فلورنتينو بيريز... قائد مؤامرة «دوري السوبر» الكروية

المغامرة الأوروبية لرئيس نادي ريال مدريد تشبه «كارثة آرمادا»

فلورنتينو بيريز... قائد مؤامرة «دوري السوبر» الكروية
TT

فلورنتينو بيريز... قائد مؤامرة «دوري السوبر» الكروية

فلورنتينو بيريز... قائد مؤامرة «دوري السوبر» الكروية

منذ بداية تفشي جائحة «كوفيد – 19» مطالع ربيع العام الفائت، لم يتقدم أي خبر في وسائل الإعلام الأوروبية على وقائع الفيروس وتطوراته إلى أن كُشف النقاب يوم 18 أبريل (نيسان) الفائت عن مشروع «السوبر ليغا» أو «دوري الكبار».
هذا المشروع كان سيجمع 12 نادياً تملك أقوى فرق كرة القدم الأوروبية، وتعد أغنى الأندية وأنجحها، على أن تنضم إليها لاحقاً ثلاثة أندية أخرى هي بايرن ميونيخ وبوروسيا دورتموند من ألمانيا وباريس سان جيرمان، فيما يشبه الدوري «الارستقراطي» خارج دائرة الاتحادات الوطنية والإقليمية والدولية لهذه الرياضة.
فلورنتينو بيريز، رئيس نادي ريال مدريد، أحد أعرق أندية كرة القدم في إسبانيا والعالم، والمتوج 13 مرة بطلاً للأندية الأوروبية منذ تأسيس هذه البطولة في العام 1955، كان رائد هذا المشروع الذي اعتمل وراء الكواليس منذ سنوات. ولقد تشكلت معالم {دوري السوبر} النهائية في انتظار اللحظة المناسبة لإطلاقه، ولكن لم يُكتب له من العمر سوى 48 ساعة.

تخرج فلورنتينو بيريز في معهد البوليتكنيك التابع لجامعة مدريد، وتدرج في وظائف عمومية عدة في إسبانيا، قبل أن يدخل المعترك السياسي في العام 1976 عضواً في حزب «اتحاد الوسط الديمقراطي» الذي أسسه أدولفو سواريز، أول رئيس للوزراء في إسبانيا بعد وفاة الجنرال فرانشيسكو فرنكو.
بعدها تولى بيريز مناصب في مجلس بلدية مدريد، ثم في وزارات الصناعة والطاقة والنقل والزراعة، قبل أن ينتقل إلى القطاع الخاص، عندما قرر في العام 1983 مع مجموعة من رجال الأعمال شراء شركة للمقاولات كانت تواجه مصاعب مالية. وهي الشركة التي جعل منها «رأس حربة» لتنفيذ سلسلة من المشاريع الكبرى للبناء والبنى التحتية في الفترة التي كانت إسبانيا تنفتح على العالم وتعد للانضمام إلى السوق الأوروبية المشتركة بعد أربعة قرون من العزلة.
هذه الشركة، التي يملك فلورنتينو بيريز الحصة الأكبر من أسهمها، ما لبثت أن أصبحت كبرى شركات المقاولات في إسبانيا وواحدة من كبرى الشركات الأوروبية، بعدما اشترت شركة «ابرتيس» الفرنسية ودخلت بحصة كبرى في شركة «اتلانتيس» الإيطالية. ولها حالياً فروع في القارات الخمس، ويقدر رأسمالها في سوق الأسهم الإسبانية بما يزيد على 22 مليار دولار أميركي.

