عبد الرحمن رفيع يرقد على وسادة البنات

شاعر «اللغة الوسطى» و«الحكواتي» الذي حول قصائده إلى لوحات مسرحية

عبد الرحمن رفيع
عبد الرحمن رفيع
TT

عبد الرحمن رفيع يرقد على وسادة البنات

عبد الرحمن رفيع
عبد الرحمن رفيع

بين الأمل والرجاء، يرقد الشاعر الذي أبهج الناس ردحا من الزمن، وكانت صلة الوصل بين قديمهم الجميل وحاضرهم، ومثلت قصائده صورة متحركة للحارة الشعبية الخليجية وشخصياتها ويومياتها التي أداها شعرا بأسلوب مسرحي فكاهي.
الشاعر الذي تغزل بالبنات، حتى قبل أن يعرف جيله معنى الغزل، ورأى أن الدنيا تبقى مستوحشة «لولا البنات»: «فتّح عيونك وقل لي: مثل شنهو هالحياة؟ لولا الـبنات - شكثر كانت كريهة هالحياة»! لشاعر عبد الرحمن رفيع، يرقد حاليا على الفراش الأبيض في المستشفى العسكري بالبحرين، منذ منتصف ديسمبر (كانون الأول) من العام الماضي، تحفه قلوب جمهوره الذين وجدوا أنفسهم وذكرياتهم وأحلامهم الماضية في قصائده الشعبية.
إنه شاعر من الزمن الجميل، من الأيام الخوالي التي كانت تشع بعبق التراث، تشدك كلماته وأشعاره دون أن تشعر، إلى الحارة الخليجية حيث شخصيات الشاعر التي ظلت منتصبة طيلة 60 عاما في شعره ومساجلاته، حيث استطاع أن يحركها ويلاعبها بما يشبه المسرح الشعري المتقن الأداء، فبدت قصائده حافلة بالمشاهد المتحركة لشخصيات من البيئة المحلية تحكي وتساجل وتناقش وتدافع في حوارات هزيلة تارة وجادة تارة أخرى، ولكنها لاذعة من خلال الرسالة التي تحاول إيصالها. اختار أن تكون قصائده بهذا الشكل لكي تؤدي دورها في المتلقي، وهو القائل:
إذا الشعر لم يهززك عند سماعه
فليس جديرا أن يقال له شعر
وهو الشاعر الذي انحاز للقرية، وأزقتها، وشخصياتها، وتشابك العلاقات بين أفرادها، وراح ينسج منها الحكايات على هيئة قصائد شعبية ممسرحة، تروي جانبا من الحياة اليومية، وتؤدي عملا استعراضيا أبطاله شخصيات نسجها عبد الرحمن رفيع في قصائده، مستخدما لغة ترتقي على العامية، وهي دون الفصحى، يصطلح على تسميتها بـ«اللغة الوسطى»، كما قال ذات مرة لـ«الشرق الأوسط» منتصف التسعينات من القرن الماضي، مستحضرا رسالته التي يحملها ويتفانى من أجلها، وهي الوصول للناس وإسعادهم.
وبحسب رواية للدكتور عبد الله الغذامي قالها في أمسية تكريم عبد الرحمن رفيع في صالون عبد المقصود خوجة، فإن الشاعر رفيع اشتكى في لقاء تلفزيوني في القاهرة مع فاروق شوشة: «من أن الناس صنفوه شاعرا عاميا، وهو في الأصل شاعر عربـي فصيح، ولكنه أخذ القصيدة الشعبية لكي يصل إلى الناس، أي أن قضيته هي الناس وليست مجرد القول».
ولد عبد الرحمن محمد رفيع في العاصمة المنامة عام 1936، وبعد إكماله دراسته الثانوية هناك اتجه لدراسة الحقوق بجامعة القاهرة في مصر. غير أنه قطع دراسته في السنة الثالثة، عائدا إلى بلاده ليعمل معلما. ولسنوات طويلة عمل في وزارة الدولة للشؤون القانونية، قبل انتقاله إلى وزارة الإعلام مراقبا للشؤون الثقافية. وفي مسيرته الشعرية أصدر 9 مجموعات شعرية فصيحة وعامية، أهمها: «أغاني البحار الأربعة) 1971: «الدوران حول البعيد» 1979، و«يسألني» 1981، و«لها ضحك الورد»، و«ديوان الشعر الشعبي» 1981، و«ديوان الشعر العربي»، و«أولها كلام» 1991.

