هل لا يزال نجيب محفوظ «مهيمناً» على الرواية العربية؟

بعد 15 عاماً على رحيل صاحب جائزة نوبل

هل لا يزال نجيب محفوظ «مهيمناً» على الرواية العربية؟
TT

هل لا يزال نجيب محفوظ «مهيمناً» على الرواية العربية؟

هل لا يزال نجيب محفوظ «مهيمناً» على الرواية العربية؟

رغم رحيله قبل 15 سنة في مثل هذا اليوم، يرى بعض الروائيين والنقاد أن نجيب محفوظ لا يزال يحظى بهيمنة واسعة النطاق في المشهد الروائي العربي، بمعنى أنه لا يزال يغطي على كثير من الروائيين الجيدين. الكل يتفق أن صاحب «أولاد حارتنا» قد أرسى دعائم الرواية العربية الحديثة، وحقق عبر أعماله إنجازاً روائياً غير مسبوق، وأن روائيين كثيرين قد خرجوا من تحت معطفه، ولكن أيضاً هناك العديد من الروائيين في أكثر من بلد عربي قد حققوا منجزات مهمة، لكن لا يزال الحضور الطاغي الذي حققه محفوظ، يحجبهم إلى حد ما، حسب آراء أخرى.
هل يكمن السبب «في تنوع وثراء وحجم منجزه كماً وكيفاً، وبراعته في التعبير عن الجانب المظلم من النفس الإنسانية، فضلاً عن تنقله برشاقة بين العديد من المدارس والاتجاهات الإبداعية»، كما يعبر أحد الروائيين المشاركين في هذا الاستطلاع؟
أم أن الهيمنة والرهبة والمهابة التي حظي بها محفوظ، حولها البعض إلى «رهاب يحول دون إعادة النظر في أدبهِ، خشية الاتهام بالتطاول، أو البحث عن الشهرة أو الشوشرة أو الحسد والغيرة»، بحيث أصبح صاحب نوبل عصياً على المراجعة أو التقييم، ولا يتم الاقتراب منه إلا في سياق احتفالي؟ كما يعبر روائي آخر في هذا الاستطلاع.
هنا آراء عدد من الروائيين العرب من أجيال مختلفة:

كمال الرياحي (روائي تونسي): درس لم نستوعبه بعد
لم يكن نجيب محفوظ تجربة روائية واحدة لكي تطويها التجارب الأخرى. كان منجماً للتخييل والعطاء. اطلع على الشكل الروائي الغربي ولم يترك تياراً إلا واختبر نصه فيه؛ من الرواية الواقعية إلى التاريخية إلى الذهنية. لم يسقط في فخ الآيديولوجيا، وحمى نصوصه من «المباشرتية»، وظلت قوته في وعيه باللغة، فلم يحمل اللغة الروائية ما لا تحتمل وابتعد عن الاستعارة وبلاغة المجاز والشعرية فكانت اللغة عنده براغماتية وشعريتها في روائيتها، وروائيتها في إيهامها بالواقعية، تماست مع العامية دون أن تكونها ونطقت الشخصيات بأصواتها وهذا هو الدرس المحفوظي المفقود في الرواية العربية إلى اليوم، والذي لم يتعلمه بعض الروائيين وما زالوا يتحدثون عن البلاغة بمفاهيمها الشعرية على الرواية، بينما التقط الدرس عدد من الروائيين الآخرين وحققوا نجاحات مهمة مكنت نصوصهم من عبور العربية ذاتها.
كان محفوظ تلميذاً وفياً لبلزاك ولستاندال ومورياك، لكنه وطن الشكل الروائي الغربي في القاهرة. إن عبقريته تظهر بوضوح في إعادة اختراع الأمكنة وجعلها كائناً حياً عالمياً، ويكفي هنا الإشارة إلى «خان الخليلي». كتب محفوظ عن المهمشين من الفتوات في الحواري في «الحرافيش»، وعن المجرمين الصغار والغانيات. وضفر السياسة بذكاء في «اللص والكلاب»، وكتب عن المثقف والموظف البسيط والعامل والعاطل والفلاح والشخصية التاريخية. إن خطورة محفوظ كمفكر وفيلسوف في رواياته هو ما دفع بالمتطرفين إلى محاولة اغتياله لأنه أصبح ذهنية قوية تهدد ذهنية التحريم والتكفير التي يدينون بها.

