«نزيف حاد» للأدمغة والكفاءات اللبنانية

زحمة يومية للمغادرين في مطار بيروت (غيتي)
زحمة يومية للمغادرين في مطار بيروت (غيتي)
TT

«نزيف حاد» للأدمغة والكفاءات اللبنانية

زحمة يومية للمغادرين في مطار بيروت (غيتي)
زحمة يومية للمغادرين في مطار بيروت (غيتي)

قد تبدو كل الخسائر التي يتكبدها لبنان منذ نحو عامين نتيجة انفجار كل الأزمات في وجه أبنائه دفعة واحدة، قابلة للتعويض؛ أقله في المدى المتوسط إن لم نقل في المدى القريب، في حال وُضع البلد على سكة الحل خلال الأعوام المقبلة. كل الخسائر يمكن تعويضها... لكن النزف الحاد في الكفاءات والأدمغة سيترك تداعيات مدوية في المجتمع اللبناني؛ مما يهدد لبنان بمستقبل قاتم.
موجة الهجرة الجديدة التي يشهدها البلد منذ عام 2019 والتي انطلقت مع تداعي القطاع المصرفي واحتجاز أموال المودعين، كانت حتى منتصف عام 2020 مفهومة ومتوقعة، إلى حد ما، إلا إنها ومع انفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس (آب) 2020 الذي أدى إلى تدمير نصف العاصمة بيروت وحصد أكثر من 200 ضحية وآلاف الجرحى، تحولت هذه الموجة إلى «تسونامي» جارف؛ ما لبث أن هدأ حتى عاد ليتجدد مع الوصول مؤخراً إلى مرحلة الارتطام حيث بات اللبنانيون يفتقدون كل مقومات الحياة من خبز وماء وبنزين ومازوت وغاز وحليب أطفال ودواء…
الجحيم الذي يعاني اللبنانيون منه، لم يترك لأهل هذا البلد خياراً إلا الفرار... وتبين بعد التدقيق أن العدد الأكبر من «الهاربين» هو من النخبة؛ أي من الكفاءات والأدمغة التي لم تعد تجد في لبنان أرضاً خصبة لطموحاتها وأحلامها. ويصيب نزف الكفاءات الحاصل بشكل أساسي القطاع الطبي، مع تسجيل هجرة مئات الأطباء والممرضات والممرضين الاختصاصيين في العامين الماضيين. وتجمع كل النقابات على عدم امتلاكها أي عدد محدد ودقيق للمهاجرين من صفوفها، وتعتمد بشكل أساسي على تقديرات وترجيحات.
إيلي غصن (22 عاماً) ابن بلدة عندقت الشمالية الحدودية، الذي غادر قبل نحو شهر لإكمال دراسته الجامعية في فرنسا بعد حصوله على منحة لتميزه في مجال الهندسة، لا يفكر في العودة للاستقرار في بلده. رغم مضي أسابيع معدودة على تركه لبنان؛ فإنه لاحظ الفرق الشاسع في نمط الحياة والتقديمات والخدمات التي توفرها الدولة هناك مقابل مقومات الحياة الأساسية المفقودة في بلده الأم.
ويقول غصن لـ«الشرق الأوسط»: «اتخذت قرار الهجرة منذ فترة، حتى قبل تطور الأوضاع بشكل دراماتيكي في لبنان. ففرص العمل شبه مفقودة مقابل وجود عدد كبير من خريجي الهندسة. أضف أنه في مجال الميكانيك الذي تخصصت فيه لا مجال للتطور؛ نظراً لأن قطاع الصناعة في لبنان صغير ومحصور جداً مقارنة بالدول المتطورة».
ويتطلع الشاب العشريني الطموح إلى الحصول على الجنسية الفرنسية قريباً نظراً للتقديمات والتسهيلات التي تتيحها، وهو يرى آفاقاً كثيرة في ربوع فرنسا «انطلاقاً مما تقدمه الجامعات لجهة عدم حصر هذه التقديمات في التعليم، وتركيزها كذلك على تطوير الإنسان نفسياً وجسدياً واجتماعياً، وهو ما نفتقده في معظم الجامعات بلبنان».
أما نهى أنطون؛ التي اختارت أن تكون ربة عائلة كبيرة نسبياً (4 أولاد) بوصفها تحب أن تكون محاطة بالأطفال والأحفاد، فحرمت بعد سنوات طويلة من التربية والسهر والتعب هذه المتعة. 3 من أولادها هاجروا في السنوات القليلة الماضية؛ آخرهم «عزيز» الأصغر العام الماضي؛ وهو مهندس كومبيوتر هاجر للعمل والعيش في أمستردام بعد نجاحات كثيرة في أكثر من مؤسسة لبنانية. وتقول نهى لـ«الشرق الأوسط»: «رحلوا الواحد تلو الآخر، ولم يبقَ إلا ابني الكبير الذي أخشى كثيراً أن يكون مصيره كمصير إخوته؛ الهجرة». وتضيف: «لا شك في أننا لا نستطيع أن نقول لهم ابقوا هنا، فلا وجود لمقومات البقاء والصمود... أما أنا ووالدهم فلن نترك منزلنا رغم كل الصعوبات، وسيبقى نقطة التقاء لهم في الأعياد والمناسبات».

