«الإقفال» وأثره في إيقاعية القصص

«الخطأ الذهبي» لأمجد توفيق نموذجاً

«الإقفال» وأثره في إيقاعية القصص
TT

«الإقفال» وأثره في إيقاعية القصص

«الإقفال» وأثره في إيقاعية القصص

قد لا يتحير كاتب القصة وهو يضع يده على لحظة حياتية هي حكاية يمكن أن يجسدها في قالب القصة القصيرة. وقد يبدأ بسلاسة ويستمر بالسلاسة نفسها لكن الحيرة تلجم قلمه حين يريد أن يقفل قصته بنهاية دينامية فيها قوة وتماسك لا يخلوان من لطافة وطرافة ومن دون أدنى افتعال أو تقليد يجعل الاختتام مخيباً أُفُق توقع القارئ وبما يحقق الإدهاش والانجذاب.
وليس بلوغ الإقفال المناسب سوى وثبة يغامر القاص في ممارستها؛ فإمّا أن ينجح فيها وإمّا لا، وذلك تبعاً لفاعلية هذا الوثوب، فقد تكون وثبته في الإقفال منطقية على الصعيد الإدراكي ولكنها لا تحقق وظيفتها الجمالية على الصعيد الإبداعي كأن تبدو سهلة أو معقدة أو تصادمية أو متكلفة أو احتشادية، فتغدو أكثر مقاومة لحالات التكثيف وشديدة غير مرنة.
وقد لا تسرنا نهاية قصة معينة لكن ذلك لا يعني أنها قصة سيئة، لا لأننا لا نملك تجربة كافية في أنواع الإقفال وطبيعته الفنية، وإنما هي إمكانية القاص في أن يجعلنا نستوعب المغزى القصصي ملمّين ببعض دلالته وبالمقدار الذي يتوقعه القاص منا كقراء.
وقد يسرنا أن القاص ترك قصته مفتوحة بلا نهاية لكنّ ذلك لا يعني أنها بلا إقفال، لسبب بسيط هو أن خطوات كتابة القصة القصيرة ثلاث تتشكل بصورة تراتبية. وهذه الخطوات هي: الدخول ثم التمرير ومن بعدهما خطوة الإقفال التي بها يتمكن السارد من الخروج من حبكة القصة وقد أدى دوره الوظيفي في إتمام بناء النسيج القصصي وإكماله. ولعل سائلاً يسأل: أي خطوة من الخطوات الثلاث هي الأكثر أهمية؟
إن الخطوات الثلاث ضرورية ولا مجال للتفضيل فيما بينها كوظيفة أو التفريط فيها لغاية ما. وإذا خصصنا الكلام بخطوة الإقفال فسنجد أن وظيفته فنية.
وعلى الرغم مما للإقفال من فاعلية حتى لا وجود لقصة من دونه، فإنه قلما يُلتفت إلى أهميته ومن ثم يكون الوقوع في خطأ الوثوب محتمَلاً، كأن يكون قصياً فيشتت الدخول والتمرير، وقد يكون الوثوب قريباً وضيقاً لا نكاد نميزه عن التمرير أو يبدو الإقفال في أحايين معينة كأنه هو الدخول.
ومن النقاد الذين اهتموا بالإقفال سوزان لوهافر التي قسمت الإقفال إلى أنواع، منها الإقفال البدني ويتحقق بمجرد قلب صفحة أو بمتابعة الوقوف عند مقاطع غير متوقعة أو الوصول إلى النهابة بعد الوقوف عند كلمة أو العودة من جديد لربط التعبير. ومنها الإقفال الإدراكي ويكون إما فورياً بإدراك المعنى السطحي للكلمات وإما مؤجلاً ويتحقق بالوصول إلى فهم الأهمية الكلية لمجموع مقاطع القصة.
ومن أجل بلوغ الإقفال السردي المناسب أكدت لوهافر أهمية مصطلحي الشدة والكثافة اللذين يُتأكد بهما توفر القوة الدافعة نحو الإقفال ومن دونهما تستعصي الجملة القصصية على الإقفال وتكون ذات سطوة وهي تؤدي دورها في التمرير لتكون بمثابة قوة كابحة تضاد الإقفال وتمنعه.
