مهرجان لوكارنو يعود بنبض مشبع بأفلام العالم

لبناني وأردني بين عروضه

لقطة من «بَكِت» فيلم الافتتاح
لقطة من «بَكِت» فيلم الافتتاح
TT

مهرجان لوكارنو يعود بنبض مشبع بأفلام العالم

لقطة من «بَكِت» فيلم الافتتاح
لقطة من «بَكِت» فيلم الافتتاح

‫انطلق يوم أول من أمس (الأربعاء) مهرجان لوكارنو السينمائي في دورته الرابعة والسبعين. هو، منذ دورته الأولى سنة 1946. حمل لعالم السينما ومهرجاناتها منصّة خاصّة للأفلام التي ينجزها مخرجون جدد في أول أو ثاني أفلامهم. عبر تاريخ طويل عرض لمجموعة هائلة من الأسماء التي عرفت لاحقاً شهرة واسعة ولأخرى لم تنجز النجاح ذاته لكنها، على الأقل، سعت إليه في عقر دار مهرجان فتح أبوابه (وشاشاته) لها.‬
مهرجان لوكارنو هو أحد الخمسة الأكبر سنّاً من معظم المهرجانات العالمية الأخرى. هذا الوجود بدأ سنة 1933 بإقامة مهرجان فينيسيا، ثم سنة 1946 بإطلاق مهرجاني «لوكارنو» و«كان». في عام 1951 وُلد مهرجان برلين وبعده بسنتين وُلد مهرجان سان سابستيان.
لم يحرص «لوكارنو» في البداية على عرض الأفلام الأولى والثانية لمخرجيها، بل توجه صوب ذلك لاحقاً. الدورة الأولى شهدت أفلاماً لمخرجي الفترة كالفرنسي رينيه كلير الذي عرض نسخته من رواية أغاثا كريستي «ثم لم يعد هناك أحد» وكالإيطالي روبرتو روسيلليني الذي شهد الحضور فيلمه الممتاز «روما، مدينة مفتوحة». كذلك وجود الأميركي بيلي وايلدر عبر فيلمه الشهير «تأمين مزدوج» وهذا من بين خمسة عشر فيلماً شوهدت في صالة فندق «غراندي» في تلك المدينة التي لم تكن بعد أكثر من بلدة نائمة على شاطئ البحيرة وتحت أقدام الجبال المحيطة بها.
في تلك الدورة الأولى فاز فيلم رينيه كلير وفاز كلير نفسه بجائزة أفضل مخرج. أفضل تصوير ذهبت للفيلم الروسي «إيفان المريع» (معروف بيننا بـ«إيفان الرهيب») لسيرغي أيزنشتاين (تحديداً للجزء الأول من هذا الفيلم المزدوج الذي قام بتصويره كل من أدوار تيس وأندريه موسكفِن.
بعد عشر سنوات وجدناه ما زال حريصاً على فتح مسابقته على أفلام مخرجين محترفين مثل مايكل أنجلو أنطونيوني الذي خرج سنة 1957 بجائزة أفضل فيلم عن «الصيحة» (عرض في بريطانيا والولايات المتحدة تحت عنوان «نساء حياته»). الأميركي سيدني لومِت فاز بتنويه خاص عن «12 رجلاً غاضباً». ومن الذين عرض لهم البرازيلي غلوبر روشا والمجري بيلا تار والبريطاني مايك لي والسويسري ألان تانر والفرنسي كلود شابرول كما الروسي ألكسندر سوكوروف.
الالتزام بأفلام أولى وثانية لمخرجيها حدث في أواخر السبعينات وطوال العقدين التاليين إلى أن عاد التواؤم بين الأسماء الجديدة وتلك المحترفة إلى الواجهة كحال الدورة الحالية.

