بحبها المطلق لليف تولستوي. وهو ما عبرت عنه بالقول «الزواج من العبقري لا يتطلب كثيراً من العقل، بل كثيراً من الحب»، أو القول في مكان آخر: «نحن النساء لا نستطيع أن نحيا من دون معبود، وقد كان ليف معبودي، ولكنه لم يرَ ذلك». وهذا الحب لم يقتصر بالنسبة لها على الأقوال، بل عبر عن نفسه من خلال تكريس حياتها لتدبير شؤون العائلة، والسهر على صحة الجميع وسعادتهم، وصولاً إلى نسخ روايات الزوج ومقالاته، ومناقشة أفكاره وطروحاته المختلفة، بل إنها لم تتردد، بما لعائلتها من وزن اجتماعي، في زيارة القيصر نقولا الأول مناشدة إياه الإفراج عن بعض أعمال تولستوي التي صادرتها الرقابة، مخففة من وطأة بعض آرائه «المتطرفة» حول بعض شؤون السياسة والدين، مطالبة إياه بالعمل على حماية الزوج بعد أن تلقى غير مرة تهديدات جدية بالقتل.
وحين ألقت الكنيسة الروسية الحُرْم الشامل على الكاتب، تولت الزوجة بنفسها قيادة حركة التضامن مع الزوج المتهم بالخروج على التعاليم المسيحية، وكتبت بنفسها الرسائل التي تستنكر القرار الجائر، ووزعتها في جميع أنحاء العالم. إلا أن صوفيا ظلت تحس في أعماقها بأن كل ذلك الحب وتلك التضحيات لم يشفعا لها لدى الزوج الذي كان يسْلم نفسه بالكامل لشؤون الكتابة من جهة، ولدعوته الاجتماعية والإصلاحية من جهة أخرى. كما لم تستطع الزوجة المثقلة بالوحشة التي لاحقها على امتداد حياتها هاجس الانتحار أن تجد تفسيراً مقنعاً لما رأت فيه نوعاً من السلوك الفصامي لذلك الذي «يطعم مئات الجياع، فيما يهمل أبناءه تماماً». وعلى مدى كتابها الضخم، يمكن لنا أن نقرأ عبارات وتساؤلات مريرة، من مثل: «كيف يفهم تولستوي الحياة السيكولوجية للبشر، ولا يفهم زوجته وأولاده؟!»، أو مثل: «إنه يكتب سيرته كقديس، ولن يعرف أحد ما فعله بعائلته»، بل إنها لا تتحرج في لحظات غضبها وسخطها العارمين من الطعن في مصداقيته الأخلاقية والأدبية على حد سواء، حيث «لا ينفك يدعو أتباعه إلى الفضيلة، والترفع عن الشهوات، فيما رواياته تدعو إلى الجنس والرذيلة، وتعاني من الحموضة الزائفة».
ولعل أكثر ما يلفت انتباه القارئ في أثناء تتبعه للمأزق المأساوي الذي أفسد حياة الزوجين، وأفضى بتولستوي إلى الرحيل عن المنزل الزوجي، هو أن الغيرة العمياء التي استبدت بأندرييفنا لم تكن تتعلق بعلاقات زوجها النسائية، إذ هي لم تُشر على الإطلاق إلى أي أمر من هذا النوع، بل انصبت غيرتها على كل المحيطين بالزوج، خاصة جامع التحف تشيرتكوف الذي رأت فيه صوفيا «معبود تولستوي ومنافسها الأخطر على قلبه»، خاصة أن الزوج الخائف على مصير إرثه الأدبي بعد رحيله قد عهد إليه من دون الجميع بحماية هذه المذكرات من السرقة أو التزوير. فقد كان صاحب «سلطان الظلام» متيقناً من أن أندرييفنا تتلصص بشكل دائم على مذكراته، بغية الوقوف على مشاعره الحقيقية تجاهها.
والواقع أن ما قرأته صوفيا خلسة في مذكرات الزوج قد أصابها بالهلع والصدمة التامة، إذ إنه يصفها تارة بالحمقاء، وتارة بالشريرة التي تضيق عليه الخناق، وتعمل على عزله عن أصدقائه كافة، وصولاً إلى وأد طاقته الإبداعية. وهي تعترف تبعاً لذلك بأن قرارها بكتابة مذكراتها، بكل ما تتضمنه من تفاصيل يومية صغيرة، كان يهدف إلى تقديم الرواية «الصائبة» عن العلاقة المضطربة، في مقابل رواية الطرف الآخر المليئة من وجهة نظرها بالتشوهات والافتئات على الحقيقة. إلا أنها ظلت تشعر في قرارتها بأن المعركة بينها وبين زوجها لم تكن متكافئة على الإطلاق، حيث استطاع تولستوي، بما له من سلطة، أن يفرض على العالم رؤيته الخاصة للأحداث، محولاً إياها إلى نسخة معدلة من كسانيتا، زوجة سقراط المتسلطة التي لم تتورع على الإطلاق عن معاقبته بقسوة، وصولاً إلى جَلده بالسوط. وإذ أدركت أندرييفنا فساد العدالة الأرضية، وانحيازها للأقوى والأكثر نفوذاً، لم تجد بدا من الاستنجاد بعدالة السماء، معفية نفسها من أي مسؤولية تُذكر عما لحق بزواجها من أعطاب، هاتفة بأسى مرير «يا إلهي، ساعدني على تحمل هذا الألم، إذ لا ينفك تولستوي يقدم نفسه للأجيال القادمة بصفته شهيداً، وبصفتي امرأته الخاطئة».