- أحلامه مع ريال مدريد
عام 1994، ترشح بيريز لرئاسة نادي ريال مدريد، لكنه فشل في تحقيق الهدف الذي قال يوماً إنه كان يحلم به منذ الصغر. ثم عاود الكرة في عام 2000، واعداً الناخبين بأنه في حال فوزه سيتعاقد مع اللاعب البرتغالي لويس فيغو، الذي كان يومذاك النجم الأبرز في نادي برشلونة، الغريم التقليدي للريال ومنافسه الأول على صدارة المشهد الإسباني لكرة القدم. وبالفعل هذا ما حصل.
إذ بعد أشهر من فوزه في تلك الانتخابات، أعلن التعاقد مع فيغو، الذي انضم إلى ريال مدريد في الموسم التالي بعدما دفع الريال في حينه مبلغ 62 مليون يورو ثمناً لفيغو، في أغلى صفقة لشراء لاعب حتى ذلك التاريخ. وهكذا فتح بيريز باب الصفقات الكبيرة التي خرجت عن السيطرة وغدت بمثابة أشبه بـ«مناطحة» بين الأندية الثرية لاجتذاب كبار النجوم، طمعاً بالشهرة والفوز بالألقاب، وترويجاً لعلاماتها التجارية. وبعد فيغو كرت سبحة النجوم الكبار من زين الدين زيدان إلى ديفيد بيكهام ورونالدو وروبرتو كارلوس... ووصولاً إلى كريستيانو رونالدو، حتى أطلق على تلك النخبة من اللاعبين لقب «لوس غالاكتيكوس» Los Galacticos، أي «الآتون من مجرة أخرى».
ما كان الهدف الذي سعى فلورنتينو بيريز إلى تحقيقه بالتعاقد مع هذه الكوكبة من النجوم مقصوراً على الفوز بالبطولات المحلية والدولية، بل شمل سعيه إلى تحويل الريال إلى علامة تجارية (ماركة) كبرى يمكن تصديرها إلى كل أنحاء العالم. ولتحقيق هذا الهدف لجأ إلى بيع عقارات الملاعب والمنشآت التاريخية التي تتدرب فيها فرق النادي على تخوم ضواحي مدريد الشمالية بمبلغ 480 مليون يورو. ثم شيّد أربع ناطحات سحاب يتردد أنه أعطاها أسماء فيغو وزيدان ورونالدو وبيكهام للدلالة على أنه بفضلها تمكن من شراء أولئك اللاعبين الأربعة.

- استقالة ثم عودة
بيريز استقال عام 2006 من رئاسة النادي بعد فشله في كسب أكثر من لقبين فقط لبطولة الدوري الإسباني، وامتنعت عليه بطولة الأندية الأوروبية التي تضعها الأندية الكبرى - خاصة الريال - في طليعة أهدافها كل موسم. إلا أنه عاد وترشح لرئاسة النادي بعد ذلك بثلاث سنوات، ففاز وغيّر هذه المرة سياسته التعاقدية بصورة جذرية، ما أتاح للريال أن يفوز حتى اليوم بثلاثة ألقاب للدوري المحلي وأربع بطولات للأندية الأوروبية. وعندما فاز برئاسة النادي مرة أخرى - بالتزكية - في يوم 13 أبريل الفائت، فإنه فاخر بأن ريال مدريد إبان فترات رئاسته حصد 47 لقباً: 21 بطولة لكرة السلة، و26 لكرة القدم منها خمس بطولات للأندية الأوروبية وخمس بطولات عالمية للأندية وأربع بطولات لحاملي ألقاب الدوري والكؤوس المحلية في أوروبا، فضلاً عن بطولات الدوري الإسباني والكأس الإسبانية.
وفعلاً، كانت الولايات الأخيرة لفلورنتينو بيريز في رئاسة الريال مدريد حافلة بالانتصارات والإنجازات الرياضية، إلا أنها كانت أيضاً مرحلة راكم فيها النادي ديوناً كبيرة بسبب المشاريع الضخمة التي أطلقها قبل أن يصطدم بجائحة «كوفيد – 19» التي أدخلت عالم الرياضة في غيبوبة ما زال يجد صعوبة في الخروج منها. وعلى غرار العديد من الأندية الأوروبية الكبرى، يواجه ريال مدريد استحقاقات مكلفة جداً لسداد ديونه، مثل القرض المصرفي بقيمة 575 مليون يورو لتمويل مشروع تحديث ملعبه الشهير «سانتياغو برنابيو» في قلب العاصمة، والقرض الذي حصل عليه من الحكومة بقيمة 200 مليون يورو لمواجهة تداعيات الجائحة. ويقدر الخبراء بأن الإيرادات التي خسرها النادي بسبب الجائحة تزيد على 400 مليون يورو.