ومن المعتاد أن يؤدي إتقان التكثيف والشدة في الاختزال إلى جعل كل جملة قصصية ذات وظيفة سردية تدفع بالأحداث نحو الإقفال من قبيل انسيابيتها الدلالية وما فيها من تسوية زمكانية، ومن ثم يتم الإقفال وبلا إسفاف ولا اعتباط ولا مقاومة تحول دون الإحساس بوجود نهاية تأتي متوازية ومتسلسلة من لحظة الدخول فلحظة التمرير وانتهاءً بلحظة الإقفال.
وليس للقاص مثل التكثيف تقانة تمكّنه من تفادي الجمل القصصية الاستطرادية وغير الضرورية التي تضاد الإقفال سواء تلك التي تتعلق بالأحداث أو بالشخصية أو بالبنية الوصفية أو بالزمكانية. وبهذا يتمكن القاص من معادلة الجمل القصصية فتغدو القصة القصيرة مكتملة بحبكة تنفرج بمفارقة أو من دون مفارقة وإنما هي القصة التي يميز كاتبها بين الإقفال كخطوة كتابية والاكتمال كلحظة قرائية.
ولأن للجملة القصصية أهميتها التي تجعل منها فاعلاً سردياً يصبح الإقفال مرهوناً بها. فإذا كانت مكثفة في المتن ومتناسلة على مستوى العنوان فإن ذلك يصب في باب حسن إقفالها، ولكن ماذا عن فاعلية الجملة القصصية التي تتكثف على مستويي العنونة والبناء السردي؟
إن ذلك يتوقف على مهارة القاص، ولا أقول السارد، لأن للمسألة صلة بانتقاء اللحظة الواقعية الصالحة للتجسيد كقصة قصيرة وبصور مختلفة، فتوصف مثلاً بأنها واقعية أو فكرية أو رمزية أو نسوية... إلخ.
وهو ما نجده في المجموعة القصصية «الخطأ الذهبي» للكاتب أمجد توفيق والصادرة في بغداد مطلع هذا العام، وهي تضم صنفين من القصص:
القسم الأول: تكنيكية لها صلة بما نمثل عليه وفيها يلعب التضاد ما بين تكثيف المتن وتوسيع العنوان دوراً في جعل السرد منساباً.
القسم الثاني: نمطية، لا جديد في بنائها، وفيه ينحاز السارد للفعل التجريدي على حساب الفعل الدرامي فيضيع التشخيص والتجسيد في خضم التفلسف والتنظير.
ونقف عند القسم الأول لنجد أن هناك طرائق، بها يمكن اختيار الإقفال المناسب للقصة على وفق الخطوات الثلاث، منها طريقة بناء العنوان بدينامية تجعله متوسعاً وغير مختزل لتتناسل عنه بطريقة دورية عناوين أخرى يتم افتراعها بالشطر، بينما تظل الكثافة والشدة متحققتين على مستوى المتون القصصية القصيرة كما في العنوان «الإجابة تقتل السؤال، الجسد يقتل الرصاصة» التي سيتوسع بناء عنوانها منشطراً في عناوين ست قصص قصيرة، هي على التوالي: «شهادة ضاحكة - حرقة السؤال - الورقة الأولى سكرة العذراء - الورقة الثانية إعادة درس - الورقة الثالثة انتحار شجرة غار - وهم»، وبسبب التوسعة العنوانية والكثافة السردية صار الدخول موصولاً بالتمرير ومنتهياً بصدمة دلالية حققت الوثوب بالقصة نحو الإقفال «إن قدرة الرصاصة تضم ما لا نهاية من الخطوط المتعامدة أو الأفقية أو المائلة مما يعني أن قدرة الجسد على المراوغة أو النجاة تكاد تكون معدومة، هل نضيف زخم الانفجارات ونافورات الشظايا القاتلة؟» ص16.