صدمة أميركية وسجن روسي
في السنوات الأخيرة انتقلت إدارة المهرجان السويسري أكثر مرّة لكي ترتاح هذا العام بين يدي مدير فني جديد هو جيونا نازارو الذي يتسلم وظيفته بعد عام من إغلاق المهرجان أبوابه في السنة الماضية بسبب «كورونا». هذه المرّة هناك جهد مبذول لا لتحدي الظروف فقط، بل للبرهنة على أن الدورة تستطيع الاستفادة من الزخم الكبير من الإنتاجات المتوفرة.
فيلم الافتتاح ليل الأربعاء الماضي (لكن بعد عروض تمهيدية خارج المسابقة بدأت على نحو غير رسمي في اليوم الأسبق) هو «بَكِت» (Beckett) للمخرج الإيطالي فرديناندو شيتو فيلومارينو. دراما تشويقية تدور في رحى أفلام المؤامرات النظرية، بطلها سائح أفرو - أميركي (جون ديفيد واشنطن، ابن دنزل واشنطن وبطل فيلم Tenet في العام الماضي) حط في اليونان مع صديقته (أليسيا فيكاندر) وتعرّض لحادث سيارة (والفيلم ما زال في مطلعه) خرج منه بصدمة تجعله، ولفترة، غير قادر على التمييز بين ما يعتقد أنه واقع وبين ما هو واقع فعلاً. هذا قبل أن يستقر رأيه على أنه بات، من حيث لا يريد، جزءاً من محاولة قتل تحركها مؤامرة تكاد أن تقترب من مستوى السياسة لكنها تحتجب تحت ستار الفيلم البوليسي (من حيث التشويق).
هذا فيلم فيلومارينو الثاني بعد «أنطونيا» قبل خمسة أعوام والفارق ملموس: الأول كان عملاً حمل شخصية المخرج الفنية التي تنبأت بولادة موهبة حسّاسة ومرهفة. هذا الفيلم هو انسياق في المعهود من أفلام نظرية المؤامرات لا يصل إلى ما ابتدعه، على سبيل المثال، ألان ج. باكولا في «بارالاكس فيو» وسواه في السبعينات الرائعة، لكنه يحتوي على مقدار جيد من المشاهد المعنى بتنفيذها ولو أنها أبعد ما تكون عن أي منحى فني ذاتي. مشكلة الفيلم الأولى هي أن بطله يبدو مشتتاً وغير قادر على فهم ما يدور. هذا جيد كبداية لكنه يستمر هنا لفترة أطول مما ينبغي.

عربيان
الأفلام التي يعرضها لوكارنو في هذه الدورة متعددة بطبيعة الحال و- على الورق على الأقل - واعدة. من بينها فيلم «الأزقة» (يحمل أيضاً عنوان «الحارة») للأردني باسل غندور الذي كتبه مع المخرج ناجي أبو نوار صاحب فيلم «ذيب» الذي سحر من شاهده في مهرجان فينيسيا سنة 2014. «الأزقة» كان سجل أول حضوره في مهرجان القاهرة السينمائي في العام الماضي لكن عرضه في إطار لوكارنو هو «البرميير» الأوروبي الأول.
لجانبه في المسابقة «100 دقيقة» وهو فيلم عودة للمخرج الروسي غلب بانفيلوف صاحب «لا ممر عبر النار» (الذي نال عنه ذهبية لوكارنو سنة 1969) وهذا هو أول فيلم له منذ أكثر من عشر سنوات وفيه يعود لوقائع الحرب العالمية الثانية. ليس فيلماً حربياً، بل دراما حول المعتقلين الروس في المعسكرات الألمانية الذين عادوا إلى بلادهم ليفاجئهم ستالين بوضعهم في سجون أخرى بتهمة التعاون مع العدو!.
فيلم عربي المنشأ آخر نجده في «النهر» الذي هو إنتاج يحمل اسم لبنان ولو أن تمويله الأساسي موزع بين قطر وفرنسا وألمانيا. هو للمخرج اللبناني غسان سلهب الذي كان توجّه إلى لوكارنو بأحد أفلامه المبكرة («الرجل الأخير») قبل خمس عشرة سنة. في «النهر» حكاية أخرى من حكاياته التي تغوص في جوانب الحرب الأهلية اللبنانية. هنا قصّة زوجين (علي سليمان ويمنه مروان) يندفعان للنجاة بنفسيهما صوب بقعة جبلية بعيداً عن الحرب التي اندلعت على حين غرّة.
بالعودة للأفلام الأجنبية، هناك فيلم آخر لمخرج لا يتكرر اسمه كثيراً (ربما من حسن الحظ) هو شون ليفي. هو منتج تلفزيوني وسينمائي أكثر منه مخرجاً وآخر فيلم حققه كان «ليلة في المتحف: سر القبر» سنة 2014. في فيلمه الجديد «رجل حر» (Free Guy) قصّة مطروقة (يبقى معرفة اختلافها تنفيذاً) حول الرجل الذي يجد نفسه شخصية داخل لعبة فيديو. يقوم رايان رينولدز بالبطولة ويحاصره الممثل - المخرج النيوزلاندي تايكا وايتيتي («جوجو رابِت») والجديدة جودي كومر.
والممثل الأميركي إيثان هوك يضطلع ببطولة الفيلم الجديد لأبل فيريرا Zeros and Ones. مثل بطل «بَكِت» هو رجل أميركي يعايش حكاية تقع في أوروبا. لكنه ليس سائحاً، بل مقيماً في روما حيث تقع الأحداث. هنا أيضاً نظرية مؤامرة كونية لا يجب أن تتم.
وبين الأفلام الفرنسية المعروضة «اسم سري» لأوريلا جورج. هذا فيلم لمخرجة عرضت فيلميها السابقين في مهرجان كان وهما «السائر» (2007) و«الفتاة والنهر» (2014). مثل الفيلم الروسي آنفاً (100 دقيقة) يدور في رحى الحرب وفحواه امرأة تعمل ممرضة وتستغل وفاة امرأة ثرية لتتقمّص شخصيتها.
فيلم الختام سيكون إنتاجاً أميركياً آخر عنوانه «احترام» (Respect) يتمحور حول «ملكة أغاني الصول» أريثا فرانكلين وهو من إخراج سينمائية جديدة اسمها لييسل تومي. الفيلم سيرة حياة تتوقف عند أهم مراحل الفنانة الأفرو - أميركية وتقوم بتشخيصها جنيفر هدسون وبقربها بعض الأسماء المعروفة مثل فورست ويتيكر ومارلون وايانز.



