من التاريخ: معركة ديو البحرية

من التاريخ: معركة ديو البحرية
TT

من التاريخ: معركة ديو البحرية

من التاريخ: معركة ديو البحرية

متى بدأت راية الدولة الإسلامية تختفي على المستوى الدولي؟ سؤال له إجابات عديدة من قبل المستشرقين والمؤرخين، فالبعض يرى أن ذلك حدث بتفتت السلطة المركزية للدولة الإسلامية، بينما يرى آخرون أنه نتاج لظهور القوى العظمى الأخرى في الوقت الذي ضعفت فيها الكيانات الإسلامية بصفة عامة، ويقدم آخرون رؤيتهم بأن الدولة الإسلامية خفتت إثر تفتتها السياسي إلى كيانات متناحرة أغلب الوقت ومتحدة في الاستثناءات، ولا خلاف على أن كل هذه الإجابات تحمل في طياتها كثيرا من الصدق، ولكنها غير كافية لشرح هذا الانحدار التدريجي لهذه القوة على المستوى الدولي منذ ظهور الدولة الإسلامية وحتى نهاية الدولة العثمانية، فمن منظور العلاقات الدولية فإن هناك سببا آخر لم يعطه المؤرخون، في تقديري، البحث الكافي، وهو أن الدولة أو الدول الإسلامية المتعاقبة لم تهتم، بالشكل الكافي، بالقوة البحرية، واكتفت بدورها على الاعتماد على القوة البرية التي كان لها دورها الهام بطبيعة الحال، ولكن مع المتغيرات الدولية في نهاية القرن الخامس عشر أصبحت القوة البرية وحدها غير كافية للعب الدور الدولي المأمول عندما أصبحت الصراعات الدولية الحاسمة تقع خارج أقاليم هذه القوى، ولكنها أثرت عليها في الوقت نفسه، ويمكن بداية ربط هذه الحقيقة بعصر الاكتشافات الجغرافية، التي لم يكن للعرب أو الخلافة الإسلامية دور يُذكر فيها، بل كانت مهمشة تماما.
لقد بدأت أوروبا عصر الاكتشافات الجغرافية، فكانت البرتغال في مطلعها بفضل الأمير «هنري الملاح» الذي اهتم كثيرا بتطوير قدرات بلاده البحرية، والسعي لاكتشاف الطرق البحرية الجديدة والعالم الجديد، فبدأت الاستكشافات تتوالى، خاصة في غرب أفريقيا، ثم اكتشف «دياز» طريق رأس الرجاء الصالح، ومن بعده وصل «فاسكو دي جاما» إلى الهند عبر طريق الرجاء، وبدأت البرتغال تتوسع تدريجيا في شرق أفريقيا وتقيم موانئها في الجزيرة العربية، إلى أن احتلت مضيق هرمز ومنه اتجهت إلى غرب الهند لتقيم رؤوسا تجارية لها وتبدأ في تغيير الخريطة التجارية الدولية بشكل مفاجئ.
وفي هذه الأثناء قبع المماليك في مصر في حالة من الفوضى وسوء الإدارة، معتمدين على الدور التجاري الهام لمصر في طريق التجارة الدولية، وعلى تحالفها التقليدي مع الجمهوريات التجارية الهامة في إيطاليا، على رأسها البندقية، التي كانت تقبل في ذلك الوقت العملة المصرية وتتداولها نظرا للترابط التجاري مع مصر، حيث كانت التجارة الشرقية تمر عبر الهند ومنها إلى البحر الأحمر ومن بعده عبر الجمال إلى موانئ البحر المتوسط ثم إلى أوروبا، وكانت الدولة المملوكية تعتمد على المكوس أو الجمارك على هذه السلع كدخل أساسي لها بعدما فشل الكثير من سلاطينها في تحسين أوضاع البلاد والنهوض بها كما كان متوقعا لدولة بها كل مقومات القوة مثل مصر، ولكن التجارة صارت في خطر كبير بعدما اكتشف البرتغاليون طريق رأس الرجاء الصالح، وسعوا لجعله الطريق الأساسي لمرور تجارة الحرير والتوابل منه إلى أوروبا، وأصبحت الدولة المملوكية في مصر في خطر استراتيجي كبير خاصة بعدما استولى البرتغاليون على مدينة سومطرة في مدخل البحر الأحمر، وأصبحت تجارتهم في خطر؛ ولكن المماليك لم يكونوا وحدهم مهددين من هذه التطورات، بل إن الدولة العثمانية الفتية التي كانت تستعد لترث الخلافة الإسلامية تأثرت هي أيضا بسبب فرضية تغيير مسار التجارة الدولية؛ لأن الطريق الجديد أصبح يهدد الطريق البري التقليدي للتجارة نفسها من الصين إلى أوروبا، وهنا تلاقت مصالح هذه الدولة مع الدولة المملوكية في مطلع القرن السادس عشر ومعهما الجمهوريات التجارية الأوروبية، فضلا عن جمهورية «كجرات» في شمال شرقي الهند، التي بدأت تعاني من التهميش البرتغالي بعد أن كانت تجارتها مزدهرة، وبدا من الضروري إيجاد تسوية لهذه المشكلة الحقيقية التي باتت تهددهم جميعا.