ومن طرائق الإقفال أيضاً استعمال تقانة التوالي كما في قصة «الفال السيئ» التي ضمّت إحدى عشرة قصة قصيرة جداً في شكل متوالية سردية، مكّنت السارد من الانتقال بانسيابية من خطوة الدخول إلى خطوة التمرير بالغاً الإقفال المناسب لقصته وقد هضمت في قالبها شكل القصة القصيرة جداً صاهرة حدودها وعابرة عليه لتكون القصة القصيرة جنساً سردياً عابراً شأنها شأن الرواية، بينما لم تتمكن القصة القصيرة جداً من أن تثبت تشكّلها جنساً قائماً بذاته.
أما القسم الثاني من مجموعة «الخطأ الذهبي» والموصوفة بأنها نمطية، فإن الاهتمام السردي بالفكر جعل قصص «المعرض - موعد مع حيوان حر - أخطاء الموسيقى - خطأ مزمن – السؤال - سعادة يومية - المسبحة السوداء» أقرب إلى التفلسف منها إلى التسريد.
والسبب عدم وجود تعادلية بين العناصر السردية، لذا هيمن الفكر فتقزمت العناصر الأخرى أمامه، متخذةً شكل مقالات وتذكارات ومشاهدات يتم التعبير عنها بشكل غير مباشر أو تُغلَّف أحياناً ببعض التلغيز والغموض. ومن حسن الحظ أن القصة القصيرة جنس عابر هضم في قالبه الأشكال الإبداعية أعلاه، الأمر الذي أسهم في تلافي أخطاء كتابية قد لا تُتلافى في أجناس أخرى.
وبالانشطار وغياب التوالي في العناوين وزحف الفكر على العاطفة، تنازل السارد عن وظيفته البنائية ولم يعد مهتماً بالإقفال «لا أحب النهايات وبخاصة التي يتم تصميمها... بعد أن اكتشفت أنني غير مؤهَّل لوضع نهاية لشيء لم أكن أنا من اختار بدايته» ص81 – 82.
لقد صار السارد منشغلاً بوظيفة فكرية هي التعبير عن موقف ديستوبي من الحياة ليكون الموت هو الحياة... مع محاولة تبرير هذا الموقف أيضاً. وهو ما صبغ قصص هذا القسم بصبغة سوداوية لا تخلو من العنف بعكس قصص القسم الأول التي اتخذ فيها السارد موقفاً يوتوبياً، فيه النهاية لا تعني الموت.
ومن نتائج هذا الإصرار على جعل «العنف» مهيمنة أسلوبية أن غدت القصص نمطية لا أهمية فيها لفاعلية الإقفال الذي لم يعد متاحاً كالسابق. ومثلما أن لكل جواد كبوة ولكل سيف نبوة، فإن لكل قاصٍّ خطأ هو ذهبيّ وذلك حين يضحّي بالبناء في سبيل الموقف لتكون «غلطة الشاطر بألف» كما يقال.
وعلى الرغم من محاولة القاص التركيز على المتضادات (الموت - القتل، مجرم - شهيد، سؤال - إجابة، شجرة - صخرة، إنسان - حيوان) مع توظيف التساؤلات رغبةً في التعبير عن موقفه الديستوبي من «الموت» فإن هذا التعبير كان من الوضوح إلى درجة إنه تجلى متضاداً، فصار الحب هو الموت، وغدا التفكير هو التآمر والانتحار هو الشهادة.
وفي القصص الأخيرة من المجموعة صارت تبريرية السارد مكشوفة وعلنية، نظراً لعنايته بالموقف المضموني، فلم يعطِ الإقفال أهمية تجعله مؤثراً في إيقاعية القصة شدةً وكثافةً وزمكانيةً.