«مندوب الليل» لعلي الكلثمي يفوز في لوس أنجليس

 مندوب الليل (آسيا وورلد فيلم فيستيڤال)
مندوب الليل (آسيا وورلد فيلم فيستيڤال)
TT

«مندوب الليل» لعلي الكلثمي يفوز في لوس أنجليس

 مندوب الليل (آسيا وورلد فيلم فيستيڤال)
مندوب الليل (آسيا وورلد فيلم فيستيڤال)

في حين ينشغل الوسط السينمائي بـ«مهرجان القاهرة» وما قدّمه وما نتج عنه من جوائز أو أثمر عنه من نتائج وملاحظات، خرج مهرجان «آسيا وورلد فيلم فيستيڤال» المقام في لوس أنجليس بمفاجأة رائعة ترفع من أهميّته غير المحسوبة في إعلامنا العربي ومنهج صنع الفيلم العربي عموماً.

يوم الخميس، أغلق المهرجان الآسيوي دورته الجديدة بإعلان فوز فيلم «مندوب الليل» بجائزته الكبرى. الفيلم هو أول أعمال المخرج السعودي علي الكلثمي، وعند الناقد كاتب هذه السطور، هو أفضل فيلم سعودي طويل خرج في الأشهر الاثني عشر الماضية.

حين رشّحته للمهرجان المذكور، اتصل بي رئيسه جورج شمشوم معبّراً عن دهشته: «أذهلتني جودة الفيلم حرفة وموضوعاً. كانت مفاجأة كبيرة لي بعدما سمعت عن كثيرٍ من الأفلام السعودية الجديدة، وكيف أنها باتت تُسهم في تغيير السائد والتقليدي. مع ذلك، فإن هذا الفيلم كان روعة».

لمن لم يسمع به من قبل أو سمِع به ولم يشاهده، «مندوب الليل» هو عن شاب (الجيد محمد الدوخي) يُطرد من عمله في شركة اتصالات هاتفية إثر مشادة بينه وبين مسؤوليه. والده مُعتل وشقيقته مطلّقة عادت لبيت أهلها مع طفلها. سيجد عملاً بصفته مندوب توصيل البيتزا. لكنه يكتشف طريقة أخرى للثراء وهي، سرقة مؤونة من الكحول المخبأة التي يبيعها أصحابها للأثرياء. بذلك يضع قدميه عند نقطة تحوّلٍ واعدة غير مدركٍ مغبّة ما قام به وكيف سيضع نفسه وأهله في خطر جسيم.

فوز ناصع

الفيلم ليس قصّة بوليسية، لكنه قصّة تشويقية، والتشويق فيه مُحكم. فيلم متقن كتابة وإخراجاً وتأليفاً وتصويراً وتمثيلاً ومصمم بدقة. مُعالج بدراية وفعّال في عرض التفاصيل بذكاء. وهو نتيجة رائعة لعملية لا بدّ استغرقت كثيراً من التّصميم المُسبق والتنفيذ.

لجانب هذا الفوز الناصع لا يجب أن ننسى أن العام الآيل إلى الرحيل خلال 40 يوماً من الآن، شهد اشتراك السينما السعودية في إحدى مسابقات مهرجان «كان» رسمياً لأول مرّة. الفيلم هو عملٌ جيّد آخر، لكن من وزن مختلف، عنوانه «نورة» ومخرجه هو الطموح توفيق الزايدي.