وكان الحل المتاح أمامهم جميعا هو الاتحاد، خاصة بعدما أوفدت البندقية مراسيلها لبناء هذا التحالف، وأبدت استعدادا كبيرا للمساهمة في النشاط العسكري للتخلص من الخطر البرتغالي الجديد، وهو ما أسفر عن تحالف منطقي قامت على أثره البندقية بتمويل جزء كبير من الجهد البحري لإرسال السفن الحربية إلى مصر بمساعدة عثمانية في العدة والعتاد وتوفير بعض الجنود، وبالفعل وصلت السفن إلى موانئ البحر المتوسط وتم تفكيكها، ومنها إلى البحر الأحمر، وتم وضع الأسطول تحت قيادة «حسين الكردي»، وتم إرساله إلى مدينة «ديو» البحرية في عام 1507 ميلادية لحلفائهم في جمهورية «كجرات» استعدادا لحسم معركة التجارة العالمية في المحيط الهندي، وقد جاءت المبشرات الأولية إيجابية للأسطول المملوكي؛ فقد دخل في معركة هامة للغاية مع البرتغاليين عرفت تاريخيا بمعركة «شاول CHAUL» وكانت النتيجة هزيمة القوة البحرية البرتغالية التي كان يقودها ابن الوالي البرتغالي «الميدا» الذي قتل في المعركة، وهو ما جعل والده مصمما على الثأر له بكل ثمن إلى الحد الذي دفعه لرفض قرار ملك البرتغال بتغييره ووضع حاكم برتغالي جديد بدلا منه، وذلك لحين الثأر لابنه.
وهكذا أصبحت المعركة الفاصلة مسألة وقت بين البرتغاليين والتحالف المملوكي، فكانت معركة «ديو البحرية» في الثاني من فبراير (شباط) عام 1509م أو 915 هجرية، وقد كانت في حقيقة الأمر محسومة لصالح البرتغاليين رغم التفوق النسبي في عدد السفن والمقاتلين لصالح المماليك، وذلك لأن البرتغاليين كانوا أكثر تقدما في بناء السفن والتكتيكات البحرية من نظرائهم المصريين أو حلفائهم من الهنود والعثمانيين، كما أن البحرية المملوكية لم تكن لديها القدرة على التفوق التكتيكي بسبب غياب المدفعية الثقيلة لأسباب مرتبطة بحجم السفن وهيكلها، وهو ما أعطى البرتغاليين التفوق الكامل، خاصة بعدما لجأ المماليك لمحاولة البقاء بالقرب من الشاطئ اعتمادا على غطاء المدفعية التي توفرها القاعدة العسكرية لميناء «ديو» في مواجهة التفوق البرتغالي، ولكن هذا أفقد الأسطول المملوكي القدرة على المناورة وتركه فريسة في أيدي «ألميدا» الذي استغل الظروف بقوة من خلال تنفيذ المناورات التي سمحت له بإنزال قواته في ميناء ديو ودحر القوات المتحالفة وهزيمتهم هزيمة منكرة، وقام بأسر ما استطاع من المماليك وقام بحرقهم والتنكيل بهم ثأرا لمقتل ابنه، واستولى على المدينة، ولكنه رفض إخضاعها لحكمه للتكلفة العالية للإبقاء عليها، ولكنه خلق منها حليفا بعدما أبقى تشكيلا عسكريا فيها، ولكنه أخذ منها ما يقرب من 300 ألف قطعة من الذهب ثمنا للهزيمة.
لقد أدت هذه الهزيمة البحرية الثقيلة إلى نتائج دولية كبيرة، فلقد انفرد البرتغاليون بطريق التجارة الجديد في المحيط الهادي، مما سمح لهم بأن يمدوا نفوذهم من اليابان شرقا إلى البرازيل غربا، وسيطروا على طريق التجارة الآسيوية بعدما انخفضت أسعار التوابل والمنسوجات الحريرية الآسيوية الموردة إلى أوروبا، وقد نتج عن ذلك أيضا بداية انهيار القوى الأوروبية التجارية، وعلى رأسها البندقية وجمهورية «راجوسا» وهي ميناء «دوبروفنيك» اليوم، بينما انحصرت قوة العثمانيين في المتوسط وشرق أوروبا، وقد حاول السلطان سليمان القانوني تعديل الوضع في 1547 بإرسال قوة بحرية لضرب طريق التجارة البرتغالي، ولكنها هُزمت مرة أخرى. أما في مصر، فإن هذه الهزيمة مثلت نهاية الدور الذي لعبته على المستوى الدولي كقوة عظمى ومن بعدها لم تعد قوة دولية، واكتفى التاريخ بمنحها دورا قويا كقوة إقليمية فريدة بعد بناء مصر الحديثة على أيدي محمد علي في مطلع القرن التاسع عشر.
إن معركة «ديو البحرية» هي في حقيقة الأمر تجسيد لحقائق عدة، لعل أهمها هو أن عصر العولمة بمفهومه الواسع قد بدأ مع الاستكشافات الجغرافية، ولم يكن لمصر أو القوة الإسلامية الأخرى، ممثلة في الدولة العثمانية، دور فيه، بل إنهما كانا على نقيض حركة التاريخ، وغير راغبتين في اللحاق بالحركة الدولية الجديدة، فلم يستثمرا في حركة التاريخ، واكتفيا بمحاولة وقف عجلته لأسباب تتعلق في الأساس بعدم القدرة على السيطرة على أدواته لغياب بُعد القوة البحرية القادرة في السياسة الدولية، فضلا عن ترك حركة الاستكشافات للغير، وهو ما أفقدهما الحصول على رأس المال الجديد الذي ولدته الثورة التجارية الدولية التي فجرت في القرنين السادس عشر والسابع عشر، وهنا يمكن القول بأن الدولة المصرية والعثمانية وضعتا أرجلهما على أول طريق الخروج من الحلبة السياسية الدولية، الأولى بعد معركة «ديو» التي أعقبها وقوعها فريسة لتوسع الدولة العثمانية، والثانية عندما تقطعت أيديها البحرية بعد معركة «ليبانتو» البحرية الشهيرة في 1573 وانحسار مدها البري بعدها بعدة عقود.