3 مخرجات في لحظة سينمائية نادرة... «البحر الأحمر» يجمع بينوش وأمين ودعيبس

جولييت بينوش تتوسَّط شهد أمين وشيرين دعيبس (المهرجان)
جولييت بينوش تتوسَّط شهد أمين وشيرين دعيبس (المهرجان)
TT

3 مخرجات في لحظة سينمائية نادرة... «البحر الأحمر» يجمع بينوش وأمين ودعيبس

جولييت بينوش تتوسَّط شهد أمين وشيرين دعيبس (المهرجان)
جولييت بينوش تتوسَّط شهد أمين وشيرين دعيبس (المهرجان)

في لحظة نادرة، تجمع بين التجربة العالمية ونهضة السينما العربية، التقت في مهرجان «البحر الأحمر السينمائي الدولي» 3 سينمائيات، لكل منهن علاقة مباشرة مع «الأوسكار»، وهن: الممثلة الفرنسية الحائزة «الأوسكار» جولييت بينوش، التي تُعدّ من أبرز الوجوه في السينما الأوروبية، والمخرجة السعودية شهد أمين التي يُمثّل فيلمها «هجرة» السعودية في سباق «الأوسكار»، والمخرجة الفلسطينية - الأميركية شيرين دعيبس التي يُنافس فيلمها «اللي باقي منك» باسم الأردن في «الأوسكار».

جاء ذلك ضمن الجلسة الحوارية لبرنامج «نساء في الحركة»، الذي وُلد من مهرجان «كان» عام 2015 بكونه نافذة تطلّ منها النساء على النقاش العالمي حول الصورة، وصولاً إلى مهرجان «البحر الأحمر السينمائي الدولي» في جدة، إذ يحضر البرنامج للمرّة الأولى، ويحتفي بمرور عقد عليه، في جلسة حوارية جمعت النجمات الثلاث اللواتي ينتمين إلى خلفيات وثقافات وتجارب متباينة، لكن جمعتهن الأسئلة: كيف تُكتب الذاكرة؟ وكيف تتشكّل هوية المرأة في السينما؟ وكيف تستعيد السينما صوتها الإنساني وسط عالم يتغيَّر بسرعة؟

من التمثيل إلى الإخراج

وشكَّل انتقال الممثلة الفرنسية جولييت بينوش من التمثيل إلى الإخراج محوراً أساسياً في حديثها، خصوصاً عن الصعوبة الكامنة في «إخراج نفسها» داخل الفيلم.

تقول جولييت بينوش: «الممثل لا يستطيع أن يفصل نفسه عن الإخراج. العالمان متداخلان بشكل طبيعي»، مضيفة أنّ أداءها لم يكن خاضعاً لعملية توجيه ذاتي بقدر ما كان «محاولة لترك الحقيقة تمر عبر الجسد».

وتوقَّفت عند سؤال «الحقيقة في الصورة»، مشيرةً إلى أنّ لحظة نسيان المُتفرّج بأنّ ما يشاهده مجرّد صورة هي قلب التجربة السينمائية، وتتابع: «الحقيقة تنتمي إلى الإنسان. عندما تدخل الصورة في داخلك وتنسى أنها مصنوعة، عندها فقط تبدأ السينما».

المخرجة السعودية شهد أمين خلال الجلسة (المهرجان)

شهد أمين... الغرابة السينمائية

من ناحيتها، تناولت المخرجة السعودية شهد أمين فيلمها «هجرة» بإسهاب، وهو فيلم ينسج علاقته بين 3 أجيال نسائية. وقدَّمت مداخلة صريحة وحيوية، بدأت بسرد علاقتها بـ«غرابة أعمالها». قائلةً: «كل مرة أكتب فيلماً أقول إنّ الجميع سيحبه، ثم أصنعه، ويخرج غريباً جداً!».

وأضافت بابتسامة لا تخفي صدقها: «أقول لنفسي: (أرجوكِ اصنعي فيلماً طبيعياً)، لكن النهاية تكون دائماً لفيلم لا يُشبه أي فيلم آخر». وترى أمين أنّ هذا الاختلاف ليس هدفاً، بل نتيجة طبيعية لخياراتها الشخصية.