«سرقة ممنهجة» للمتفوقين والمتميزين
لعل الأخطر من كل ما سبق هو محاولة مؤسسات أجنبية الاستفادة من المأساة اللبنانية لاصطياد المتفوقين والمتميزين في كل القطاعات. وهو ما بدا جلياً مع توجه أكثر من مؤسسة لإقناع الأطباء والممرضين والممرضات بترك البلد، وتقديم عروض باتوا يجدونها مغرية نتيجة الانهيار الحاد في سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي.
ويبدو أن هذا التوجه ليس حكراً على القطاع التمريضي؛ إذ يذهب رئيس «جامعة البلمند» الدكتور إلياس وراق إلى أبعد من ذلك، متحدثاً لـ«الشرق الأوسط» عن «سرقة ممنهجة للتلامذة المتفوقين والأساتذة المتميزين» من قبل «جامعات ومراكز علمية في الخارج نتعاون معها منذ سنوات، وهي على اطلاع على الداتا الخاصة بنا نتيجة هذا التعاون». وأشار وراق إلى أن «المؤسف أن العروض التي كانت تقدم لهؤلاء قبل سنوات وكانوا يرفضونها، لم تعد متوفرة، وهم يقدمون لهم عروضاً تصل المبالغ فيها لنصف ما كان يعرض سابقاً... أي إنهم يسرقون الأدمغة والكفاءات اللبنانية بالرخيص»، لافتاً إلى أن «النزف الحاصل كبير، وأنا أطلع بشكل يومي؛ لا أسبوعي، على أعداد إضافية من التلامذة والأساتذة المتميزين الذين يغادرون البلد... حتى إن آخر الأرقام التي بحوزتنا تفيد بأن 75 في المائة من طلاب لبنان ينتظرون الفرصة للهجرة، إضافة إلى أن ما بين 10 و15 في المائة من الأساتذة تركوا البلد؛ بينهم نحو 60 في المائة من المتميزين». وأضاف: «ما نحن بصدده مجزرة حقيقية... كل شيء يمكن تعويضه إلا نزف الأدمغة... يبدو واضحاً أن هناك نية وإرادة لتدمير ممنهج للبلد، ولم يعد يجوز أن نسكت عن هذا الواقع الخطير».
داني موسى (33 عاماً) اللبناني من عكار شمال البلاد، الرئيس التنفيذي لـ3 شركات تعنى بتكنولوجيا البرمجيات، والذي تمكن في وقت قياسي من الانتقال من تطوير المواقع الإلكترونية في لبنان، وقد أنشأ وطور أهم وأبرز المواقع الحالية، إلى العمل بالبرمجيات، وشركاته حالياً التي تعمل من دبي تغطي عدداً كبيراً من الدول، هو أحد الشبان اللبنانيين الرواد في مجال التكنولوجيا.
ويقول موسى لـ«الشرق الأوسط» إنه في عام 2019 قرر ترك لبنان بعدما استشرف مستقبلاً قاتماً فيه، وإنه أقنع فريق عمله المؤلف من 28 شخصاً بترك البلد أيضاً، موضحاً أنه لم يبق إلا 4 منهم يعملون من بيروت، «وأنا بصدد إقناعهم بالمغادرة؛ لأن البنى التحتية لم تعد مناسبة على الإطلاق لإنجاز أي عمل، خصوصاً نتيجة وضع الكهرباء والإنترنت».
وأسف موسى «كيف أن الدولة في لبنان لا تقوم بأي مبادرة للتمسك بالكفاءات والشركات، كشركاتنا مثلاً التي تتعامل حصراً مع الخارج، وتؤمن دخول (الفريش دولار) إلى البلد الذي هو في أمسّ الحاجة إليه».
وأضاف: «بعد أن يعيش اللبناني في دول أخرى، خصوصاً بعد أن يبدأ العمل فيها ويكتشف كيف أن ما يعدّه مَن هم على رأس السلطة في لبنان إنجازاً، كتأمين الكهرباء والإنترنت والمياه؛ إنما هي خدمات مؤمنة بشكل تلقائي لمواطني هذه الدول والمقيمين فيها، وهم لم يفكروا يوماً كيف هي الحياة من دونها، يحسم أمره بأنه لا عودة إلى لبنان للعيش فيه في المدى المنظور، ولا في البعيد، ولا إذا بقيت الأوضاع على ما هي عليه، ولا إذا تحسنت، علماً بأنني ممن يستبعدون تحسنها قريباً». ويشير موسى إلى أن القسم الأكبر من زملائه في المهنة «تركوا البلد، ومن تبقى منهم يحزم حقائبه للرحيل».

موجات مرتقبة
يشير أستاذ السياسات والتخطيط في «الجامعة الأميركية في بيروت» والمشرف على «مرصد الأزمة» الدكتور ناصر ياسين، إلى أن «لبنان اعتاد تاريخياً تصدير الأدمغة ورأس المال البشري، ولكن طبعاً ليس بالأعداد الحالية»، موضحاً أنه «في الأسابيع الماضية لحظنا ارتفاعاً كبيراً في نسبة الناس التي لديها نية للهجرة بعد تردي الأحوال المعيشية وجوانب الحياة من ناحية الحصول على الخدمات والمواد الأساسية والفوضى الأمنية». ويتحدث ياسين لـ«الشرق الأوسط» عن «3 قطاعات مهمة في لبنان بدأت تخسر وستخسر أكثر قريباً مواردها البشرية: أولاً القطاع الصحي؛ الذي يشهد تأزماً بنيوياً وعدم قدرة على الاستمرار بشكله وطريقة عمله المعتادة. ثانياً؛ القطاع التعليمي الذي يعيش تداعيات كبيرة للأزمة، بحيث إنه في (الجامعة الأميركية) مثلاً هناك نحو 200 دكتور بين (الجامعة – الحرم) والمستشفى غادروا أو أخذوا إجازات مفتوحة، ونتوقع أن ترتفع هذه الأعداد مع افتتاح العام الدراسي الجديد، بحيث إن كثيراً من المؤسسات التربوية ستضطر للإقفال أو تشهد انكماشاً كبيراً.
أما القطاع الثالث؛ فهو قطاع المصارف بعد إقفال عدد كبير من الفروع وتسريح كثير من الموظفين... هذا القطاع أصبح متعثراً ويحتاج لسنوات ليتمكن من النهوض مجدداً». ويتوقع ياسين أن تكون هناك موجات جديدة من الهجرة للعاملين في الصناعات الإبداعية كالإعلام والطباعة والتصميم.