الشعر المسموع
لا يمكن الدخول إلى مدرسة عبد الرحمن رفيع الشعرية، دون اصطحاب المدرس الشاعر. لأن شعر عبد الرحمن رفيع العامي أصبح مسموعا يعتمد على طريقة الشاعر (الحكواتي) على النمط الخليجي - البحريني (تحديدا) في نطق الحروف وإدغام الكلمات واستخدام الإيقاعات الصوتية، وغالبا فإن أحدا سوى الشاعر نفسه لن يُتقن أداء الإشعار التي ينظمها.
وهذا التلاقي والتطابق بين شخصية الشاعر والنصّ الشعري جعل الأخير رهينا لشفتي عبد الرحمن رفيع، لكنه كان الحائل دون الانتشار عربيا، والخروج بالنص من الإطار الخليجي إلى الفناء العربي.
في لقائه القديم معي سألته عما يشعر إزاء ذلك، فقال: «مشكلة شعري أنه مسموع أكثر منه مقروءا.. وهذه مشكلة العامية، فشعري يعتمد على الأذن، على طريقة الشعر القديم، عند العرب، في الجاهلية، حيث كانت الأذن سامعة والكُتّاب كانوا يعدون على الأصابع، فكان الإنسان العربي يعتمد على حاسة السمع:
إذا الشعر لم يهززك عند سماعه
فليس جديرا أن يقال له شعرُ
سألت الشاعر رفيع: ولكن أحدا لن يفلح في قراءة أشعارك بالشكل الذي تؤديه أنت؟
فقال: لأن الآخر لم يتقمص العمل تماما، لكنني ألتزم باللغة الثالثة التي يصفها توفيق الحكيم باللغة الوسطى، أحاول أن استخدم كلمات متداولة ومفهومة، فلا أغوص في الأعماق الشعبية، ولكن اعتمد على لغة التخاطب المتداولة، اللغة البسيطة.

حارس الحارة
لا يفتأ عبد الرحمن رفيع يتحسر على الصورة القديمة للحارة التي كان يعيش فيها، وقصائده دائمة الشكوى من تبدل الأحوال، وكأنه نصّب نفسه حارسا للتراث، وحاميا للطراز القديم من أنماط الحياة، هو يقول:
كانت البنت في زمانا
في السكيك مول ما اتردد
لو اطلعت من بيتها مره
في السنة اتروح اتحمد
ولو اطبقوها من الدريشه
اتطل من الخوف اتبريد
وكنتُ سألته عما يقلقه من تبدل الأحوال، فقال: سواء قلقنا أم لم نقلق، فالزمن لا بد أن يأخذ مجراه، والزمن لا يرحم، وعجلة التطور تبقى سائرة، لكننا نحنُّ إلى ذلك التراث ونحاول أن نبقي على قيمنا التي تربينا عليها. فمثلا في قصيدة لي بعنوان «سوالف أمي العودة» أحاول أن أتذكر مفرداتنا التراثية، وأقارنها بنظائرها أو بدائلها المعاصرة وأمازج بينها على طريقة «الديالكتيك الهيغلي»؛ القضية ونقيضها، وجاء في تلك القصيدة:
يدتي أمي العوده: طيبه من نسوانا لول
اقعديت مره معاها قلت
لها سولفي عن أول
قلت لها يا يده سولفي لي عن الليله العظيمة
ليلة الزفة اللي راحت
وأصبحت أخبار قديمه؟
قالت الزفه خذوني مريم وبنا وحليمه
في وسط زوليه حمرا
بالغصب جني يتيمه
وقالو اسم الله عليها
وهالحسن الله يديمه
العروس فأيامنا جانت تستحي وعاجله وفطينه
والعروس في أيامنا هذي
تقضب الزوج من يمينه
رافعتن رأسها كأن فوق
ويها ايلود متينه
الشعر الفصيح
رغم أن عبد الرحمن رفيع، عرف بوصفه شاعرا شعبيا، إلا أن قصائده التي نظمها باللغة الفصحى لا تقل أهمية عن عشرات القصائد العامية، ولعل قصيدته: من هنا الخليج. تعد واحدة من أكثر القصائد الفصيحة التي يعتز بها الشاعر، وجاء فيها:
من حقبة النفط يصحو مرة أخرى
يُثري الحياة.. كما من نفطه أثْرى
قفوا جميعا له، إن الخليج بدا
من الجهالة، من أسمالها، يعْرى
خمسون عاما مَضَتْ، شاد الأساس بها
واليوم ينهضُ، حتى يدخل العصرا
ما عاد بائع نفطٍ، مثلما زعموا
بل رائد يصنع التاريخ والفكرا
هذا الخليجي، هيهات الوقوف له
أمام وثبته، لما نوى الإسرا
يريد إيصال ماضيه بحاضره
والشرق بالغرب، لا يُمنى ولا يُسرى