وبسؤالها عن دورها في إخراج المرأة السعودية من القوالب النمطية، تُجيب: «أنا لا أصنع أفلاماً لإثبات شيء عن المرأة السعودية أو لتغيير صورة ما، هذا ليس هدفي. أكبر خطأ يمكن أن أرتكبه هو أن أفرض أفكاري على الفيلم».

وعند سؤالها عن حضور الأجيال الثلاثة في فيلم «هجرة»، أجابت بتأمّل عميق: «كلّ ما نحن عليه اليوم صنعته أمّهاتنا وجداتنا. لا يمكن فَهْم الحاضر من دون العودة إلى الخلف».

أما عن المشهد السينمائي في السعودية اليوم، فرأت أنه يشهد واحدة من أسرع المراحل تطوراً على مستوى العالم، مضيفةً: «السعودية مكان ممتع لصناعة الأفلام. كلّ شيء جديد، وكلّ شيء يبدأ من الصفر. هناك مساحة لكلّ صوت».

كما حذّرت المخرجين الجدد من محاولة تقليد النموذج الأميركي: «لا حاجة لتكرار أحد... كن نفسك... كن غريباً إن أردت... ربما يجد أحدهم نفسه في هذا الغريب».

المخرجة شيرين دعيبس وتقاطعات الذاكرة والهوية (المهرجان)

شيرين دعيبس... صناعة الذاكرة

المحطة الثالثة حملت صوت المخرجة الفلسطينية - الأميركية شيرين دعيبس، التي تُشارك في المهرجان بفيلم «اللي باقي منك»، الذي يتناول أحداث فلسطين ما بعد النكبة. وهي المخرجة المعروفة باشتغالها على هوية المرأة العربية في سياقات الشتات. تطرَّقت دعيبس لفيلمها، بالقول: «وجدنا أنفسنا نصنع فيلماً عن النكبة بينما نشاهد نكبة أخرى تتكشَّف أمام عيوننا... نكبة بلا حدود».

ورأت أن البحث عن «فلسطين خارج فلسطين» كان عملية قاسية، لكنها ضرورة لصنع الفيلم، مضيفةً: «كان علينا أن نُعيد تشكيل الذاكرة بصرياً، ونبحث عن جذورنا في أماكن لا تمتلك الأرض نفسها».

وعن جذورها الشخصية، قالت بوضوح: «نشأت في عائلة فلسطينية - أردنية. أحمل الفرح والألم معاً. مشاركة هذا الإرث ليست خياراً، إنها واجب».

وفي تحليلها لتطوّر الدعم العالمي للسينما العربية، قالت شيرين دعيبس إنّ أوروبا والعالم العربي كانا أكثر دعماً من الولايات المتحدة، مضيفةً: «بعد أحداث 11 سبتمبر (أيلول) أدركنا أن صورتنا تُروى من دوننا. وكان علينا أن نستعيد قصصنا». وأثنت على التحوّل السينمائي في السعودية، قائلة: «ما يحدث هنا استثنائي. الدعم الذي نراه في المنطقة خلال السنوات الأخيرة غير مسبوق».

ورغم اختلاف اللغات والخلفيات، تقاطعت مداخلات المخرجات الثلاث عند 3 محاور عميقة: الذاكرة بكونها منظوراً سردياً، والغرابة بوصفها توقيعاً، ورؤية الإنسان من الداخل. ويمكن القول إنّ جلسة «نساء في الحركة» في «البحر الأحمر» لم تكن مجرّد لقاء حول حضور المرأة في السينما، بل كانت مساحة لقراءة العالم من خلال العين النسائية؛ عين تتأمل الحقيقة، وتستعيد الذاكرة، وتتجاوز الخطاب التقليدي.