260 ألف جواز سفر في 8 أشهر
سجل الأمن العام اللبناني ارتفاعاً كبيراً في إصدارات جوازات السفر خلال الأشهر الثمانية الأولى من العام الحالي؛ إذ تفيد الإحصاءات بأن عدد جوازات السفر التي صدرت منذ مطلع عام 2021 وحتى نهاية شهر أغسطس (آب) الحالي، نحو 260 ألف جواز سفر، مقارنة مع نحو 142 ألف جواز سفر في الفترة نفسها من عام 2020؛ أي بزيادة نسبتها 82 في المائة.
وحسب الإحصاءات نفسها؛ فإن الأشهر الثمانية الأولى من السنة الحالية كان المعدل الأسبوعي لطلبات الاستحصال على جواز سفر يتجاوز 7 آلاف طلب مقارنة مع 4 آلاف طلب في الفترة نفسها من 2020. وأشارت إلى أن فئات الجوازات المصدرة هي من الفئات الأطول زمناً؛ أي فئة السنوات العشر، والسنوات الخمس، على حساب تراجع الفئات الأقل مدى زمنياً، مثل فئة السنة الواحدة وفئة السنوات الثلاث، مما يعني أن معظم من يطلبون جوازات من هذا النوع هاجروا أو يفكرون في الهجرة.

هجرة 1500 طبيب في عامين
> يشير نقيب الأطباء في لبنان، الدكتور شرف أبو شرف، إلى أنه «لا أعداد دقيقة للأطباء الذين هاجروا؛ لأن كثيرين يتركون البلد من دون علم وخبر، خصوصاً أن بعض البلدان لا تطلب شهادات من النقابة. أما دول أخرى، كفرنسا وبلجيكا ودول خليجية، فتطلب شهادة للتأكد من أنه لا إشكالية من ناحية الأداء»، كاشفاً عن أن «نحو 130 طبيباً من الجامعة الأميركية في بيروت تركوا لبنان بمعظمهم إلى الولايات المتحدة الأميركية، كما غادر من مستشفيات (الروم) و(رزق) نحو 30 في المائة من الأطباء». وإذ رجح أبو شرف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن يكون قد ترك لبنان أكثر من 1500 طبيب منذ عامين معظمهم من الأطباء المختصين ذوي الكفاءات العالية، نبه إلى أن هذا العدد قد يتضاعف أو يبلغ 3 أضعاف ما هو عليه اليوم في حال بقي الوضع على ما هو عليه، مضيفاً: «الدول التي تستقطب هؤلاء الأطباء تعرف كفاءتهم باعتبار أن معظمهم أنجزوا دراساتهم فيها، أو حتى عملوا فيها قبل سنوات».
ورأى أبو شرف أن «المشكلة الأساسية هي أن المريض لم يعد قادراً على الدفع، كما أن الطبيب لم يعد قادراً على الاستمرار بالقليل، من دون أن ننسى أن الدولة أيضاً لم تعد تدفع ما يتوجب عليها للقطاع، وأن أموال الأطباء أصلاً محتجزة في المصارف». وأضاف: «الأطباء باتوا يقومون بعمل شبه مجاني، وهم في المقابل يتعرضون لاعتداءات، كما يشتكون من غياب الدواء والمستلزمات الطبية والدواء». ورأى أبو شرف أن «الأطباء الذين غادروا إلى دول الخليج والعراق من السهل أن يعودوا إلى البلد في حال تحسنت الأوضاع. أما من غادروا إلى دول أوروبا وأميركا فهؤلاء عودتهم لن تكون سهلة، وسيكونون أقرب للهجرة الدائمة».
وحذر أبو شرف من أن القطاع في «خطر؛ خصوصاً بعد دخول أطباء من جنسيات أخرى على الخط»، مضيفاً: «إذا كان القانون يمنعهم من مزاولة المهنة؛ إلا إننا نتلقى شكاوى كثيرة عن مزاحمة أطباء سوريين أطباء لبنانيين في عدد من المناطق؛ حيث يكتفون مثلاً بتقاضي 20 ألف ليرة (دولار واحد) عن المعاينة الواحدة». وشدد على وجوب «دعم الأطباء وتشجيعهم على البقاء في لبنان، والتواصل مع المؤسسات الدولية لتأمين الدعم اللازم لهم».