غازي القصيبي وشقة الحرية
كثر الحديث عن علاقة الشاعر عبد الرحمن رفيع، بصديقه الشاعر والوزير الراحل غازي القصيبي، وكلاهما تحدث عن هذه الصداقة علنا وفي أمسيات متعددة، وهناك من حاول أن يفتش عن شخصية عبد الرحمن رفيع في رواية القصيبي «شقة الحرية»، فقد ذكر وزير التجارة السعودي السابق الدكتور سليمان السليم أن «محمد كانو ومحمد صالح الشيخ، وسليمان السليم وخالد القريشي كانوا من رواد تلك الشقة» («الشرق الأوسط» 21 أغسطس/ آب 2010)، وفي مورد آخر يقول الوزير السليم: «كان سكان الشقة وروادها - كغيرهم - متنوعي التوجهات، لكن معظمهم كان متابعا لكرة القدم، وعندما فاز الأهلي على الزمالك (4 - 1) أقيم حفل مهيب في الشقة، حيث شمر عبد الرحمن رفيع عن ساعديه، وأدى تحية تشرشلية، لكن بـ4 أصابع، ثم ألقى قصيدة عصماء مطلعها: «تصبر يا زمالك فالهزيمة على ناديكم كانت أليمة» («الشرق الأوسط» 9 أكتوبر/ تشرين الأول 2010).
وفي حين كان رفيع يقول إن «شقة الحرية» هي سيرة ذاتية، كان الدكتور سليمان السليم يصّر على أن «شقة الحرية.. ليست سيرة ذاتية، كما أنها ليست قصة خيالية. هي أقرب ما يكون لـ(دوكيو دراما)؛ سجل مضخم أو طبخة ببهارات مناسبة، أجاد غازي خلطتها لحقبة من حياة طلاب خليجيين في مرحلة من تاريخ مصر» («الشرق الأوسط» 9 أكتوبر 2010).
لكن من الثابت أن علاقة صداقة وطيدة ربطت بين القصيبي وعبد الرحمن رفيع، بدأت منذ الخمسينات حين كان القصيبي مقيما مع أسرته في البحرين، وقد بدأت هذه العلاقة وهما في الصف الأول الثانوي، وامتدت حتى وفاة القصيبي، والواضح أنهما تزاملا معا في الدراسة الجامعية في القاهرة، خلال مدة الخمس سنوات التي أقام فيها رفيع في القاهرة لدراسة المرحلة الثانوية ودراسة الحقوق بجامعة القاهرة، قبل أن يقطع دراسته في السنة الثالثة ويقفل عائدا للبحرين.
في تلك الفترة، كان رفيع يساجل صديقه القصيبي بالشعر في مناسبات متكررة، وقد أورد مشاهد من تلك المساجلات، قال مرة في أمسية أقيمت له في صالون عبد المقصود خوجة في جدة: «زاملت الدكتور غازي القصيبي خلال دراستنا بالقاهرة لمدة 4 سنوات، بل 5، حصلنا فيها على شهادات الثانوية العامة، ثم واصلنا دراستنا الجامعية؛ ففي أوائل أيام التحاقنا أقبلت فتاتان وجلستا أمامنا، فتساءلتُ لماذا اختارت هاتان البنتان هذا المكان؟ وكانت إحداهما كالحصان والأخرى صديقتها.. وكان غازي يكتب ما يعن له من الأبيات الشعرية خلال إلقاء الدكتور المحاضرة، ثم يعطيني إياها لقراءتها، وأقوم أنا بعد ذلك بالرد عليه. ومن تلك المحاورات هذه المقطوعات. كتب غازي:
إيه يا تافهة مغرورة
أي شَيْءٍ فيك يَدْعُو للغرورِ
أَتُراه الْوجه إذ غطيته
بدثار من صباغٍ وعطورِ
أم تراهُ الشَعر يا آنستي
إذ جعلتِ منه أذناب الحميرِ
فرددتُ عليه:
تلكَ حسناءُ على أهدابِها
يرقصُ الشوقُ وإعلاءُ الصُقورِ
تَركَتْ عقلك يهذي عندما
تتراءى مثل شَمسٍ في بدورِ
أنت مهما قُلتَ في تقبيحها
إنها تَسْطَع كالبدر المنيرِ
وفي أكثر من مناسبة روى عبد الرحمن رفيع جوانب من علاقاته الوطيدة مع القصيبي، شملت أيضا الفترة التي شغل فيها القصيبي سفيرا للسعودية لدى البحرين، ثم انتقاله إلى لندن.
وفي مساجلاته المتكررة مع غازي القصيبي يروي عبد الرحمن رفيع أنه تحدى صديقه القديم أن يأتيه بقصيدة في الأدب العربية تنتهي بتاء مفتوحة.. وبعد طول بحث عجز القصيبي أن يأتيه (كما يقول) بتلك القصيدة، لكن رفيع استخرج له قصيدة نظمها في الرباط في أغسطس (آب) 1993. يقول فيها:
أحورا ما أراه أم بناتا
فلم أر قبل حسنهم بتاتا
إذا قاموا لمشي أو لرقص
تفتت منهم قلبي فتاتا
وبات الليل يشكو من هواهم
ولم يكُ قبل ذلك قط باتا
لقد ذبحوا فؤادي ذبح شاة
فرفقا بي فقلبي ليس شاتا
رأيتهمو فنحت على شبابي
وسيفٍ في قد عشق السباتا
وقلتُ من التحسر ليت شعري
لقد ذهب الزمان بنا وفاتا
أطلعهم فأدعوهم بكفي
كما يدعو الكبار الطفلَ «تا.. تا»
ألا ليت الشباب يعود يوما
ولكن الشباب اليوم ماتا
وفي عام 2003، عين غازي القصيبي وزير للمياه والكهرباء، كتب إليه عبد الرحمن رفيع مهنئا:
وزير الماء عشت أبا سهيل
كي تروي لنا القفر الفقيرا
أراني لست أدري هل أهني
أم أني أسكب الدمع الغزيرا
أو يجدي البكاء على عذاري
ويرجع ماؤها عذبا نميرا
ولم يبقَ بجوف الأرض ماء
لكي تمسي على ماء وزيرا
وهو رثى القصيبي في قصيدة من أبياتها:
سأكتب عنه اليوم كي أظهر الفضلا
ومن ذا الذي في فضله يدعي الجهلا
سأكتب عن غازي فتى الشعر هائما
بحب «أوال» ينشد البحر والنخلا
ستبقى على ثغر الزمان رواية
وتبلى الليالي الفانيات ولا تبلى