- «السوبر ليغا» و«الآرمادا»
المطلعون على ما يجري في الدوائر العليا لكرة القدم الأوروبية يعرفون أن فكرة «السوبر ليغا» كانت تراود فلورنتينو بيريز منذ سنوات، وأنه ينشط منذ عقدين لإقناع الأندية الكبرى بالانضمام إلى المشروع الذي يعتبر أن ريال مدريد، نظراً لسجله التاريخي، هو المرشح الطبيعي لقيادته. كذلك، يعرف المطلعون أن هذا المشروع يواجه معارضة شديدة من الاتحاد الأوروبي لكرة القدم، الذي يخشى فقدان سيطرته على المصدر الأساسي للموارد المالية التي تدرها كرة القدم، ناهيك عن معارضة الاتحادات الوطنية التي ستضطر للاكتفاء بفتات الإيرادات التي سيذهب معظمها إلى الأندية الكبرى.
في أي حال، رأى بيريز، الذي كان يتحين الفرصة منذ سنوات لإطلاق هذا المشروع، أن الأزمة العميقة التي تعيشها كرة القدم بسبب الجائحة، والوضع الاقتصادي الحرج الذي تعاني منه معظم الأندية الأوروبية الكبرى، يشكلان الفرصة السانحة لتحقيق حلمه الرياضي الأكبر والخروج من الضائقة المالية التي يرزح الريال تحت وطأتها.
لكن ماذا حصل... فأفشل هذا المشروع بعد أقل من 48 ساعة على إطلاقه وتصدره النشرات الإخبارية في وسائل الإعلام الأوروبية، وتهافت رؤساء الدول والحكومات على التنديد به ورفضه؟
وأين أخطأ بيريز ورؤساء الأندية الكبرى في حساباتهم وتقديراتهم؟
أحد كبار المعلقين الرياضيين الإسبان اعتبر أن الهزيمة التي تعرض لها مشروع «السوبر ليغا» بقيادة فلورنتينو بيريز «لا تعادلها في تاريخ العلاقات الخارجية الإسبانية سوى هزيمة أسطول «الآرمادا» الإسباني الجبار أمام السواحل البريطانية في مثل هذه الأيام من العام 1588، عندما حاول العاهل الإسباني الملك فيليبي الثاني احتلال بريطانيا وإخضاعها للسيطرة الكاثوليكية.
يومذاك كانت إسبانيا تملك أقوى أسطول بحري في العالم، ويمتد نفوذها من أوروبا إلى الفلبين بشرق آسيا، بعدما بسطت سيطرتها على معظم القارة الأميركية. غير أن عوامل الطبيعة، التي لم تكن في الحساب، خانت الأسطول الإسباني عندما هبت عليه عاصفة هوجاء أغرقت ثلث سفنه وأجبرت الباقي على العودة إلى سواحل البرتغال وإسبانيا. ويقول المؤرخون إن بعض مستشاري فيليبي الثاني كانوا قد حذروه من مخاطر الأنواء البحرية في تلك الفترة من السنة، لكنه مال إلى الغرور اعتقاداً منه أن أحداً لن يتمكن من الوقوف بوجه قوته العسكرية الضاربة.
الشيء نفسه حصل مع رئيس نادي ريال مدريد في محاولته الهيمنة على كرة القدم الأوروبية عبر مشروع «السوبر ليغا»، إذ فوجئ بالتصريحات الفورية المضادة التي صدرت عن قادة الدول الأوروبية والانتفاضات الشعبية الحاشدة لجماهير كرة القدم والعديد من رموزها بجانب الاتحادات المحلية والإقليمية والدولية.
في حسابات فلورنتينو بيريز وأعوانه، وعلى رأسهم أندريا أنييلي، رئيس نادي يوفنتوس - أغنى أندية إيطاليا - كانت كل الشروط متوافرة لنجاح المشروع: الحوافز المالية ظاهرة للجميع وكافية للقبول بالصفقة، والبطولات الوطنية لا يمكن أن تجازف بخسارة نخبة نواديها، كما أن الفرق الوطنية لن تتخلى عن أفضل اللاعبين الذين سيشاركون في مباريات «السوبر ليغا». ولكن لم يخطر في بال بيريز أن المصلحة المادية ليست وحدها التي تحرك الجماهير، وأن البعض إذا وضعوا أمام خيار الحصول على 10 في المائة من صفقة مقابل 90 في المائة للطرف الآخر سيفضل قلب الطاولة وإفشال الصفقة.
وبينما اختفى أندريا آنييلي عن الأضواء تقريباً، أصر فلورنتينو بيريز على الظهور في وسائل الإعلام من غير أن يخفي مرارته ودهشته لما وصفه بـ«العدوانية المنظمة» ضد المشروع، موجهاً أصابع الاتهام إلى الأندية الإنجليزية، وبالتحديد إلى مانشستر سيتي، ملمحاً إلى أنه وراء المؤامرة لإجهاض المشروع بعدما كان من أشد المتحمسين له.
ومن ثم حذر بيريز من أن المشروع هو «خشبة الخلاص الوحيدة للأندية التي ترزح تحت أعباء الخسائر والديون بسبب الجائحة... وأن القلة التي ستنجو من الإفلاس هي التي تملكها الدول أو أصحاب الثروات الكبيرة». وتابع في تحذيره «أن المواقف التي صدرت عن قادة الدول الأوروبية ليست رياضية على الإطلاق، بل يقف خلفها أولئك القادة على أبواب انتخابات ولا يريدون المجازفة بشعبيتهم».
الهزيمة التي مُني بها أسطول «الآرمادا»، أواخر القرن الـ16 الميلادي، لم تمنع استمرار الحرب بين بريطانيا وإسبانيا لـ16 سنة، قبل أن تنتهي بمعاهدة سلام لصالح التاج الإسباني. والذين يعرفون فلورنتينو بيريز جيداً يؤكدون أنه لن يتخلى عن هذا المشروع... الذي يعتبره تتويجاً لمسيرته الشخصية والرياضية.