حذر روسي في التعامل مع «انفتاح» ترمب على كسر الجليد مع موسكو

من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)
من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)
TT

حذر روسي في التعامل مع «انفتاح» ترمب على كسر الجليد مع موسكو

من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)
من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)

طوال فترة الحملات الانتخابية في الولايات المتحدة، حرص الرئيس المنتخب دونالد ترمب على تأكيد قدرته على كسر كل الحواجز، وإعادة تشغيل العلاقات مع موسكو عبر تفاهمات سريعة وفعالة لوقف القتال في أوكرانيا، ووضع خريطة طريق لمعالجة الملفات الخلافية المتراكمة مع الكرملين. وقبل أيام قليلة من تسلم صلاحياته رسمياً، برزت اندفاعة جديدة من الرئيس الجمهوري نحو روسيا، عندما أعلن استعداده لتنظيم لقاء عاجل مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين يرسم ملامح العلاقة المستقبلية ويضع خطط إنهاء الحرب وتخفيف التوتر على مسار التنفيذ. لكن اللافت أن هذه التصريحات لم تُقابَل بشكل حماسي في روسيا. بل فضَّل الكرملين التزام لهجة هادئة تؤكد الانفتاح على الحوار، مع التذكير في الوقت ذاته، بعنصرين ضروريين لنجاح أي محاولة لكسر الجليد بين البلدين، أولهما اتضاح الملامح الأولى لرؤية الرئيس الأميركي الجديد لتسوية الملفات الخلافية المتراكمة، والآخر التذكير بشروط الكرملين لإنهاء الحرب في أوكرانيا. وبالتوازي مع ذلك، بدت تعليقات الأوساط المقربة من الكرملين متشائمة للغاية، حيال فرص إحراز تقدم جدّي على أي مسار... لا في الحرب الأوكرانية ولا العلاقات مع «ناتو»، ولا ملفّات الأمن الاستراتيجي في أوروبا.