الفن المعاصر من الجمالية إلى صناعة القيمة

المؤرخة أود دو كيروس
المؤرخة أود دو كيروس
TT

الفن المعاصر من الجمالية إلى صناعة القيمة

المؤرخة أود دو كيروس
المؤرخة أود دو كيروس

لعل من أهم سمات الكتابات النقدية المواكبة لتحولات الفن المعاصر عبر العالم، تلك التي تقرنه دوماً بمسعى الانزياح الجذري بدلالات كلمة «فن»، على نحو يجعله معاكساً في كثير من الأحيان لتقاليد التشكيل البصري الخاضع للقواعد، في الرسم والصباغة والنحت، ومناهضاً لثقافة التحفة المرتكزة على مفاهيم فلسفية، متصلة بأذواق نخب محدودة ذات تكوين فني متين. لتنتقل إلى كونها شاملة لـ«أغراض» تجارية متباينة، موجهة لطبقة جديدة من الأثرياء، منفصلة عن المعايير الجمالية والأكاديمية المستقرة، وخاضعة لنوازع استهلاك المنتج الفاخر، وما يتصل به من رغائب إبراز الرفاه. وهو الفهم الذي يبرز للنظر انتقال الفن من وضع «التعبير الثقافي» إلى كونه تمثيلاً «لانتماء طبقي».

في هذا السياق، يتموضع كتاب «الفن المعاصر، التلاعب والجغرافيا السياسية» (منشورات إيرول، باريس، 2025) - Art contemporain, manipulation et géopolitique- وهو الإصدار الأخير للناقدة ومؤرخة الفن الفرنسية أود دو كيروس Aude de Kirros، التي اكتسبت شهرتها عبر العقود الثلاثة الأخيرة بوصفها من أكبر الباحثات المرتابات في واقع الفن اليوم، ومن أشد المعترضين على اختراقات الفن المعاصر لقواعد التشكيل البصري، ومن أكثر النقاد تشدداً في تحليل معايير تصنيف الأعمال ومنحها معادلات مالية. هي القادمة إلى عوالم الأروقة والمتاحف ومزادات الأعمال الفنية من مسار تعليمي توزع بين معهد الدراسات السياسية، وكلية الحقوق، ومحترفات الحفر (الغرافيك) في باريس، لتنتج أعمالاً بنكهة فلسفية لا تخفي تولعها بالسياسة والاقتصاد والسوسيولوجيا، من قبيل: «الفن الخفي، المنشقّون عن الفن المعاصر»، و«السنوات السوداء للرسم: 1983 – 2013»، و«قداسة الفن المعاصر، الأساقفة والمفتشون والمفوّضون»، و«خديعة الفن المعاصر، طوباوية مالية». إصدارات جعلت إسهاماتها المكثّفة في الحياة الفنية تتجلى عبر إدراك ناضج لعمق التحوّلات التي شهدها الفن عبر أصقاع الكون.

يتناول الكتاب موضوع الفن المعاصر في صلاته بما يمكن وسمه بـ«صناعة القيمة»، عبر تحليل نقدي لسوق الفن المعاصر، يضع تحت مجهر الاختبار السياقات الجيوسياسية والاقتصادية العالمية، متجاوزاً التحليل المستند إلى قراءة وتأويل مرتكزات الخطاب الجمالي البحت؛ إذ تناقش أود دو كيروس تلك المرتكزات بوصفها عتبات لما بعدها، انطلاقاً من افتراض نقدي يرى أن الفن المعاصر، خاصة الأعمال التي تباع بأسعار خيالية، لا تعكس في وضعها ذاك «ذوقاً» أو «تعبيراً فنياً» فقط، عبر صور لا تخلو من تطرف، بل إنها غدت، على نحو ظاهر، تتخطى منطلقات الأسلوب «المفاهيمي»، الزاهد في أشكال اللوحة والمنحوتة المأثورتين، لتتحول إلى أداة نافذة شديدة التأثير في أيدي النخب والمؤسسات المالية والجهات الحكومية، توظفها بحرص ووفق شروط معقدة لخدمة مصالحها الخاصة. وبتعبير الباحثة في إحدى فقرات الكتاب: «لقد توقّف الفن المعاصر عن أن يكون مجرد مفهوم صرف، محصور تداوله في دائرة صغيرة من (السعداء المعدودين) الذين يتغذّون على غموضه. وأصبح فنّاً (جامعاً لكل شيء)، يضمّ كل المفاهيم: الفن، والموضة، والتصميم، وما سوى ذلك» (ص 16).