مقالات ذات صلة

دي لا فوينتي: نمتلك حاضراً رائعاً ومستقبلاً مذهلاً

رياضة عالمية لويس دي لا فوينتي (رويترز)

دي لا فوينتي: نمتلك حاضراً رائعاً ومستقبلاً مذهلاً

أعرب لويس دي لا فوينتي، المدير الفني لمنتخب إسبانيا، عن فخره بلاعبي فريقه، مشدداً على أنهم لا يتوقفون عن تحقيق الإنجازات، ويرغبون دائماً في تطوير مستوياتهم.

«الشرق الأوسط» (مدريد)
رياضة عالمية روبرت ليفاندوفسكي (أ.ف.ب)

دوري أبطال أوروبا: ليفاندوفسكي يسجل اسمه في قائمة أساطير برشلونة

تمكّن القناص البولندي الدولي روبرت ليفاندوفسكي من ضم اسمه إلى قائمة أساطير نادي برشلونة الإسباني، بعد تسجيله هدفين في المباراة التي فاز بها الفريق الكاتالوني.

«الشرق الأوسط» (برشلونة)
رياضة عالمية هانز فليك (إ.ب.أ)

فليك مدرب برشلونة: «دوري الأبطال» بطولة معقدة... الأهم النقاط الثلاث

قال مدرب برشلونة، هانز فليك، إنه سعيد بتركيز لاعبيه وإصرارهم خلال الفوز الكبير 5 - 2 على رد ستار بلغراد، الأربعاء، في دوري أبطال أوروبا لكرة القدم.

«الشرق الأوسط» (بلغراد)
رياضة عالمية مدريد عانى كثيراً أمام الميلان (رويترز)

ريال مدريد في أزمة مع رحيل كروس وتراجع مستوى مبابي

بعد 6 أشهر فقط من إحرازه لقب دوري أبطال أوروبا لكرة القدم، يجد ريال مدريد الإسباني نفسه في أزمة، بعدما ظهرت نقاط ضعفه وتعرّض لخسارة ثانية توالياً أمام ميلان.

«الشرق الأوسط» (مدريد)
رياضة عالمية كريم بنزيمة (نادي الاتحاد السعودي)

بنزيمة: مبابي ليس الرقم «9»... لا يمكنه إزاحة فينيسيوس

يعتقد مهاجم الاتحاد السعودي حالياً ومنتخب فرنسا وريال مدريد الإسباني سابقاً، كريم بنزيمة، أنه يتعيّن على مواطنه كيليان مبابي تعلّم كيفية شغل مركز رأس الحربة.