لُقى «سمهرم» في محافظة ظُفار

لُقى «سمهرم» في محافظة ظُفار
TT

لُقى «سمهرم» في محافظة ظُفار

لُقى «سمهرم» في محافظة ظُفار

تحوي سلطنة عمان سلسلة من المواقع الأثرية تتوزع على قطاعات متفرقة من أراضيها الواسعة. بدأ استكشاف هذه المواقع بشكل علمي في مطلع الخمسينات من القرن الماضي، إذ أنجزت بعثة أميركية أول حفرية في خور من أخوار ساحل محافظة ظفار، يُعرف محلياً باسم «خور روري». كشفت هذه الحفرية عن قلعة مستطيلة مدعّمة بأبراج، شُيّدت بالحجارة على جبل منخفض يطل على هذا الخور، وحملت اسم «سمهرم» باللغة العربية الجنوبية القديمة، وتبيّن أن هذه القلعة كانت من أهم المواني في جنوب شرقي شبه الجزيرة العربية التي لعبت دوراً كبيراً في تجارة اللبان الدولية. استمرّت أعمال التنقيب في هذا الموقع خلال العقود التالية، وكشفت عن مجموعة من اللقى تشهد لتعدّدية ثقافية تعكس الوجه الدولي الذي عُرقت به سمهرم في الماضي.

تقع سلطنة عُمان في الربع الجنوبي الشرقي من شبه الجزيرة العربية، يحدّها خليج عُمان من الشمال والشرق، وتطوّقها الكثبان الرملية من الجنوب، ممّا يجعلها أشبه بجزيرة بين الصحراء والبحر. تضمّ هذه الجزيرة الشاسعة إحدى عشرة محافظة، منها محافظة ظفار التي تقع في أقصى الجنوب، وعاصمتها مدينة صلالة التي تبعد عن مسقط بنحو 1000 كيلومتر. تبدو ظفار في الظاهر معزولة عن شمال عُمان بأرض قاحلة، غير أنها تشاركه في الكثير من أوجه الشبه، كما يشهد تاريخها الموغل في القدم، حيث عُرفت بأرض اللبان، واشتهرت بتصدير هذا المورد النباتي في العالم القديم، وشكّلت بوابة عُمان الضخمة المفتوحة على المحيط الهندي حلقة الوصل بينها وبين ساحل شرق أفريقيا. برزت تجارة اللبان بشكل خاص منذ منتصف الألف الأول قبل الميلاد، كما تشهد مؤلفات كبار الجغرافيين اليونانيين، وتؤكد هذه المؤلفات أن اللبان كان يُنتج داخل هذه البلاد، ويُجمع في ميناءين يقعان على ساحل يُعرف باسم «موشكا ليمن»، ومن هناك كان يُشحن بالسفن شرقاً إلى الهند والخليج العربي، وغرباً نحو ميناء قنا على ساحل بحر العرب.

زار الرحالة البريطاني جيمس ثيودور بنيت ساحل ظفار في نهاية القرن التاسع عشر، وقضى بداء الملاريا في 1897، وبعد رحيله، نشرت زوجته ومرافقته في رحلاته كتاب «جنوب الجزيرة العربية» في 1900، الذي حوى وصفاً لموقع «خور روري» في ساحل ظفار، ويُعد هذا الوصف أول تقرير ميداني خاص بهذا الموقع. استند الرحالة البريطاني في بحثه الميداني إلى دليل ملاحة يعود على الأرجح إلى منتصف القرن الأول، يُعرف باسم «الطواف حول البحر الإريتري». و«البحر الإريتري» هي التسمية التي عُرف بها خليج عدن، وشملت البحر الأحمر الحالي والخليجين العربي والهندي. ذكر صاحب هذا الدليل ميناء «موشكا ليمن»، ونسبه إلى ملك من جنوب الجزيرة العربية يُدعى إليازوس، ورأى جيمس ثيودور بنيت أن هذا الميناء يقع في «خور روري»، وأثارت هذه القراءة الميدانية البحّاثة العاملين في هذا الحقل.