1600 ممرض إلى الاغتراب
> لا شك في أن ما يسري على الأطباء؛ يسري على الممرضات والممرضين. ين عدد الممرضين والممارضات الذين هاجروا بـ1600 منذ 2019.
فهنا أيضاً؛ بحسب نقيبة الممرضين والممرضات في لبنان، الدكتورة ريما ساسين، «لا أعداد دقيقة لعدد الممرضين والممرضات الذين غادروا لبنان؛ إنما تقديرات»، مؤكدة أن «العدد لا شك فاق الألفين منذ عام 2019؛ وهم بمعظمهم من أصحاب الخبرات والكفاءات». وتقدر نقابة الممرضات والممرضوأوضحت ساسين، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أنهم في النقابة «بصدد تجميع المعلومات من المستشفيات لتحديد عدد الذين غادروا عملهم، وما اختصاصاتهم، وما ظروف عمل من تبقى من الممرضين والممرضات»، لافتة إلى أن «أبرز البلدان التي يغادر إليها هؤلاء هي الدول العربية المجاورة والعراق، وبلجيكا، وفرنسا، وكندا، والولايات المتحدة الأميركية»، مضيفة: «هم يغادرون إلى حيث يجدون فرص عمل تؤمن لهم معيشة لائقة، ولا شك في أنهم يتلقون كثيراً من العروض».
ونبهت ساسين إلى أن «وضع القطاع في خطر، مما يعني أن الوضع الصحي في لبنان ككل في خطر»، لافتة إلى أنه «لا يزال هناك ممرض أو ممرضة واحدة لكل 20 مريضاً، وهذا الوضع كان ليكون أسوأ لو لم يتراجع عدد المرضى الذين يدخلون المستشفيات بعد حصر الاستشفاء مؤخراً في الحالات الطارئة».
وأشارت ساسين إلى أنه «يجري العمل على بعض التحفيزات وتأمين الدعم للممرضات والممرضين الذين ما زالوا يعملون في لبنان، كتأمين بدل بنزين وإعطاء الأولوية لهم على المحطات كي يتمكنوا من الوصول إلى أعمالهم وعناية المرضى من دون تأخير»، لافتة إلى أنه و«لأول مرة نسعى أيضاً إلى تأمين مساعدات من الجمعيات والمنظمات الدولية لمساندة الممرضين والممرضات في هذه المرحلة الصعبة، خصوصاً أنه رغم تحديدنا الحد الأدنى للأجور في القطاع بمليونين و500 ألف ليرة؛ فإنه لا يزال هناك من يتقاضى مليوناً و500 ألف ليرة شهرياً».

مهندسون ومحامون يواجهون مصيراً واحداً
> باقي القطاعات الرئيسية كالهندسة والمحاماة وغيرهما، ليست أحسن حالاً، وإن كان بوطأة أخف؛ إذ تقول مصادر نقابة المهندسين إنه لا معلومات واضحة عن عدد المهندسين الذين تركوا البلد نهائياً بحسبان أن المهندسين في لبنان معروفون تاريخياً بأنهم دائمو التنقل ويعملون في الوقت عينه داخل وخارج البلد، وبالتالي يصعب تحديد من غادر منهم ولن يعود. وتشير المصادر لـ«الشرق الأوسط» إلى أن «ما يمكن الجزم به أن أعداد المهندسين الذين تركوا البلد مؤخراً أكبر من أي وقت مضى، فيما ينتظر كثيرون غيرهم فرصة خارج البلد للرحيل».
ويدرس المهندس المعماري طارق عباس وزوجته ألين ساسين مهندسة الديكور جدياً خيار الهجرة، وإن كانت حتى الساعة حظوظ البقاء تطغى على المغادرة ما دام لا تزال تتوافر أمامهما فرص العمل. ويقول عباس لـ«الشرق الأوسط» إنهما إذا قررا الهجرة، فسيكون ذلك لتأمين حاضر ومستقبل أفضل لأولادهما. ويضيف: «نحن نمتلك المال لشراء الدواء؛ لكنه غير متوفر... نستطيع تكبد تكلفة البنزين؛ لكنه أيضاً بالقطارة، كما أن وضع المدارس غير مطمئن على الإطلاق».
من جهتها، توضح ساسين أن «توافر فرص العمل لا يعني أن البديل المادي لا يزال كما كان عليه قبل انهيار سعر الصرف»، لافتة إلى أن «العروض التي يتلقاها المهندس اللبناني في كثير من الدول لم تعد مغرية»، مضيفة: «عدد لا بأس به من أصدقائي وزملائي ترك البلد. هناك عدد يبذل قصارى جهوده كي يرحل، وعدد لا يزال يفكر في ما إذا كان يجب أن يرحل أم يبقى، كحال عائلتنا».
ويشبه كثيراً وضع المهندسين وضع المحامين، بحيث توضح مصادر نقابة المحامين أن «المحاماة مهنة حرة، بحيث إن المحامي غير مقيد بوظيفة، وإن عدداً كبيراً من المحامين يعملون في لبنان وفي الوقت عينه بالخارج، مما يجعل من الصعب إحصاء عدد المهاجرين منهم»، لافتة في تصريح لـ«الشرق الأوسط» إلى أن «من دفعوا الرسوم هذا العام، أي إنهم يعملون في لبنان ارتفع بعد أن كان 6900 محام العام الماضي إلى نحو 7300 هذا العام، إلا إن هذه الأرقام ليست مؤشراً على عدم هجرة أو مغادرة أعداد إضافية من المحامين مؤخراً».
وتضيف المصادر: «المحامون في النهاية جزء من هذا المجتمع؛ يتأثرون كما سواهم بالوضع، فإذا كان الوضع الاقتصادي جيداً؛ كان عملهم جيداً، علماً بأن جزءاً كبيراً مما يقومون به هو تأدية لخدمة عامة، وفي هذه المرحلة هم يقومون أكثر من أي وقت مضى بهذا الدور وبدور وطني بارز».
ويقول المحامي أنطوان نصر الله إن «قطاع المحاماة، كغيره من القطاعات، يواجه ظروفاً صعبة جداً، لكنه قد يكون بخلاف بقية القطاعات يئن بصمت».
وأوضح أنه «يصعب على المحامي العمل خارج بلده بسبب اختلاف القوانين والأنظمة؛ أضف أنه يصعب عليه أن يسجَّل في النقابات في دولة غير دولته. لذلك يمكن الحديث عن هجرة عدد كبير من المحامين اللبنانيين إلى كثير من الدول العربية، حيث يعملون في مكاتب محاماة؛ كما أن قسماً هاجر إلى فرنسا ولندن حيث يعملون استشاريين لشركات ومصارف». ويعدد نصر الله «أسباباً كثيرة تدفع بالمحامين للهجرة؛ أبرزها اليأس مما آلت إليه الأوضاع؛ إضراب المحامين الذي طال كثيراً، إضراب المساعدين القضائيين، إضراب الدوائر العقارية ودوائر الدولة، انهيار سعر الصرف، ارتفاع أسعار كتب القانون والمراجع على الإنترنت، تراجع عدد الدعاوى القضائية بسبب الإضرابات، عدم الثقة بالقضاء والبطء في التقاضي».



كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
TT

كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)

فيما كانت الستينية كاميليا محمود تعبر بسيارتها أحد شوارع مدينة نصر بالقاهرة، لفتتها مطاعم كثيرة تزدحم واجهاتها بمواطنين اصطفوا لشراء «ساندويتش شاورما»، ما أثار لديها تساؤلات حول انتشار المطاعم السورية «بهذا الشكل المبالغ فيه»، على حساب نظيراتها المصرية، مبدية مخاوفها من «هيمنة اقتصادية سورية قد يكون لها تبعات أكبر في المستقبل».

كاميليا، التي كانت تعمل موظفة بإحدى شركات القطاع الخاص قبل بلوغها سن التقاعد، رصدت خلال السنوات العشر الأخيرة انتشاراً كبيراً للمطاعم السورية في مختلف الأحياء والمدن المصرية لا سيما مدينة 6 أكتوبر (غرب القاهرة) حيث تقطن. لم تستغرب الأمر في البداية، بل على العكس كان حدثاً جاذباً، ولو بدافع استكشاف ما تقدمه تلك المطاعم من نكهات جديدة وغير معتادة في المطبخ المصري، من الشاورما إلى الدجاج المسحب والكبة وغيرها.

صبغة شامية

خلال أكثر من عقد من الزمان، منذ تكثف التوافد السوري على مصر، زاد عدد المطاعم التي تقدم مأكولات سورية، لدرجة صبغت أحياءً بكاملها بملامح شامية، لا تُخطئها العين، ليس فقط بسبب أسياخ الشاورما المعلقة على واجهاتها، ولا الطربوش أو الصدرية المزركشة التي تميز ملابس بعض العاملين فيها، بل بلافتات تكرس هوية أصحابها وتؤكد ارتباطهم بوطنهم الأم، فعادة ما تنتهي أسماء المطاعم بكلمات من قبيل «السوري»، «الشام»، «الدمشقي»، «الحلبي».

طوابير أمام أحد المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

محاولات تكريس الهوية تلك «أقلقت» كاميليا وغيرها من المصريين ممن باتوا يشعرون بـ«الغربة» في أحياء مثل «6 أكتوبر»، أو «الرحاب (شرق القاهرة)» التي باتت وكأنها «أحياء سورية وسط القاهرة». وتتساءل كاميليا في حديثها لـ«الشرق الأوسط»: «ألا يقتطع وجود السوريين من حصة المصريين في سوق العمل؟ ألا يشكل وجودهم خطراً سياسياً لا سيما مع هيمنة اقتصادية في قطاعات عدة؟».

بين «العشق» و«القلق»

رغم مشاعر القلق والغربة، فإن السيدة لا تخفي «عشقها» للمأكولات السورية. فهي تحرص بين الحين والآخر على الذهاب مع أسرتها لأحد تلك المطاعم، مستمتعة بنكهات متنوعة من أطباق «الشاورما والفتوش والكبة وغيرها». فـ«الطعام السوري لذيذ ومتنوع وخفيف على المعدة، وله نكهة مميزة»، وبات بالنسبة لها ولغيرها «عنصراً مضافاً على المائدة حتى داخل المنزل». وبالطبع لا يمكن لكاميليا إغفال «جودة الضيافة»، لا سيما مع كلمات ترحيبية مثل «تكرم عينك» التي تدخل كثيراً من البهجة على نفسها كما تقول.

حال كاميليا لا يختلف عن حال كثير من المصريين، الذين غيرت المطاعم السورية ذائقتهم الغذائية، وأدخلت النكهات الشامية إلى موائدهم عبر وصفات نشرتها وسائل إعلام محلية، لكنهم في نفس الوقت يخشون تنامي الوجود السوري وتأثيره على اقتصاد بلادهم، الأمر الذي بات يُعكر مزاجهم ويحول دون استمتاعهم بالمأكولات الشامية.