«الشرق الأوسط» (مدريد)

هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
TT

هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)

يأتي فوز دونالد ترمب في انتخابات الرئاسة الأميركية وعودته الوشيكة إلى البيت الأبيض يوم يناير (كانون الثاني) 2025 نقطة تحوّل مهمة وسط اضطرابات غير عادية في النظام العالمي. وبديهي أن ولاية ترمب الثانية لا تشكّل أهمية كبرى في السياسة الداخلية الأميركية فحسب، بل ستؤثر إلى حد كبير أيضاً على الجغرافيا السياسية والاقتصاد في آسيا. وفي حين يتوقع المحللون أن يركز الرئيس السابق - العائد في البداية على معالجة القضايا الاقتصادية المحلية، فإن «إعادة ضبط» أجندة السياسة الخارجية لإدارته ستكون لها آثار وتداعيات في آسيا ومعظم مناطق العالم، وبالأخص في مجالات التجارة والبنية التحتية والأمن. وبالنسبة لكثيرين في آسيا، يظل السؤال المطروح هنا هو... هل سيعتمد في ولايته الجديدة إزاء كبرى قارات العالم، من حيث عدد السكان، تعاملاً مماثلاً لتعامله في ولايته الأولى... أم لا؟

توقَّع المحللون السياسيون منذ فترة أن تكون منطقة حوض المحيطين الهندي والهادئ في طليعة اهتمامات السياسة الخارجية عند إدارة الرئيس الأميركي السابق العائد دونالد ترمب. ومعلومٌ أن استراتيجية ترمب في فترة ولايته الأولى، إزاء حوض المحيطين الهندي والهادئ شددت على حماية المصالح الأميركية في الداخل. والمتوقع أن يظل هذا الأمر قائماً، ويرجح أن يؤثّر على نهج سياسته الخارجية تجاه المنطقة مع التركيز على دفع الازدهار الأميركي، والحفاظ على السلام من خلال القوة، وتعزيز نفوذ الولايات المتحدة.

منطقة حوض المحيطين الهندي والهادئ التي يقطن كياناتها نحو 65 في المائة من سكان العالم، تشكل راهناً نقطة محورية للاستراتيجية والتوترات الجيوسياسية، فهي موطن لثلاثة من أكبر الاقتصادات على مستوى العالم (الصين والهند واليابان) ولسبع من أكبر القوات العسكرية في العالم. ويضاف إلى ذلك أنها منطقة اقتصادية رئيسية تمثل 62 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي وتسهم بنسبة 46 في المائة من تجارة السلع العالمية.

3 محاور

ويرجّح فيفيك ميشرا، خبير السياسة الأميركية في «مؤسسة أوبزرفر للأبحاث»، أنه «في ولاية ترمب الثانية، ستوجّه استراتيجية واشنطن لهذه المنطقة عبر التركيز على ثلاثة محاور تعمل على ربط المجالات القارية والبحرية في حيّزها. وستكون العلاقات الأميركية - الصينية في نقطة مركز هذه المقاربة، مع توقع أن تعمل التوترات التجارية على دفع الديناميكيات الثنائية... إذ لا يزال موقف ترمب من الصين حازماً، ويهدف إلى موازنة نفوذها المتنامي في المجالين الاقتصادي والأمني على حد سواء».

إضافة إلى ما سبق، يرى ميشرا أن «لدى سياسة ترمب في حوض المحيطين الهندي والهادئ توقعات كبيرة من حلفاء أميركا الرئيسيين وشركائها في المنطقة، بما في ذلك اضطلاع الهند بدور أنشط في المحيط الهندي مع التزامات عسكرية أكبر من الحلفاء مثل اليابان وأستراليا». ويرجّح الخبير الهندي، كذلك، «أن تتضمن رؤية ترمب لحوض المحيطين الهندي والهادئ الجهود الرامية إلى إرساء الاستقرار في الشرق الأوسط، لا سيما من خلال تعزيز التجارة والاتصال مع المنطقة، لتعزيز ارتباطها بالمجال البحري لحوض المحيطين الهندي والهادئ».

الحالة الهندية

هناك الكثير من الأسباب التي تسعد حكومة ناريندرا مودي اليمينية في الهند بفوز ترمب. إذ تقف الهند اليوم شريكاً حيوياً واستثنائياً بشكل خاص في الاستراتيجيتين الإقليمية والدولية للرئيس الأميركي العائد. وعلى الصعيد الشخصي، سلَّط ترمب إبان حملته الانتخابية الضوء على علاقته القوية بمودي، الذي هنأه على الفور بفوزه في الانتخابات.