لا ينظر أحد في روسيا بجدية إلى إمكانية تحقيق قفزات سريعة تؤدّي إلى تحسّن العلاقات مع الولايات المتحدة، وتضع إطاراً واقعياً للحوار حول الملفات الخلافية. وعلى الرغم من أن الرئيس الأميركي العائد دونالد ترمب صرّح مرّات عدة بأن موقف روسيا يمكن فهمه، وأن سبب الصراع كان إلى حد كبير السياسة المناهضة لروسيا التي تنتهجها «الدولة العميقة» الأميركية، فإن الأوساط الروسية تنظر بريبة إلى قدرة ترمب، العائد بقوة إلى البيت الأبيض، في تجاوز الكثير من «المطبّات» التي تعترض طريق إعادة تشغيل العلاقات بين موسكو وواشنطن.

رسائل روسية واضحة

في هذا الصدد، كان لافتاً أن موسكو تعمّدت توجيه رسائل واضحة إلى الإدارة الأميركية الجديدة، عبر إطلالتين إعلاميتين لشخصيتين تعدّان من أبرز المقربين لبوتين، هما وزير الخارجية سيرغي لافروف والمستشار الرئاسي وعضو مجلس الأمن الروسي نيكولاي باتروشيف. وفي الحالتين كان التوقيت وشكل التعامل مع «اندفاعة ترمب» يحظيان بأهمية خاصة.

جوهر كلام المسؤولين ركّز على قناعة بأن العالم قد يكون أمام «فرصة حقيقية للسلام» في عهد ترمب، بيد أن الانفتاح الروسي على الحوار مرتبط باستناد هذا الحوار إلى أسس «مبادرات ملموسة وخطوات ذات معنى بشأن الاتصالات على أعلى مستوى»، والأهم من ذلك، أن تتوافر لدى ادارة ترمب «اقتراحات محددة» بشأن أوكرانيا، وفق تعبير لافروف.

والاقتراحات المحددة المطلوبة روسياً، ينبغي أن تنعكس - كما قال الوزير – بـ«جدية في الاستعداد لحل المشاكل المتراكمة عبر الحوار لا عبر الضغوط والتهديدات» التي لم ينجح سلف ترمب في معالجتها.

وفي إشارة ذات مغزى، قال لافروف إنه «من المفيد أن نرى ما هي الأساليب التي سيستخدمها ترمب لجعل أميركا أعظم». وهذه عبارة أكملها باتروشيف بقوله: «هل سيكون ترمب قادراً على ترجمة نواياه بالكامل؟ وكما أظهرت ولايته الأولى، فإن (الدولة العميقة) السيئة السمعة في الولايات المتحدة... قوية للغاية».

أوكرانيا «رأس الأولويات»

الموقف الذي أعرب عنه المسؤولان الروسيان ينطلق من «الاستعداد للمناقشة والاتفاق على أي شيء باستثناء شيء واحد - أوكرانيا. (...) لقد عبّرنا عن موقفنا مراراً وتكراراً، وهو موقف لا يمكن تغييره». وفي هذا الإطار، لوّح لافروف بأنه إذا توصّلت روسيا إلى استنتاج مفاده أن واشنطن ستواصل دعم «النظام النازي المعادي في كييف» فإنها (أي موسكو) ستضطر إلى اتخاذ قرارات صعبة. في حين قال باتروشيف إن أوكرانيا «قد تختفي عن الخريطة خلال هذا العام» إذا استمرت السياسات الغربية السابقة.