يمتد الكتاب على 4 فصول، ومقدمة، وخلاصات، وفهارس، في أزيد من 350 صفحة، تتخذ العناوين الفرعية التالية: «فنون في زمن الحرب» وهو الفصل الأول المشتمل على مبحثين، تدرس في الأول «البدايات الطوباوية للفن العالمي ما بين 1917 - 1991»، وتعالج في الثاني «التحوّل ذو الطابع الهيمني للفن ما بين 1990 - 2000 »، وتخصص الفصل الثاني: لـ«الحقبة العالمية في عقدي 2000- 2020» وتتناول فيه عبر مبحثين قضايا: «أوج النموذج الهيمني»، ثم «بزوغ العصر متعدد الأقطاب»، وتتناول في فصل ثالث: «خرائطية الفن المعاصر: من الهيمنة إلى التنافس»، وفي الفصل الرابع والأخير الموسوم بـ«قوى جديدة وتقنيات جديدة: ثورة الفن عالمياً»، تخوض في تحولات العقود الفنية الأخيرة عبر مبحثين، أولهما عن: «آخر حروب الفن، سنوات 2010–2020»، والثاني عن «التحولات النسقية للفن المعاصر ما بين 2020–2024».

والحق أن التحليل النقدي في هذا الكتاب، الذي لا يخلو من نبرة سجالية ملحوظة، يذهب في مجمله إلى تبني نظرة تاريخية محكومة ببنية الصراع السياسي - الاقتصادي، حيث يوَظَّف الفن المعاصر، من جهة، من حيث هو نتاج لقضايا العنصرية والعولمة وتغير المناخ والتحول الجنسي... ومن جهة ثانية، بوصفه حصيلة للتحكم المؤسساتي، وهو ما يبرر الانتشار السريع لتيارات الفن المعاصر المتفاقمة عبر العالم، وسعيها لإخضاع ما سواها. ولا غرابة بعد ذلك أن لا تالو الباحثة جهداً في إبراز أن عالماً يفيض بالصور والعروض والاحتفالات الفنية، التي روّجت لها إقامات فنية وأروقة ومتاحف شهيرة عبر العالم من نيويورك إلى سيدني، ومن لندن إلى باريس ومن داكار إلى دبي،... أصبح معها الفن المعاصر المدعوم مؤسساتياً والمسنود مالياً، عبر سياسات حكومية شتى، الأكثر حضوراً، على نحو يغمر المشهد بشكل شبه كلي، حيث بات يشكل واجهة براقة تحجب خلفها ما تبقى من تجارب فنية أخرى.

وغير عصي عن البيان أن هذا الوهج المتصل لا يكشف حقيقة الفن، بل يخلق واجهة مكتفية بذاتها، بحيث يبدو كل ما يقع خارج دائرة الضوء كأنه غير موجود أصلاً. وشيئاً فشيئاً تنزلق أعمال استثنائية كثيرة من داخل هذا المشهد المزدحم إلى منطقة العتمة، لا لأنها تعجز عن التأثير، بل لكونها تفتقد لمجال يسمح لها بالتجلي. ومع مرور الوقت، لا تتوارى هذا التجارب إلى الخلفية فحسب، بل تُدفَع إلى حالة من الانمحاء تجعل وجودها نفسه موضوعاً للشك، ويحتاج من يشتغل عليها إلى إثبات أنها ما تزال حية.

ولا ينفصل الدور التحكمي للمؤسسات الفنية الكبرى من إقامات وأروقة ومتاحف، التي تسلط أود دو كيروس عليها الضوء، عن وظائف المُموِّلين الخواص، وبعض الحكومات في تشكيل الذوق العام، والتلاعب بقيمة الأعمال الفنية، ما يُرسخ هيمنة المركز الغربي على المشهد الفني العالمي من جهة، ولا يترك لمفاهيم من قبيل «الجمهور الفني» و«جامعي الأعمال الفنية» و«تلقي المعارض»، دلالات واضحة، خارج ما تكسبها إياه تلك المؤسسات والسياسيات المتصلة بها، بحيث يتجلى الأمر كما تبرزه الباحثة في أكثر من موضع في الكتاب، من حيث هو «صناعة» لاعبين كبار، لهم قدم في الواجهة البراقة لأعمال «التركيب الفني» و«الهوت كوتير» و«تصاميم المجوهرات» و«أعمال الديكور»... وقدم في الخلفية المعتمة للمال ورهاناته ومضارباته ومآزقه.

ولا جرم بعد ذلك أن تكون «صناعة القيمة» تعريفاً مهذباً لما يمكن أن يكون عليه «التلاعب بسوق التحف»، وسرعان ما تكشف الباحثة الفرنسة، التي تعلن عن نفسها كأحد أصوات مقاومة هذا الدور التحكمي، عن آليات التلاعب التي تُمارس في هذا القطاع، من خلال وسطاء يجعلون القيمة تبدو غير طبيعية، بل «مُؤمَّنة» من خلال شبكة مغلقة، يتم فيها تحديد الأسعار وتضخيمها، عبر تكتلات من جامعي التحف والمستشارين وصالات المزادات الكبرى، ما يخلق نوعاً من التداول من الداخل (délit d’initiés)؛ إنها شبكة الوسطاء نفسها التي تنتهي إلى قولبة «العمل الفني» وأصحابه، باعتبارهم «منتجات» يتم الترويج لهم، وفقاً لمنطق السوق، بدلاً من الجدارة الفنية. ما دامت أعمال الفن المعاصر لم تعد تقيَّم، بناء على معايير جمالية أو فنية، بل أصبحت تدار باعتبارها منتجاً مالياً مشتقاً، داخل سوق يمكن وسمها حسب الباحثة بـ«يوتوبيا مالية» (Utopie financière) تُنتج قيمة لأشياء قد لا تمتلكها في الأصل.