ومع موافقة مجلس النواب المصري، الثلاثاء الماضي، على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين، تزايدت حدة الجدل بشأن وجود الأجانب في مصر، لا سيما السوريون، وسط مخاوف عبر عنها البعض من أن يكون القانون «مقدمة لتوطينهم»، ما يعني زيادة الأعباء الاقتصادية على البلاد، وربما التأثير على حصة المواطن المصري في سوق العمل وفق متابعين مصريين.

مجلس النواب المصري وافق على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين (الشرق الأوسط)

تزايد عدد السوريين في مصر خلال العقد الأخير عكسته بيانات «المفوضية الدولية لشؤون اللاجئين» حيث ارتفع عدد السوريين المسجلين في مصر لدى المفوضية من 12800 في نهاية عام 2012 إلى أكثر من 153 ألفاً في نهاية عام 2023، ليحتلوا المرتبة الثانية بعد السودانيين ضمن نحو 670 ألف لاجئ وطالب لجوء مسجلين لدى المفوضية من 62 جنسية مختلفة.

جاءت هذه الزيادة مدفوعة بالحرب السورية، ودفعت مواطنيها إلى دول عدة، بينها مصر، لتبدأ المفوضية في تلقي طلبات اللجوء منذ عام 2012، مؤكدة دعمها «الفارين من أتون الحرب».

ومع ذلك، لا تعكس البيانات التي تقدمها مفوضية اللاجئين العدد الحقيقي للسوريين في مصر، والذي تقدره المنظمة الدولية للهجرة، بنحو 1.5 مليون سوري من بين نحو 9 ملايين مهاجر موجودين في البلاد.

لكن التقدير الأخير لا يُقره الرئيس السابق لرابطة الجالية السورية في مصر، راسم الأتاسي، الذي يشير إلى أن «عدد السوريين في مصر لا يتجاوز 700 ألف، ولم يصل أبداً لمليون ونصف المليون، حيث كان أعلى تقدير لعددهم هو 800 ألف، انخفض إلى 500 ألف في فترة من الفترات، قبل أن يعود ويرتفع مؤخراً مع تطورات الوضع في السودان». وكان السودان عموماً والخرطوم خصوصاً وجهة لكثير من السوريين عقب 2011 حيث كانوا معفيين من التأشيرات وسمح لهم بالإقامة والعمل حتى 2020.

دعوات مقاطعة

تسبب الوجود السوري المتنامي في مصر في انطلاق حملات على مواقع التواصل الاجتماعي بين الحين والآخر تنتقد السوريين، من بينها الدعوة لمقاطعة أحد المطاعم بسبب إعلان عن ساندويتش شاورما بحجم كبير، قال فيه مخاطباً الزبائن: «تعالى كل يا فقير»، مثيراً غضب مصريين عدوا تلك الجملة «إهانة».

حملات الهجوم على السوريين، وإن كانت تكررت على مدار العقد الماضي لأسباب كثيرة، لكنها تزايدت أخيراً تزامناً مع معاناة المصريين من أوضاع اقتصادية صعبة، دفعت إلى مهاجمة اللاجئين عموماً باعتبارهم «يشكلون ضغطاً على موارد البلاد»، وهو ما عززته منابر إعلامية، فخرجت الإعلامية المصرية قصواء الخلالي في معرض حديثها عن «تأثير زيادة عدد اللاجئين في مصر»، لتتساءل عن سبب بقاء السوريين كل هذه السنوات في بلادها، لا سيما أن «سوريا لم يعد بها حرب»، على حد تعبيرها.

وعزز تلك الحملات مخاوف من التمييز ضد المصريين في فرص العمل مع إعلان البعض عن وظائف للسوريين واللبنانيين والسودانيين فقط.

وانتقد رواد مواقع التواصل الاجتماعي المطاعم السورية باعتبارها «ليست استثماراً».

في حين طالب البعض بـ«إغلاق المطاعم السورية والحصول على حق الدولة من الضرائب»، متهماً إياهم بـ«منافسة المصريين بهدف إفلاسهم»، لدرجة وصلت إلى حد المطالبة بمقاطعة المطاعم السورية بدعوى «سرقتها رزق المصريين».

الهجوم على السوريين في مصر لا ينبع فقط من مخاوف الهيمنة الاقتصادية أو منافسة المصريين في فرص العمل، بل يمتد أيضاً لانتقاد شراء الأثرياء منهم عقارات فاخرة وإقامتهم حفلات كبيرة، وسط اتهامات لهم بأنهم «يتمتعون بثروات المصريين». وهو الأمر الذي يعتبره رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين في مصر المهندس خلدون الموقع «ميزة تضاف للسوريين ولا تخصم منهم، فهم يستثمرون أموالهم ويربحون في مصر، وينفقون أيضاً في مصر بدلاً من إخراجها خارج البلاد»، بحسب حديثه لـ«الشرق الأوسط».

زحام لافت على مطعم سوري بشارع فيصل بالجيزة (الشرق الأوسط)

ووسط سيل الهجوم على المطاعم السورية تجد من يدافع عنهم، ويتلذذ بمأكولاتهم، باعتبارها «أعطت تنوعاً للمطبخ المصري».

كما دافع بعض الإعلاميين عن الوجود السوري، حيث أشار الإعلامي المصري خالد أبو بكر إلى «الحقوق القانونية للسوريين المقيمين في مصر»، وقال إن «أهل سوريا والشام أحسن ناس تتعلم منهم التجارة».