الرسالة الروسية الثانية لترمب كان فحواها أن أي تسوية أو ضمانات لأوكرانيا، يجب أن تكون مرتبطة باتفاقيات أوسع نطاقاً. وهنا قال لافروف إن «روسيا مستعدة لمناقشة الضمانات الأمنية لأوكرانيا، لكنها يجب أن تكون جزءاً من اتفاقيات أكبر». بينما أوضح باتروشيف أنه بالإضافة إلى التوصل إلى ترتيبات أمنية في القارة الأوروبية «يجب وقف التمييز ضد السكان الروس في عدد من البلدان، وبالطبع، في دول البلطيق ومولدوفا».

أما النقطة الثالثة التي تحدّد شروط الحوار، فتنطلق من ضرورة البدء بمنح روسيا ضمانات كاملة عبر ملفي: وقف مسار ضم أوكرانيا إلى حلف شمال الاطلسي (ناتو) وتأكيد حيادها لعشرات السنوات، وتقليص القدرات العسكرية لهذا البلد ومنع تسليحه مجدداً.

هكذا، ترى موسكو المدخل الصحيح للحوار، الذي يجب أن يتأسس - كما قال الرئيس الروسي سابقاً - على قاعدة الإقرار بالتغييرات الميدانية التي وقعت خلال سنتين، بما يضمن الاعتراف الغربي بضم شبه جزيرة القرم والمناطق الأربع التي ضمتها روسيا خلال عام 2022.

تشكل هذه القاعدة التي تنطلق منها موسكو سبباً وجيهاً للتوقعات المتشائمة حول فرص إحراز تقدم، تضاف إلى الشكوك المحيطة بقدرة ترمب الفعلية على تجاوز كل العقبات والضغوط الداخلية والانطلاق نحو تقديم تنازلات مهمّة للروس.

يرى خبراء روس أن ترمب لن ينجح في قلب الموازين الداخلية،

لصالح إطلاق تغييرات جذرية في السياسة الخارجية الأميركية

التداعيات على أوكرانيا

كيف يتأثر الوضع في أوكرانيا؟

في هذا الإطار، وضع أحد أبرز خبراء السياسة في «المجلس الروسي للسياسة والأمن»، وهو مؤسسة مرموقة ومقربة من الكرملين، التصور التالي لشكل العلاقة مع ترمب في ملفات رئيسة:

بدايةً، في أوكرانيا ستفشل محاولة ترمب للتوصل إلى وقف إطلاق النار على طول خط التماس. وذلك لأن المخططات الأميركية لـ«وقف الحرب» تتجاهل تماماً المصالح الأمنية الروسية، كما تتجاهل الأسباب التي أدت أولاً إلى الأزمة ثم إلى الصراع العسكري واسع النطاق في أوكرانيا.

في المقابل، لن تقبل واشنطن الشروط الروسية لبدء المفاوضات ومعايير السلام التي أعلن عنها الرئيس فلاديمير بوتين في يونيو (حزيران) الماضي؛ لأنها تعني في الواقع استسلام كييف وهزيمة استراتيجية للغرب. وخلافاً لتوقعات التهدئة، فإن ترمب «المهان»، رداً على رفض خطته، سيعلن دعمه لأوكرانيا ويجمع حزمة أخرى من العقوبات على موسكو. لكنه في الوقت نفسه، سيمتنع عن التصعيد الجدي للصراع؛ كي لا يستفز روسيا ويدفعها إلى ضرب أراضي دول «ناتو»، بما في ذلك القواعد الأميركية الموجودة هناك. ومع هذا، ورغم غطاء الخطاب القاسي المعادي لروسيا، فإن المساعدات الأميركية لنظام كييف ستنخفض، وسيتعيّن على الأوروبيين تغطية العجز الناتج من ذلك. ومن حيث المبدأ، فإن الاتحاد الأوروبي مستعدٌ لذلك، وبالتالي لن يكون هناك خفض كبير في الدعم المادي لأوكرانيا من الغرب في العام الجديد على الأقل.