يتبنى الكتاب في مجمله نظرة تاريخية محكومة ببنية الصراع السياسي ــ الاقتصادي

وتدريجياً تخلص أود دو كيروس، عبر مباحث الكتاب وفصوله، إلى محصلة، تتولى فيها تلك المؤسسات المتحكمة في القيم الفنية وما يوازيها من أنصبة مالية، تشريع سوق لا يعكس حقيقة المنجز، بل حقيقة افتراضية متواضع عليها من قبل سلسلة الوسطاء، الأمر الذي سيسهل معه أن تتحول الأعمال الفنية التي باتت لها تلك القدرة التجريدية الكبرى للقيم المنقولة، إلى جعل سوق الفن ملاذاً مالياً، يعتبر مرتادوه من رجال أعمال، ومنتهزي فرص، ومغامرين، الأعمال الفنية بمنزلة أصول آمنة مربحة، خاصة بعد الأزمات الاقتصادية الكبرى، مثل أزمة 2008، التي لاحظت الكاتبة بصددها أن سوق الفن (على عكس الأسواق الأخرى) استمر في تسجيل مبيعات قياسية، ما دلّ على انفصاله عن الاقتصاد الحقيقي وتحوله إلى مكان آمن لاستثمار الأرصدة الجامدة، بالقدر نفسه الذي مثّل فيه فضاءً تبادلياً استثنائياً لغسيل الأموال، والتهرب الضريبي. وبتعبير الباحثة، فـ«جيل جامعي التحف الفنية الذي كان يحدّد الذوق في نهاية القرن العشرين لم يعد موجوداً. كان هذا الجيل أنغلوساكسونياً وأوروبياً، غنياً ومثقفاً أو راغباً في أن يكون كذلك. أما الموجة الجديدة فهي تتجاوزه في الثراء، ولم تعد لكلمة (فن) في عرفها المعنى نفسه... لهذا من الطبيعي أن تتكيّف دور المزادات لتقدم لهذا الجيل الجديد مزيجاً بارعاً، وغير متجانس، مما قد يرغب في استهلاكه؛ من العمل الفني إلى حقيبة اليد، ومن غرض التصميم إلى الموضة» (ص 15- 16).

ولعل تحول دلالة «الفن»، واختلال توازن القيمة الإبداعية والمالية، وخضوع أثمان التحف لتحكم مؤسسات كبرى، مع اتساع سوق الفن ليشمل صناعات فاخرة شتى تغري بالاستثمار، كلها عوامل أسهمت بحسب كتاب «الفن المعاصر: التلاعب والجغرافيا السياسية» في الرهان على القوة الناعمة للفن، ليس داخل الاقتصاد فقط، بل ضمن سياقات جيوسياسية متعددة، حيث أضحى سوق الفن ساحة معركة غير مباشرة بين القوى التقليدية (أوروبا والولايات المتحدة) والقوى الصاعدة (الصين ودول الخليج)، هذه الأخيرة التي دخلت مضمار المنافسة بخطط مستقبلية لتَبْيِئَةِ منتجات الفن المعاصر ضمن محيطها، ليس بهدف اكتساب شرعية ثقافية مضافة فقط، بل بقصد تحدي الهيمنة الغربية القديمة. إنه التنافس ذاته الذي ضاعف من أسعار الأعمال الفنية، وحوّلها إلى «سلاح» في أيدي النخب المالية والسياسة المتصارعة. وبتعبير موجز، فقد مثّلت الجغرافيا السياسية للفن، بحسب أود دي كيروس، السبيل إلى الكشف عن «تحوّل العمل الفني من كونه قيمة جمالية إلى رمز للقوة»، ونقطة ارتكاز في شبكات النفوذ العالمية التي تربط بين الإبداع والمال، والسلطة، والعلاقات الدولية في عالمنا المعاصر.


«فلسفة الضحك» عبر التاريخ كما يرويها العقاد

عباس محمود العقاد
عباس محمود العقاد
TT

«فلسفة الضحك» عبر التاريخ كما يرويها العقاد

عباس محمود العقاد
عباس محمود العقاد

رغم أن الطبعة الجديدة التي صدرت عن الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة من كتاب «جحا الضاحك المضحك»، توحي بعمل مخصص لأشهر شخصية ساخرة في التراث العربي، فإن عباس محمود العقاد (1889 – 1964) اختار كمفكر من طراز خاص أن يكرس المساحة الكبرى من كتابه لمناقشة «فلسفة الضحك» عبر حقب زمنية مختلفة.

البداية كانت من عند أفلاطون؛ إذ ذكر المضحكين والمضحكات وهو يبحث عن مكانهم في «مدينته الفاضلة» أو جمهوريته المثالية التي أراد أن يقصرها على الأفاضل والمأمونين، وأن يجنبها عوارض النقص والرذيلة، فبدا له أن الشعر موكل بالجانب الضعيف من الإنسان، بغير تفرقة بين شعر المأساة وشعر الملهاة.