محمد بركة (روائي مصري): التجاوز ورفض الوصاية
أعتقد أن نجيب محفوظ هو القدر السعيد الذي يلازم كل مبدع روائي في خطواته الأولى، فمثلما لا يمكن أن تكون مطرباً جيداً دون التعرف على عالم أم كلثوم، يصعب أن تكون روائياً مهماً دون أن تدلف عبر بوابة هذا الرجل الذي يستحق لقب «عميد الرواية العربية» بامتياز. والسبب ببساطة يكمن في تنوع وثراء وحجم منجزه كماً وكيفاً، وبراعته في التعبير عن الجانب المظلم من النفس الإنسانية، فضلاً عن تنقله برشاقة بين العديد من المدارس والاتجاهات الإبداعية، لكن ثمة مشكلة حقيقية تبرز في هذا السياق في اتجاهين أساسيين يحكمان نظرتنا لمنجز هذا الرجل: الأول يراه في سياق مقدس، يخلع عليه الكثير من الحصانة ضد النقد، بحيث يصبح صاحب نوبل برأيهم عصياً على المراجعة أو التقييم، ولا يتم الاقتراب منه إلا في سياق احتفالي تغشاه الأضواء المبهرة. الثاني ينال منه بشكل متعسف ولأسباب غير موضوعية تبدو أقرب إلى «الغيرة» و«مماحكات أبناء المهنة الواحدة».
من تجليات النوع الثاني ما وجدناه لدى يوسف إدريس في اتهامه الشهير لمحفوظ بأنه حصل على «نوبل» نظراً لميوله السياسية وموقفه المؤيد للسلام مع إسرائيل، وأن الرواية هي فن المدينة، لكن نجيب محفوظ حوّلها إلى فن الحارة من خلال أعمال «بلزاكية» تقليدية تفتقر إلى العمق والحداثة، وكذلك الكاتب المغربي محمد شكري في كتابه «غوايات الشحرور الأبيض»، حيث اتهم محفوظ بـ«الأسلوب المتلاعب»، و«النقص في التجربة العميقة»، فضلاً عن انتقاص الناقد د. لويس عوض الذي لم يَرَ في روايات محفوظ سوى أنها وصف آخر لمصر، على غرار كتاب «وصف مصر» الذي وضعه فنانون وباحثون فرنسيون رافقوا حملة بونابرت على مصر.
نحن بحاجة إلى طريق ثالث في النظر إلى الإرث المحفوظي يعلي من قيمته لكن يركز على قيمة تجاوزه وعدم البقاء طويلاً تحت وصاية أبوته، تلك القيمة التي نستشرفها من تجارب الرجل نفسه فقد تجاوز جميع أساتذته ثم معاصريه، بل سعى لتجاوز ما سبق أن قدمه هو ذاته، ساعتها سيظل محفوظ مهيمناً على الفضاء الإبداعي العربي عبر الدروس المهمة التي نستخلصها من مسيرته مثل الاستمرارية والدأب والتخطيط والصرامة في إدارة الوقت.