إلى جانب ذلك، قد تحاول واشنطن، وفقاً للخبير البارز، بدعم من بريطانيا وحلفاء آخرين، تعزيز الموقف السياسي الداخلي لنظام كييف من خلال المطالبة بإجراء انتخابات في أوكرانيا، وبالتالي استبدال فولوديمير زيلينسكي وفريقه المكروهين بشكل متزايد بمجموعة أخرى بقيادة رئيس الأركان السابق فاليري زالوجني. لكن التأثير السياسي المحلي لمثل هذا الاستبدال سيكون قصير الأجل.

العلاقة مع أوروبا

أيضاً، يرى خبراء روس أن ترمب لن ينجح في قلب الموازين الداخلية، لصالح إطلاق تغييرات جذرية في السياسة الخارجية الأميركية. وهذا يعني أنه لن يحقق وعوده حيال علاقة الولايات المتحدة مع «ناتو»، وبدلاً من ذلك، سيرفع السعر الذي يتوجب على الأوروبيين دفعه للانضمام إلى التكتل.

ووفقاً لبعض الخبراء، سيكون لزاماً على الأوروبيين، الذين كانوا يخشون عودة ترمب، أن يقسموا يمين الولاء له. وبالتالي، «لن تكون هناك معارضة ضد ترمب بأي شكل من الأشكال؛ لأن دول الاتحاد الأوروبي تحتاج إلى أميركا زعيمةً: ليس فقط حاميةً عسكريةً، بل وأيضاً زعيمةً سياسيةً ــ لا تقل عن حاجتها إلى روسيا باعتبارها «تهديداً مباشراً على الأبواب».

بهذا المعنى، تتطابق آراء الخبراء في مسألة أن «العداء لروسيا سيظل العامل الحاسم في توحيد أوروبا في عام 2025».

ويضيف بعضهم القناعة بأنه خلافاً للفكرة الرائجة بأن الأوروبيين متردّدون في مواجهة روسيا، بشكل رئيس بسبب الضغوط الأميركية، فإن الحقيقة أن روسيا، باعتبارها عدواً، تشكل عاملاً قوياً في توحيد النخب الأوروبية ودولها. بمعنى أنه كان لا بد من «اختراع التهديد الروسي»، وتقديم الحرب في أوكرانيا باعتبارها المرحلة الأولى من «الاختطاف الروسي لأوروبا».

في السياق ذاته، ينظر إلى الانتخابات المقبلة في ألمانيا، بأنها ستحمل إلى السلطة ائتلافاً جديداً، سيعمل أيضاً على تشديد السياسة تجاه موسكو. ولكن في الوقت نفسه، من غير المرجح إرسال قوات أوروبية إلى أوكرانيا بناءً على دعوة من فرنسا، لأن أوروبا تنظر إلى خطر الصدام العسكري المباشر مع روسيا على أنه مفرط في المخاطرة.

وداخلياً، ينتظر أن تواصل أوروبا الاستعداد بنشاط للحرب مع روسيا - وفقاً لأنماط الحرب الباردة في النصف الثاني من القرن العشرين، لكن على حدود جديدة، تحولت بشكل كبير نحو الشرق. كذلك، سيزداد الإنفاق العسكري للدول، ويتوسع الإنتاج العسكري، وتتحسن البنية التحتية العسكرية، وبخاصة، على الجانب الشرقي لـ«ناتو». وبناءً عليه؛ سيصبح المناخ الاجتماعي والسياسي أكثر صعوبة أيضاً.

وهكذا، بشكل عام، يقول خبراء روس إن عام 2025 عموماً سيكون مليئاً بالصراعات، الممتدة من عهد ولاية الرئيس جو بايدن حول روسيا وفي أوروبا، كما سيكون محفوفاً بالمنعطفات غير المتوقعة والخطيرة.

ومع القناعة بأن الاضطراب الاستراتيجي يتزايد باطراد، فإن نتيجة المعركة من أجل النظام العالمي الجديد ليست مُحددة مسبقاً بأي حال من الأحوال. إذ إن نقطة التوازن الافتراضية في النظام العالمي لا تزال بعيدة كل البعد عن الأفق. وفي هذا الصدد، يرون أن روسيا ستواجه في عهد الإدارة الجديدة تحدّيات جديدة في العديد من المجالات... ولا بد أن تكون مستعدة لها.