تولّت بعثة أميركية مهمة التنقيب في هذا الموقع بشكل متواصل خلال عام 1950، وعاودت العمل لفترة قصيرة خلال عام 1962، وتبيّن أن الموقع يضمّ قلعة حملت اسم سمهرم، شيّدها ملك من ملوك حضرموت في تاريخ غير محدد، كما يؤكّد نقش كتابي كُشف عنه في هذا الموقع. تبنّت البعثة الأميركية قراءة جيمس ثيودور بنيت، ورأت أن سمهرم هي «موشكا ليمن»، وحُددت هوية الملك «إليازوس» على ضوء هذه القراءة، وهو ملك يَرِد ذكره بشكل مشابه في نقوش تعود إلى أكسوم في الحبشة. قيل إن ميناء سمهرم واصل نشاطه من القرن الأول إلى القرن الثالث للميلاد، كما توحي الكتابات المنقوشة واللُّقى التي عُثر عليها في الموقع، غير أن الأبحاث اللاحقة أثبتت أن هذه القراءة تحتاج إلى المراجعة. تولّت بعثة تابعة لجامعة بيزا مهمة مواصلة البحث في هذا الموقع منذ عام 1997، ونشرت تباعاً تقارير رصدت اكتشافاتها، وأظهرت الدراسات التي رافقت هذه التقارير أن ميناء سمهرم شُيّد في نهاية القرن الثالث قبل الميلاد، بالتزامن مع نشوء التجارة البحرية وتطوّرها في المحيط الهندي، وقبل وصول الرومان إلى مصر بزمن طويل، ولم يُهجر قبل القرن الخامس للميلاد، حين تراجع نشاطه تدريجياً مع اندحار مملكة حضرموت، وخضوعها لملوك حمير بعد سلسلة من الحروب في القرن الرابع للميلاد.

منذ نشوئه، تميّز ميناء سمهرم بطابع «كوسموبوليتي»، كما تشهد القطع الفخارية المتعدّدة المصادر التي عُثر عليها بين أطلاله. خلال تاريخه الذي دام عدة قرون، نسج هذا الميناء كما يبدو علاقات متينة مع سائر أنحاء العالم القديم، من حضرموت إلى قتبان في جنوب جزيرة العرب، إلى أكسوم في الحبشة، ومن الخليج العربي إلى آسيا ومصر وسواحل البحر الأبيض المتوسط. في هذا الموقع، عثرت البعثة الأميركية على تمثال هندي صغير من البرونز، يبلغ طوله 8 سنتيمترات، وهو من محفوظات متحف فنون آسيا التابع لمؤسسة «سميثسونيان» في واشنطن. يُمثل هذا التمثال الذي فقد رأسه وذراعه اليسرى امرأة تلوي خصرها، وتثني ساقها اليسرى خلف ساقها اليمنى. تُميل هذه الراقصة وركيها وتحني كتفيها إلى الجهة اليمنى، ويتميّز لباسها المحلّي بحلله المتعددة، ومنها حزام عريض يحوي أربعة صفوف من الدرر، وقطعة قماش تنسدل من طرف هذا الحزام على الفخذ الأيمن، وثلاث قلائد من الدرر تلتف حول الرقبة. صيغ هذا التمثال وفقاً لناموس الجمالية الهندية ويُجسّد كما يبدو سيدة الشجر في العالم الهندي. كذلك عثرت البعثة الإيطالية على قطعة مما تُعرف بـ«عملة كوشان» تحمل اسم كانيشكا، ملك كابل وكشمير وشمال غربي الهند. ونقع على مجموعة من الكسور واللُّقى الصغرى تعكس هذا الأثر الهندي الذي برز بشكل خاص في سمهرم.

في المقابل، يظهر أثر حضرموت في مجموعات أخرى من اللُّقى، منها المسكوكات، والأواني المتعددة، والأنصاب الحجرية المزينة بالنقوش الحجرية. من هذه الأنصاب يبرز حجر مستطيل يحمل نقشاً يصوّر ثوراً في وضعية جانبية، مع كتابة تسمّيه، بقي جزء منها فحسب. تُماثل هذه القطعة في تأليفها الكثير من القطع التي خرجت من نواحٍ متعددة من جنوب الجزيرة العربية، وهي على الأغلب من القطع التي تحمل في العادة طابعاً دينياً. في هذا الميدان، تحضر مجموعة من المجامر الحجرية تتميز بنقوشها التزيينية الجميلة. تحمل هذا المجموعة طابعاً جامعاً، كما أنها تحمل في بعض الأحيان طابعاً محلياً خاصاً، وتحتاج إلى دراسة مستقلّة خاصة بها.