هوشنك أوسي (روائي كردي سوري): هيمنة بحاجة إلى مراجعة
لا يزال نجيب محفوظ يحظى بهيمنة واسعة النطاق في المشهد الروائي العربي، بشكل عام، وفي مصر على وجه الخصوص. ويكاد يتحول إلى رمز قومي مصري أو عربي. ويمكنني إحالة خلفية تلك الهيمنة إلى أسباب ثلاث هي:
أولاً: الجهد الإبداعي الثري والمهم الذي بذله محفوظ، خلال مسيرته، قبل فوزه بجائزة نوبل. ما يعني أن خزانته من التجارب الإبداعية غنية ومتنوعة، أمنت وتؤمن له رصيداً ورأسمالاً أدبياً كبيراً، يمنح أدبه التفويض في استمرار السلطان والهيمنة.
ثانياً: صحيح أن نجيب محفوظ هو نجيب محفوظ، مع أو بدون جائزة نوبل. لكن، الصحيح أيضاً أنه لا يمكن إغفال دور ووزن وأهمية جائزة نوبل للآداب، التي حصل عليها بعرق جبينه وكد يمينه، في ترسيخ وتكريس محفوظ روائياً ذا مهابة وسلطة وهيمنة على المشهد، تكاد تصل لحد العصمة والرهبة.
ثالثاً: حركة النقد التي كانت (مع وضد) محفوظ، قبل فوزه بجائزة نوبل، أصبحت بعد وفاته معه وزادت من ترسيخه وتكريسه، وكأنه «ليس كمثله شيء» في عالم والأدب والرواية، ناهيك عن حصر الإبداع في «السلف الصالح» من الأدباء، وفي طليعتهم نجيب محفوظ. وبعد مرور عقد ونصف العقد على رحيله، لا نكاد نعثر على ملمح من ملامح النقد (المثلبي) الذي يرى في أدب نجيب محفوظ ما يمكن تسجيل النقاط عليه، وليس تسجيل المزيد من النقاط له. ليس هذا وحسب، بل كل مَن يحاول إعادة النظر في أدب محفوظ، بنسبة أقل افتتاناً، ويشير إلى بعض نقاط الضعف في تجربته الروائية، نرى بعض النقاد أو أغلبهم، يستشيطون غيظاً وغضباً، ويردون: مَن يمكنه انتقاد نجيب محفوظ، يجب أن يكون من وزنه! وحتى لو توفر ذلك الشرط المنتقد، لأثيرت الشبهة على الناقد، وتم التعامل معه على أنه يستهدف مصر أو الأدب العربي.
إن الهيمنة والرهبة والمهابة التي حظي بها محفوظ، حولها بعض النقاد إلى رهاب يحول دون إعادة النظر في أدبهِ، خشية الاتهام بالتطاول، أو البحث عن الشهرة أو الشوشرة أو الحسد والغيرة؛ وهذا ليس انتقاصاً من أهمية ووزن محفوظ، بل رغبة في التعامل معه، بمزيد من الإنصاف والتوازن.

هيلانة الشيخ (روائية سعودية): جماليات لا تنتهي
مات كل الحكاءين ولم يمت نجيب، وهل كان محفوظ حكاءً أم روائياً؟ هذا السؤال يراودني كلما مرت ذكرى وفاته، رغم يقيني أنه الروائي العربي الوحيد الذي لم ولن يموت. وأتساءل: هل خلدت جائزة نوبل نجيب محفوظ؟ أم خلدها هو؟ لولا انفراد محفوظ بهذه الجائزة المثيرة للشك لما أصبحت هاجس كل روائي أو شاعر عربي. كنت طفلة عندما تردد اسم هذا النجيب فأثار فضولي فبدأت أقرأ له بنهم، بعدها استوعب عقلي أن بعض الأفلام التي أعشقها هي صنيعة قلمه الجبار، وأصبت بعشق الكتابة والقراءة، ولما نضجت سرقني إحسان عبد القدوس من نجيب لوهلة وقلت: لماذا مات إحسان عبد القدوس ولم يمت نجيب؟ ومع مرور السنوات أيقنت أن نجيب محفوظ هو الروائي الوحيد المُخلد في كل الأجيال مهما حاول الحاقدون اقتلاع جذوره من رؤوسنا.
خمسة عشر عاماً على وفاته في كل عام يحتفي العالم بذكراه التي يُغضب المصريون المساس بها، مات بعد ثمانية عشر عاماً من حصوله على نوبل. وقعت عيني على قصته «زعبلاوي» التي ربما لم تحظ بشهرة باقي أعماله لكني وجدت فيها ما لم أجده في سواها؛ كيف ابتدعها هذا الرجل وكتبها بهذه الفلسفة العبثية قبل حوالي ستين عاماً، ونحن اليوم نسير كالسلاحف الهرمة نحمل أسفارنا ونبحث عن الحداثة! اختزل في هذه القصة كل مناهج الحداثة فبدأ رحلته من الفوق إلى الأسفل، من المعرفة إلى الجهل، والبحث عن الوجودية محاكاة مع رواية «في انتظار غودو» للآيرلندي صمويل بيكيت، توغل نجيب في هذه القصة في فلسفة عبثية بين الواقعية والخيالية، ستون عاماً وما زلت أنبش في سطوره عن جماليات السرد وعوالم وسحر الرواية ولم أنته.