ويرى الفيلسوف اليوناني الأشهر أن الإنسان الكريم يأبى أن يستسلم للبكاء إذا أصيب في عزيز عليه بشكل شخصي، لكنه لا يبالي أن يبكي أو يحزن إذا رأى هذا المنظر معروضاً عليه في مسرحية مفجعة؛ لأن البكاء يخدعه في هذه الحالة ويوقع في روعه أنه يبكي لغير مصابه فيتغلب على نفسه في سبيل غيره. والإنسان الكريم يأبى أن يتفوه بالعبارات الكوميدية أو التراجيديات المضحكة، ولكنه يستسلم للضحك إذا سمعها محكية في رواية هزلية يمثلها المسرحيون أمامه.

وليس بالشيء الجيد، وفقاً له، أن يكون في «الجمهورية الفاضلة» إنسان يغلب على وقاره الضحك أو البكاء على نحو يحطّ من منزلة البشر في صورتهم المثالية. إن نزلاء جمهوريته «يجب أن يتساموا على مشاهد الهزل التي لا تليق إلا بالعبيد والأجراء». ومن هنا أثنى على المصريين؛ لأنهم يعلمون الأبناء الموسيقى والرقص قياماً بالشعائر والطقوس في المعابد، ولكنهم لا يسمحون للشعراء بخلط الألحان بالأغاني المبتذلة، أو تركيب القصائد الموزونة على رقص الخلاعة والمجون.

وكانت خلاصة رأيه في كتاب «الجمهورية» وكتاب «القوانين» أن الشعراء يحسنون صناعة القصائد ويستحقون من أجل ذلك أكاليل الغار «ولكن ليلبسوها ويخرجون من المدينة الفاضلة إلى حيث يشاءون».

ولم يذكر أفلاطون سبب الضحك إلا في كلمات قليلة خلال هذه المباحث الأخلاقية، وهو يرى في تلك الكلمات أن الضحك مرتبط بالجهل الذي لا يبلغ مبلغ الإيذاء، وأن الشعراء يضحكوننا حتى يحاكوا أولئك الجهلاء، ولكنهم «إذا طرقوا موضوع الملحمة أو المأساة عظموا الطغيان وجعلوا رواياتهم حكاية لأعمالهم، فلا أمان لهم في محاكاة الجهل ولا في محاكاة الطغيان».

وكان أرسطو أدق من أستاذه في تعبيراته وتصنيفاته لأقسام الشعر؛ لأنه وضع فيها مبحثاً خاصاً بـ«المسرحيات المضحكة» التي تتبع تطورها منذ أن كانت نوعاً من الهجاء والأغاني الشهوانية إلى أن أصبحت موضوعاً للإضحاك والتسلية. وهو يرى أن الضحك نوع من أنواع الدمامة أو التشوّه، لكن بدرجة لا تبلغ حد الإيلام. وفي نبذة منسوبة إليه من رسالة مقطوعته، طُبعت في برلين سنة 1899، يؤكد على الدور التطهري للضحك قائلاً:

«إن الملهاة تطهر النفس كما تطهرها المأساة؛ لأن النفس المطبوعة على الرحمة أو على حسن الذوق تجد في المأساة والملهاة منصرفاً لما تنطوي عليه من العطف والشوق إلى الكمال واجتنابه التشويه».

ويرى العقاد أن كلا الفيلسوفين قد أخطأ في فهم المأساة والملهاة على أنها نوع من التقليد والمحاكاة؛ لأن «الشعر المسرحي يعرض الفواجع بتمثيل أناس يحاكون المصابين بها في حركاتهم وأقوالهم، وكذلك يفعل بالمضحكات والملهيات. ويندر بين فلاسفة القرون الوسطى من نظر إلى الضحك نظرة جدية ورآه يتضمن حكمة تجعله جديراً بالبحث عنه وعن أسبابه، لانصرافهم إلى البحث في الأصول الدينية وأسرار ما وراء الطبيعة. ولعل فلاسفة اليونان الأقدمين كانوا على هذا الرأي، ولم يبحثوا ولو بعض البحث في الضحك وأسبابه إلا في طريق بحثهم عن التراجيديا والكوميديا مع رجوع هذه في أساسها إلى سير الأرباب وطقوس المعابد».

ويرى العقاد أنه «إذا كنا نعيب على الثقافة القديمة قلة البحث في الضحك وأسبابه، فإن الثقافة الحديثة كانت على النقيض، حيث اهتمت به على نحو يكاد يكون مبالغاً فيه باعتباره مؤشراً على مزاج هذه الأمة أو تلك، ويكشف عن طبيعتها باعتباره مكوناً أصيلاً من مكونات الثقافة العامة، ولا يقل أهمية في ذلك عن الأدب والتراث الشعبي. ومن أبرز الأمثلة لذلك كتاب (الضحك) الذي صدر للفيلسوف الفرنسي هنري برغسون عام 1911، والذي تجاوز عدد مراجعه الأربعين مرجعاً».

ويعود هذا الإفراط في الكتابة عن الضحك، كما يرى العقاد، إلى سبب مهم يتمثل في نشأة علم الذوق أو علم الجمال الذي ينظر في الفروق بين الجميل والجليل والمضحك كما تعرضها الفنون الجميلة، لا سيما الأدب المسرحي؛ إذ أصبح البحث عن المضحك والمبكي والحسن والقبيح مقروناً بالبحث فلسفياً عن المقدس والقداسة في شعور الإنسان وممارساته.