الاشتراك السعودي الرسمي في «مهرجان القاهرة» الذي يُنهي أعماله مساء الجمعة تَوزّع بين فيلمين هما، «ثقوب» لعبد المحسن الضبعان، و«فخر السويدي» لثلاثة مخرجين هم هشام فتحي وعبد الله بامجبور وأسامة صالح.

هذا الكم لا يوقف المد القادم: حديثٌ عن اشتراك سعودي مقبل في «مهرجان برلين» في فبراير (شباط) 2025، وتحضيرٌ مبكر لجعل الدورة المقبلة من «كان» مايو (أيار) تُنجز أكثر ممّا أنجزت الدورة الماضية من حضورٍ كمي ونوعي كبيرين.

محمود حميدة و«الفن السابع»

كُتب وتكريمات

بالنسبة لـ«مهرجان القاهرة»، هناك محاورٌ عدّة للحكم له أو عليه. هو واحد من المهرجانات العربية التي تقع في الربع الأخير من كل عام. هذا يصلح كمسافة زمنية تمنح المهرجان فرصة عمل لجمع وتجميع أفلام من كل حدبٍ وصوب، لكنه توقيت يحرمه من أن يكون منصّة انطلاق لأي غاية. لا يخرج فيلم من هنا ليجوب العالم. حتى الفيلم الذي يربح جائزة كبرى فإن حدود جائزته تنتهي مع إقلاع المخرج عائداً إلى بلده.

هذا ليس شأنه فقط، بل شأن كلّ المهرجانات العربية تقريباً باستثناء «مهرجان البحر الأحمر» ولو إلى حدٍ. هو أصبح محطة انطلاق، على الرغم من وجوده في هذا الرُّكن الزمني من السنة، وذلك لأنه حرص على عرض أفلام سعودية تستطيع الانطلاق منه والسفر كونها في الأساس جيدة وتستحق. عاملٌ آخر هو أن الغرب بات يعرف أن السعودية أصبحت لاعباً ثقافياً وفنياً واضحاً. ما عاد الرِّهان عليه، بل على ارتفاع شأنه مستقبلاً.

ما هو عبثي في كثير من المهرجانات العربية، أن تلك التي تُوزّع التكريمات والاحتفاءات باتت أمام مفترق طرق: لقد كُرّم معظم الحاضرين والذين كانوا حاضرين وقت تكريمهم. هناك آخرون يستحقون (كُتاب سيناريو، مديرو تصوير، مؤلفو موسيقى، ممثلون ونقاد ومؤرخون) لكن أحداً قلّما شعر بهم.

«فخر السويدي» (مهرجان القاهرة السينمائي)

على «مهرجان القاهرة» أن ينفض عنه الالتزام بالواجب لأنه واجب، وأن يبحث في طيّات السينمات العربية عمن يستحق «تكريمه» فعلاً.

ما هو لافت كذلك في «مهرجان القاهرة» أكثر من سواه، هو إصداره كتباً سينمائية. هذه عادة توقّفت عنها غالبية مهرجانات العالم الرئيسية منذ عقود، مدركة أن كتب الاحتفاء لم تعد تأتي بجديد يُضاف إلى ما صدر عن كلّ محتفى به.

يمكن للمهرجان المصري إصدار كتابٍ قيّم واحد عوض ثلاثة أو حتى اثنين.

خلال العام الحالي أصدر المهرجان كتاباً مميّزاً ومهمّاً من إعداد ناجي فوزي بعنوان «مختارات من الفن السابع». وكانت مجلة «الفن السابع» السينمائية الرائعة التي أسسها محمود حميدة في عام 1997 قد سدّت ثغرة كبيرة آنذاك في ثقافة الفيلم المطبوعة.

الكتابان الآخران هما «حلم عز» لرامي المتولّي و«سينما يسري نصر الله» لأحمد عزّت عامر. الأول لا يعدو عن بضع صفحات لممثل لم يختم بعد عقداً واحداً من شهرته، والثاني لمخرج يستحق كتاباً يحلّل أفلامه ما لها وما عليها. كتاب من المهرجان لأي مخرج أو سينمائي، يعني انحيازاً للإيجابيات فقط.

عدم إصدارها في الغرب لا يعني أنه قرار صائب، خصوصاً أن البديل لدينا يجب أن يكون مختلفاً وهناك كثير من الأفكار في هذا الشأن.