شوارع بريطانيا تحمل أسماء الطيور... وسماؤها تفتقدها

الأسماء تتكاثر لكنّ الطيور تختفي من الحقول والسماء (شاترستوك)
الأسماء تتكاثر لكنّ الطيور تختفي من الحقول والسماء (شاترستوك)
TT

شوارع بريطانيا تحمل أسماء الطيور... وسماؤها تفتقدها

الأسماء تتكاثر لكنّ الطيور تختفي من الحقول والسماء (شاترستوك)
الأسماء تتكاثر لكنّ الطيور تختفي من الحقول والسماء (شاترستوك)

تزداد في بريطانيا تسمية الشوارع بأسماء طيور مثل القُبرات والزقزاق والزرازير، في وقت تشهد فيه أعداد هذه الأنواع تراجعاً مقلقاً.

فقد كشف تقرير لجمعية حماية الطيور الملكية، نقلته «الغارديان»، عن أنّ أسماء شوارع من قبيل «ممر القُبرة» و«جادة السمامة» باتت أكثر شيوعاً خلال العقدين الماضيين. وبالاستناد إلى بيانات «أو إس أوبن نيمز» بين عامَي 2004 و2024، تبيَّن أن الشوارع التي تحمل أسماء طائر القُبرة ارتفعت بنسبة 350 في المائة، وتلك التي تحمل اسم الزرزور بنسبة 156 في المائة، فيما ارتفعت أسماء الشوارع المرتبطة بطيور الزقزاق بنسبة 104 في المائة، رغم الانخفاض الكبير في أعداد هذه الطيور في البرّية.

ويشير التقرير إلى أنّ بريطانيا فقدت بين عامَي 1970 و2022 نحو 53 في المائة من القُبرات المتكاثرة، و62 في المائة من الزقزاق، و89 في المائة من العندليب.

وقالت المديرة التنفيذية للجمعية، بيكي سبيت، إنّ التحليل «يكشف عن أن البلديات والمطوّرين العقاريين لا يجدون غضاضة في تسمية الشوارع بأسماء الطبيعة التي نحبّها، بينما تبقى الجهود الرامية إلى منع اختفاء هذه الطيور من سمائنا بعيدة تماماً عن المستوى المطلوب».

ووصف تقرير «حالة الطبيعة 2023» المملكة المتحدة بأنها «واحدة من أكثر الدول استنزافاً للطبيعة على وجه الأرض»، مشيراً إلى الانهيار الحاد في أعداد الطيور البرية منذ سبعينات القرن الماضي.

كما أظهر تحليل الجمعية أنّ استخدام كلمة «مرج» في أسماء الشوارع زاد بنسبة 34 في المائة، في حين اختفت 97 في المائة من المروج البرّية منذ الثلاثينات. ودعت الجمعية الحكومة إلى تعزيز جهود حماية الطبيعة، مع دخول مشروع قانون التخطيط والبنية التحتية في إنجلترا مراحله النهائية.

كانت الحكومة قد تراجعت في أكتوبر (تشرين الأول) عن دعم تعديل يُلزم بتركيب «طوب السمامات» في كلّ منزل جديد، رغم أنّ أسماء الشوارع المرتبطة بالسمامات ارتفعت بنسبة 58 في المائة.

وأكدت الجمعية أنه من «الممكن والضروري» تبنّي نظام تخطيط عمراني يُسهم في استعادة البيئة الطبيعية، مستشهدةً ببحث صادر عن مؤسّسة «مور إن كومون» يفيد بأنّ 20 في المائة فقط من البريطانيين يرون أنه ينبغي خفض المعايير البيئية لتشييد مزيد من المنازل.

من جانبه، قال مؤلّف كتاب «ليا الوقواق» عن تاريخ الطيور في أسماء الأماكن البريطانية، مايكل وارن، إنّ البريطانيين «يعشقون أسماء الطبيعة، ويعرف المطوّرون ذلك جيداً». لكنه أوضح أنّ رواج أسماء الطيور في المشروعات السكنية الجديدة «يخفي انفصالاً عميقاً يعانيه كثيرون عن الطبيعة، ويعطي انطباعاً مضلّلاً بأنّ كلّ شيء على ما يرام».