ترحيب مشروط

كان الطعام أحد الملامح الواضحة للتأثير السوري في مصر، ليس فقط عبر محال في أحياء كبرى، بل أيضاً في الشوارع، فكثيراً ما يستوقفك شاب أو طفل سوري في إشارات المرور أو أمام بوابات محال تجارية، بجملة «عمو تشتري حلوى سورية؟».

ويعكس الواقع المعيش صورة مغايرة عن دعوات الهجوم والمقاطعة المنتشرة على منصات التواصل الاجتماعي، عبر طوابير وتجمعات بشرية لشباب وأطفال وأسر تقف على بوابات المحال السورية لا يثنيها زحام أو حر أو مطر، عن رغبتها في تناول ساندويتش شاورما، «لرخص ثمنه، ومذاقه الجيد»، بحسب مالك مصطفى، شاب في السابعة عشرة من عمره، التقته «الشرق الأوسط» وهو يحاول اختراق أحد طوابير «عشاق الشاورما» التي تجمهرت أمام مطعم في حي الزمالك.

مصريون طالبوا بمقاطعة المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

أما مدير فرع مطعم «الأغا» في حي الزمالك وسط القاهرة أيمن أحمد، فلم يبد «تخوفاً أو قلقاً» من تأثير حملات المقاطعة على المطاعم السورية، لا سيما مع «الإقبال الكبير والمتنامي على وجبات معينة مثل الشاورما والدجاج المسحب»، والذي أرجعه خلال حديثه لـ«الشرق الأوسط» إلى «النكهة المختلفة للمطبخ السوري التي أضافت طعاماً شعبياً جديداً أرضى ذائقة المصريين».

وكان إعجاب المصريين بالمطبخ السوري هو ما دفع مؤسس مطعم الأغا، رائد الأغا، الذي يمتلك سلسلة مطاعم في دول عربية أخرى، إلى الاستثمار في مصر ليفتح أول فروعه في الدقي (شمال الجيزة) عام 2021، ثم يقدم على افتتاح فرعين آخرين في الزمالك ثم مصر الجديدة، بمعدل فرع كل عام.

على النقيض، تُغضب حملات الهجوم المتكررة رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين بمصر، الذي يرفض الاتهامات الموجهة للسوريين بـ«أخذ رزق المصري والحصول على مكانه في الوظائف والاستثمار»، لا سيما أن «السوري استثمر وفتح مطعماً أو مصنعاً ووفر فرص عمل أيضاً ولم يأخذ محل أو مطعم مصريين».

استثمارات متنوعة

يتحدث الأتاسي بفخر عن الاستثمارات السورية في مصر، ووجودها في قطاعات اقتصادية عدة، منها أكثر من 7 آلاف مصنع سوري في مجالات مختلفة، في مدن العاشر من رمضان والعبور وغيرهما، لكن المواطن المصري ربما لا يرى من الاقتصاد السوري في بلاده سوى المطاعم «كونها أكثر اتصالاً بحياته اليومية».

ويبدي الأتاسي اندهاشه من كثرة الحملات على المطاعم السورية، رغم أن «أغلبها وخاصة الكبيرة فيها شركاء وممولون مصريون، وبعضها مصري بالكامل وبه عامل سوري واحد».

ليست الصورة كلها قاتمة، فإعلامياً، يجد السوريون في مصر ترحيباً، وإن كان مشروطا بـ«تحذير» من عدم الإضرار بـ«أمن البلاد»، وهو ما أكده الإعلامي المصري نشأت الديهي في رسالة وجهها قبل عدة أشهر إلى السوريين في مصر رداً على الحملات المناهضة لهم.

وهو ترحيب عكسته وسائل إعلام سورية في تقارير عدة أشارت إلى أن مصر «حاضنة للسوريين».

وهو أمر أكد عليه موقع الجالية بتأكيد الحديث عن تسهيلات قدمت لرجال أعمال سوريين وأصحاب مطاعم، من بينها مطاعم في حي التجمع الراقي بالقاهرة.

و«مدينة الرحاب» تعد واحدة من التجمعات الأساسية للسوريين، ما إن تدخل بعض أسواقها حتى تشعر بأنك انتقلت إلى دمشق، تطرب أذنك نغمات الموسيقى السورية الشعبية، وتجذبك رائحة المشاوي الحلبية، وأنت تتجول بين محال «باب الحارة»، و«أبو مازن السوري»، و«ابن الشام» وغيرها، وتستقطبك عبارات ترحيب من بائعين سوريين، «أهلين»، و«على راسي» و«تكرم عيونك».

«حملات موجهة»

انتشار السوريين في سوق التجارة لا سيما الغذاء فسره مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق رخا أحمد حسن، في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، بأن «بلاد الشام بشكل عام قائمة على المبادرة الفردية، فجاء السوري برأسمال بسيط وبدأ مشروعاً عائلياً وباع ما أنتجه في إشارات المرور، قبل أن يتوسع ويحول مشروعه إلى مطعم».

رصد حسن بنفسه تنامي الإقبال على المطاعم السورية في حي الشيخ زايد الذي يقطنه، لا سيما أنهم «ينافسون المنتج المصري في الجودة والسعر»، معتبراً الحملات ضدهم «تحريضية تنطوي على قدر من المبالغة نتيجة عدم القدرة على منافسة ثقافة بيع أكثر بسعر أقل».

وتثير حملات الهجوم المتكررة مخاوف في نفس الكاتب والمحلل السياسي السوري المقيم في مصر عبد الرحمن ربوع، وإن كانت «موجودة على مواقع التواصل الاجتماعي، ولا وجود لها في الشارع المصري»، حيث يشير في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «على مدار السنوات الماضية لم تتغير المعاملة لا من الشعب المصري أو الجهات الرسمية في الدولة».

السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية في مصر (الشرق الأوسط)

وبالفعل، أثرت المطاعم السورية إيجابياً في سوق الأكل المصري، ورفعت من سويته، بحسب ربوع، رغم أنها لا تشكل سوى جزء صغير من استثمارات السوريين في مصر التي يتركز معظمها في صناعة الملابس، وربما كان تأثيرها دافعاً لأن تشكل الجزء الأكبر من الاستهداف للسوريين في حملات يراها ربوع «سطحية وموجهة وفاشلة»، فلا «تزال المطاعم السورية تشهد إقبالاً كثيفاً من المصريين».

ولا تجد تلك «الحملات الموجهة» صدى سياسياً، ففي فبراير (شباط) من العام الماضي وخلال زيارة لوزير الخارجية المصري السابق سامح شكري إلى دمشق، وجه الرئيس السوري بشار الأسد الشكر لمصر على «استضافة اللاجئين السوريين على أراضيها وحسن معاملتهم كأشقاء»، بحسب إفادة رسمية آنذاك للمتحدث باسم الخارجية المصرية السفير أحمد أبو زيد، أشار فيها إلى تأكيد شكري أن «السوريين يعيشون بين أشقائهم في مصر كمصريين».

لكن يبدو أن هناك تطوراً أخيراً «أثار قلقاً كبيراً لدى السوريين وهو قرار إلغاء الإقامات السياحية»، فبحسب ربوع، معظم الأجانب في مصر وبينهم السوريون كانوا يقيمون في البلاد بموجب إقامات سياحية طويلة، لا سيما الطلاب وكثير ممن ليس لديهم عمل ثابت ويأتي قرار إلغاء تجديدها مقلقاً لأنه سيجبر كثيرين على الخروج من البلاد والعودة مرة أخرى كل فترة، وهو القرار الذي يرغب الأتاسي في أن يشهد إعادة نظر من جانب السلطات المصرية خلال الفترة المقبلة كونه «يفرض أعباءً جديدة على السوريين لا سيما الطلاب منهم».

«استثمارات متنامية»

ويشكل السوريون نحو 17 في المائة من المهاجرين في مصر، وهم «من بين الجنسيات التي تشارك بإيجابية في سوق العمل والاقتصاد المصري، وتتركز مشاركتهم في الصناعات الغذائية والنسيج والحرف التقليدية والعقارات»، وبحسب تقرير لـ«منظمة الهجرة الدولية» صدر في يوليو (تموز) 2022، أوضح أن «حجم التمويل الاستثماري من جانب نحو 30 ألف مستثمر سوري مسجلين في مصر، قُدر بمليار دولار في عام 2022».

وفي عام 2012 جاء السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية، عبر تأسيس 365 شركة من بين 939 شركة تم تأسيسها خلال الفترة من ما بين يناير (كانون الثاني) وأكتوبر (تشرين الأول)، بحسب بيانات «الهيئة العامة للاستثمار» في مصر.

ولا توجد إحصائية رسمية عن حجم الاستثمارات السورية في مصر الآن، لكن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أشار، في تقرير نشره عام 2017، إلى أن «اللاجئين السوريين استثمروا في مصر 800 مليون دولار». وهو نفس الرقم الذي تبنته هيئة الاستثمار المصرية في تصريحات تداولتها وسائل إعلام محلية.

لكنه رقم يقول رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين إنه «لا يعدو كونه الرقم التأسيسي الذي بدأ به السوريون مشروعاتهم في مصر، ثم تنامى مع الوقت»، إضافة إلى أن «هناك الكثير من الأنشطة الاقتصادية غير مسجلة في هيئة الاستثمار المصرية».

مطعم سوري في وسط البلد (الشرق الأوسط)

حملات الهجوم المتكررة على السوريين لن تمنعهم من الاستثمار في مصر، فهي من وجهة نظر الموقع «ناتجة عن نقص المعلومات وعدم إدراك لطبيعة وحجم مساهمة السوريين في الاقتصاد»، إضافة إلى أن «المتضرر الأكبر من تلك الحملات هما الاقتصاد والصناعة المصريان»، لا سيما أنها «تتناقض مع سياسة الحكومة الرامية إلى تشجيع الاستثمار».

فقد جاء المستثمر السوري بأمواله لمصر واستثمر فيها، و«أنفق أرباحه فيها أيضاً»، فهو بذلك قادر على «العمل... ولم يأت ليجلس في المقاهي».

بالفعل «لا يحصل السوريون على إعانات من الدولة، بل يعملون بأموالهم ويدفعون ضرائب، ومثل هذا الحملات تقلل من دور مصر التاريخيّ أنها ملجأ لكل من يضار في وطنه أو يتعرض للخطر»، بحسب مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق، الذي اعتبر الهجوم المتكرر عليهم «محاولة لإظهار السوريين بأنهم سبّب مشكلات البلاد، وهو غير صحيح».

وفي الوقت الذي يعول فيه الموقع على الإعلام لـ«نشر الوعي بأهمية وجود السوريين في مصر»، لا تزال الستينية كاميليا محمود حائرة بين «عشقها» للمأكولات السورية، و«مخاوفها» من التأثير على اقتصاد بلادها، ما يتنقص من متعتها ويعكر مزاجها وهي تقضم «ساندويتش شاورما الدجاج» المفضل لديها.