ريم بسيوني (روائية مصرية): الحارة الشعبية طريقه للعالمية
نجيب محفوظ سيظل مهيمناً على فضاء الرواية العربية بسبب اتساع «قماشة» أعماله وشموليتها وتنوع الموضوعات التي قام بمعالجتها عبر حقبات تاريخية مختلفة. صحيح أنه اتخذ من الحارة الشعبية مسرحاً لأعماله، إلا أنه استطاع بمهارة فائقة أن يصل للعالمية من خلال تجسيد صراعات البشر وأشواقهم للحرية في كل مكان وزمان عبر أحلامهم وتمزقهم بين الخير والشر. قدم الرجل قوالب روائية متنوعة مثل عالم الواقعية السحرية في «ليالي ألف ليلة»، وقضايا الوجود الإنساني كما في «قلب الليل» و«الشحاذ» ورواية الجريمة كما في «اللص والكلاب»، كما مزج الواقعية السحرية بالتاريخ في «أولاد حارتنا» و«الحرافيش». أضف إلى كل ذلك لغته الواضحة السلسلة التي لا تتنازل عن الفصحى ولكنها تبقى سهلة الوصول للقارئ العادي.

الغربي عمران (روائي يمني):
كان وسيظل مهيمناً
محفوظ ليس مجرد أديب عابر. فمن قبل أن ينال نوبل، وهو أستاذ لجيل عريض من الأدباء العرب. سيل إبداعه مثل حالة لم تتكرر في الأدب العربي، موضوعياً وفنياً، خاصة بعد أن تحولت أكثر أعماله إلى أعمال فنية تلفزيونية وسينمائية ليتجاوز النخبوية إلى الشعبية، إذ أن الأعمال المأخوذة عن رواياته أوصلته وبقوة إلى جميع الشرائح حتى الأميين في أقطارنا العربية. وبهذا وصلت أعماله وانتشرت لتسهم وبقوة في تشكل الوعي الجمعي للمجتمعات. محفوظ برقي أعماله من خلال نوبل إلى العالمية وترجمتها أضحى في مصاف العظماء عربياً وعالمياً والسفير الأوحد للأدب العربي. خدم الرجل الأدب العربي بل غير الكثير في الوعي الإنساني بغوصه في أعماق الشخصية العربية. كان مهيمناً وإلى اليوم وسيظل كنجم كبير تتبعه نجوم كبيرة؛ استطاع أن يحتوينا جميعاً، وسبر أغوار المجتمع من خلال شخصياته الروائية المتنوعة. أيضاً ألاعيبه الفنية نهل الجميع منها، لا سيما قدرته على تصوير ورسم الشخصيات من الداخل. فكل كاتب في بداية طريقه يتأثر بمحفوظ وفنه، ثم يسعى كلما نضج لتجاوز أبوته والبحث عن ذاته.



«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!