وأشار وارن إلى أنّ أسماء الأماكن كانت سابقاً تعكس الواقع البيئي، أما الأسماء الحديثة فهي «في أفضل الأحوال جميلة المظهر، لكنها في الحقيقة وسيلة خادعة ورخيصة وسهلة لخلق إيحاء بمعالجة تدهور الطبيعة من دون القيام بأيّ تحرّك فعلي».

وختمت سبيت: «يستحق الناس أن يستمتعوا بصوت العندليب في ذروة غنائه، أو بصيحات السمامات وهي تحلّق فوق رؤوسهم، بدلاً من العيش في شوارع صامتة تحمل أسماء ساخرة».


علي الكلثمي... المخرج السعودي الذي صاغ من السخرية رؤية سينمائية

علي الكلثمي شارك تفاصيل منهجه الإخراجي ورحلته داخل الصناعة السعودية (البحر الأحمر)
علي الكلثمي شارك تفاصيل منهجه الإخراجي ورحلته داخل الصناعة السعودية (البحر الأحمر)
TT

علي الكلثمي... المخرج السعودي الذي صاغ من السخرية رؤية سينمائية

علي الكلثمي شارك تفاصيل منهجه الإخراجي ورحلته داخل الصناعة السعودية (البحر الأحمر)
علي الكلثمي شارك تفاصيل منهجه الإخراجي ورحلته داخل الصناعة السعودية (البحر الأحمر)

للمخرج السعودي علي الكلثمي أسلوب ساخر لا ينفصل عن شخصيته، ولا عن أعماله، ولا حتى عن طريقته في مقاربة أكثر الأسئلة الفنّية جدّية. بدا ذلك واضحاً في حديثه على المسرح خلال الجلسة الحوارية التي تناولت تجربته في مهرجان «البحر الأحمر السينمائي الدولي»، في مزيج بين الخفّة والعمق، وبين اللعب والملاحظة الحادّة، ما يجعله قادراً على قول أكثر الأفكار تعقيداً بأبسط المفردات وأكثرها تلقائية.

الجلسة، التي بيعت تذاكرها بالكامل، وشهدت حضوراً كثيفاً من المهتمّين، لم تكن مجرّد لقاء عابر؛ إذ بدا واضحاً أنّ تجربة الكلثمي باتت اليوم محطَّ متابعة عربية وخليجية، مع حضور لافت لجمهور من الكويت وعُمان ودول أخرى. فهو يُعد أحد أبرز الأصوات التي خرجت من فضاء «يوتيوب» في السعودية، وبدأ رحلته السينمائية عبر الفيلم القصير «وسطي» عام 2016، كما يُعد أحد المساهمين في نقل السينما المحلّية إلى مرحلة جديدة من خلال فيلمه الطويل «مندوب الليل» الذي حصد جوائز عدّة.

من السخرية إلى المنهج

وحملت الجلسة كثيراً من الجدّية في التفاصيل التي قدَّمها الكلثمي عن عمله مع الممثلين. وكان لافتاً أنه بدأ إحدى إجاباته بنصيحة غير معتادة: «أنصح كلّ الخرّيجين أن يُجرّبوا التمثيل ولو في ورشة قصيرة. التجربة تُغيّر فهمك للممثل تماماً!». هذه الجملة وحدها كانت كافية لفتح باب واسع حول علاقته بالممثلين، وكيف أسهمت تجربته القصيرة في التمثيل، التي وصفها بـ«الكراش كورس»، في تغيير طريقته في التعامل مع الممثل أمام الكاميرا.

يرى الكلثمي أنّ الممثل لحظة وصوله إلى موقع التصوير يكون «مكشوفاً بالكامل». هذه النظرة العميقة لطبيعة الوقوف أمام الكاميرا جعلته يؤمن بأنّ المخرج لا يمكنه قيادة الأداء من دون أن يكون قادراً على الشعور بذلك الخوف الإنساني الخام. لذلك، فإنّ أول ما يمنحه للممثل ليس التوجيه، بل الثقة. يضيف: «أول ما يحتاج إليه هو أن يشعر أنك لن تحاكمه. أنك شبكة الأمان التي تحميه حين يُغامر».