وهنا يقول السفير الهندي السابق آرون كومار: «مع تأمين ترمب ولاية ثانية، تؤشر علاقته الوثيقة برئيس الوزراء مودي إلى مرحلة جديدة للعلاقات الهندية - الأميركية. ومع فوز مودي التاريخي بولاية ثالثة، ووعد ترمب بتعزيز العلاقات بين واشنطن ونيودلهي يُرتقب تكثّف الشراكة بينهما. وبالفعل، يتفّق موقف ترمب المتشدد من بكين مع الأهداف الاستراتيجية لنيودلهي؛ ولذا يُرجح أن يزيد الضغط على بكين وسط تراجع التصعيد على الحدود. ويضاف إلى ذلك، أن تدقيق ترمب في تصرفات باكستان بشأن الإرهاب قد يوسّع النفوذ الاستراتيجي الهندي في كشمير».

كومار يتوقع أيضاً «نمو التعاون في مجال الدفاع، لا سيما في أعقاب صفقة الطائرات المسيَّرة الضخمة التي بدأت خلال ولاية ترمب الأولى. ومع الأهداف المشتركة ضد العناصر المتطرّفة في كندا والولايات المتحدة، يمهّد تحالف مودي - ترمب المتجدّد الطريق للتقدم الاقتصادي والدفاعي والدبلوماسي... إذا منحت إدارة ترمب الأولوية للتعاون الدفاعي والتكنولوجي والفضائي مع الهند، وهي قطاعات أساسية تحتل مركزها في الطموحات الاستراتيجية لكلا البلدين». وما يُذكر أن ترمب أعرب عن نيته البناء على تاريخه السابق مع الهند، المتضمن بناء علاقات تجارية، وفتح المزيد من التكنولوجيا للشركات الهندية، وإتاحة المزيد من المعدات العسكرية الأميركية لقوات الدفاع الهندية. وبصفة خاصة، قد تتأكد العلاقات الدفاعية بين الهند والولايات المتحدة، في ظل قدر أعظم من العمل البيني المتبادل ودعم سلسلة الإمداد الدفاعية.

السياسة إزاء الصين

أما بالنسبة للصين، فيتوقع كثيرون استنساخ ترمب سياساته المتشددة السابقة، ويرى البعض أنه خلال ولايته الثانية يمتلك القدرة على قيادة مسار احتواء أوسع تجاه بكين. بدايةً، كما نتذكر، حمّل ترمب الحكومة الصينية مسؤولية جائحة «كوفيد - 19»، التي قتلت أكثر من مليون أميركي ودفعت الاقتصاد الأميركي إلى ركود عميق. وسواء عبر الإجراءات التجارية، أو العقوبات، أو المطالبة بالتعويضات، سيسعى الرئيس الأميركي العائد إلى «محاسبة» بكين على «الأضرار» المادية التي ألحقتها الجائحة بالولايات المتحدة والتي تقدَّر بنحو 18 تريليون دولار أميركي.

ووفقاً للمحلل الأمني الهندي سوشانت سارين، فإن دبلوماسية «الذئب المحارب» الصينية، ودعم بكين حرب موسكو في أوكرانيا، والقضايا المتزايدة ذات الصلة بالتجارة والتكنولوجيا وسلاسل التوريد، تشكل مصدر قلق كبيراً لحكومة ترمب الجديدة. ومن ثم، ستركز مقاربة الرئيس الأميركي تجاه الصين على الجانبين الاقتصادي والأمني، مع التأكيد على حاجة الولايات المتحدة إلى الحفاظ على قدرتها التنافسية في مجال التكنولوجيات الناشئة.

آسيا ... تنتظر مواقف ترمب بعد انتصاره الكبير (رويترز)

التجارة والاقتصاد

أما الخبير الاقتصادي سيدهارت باندي، فيرى أنه «يمكن القول إن التجارة هي القضية الأكثر أهمية في جدول أعمال السياسة الأميركية تجاه الصين... وقد تتصاعد الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين في ظل حكم ترمب».