ويرى برغسون، كما يضيف العقاد، أننا «لا نضحك إذا رأينا إنساناً يتصرف تصرف الآلة ويقيس الأمور قياساً آلياً لا محل فيه للتميز المنطقي، ولكننا نضحك في الجماعة عامة ولا نضحك منفردين؛ لأن الضحك تنبيه اجتماعي أو عقوبة اجتماعية لمن يغفل عن العرف المتبع في المجلس أو في المحفل أو في الهيئة الاجتماعية بأسرها. والضحك عنده إنساني بمعاني الكلمة، فلا يُشاهَد في غير الإنسان، ولا يستثيرنا في غير عمل إنساني أو عمل نربطه بالإنسان».

كما أننا لا نضحك من منظر طبيعي أو من جماد كائناً ما كان، إلا إذا ربطناه بصورة إنسانية وجعلناه شبيهاً بإنسان نعرفه أو منسوباً إلى عمل من أعمال الناس، وقد نضحك من قبعة نراها، فلا يكون الضحك منها نفسها، بل من الإنسان الذي يلبسها ونتصور هيئته فيها، كما يقول.

ومن شروط الأمر المضحك عند الفيلسوف برغسون أن يحصل في جماعة أو يرتبط بالتصرف الجماعي، فقلما يضحك الإنسان على انفراد إلا إذا استحضر العلاقة الاجتماعية في ذهنه. وقلما ننظر إلى أحد يضحك على انفراد إلا خامرنا الشك في عقله، ما لم يكن له عذر نعلمه!


تاريخ العرب في الأندلس من منظور إنساني

تاريخ العرب في الأندلس من منظور إنساني
TT

تاريخ العرب في الأندلس من منظور إنساني

تاريخ العرب في الأندلس من منظور إنساني

في روايته الجديدة «ولا غالب» الصادرة أخيراً عن دار «الشروق» بالقاهرة، يقدم الكاتب الكويتي عبد الوهاب الحمادي معالجة فنية ودرامية جديدة لتاريخ العرب في الأندلس من منظور إنساني يعلي من قيمة التسامح وقبول الآخر ويستنكر منطق الإقصاء بين الشرق والغرب.

على تلال غرناطة تلتقي أربع شخصيات معاصرة تطاردها أزماتها الشخصية في زماننا الحالي وقد دلفت عبر «بوابة الزمن» لتستيقظ في عام 1492 عشية سقوط المدينة حيث وجدوا أنفسهم أمام مهمة إنقاذ غرناطة من مصيرها المحتوم كآخر قلاع العرب في بلاد الأندلس. تمنح الرواية الشخصيات أحد خيارين: تغيير مجرى التاريخ أو أن يصبحوا ضحاياه الجدد، لكن كيف لأربعة غرباء يحمل كل منهم ندوب صدمته الخاصة أن يغيروا مصير الأمة الأندلسية؟

وسبق أن صدر للمؤلف عدة أعمال منها «سنة القطط السمان» التي وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة كتارا للرواية العربية، كما صدر له كتاب «دروب أندلسية» في أدب الرحلات.

من أجواء الرواية نقرأ:

على تل أخضر أمامي، استوى قصر الحمراء مثل شيخ شاحب ممدد على سرير مستشفى، لم يقتص المرض من وسامة تالدة. لطخت الشمس الآفلة غيوماً، تلتحف سماء غرناطة بلون النارنج. نظرت إلى الساعة في معصمي، قاربت السابعة أعدت لف الشال المغمور بعطرها حول رقبتي أحميها من صقيع نهايات ديسمبر فغمرتني رائحة الليمون. أغمدت كفي في جيبي، ضحكة شبان ورائي ونغمات عازف غيتار يصدح بغناء إسباني مكلوم. جميع الأعين وفرقعات آلات التصوير تحاول أن تقتنص جمال الشيخ على سريره الأخضر، لولا الحمراء لما أمسى لهذا المكان معنى لهم ولولاك ياصاحبة العطر، لما كان للحمراء معنى لي.

فهمت الآن لماذا كنت ياغادة تحبين هذه المدينة الواقعة خارج خريطة السياحة العربية غرناطة، ولماذا كنت تقرئين قبل النوم كتباً مصورة عن الأندلس أو تنصتين لبرامج إذاعية تاريخية وتتنهدين في أواخر أبيات الشعر، أو ترهفين لوديع الصافي وفيروز يتناجيان موشحاً، غصة في قلبي لن تزول لفتوري عن تحقيق رغبتك في زيارة هذا المعلم.

تغافلت أن القدر قد يسلب منا من نحب وقد يسلبنا أنفسنا. كنت أؤجل وكنت ترضين بأعذار انشغالي: عيادة مكتظة، سعال مرضي، حالات طارئة تنزف، خفارات ليلية مرهقة، نحيب أطفال، إعداد أوراق مؤتمرات طبية، بل وتجدين أعذاراً تقنعك أو هكذا كنت تتظاهرين لأنك تدركين أن التاريخ لا محل له في تلافيف دماغي.أحب تنفس عطر الليمون عندما تدنين مني وتلقبيني هامسة بصانع المعجزات، صانع المعجزات الذي رحلت يا غادة بين يديه، أغمضت عينيك إلى الأبد دون أن يقدر على فعل أي شيء».