علي الكلثمي على السجادة الحمراء في المهرجان (البحر الأحمر)

يُصرّ الكلثمي على أنّ العمل الجوهري لا يتم في موقع التصوير، بل قبله. وهي فكرة تُشكّل أحد أعمدة منهجه الإخراجي. وقدَّم مثالاً على ذلك من خلال علاقته المهنية الطويلة مع الممثل محمد الدوخي (بطل «مندوب الليل»)، التي تمتد لسنوات.

في التحضير للشخصيات، كانا يستحضران أشخاصاً من الماضي، ويقولان: «تتذكر فلان؟ هذا ظله... طيف منه». هنا يظهر الجانب الإنساني عند الكلثمي، الذي يرى في التفاصيل الصغيرة والعلاقات العابرة مادة حقيقية لبناء الشخصية. فليست الحكايات الكبيرة ما تصنع صدق الأداء، بل هشاشة التفاصيل التي لا ينتبه لها أحد.

ويتعمَّق هذا المنهج عبر أداة إضافية يستخدمها تحت إطار البحث عن تفاصيل الشخصية. فهو يرى أنّ الممثل مُطالب بمعرفة دفاتر الشخصية، وكتاباتها، وطريقة تفكيرها، وحتى ما يمكن أن تستمع إليه في عزلتها. ليس ذلك بهدف خلق صورة مُكتملة، بل بهدف فتح مسارات داخلية تُساعد الممثل على الوصول إلى جوهر الشخصية.

النصّ بصوت المُخرج

ومن أكثر جوانب الجلسة إثارة للانتباه، اعتراف الكلثمي بأنه يحب أن يقرأ النصّ للممثل بعد أن ينتهي الأخير من قراءته. ورغم أنه يصرّ على أن ذلك ليس لتلقينه الأداء، فإنه يراه «نافذة إضافية» تمنح الممثل فرصة للدخول إلى العالم الداخلي للشخصية. يقول: «أقرأ النص بصوتي، وأمثّل الشخصية أمامه، ليس لأريه كيف يؤدّي، بل لأفتح له نافذة يُطل من خلالها على عالم الشخصية».

هذا النهج، الذي يجمع بين الحسّ التمثيلي والقدرة على الإصغاء، يعكس رؤية الكلثمي لموقعه في الصناعة، كما ظهر بوضوح في الجلسة التي امتدَّت لنحو ساعة، وحاوره فيها الصحافي أحمد العياد. فهو لا يضع نفسه في موضع السلطة، بل في موضع الشريك الذي يُمهّد للممثل الطريق بدل أن يفرض عليه مساراً واحداً.

من «يوتيوب» إلى السينما

الحضور الواسع للكلثمي في الجلسة يعكس مساراً غير تقليدي في السينما السعودية. فالمخرج الذي خرج من عباءة المحتوى الرقمي لا يحمل عقدة الانتقال إلى السينما، ولا يضع بينهما طبقية، بل يرى أنّ لكل وسيط لغته وجمهوره، والفنان الحقيقي لا ينتمي إلى منصة بقدر ما ينتمي إلى صدق التجربة. وقد بدا هذا المبدأ حاضراً في ردوده، وفي التواضع الذي يتعامل به مع مشواره، سواء في البدايات مع «وسطي»، أو في نجاحات «مندوب الليل» التي نقلته إلى دائرة الضوء السينمائية.

لم تكن الجلسة مجرّد استعراض لسيرة مخرج شاب، وإنما درس في فَهْم الممثل، وفي التحضير، وفي الدور الذي يمكن أن يلعبه التعاون في رفع جودة صناعة كاملة. وربما كانت أيضاً نافذة إلى روح الكلثمي نفسه: فنان يسخر من كلّ شيء، لكنه لا يسخر من الفنّ.