وحقاً، في التقييم الصيني الحالي، يتوقع أن تشهد ولاية ترمب الثانية تشدداً أميركياً أكبر حيال بشأن العلاقات التجارية والاقتصادية الثنائية؛ ما يؤدي إلى مزيد من التنافر بين الاقتصادين. وللعلم، في وقت سابق من العام الحالي، وعد خطاب ترمب الانتخابي بتعرفات جمركية بنسبة 60 في المائة أو أعلى على جميع السلع الصينية، وتعرفات جمركية شاملة بنسبة 10 في المائة على السلع من جميع نقاط المنشأ. ومن ثم، يرجّح أيضاً أن تشجع هذه الاستراتيجية الشركات الأميركية على تنويع سلاسل التوريد الخاصة بها بعيداً عن الصين؛ ما قد يؤدي إلى تسريع الشراكات مع دول أخرى في منطقة المحيطين الهندي والهادئ».

ما يستحق الإشارة هنا أن ترمب كان قد شن حرباً تجارية ضد الصين بدءاً من عام 2018، حين فرض رسوماً جمركية تصل إلى 25 في المائة على مجموعة من السلع الصينية. وبعدما كانت الصين عام 2016 الشريك التجاري الأول للولايات المتحدة، مع أكثر من 20 في المائة من الواردات الأميركية ونحو 16 في المائة من إجمالي التجارة الأميركية، فإنها تراجعت بحلول عام 2023 إلى المرتبة الثالثة، مع 13.9 في المائة من الواردات و11.3 في المائة من التجارة.

وبالتالي، من شأن هذا التحوّل منح مصداقية أكبر لتهديدات ترمب بإلغاء الوضع التجاري للدولة «الأكثر رعاية» المعطى للصين وفرض تعرفات جمركية واسعة النطاق. ومع أن هذه الإجراءات سترتب تكاليف اقتصادية للأميركيين، فإن نحو 80 في المائة من الأميركيين ينظرون إلى الصين نظرة سلبية.

يتوقع كثيرون استنساخ ترمب سياساته المتشددة السابقة إزاء الصين

الشق العسكري

من جهة ثانية، يتوقع أن يُنهي ترمب محاولات الشراكة الثنائية السابقة، بينما يعمل حلفاء الولايات المتحدة الآسيويون على تعزيز قدراتهم العسكرية والتعاون فيما بينهم. ومن شأن تحسين التحالفات والشراكات الإقليمية، بما في ذلك «ميثاق أستراليا وبريطانيا والولايات المتحدة»، وميثاق مجموعة «كواد» الرباعية (أستراليا والهند واليابان والولايات المتحدة)، وتحسين العلاقات بين اليابان وكوريا الجنوبية بشكل كبير، والتعاون المتزايد بين اليابان والفلبين، تعزيز موقف ترمب في وجه بكين.

شبه الجزيرة الكورية

فيما يخصّ الموضوع الكوري، يتكهن البعض بأن ترمب سيحاول إعادة التباحث مع كوريا الشمالية بشأن برامجها للأسلحة النووية والصواريخ الباليستية. وفي حين سيكون إشراك بيونغ يانغ في هذه القضايا بلا شك، حذراً وحصيفاً، فمن غير المستبعد أن تجد إدارة ترمب الثانية تكرار التباحث أكثر تعقيداً هذه المرة.

الصحافي مانيش تشيبر علَّق على هذا الأمر قائلاً إن «إدارة ترمب الأولى كانت لها مزايا عندما اتبعت الضغط الأقصى الأولي تجاه بيونغ يانغ، لكن هذا لن يتكرّر مع إدارة ترمب القادمة، خصوصاً أنه في الماضي كانت روسيا والصين متعاونتين في زيادة الضغوط على نظام كوريا الشمالية». بل، وضعف النفوذ التفاوضي لواشنطن في الوقت الذي قوي موقف كوريا الشمالية. ومنذ غزو روسيا لأوكرانيا وبعد لقاء الرئيس الكوري الشمالي كيم جونغ أون بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين في سبتمبر (أيلول) 2023، عمّقت موسكو وبيونغ يانغ التعاون في مجالات الاقتصاد والعلوم والتكنولوجيا.

الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ اون (رويترز)

مكاسب حربية لكوريا الشمالية

أيضاً، تشير التقديرات إلى أن كوريا الشمالية كسبت على الأرجح 4.3 مليار دولار من شحنات المدفعية إلى روسيا خلال الحرب وحدها، وقد تكسب أكثر من 21 مليون دولار شهرياً من نشر قواتها في روسيا. وفي المقابل، تستفيد من روسيا في توفير الأسلحة والقوات والتكنولوجيا لمساعدة برامج الصواريخ الكورية الشمالية. وتبعاً لمستوى الدعم الذي ترغب الصين وروسيا في تقديمه لكوريا الشمالية، قد تواجه إدارة ترمب القادمة بيونغ يانغ تحت ضغط دبلوماسي واقتصادي متناقص وهي مستمرة في تحسين برامج الأسلحة وتطويرها.

أما عندما يتعلق الأمر بكوريا الجنوبية، فيلاحظ المحللون أن فصلاً جديداً مضطرباً قد يبدأ للتحالف الأميركي - الكوري الجنوبي مع عودة دونالد ترمب إلى البيت الأبيض. ويحذر المحللون من أن سياسة «جعل أميركا عظيمة مجدداً» التي ينتهجها الحزب الجمهوري قد تشكل مرة أخرى اختباراً صعباً للتحالف بين سيول وواشنطن الذي دام عقوداً من الزمان، مذكرين بالاضطرابات التي شهدها أثناء فترة ولايته السابقة من عام 2017 إلى عام 2021. ففي ولايته السابقة، طالب ترمب بزيادة كبيرة في المساهمة المالية لسيول في دعم القوات الأميركية في شبه الجزيرة الكورية. وأثناء حملته الانتخابية الحالية، وصف كوريا الجنوبية بأنها «آلة للمال» بينما يناقش مسألة تقاسم تكاليف الدفاع، وذكر أن موقفه بشأن القضية لا يزال ثابتاً. وفي سياق متصل، قال الصحافي الكوري الجنوبي لي هيو جين في مقال نشرته صحيفة «كوريان تايمز» إنه «مع تركيز الولايات المتحدة حالياً على المخاوف الدولية الرئيسية كالحرب في أوكرانيا والصراع في الشرق الأوسط، يشير بعض المحللين إلى أن أي تحولات جذرية في السياسة تجاه شبه الجزيرة الكورية في ظل إدارة ترمب قد تؤجل. لكن مع ذلك؛ ونظراً لنهج ترمب الذي غالباً يصعب التنبؤ به تجاه السياسة الخارجية، يمكن عكس هذه التوقعات».

حقائق

أميركا والهند... و«اتفاقية التجارة الحرة»

في كي فيجاياكومار، الخبير الاستثماري الهندي، يتوقع أن يعيد الرئيس الأميركي العائد دونالد ترمب النظر مجدداً بشأن المفاوضات حول «اتفاقية التجارة الحرة»، وكانت قد عُرفت مفاوضات مكثفة في الفترة 2019 - 2020 قبل أن يفقد السلطة، والتي لم يبدِ الرئيس السابق جو بايدن أي اهتمام باستكمالها.وعوضاً عن الضغط على نيودلهي بشأن خفض انبعاثات الكربون، «من المرجح أن يشجع ترمب الهند على شراء النفط والغاز الطبيعي المسال الأميركي، على غرار مذكرة التفاهم الخاصة بمصنع النفط والغاز الطبيعي المسال في لويزيانا لعام 2019، والتي كانت ستجلب 2.5 مليار دولار من الاستثمارات من شركة (بترونيت إنديا) إلى الولايات المتحدة، لكنها تأجلت لعام لاحق».ثم يضيف: «بوجود شخصيات مؤثرة مثل إيلون ماسك، الذي يدعو إلى الابتكار في التكنولوجيا والطاقة النظيفة، ليكون له صوت مسموع في دائرة ترمب، فإن التعاون بين الولايات المتحدة والهند في مجال التكنولوجيا يمكن أن يشهد تقدماً ملحوظاً. ومن شأن هذا التعاون دفع عجلة التقدم في مجالات مثل استكشاف الفضاء، والأمن السيبراني، والطاقة النظيفة؛ ما يزيد من ترسيخ مكانة الهند باعتبارها ثقلاً موازناً للصين في حوض المحيطين الهندي والهادئ».في المقابل، لا يتوقع معلقون آخرون أن يكون كل شيء على ما يرام؛ إذ تواجه الهند بعض التحديات المباشرة على الأقل، بما في ذلك فرض رسوم جمركية أعلى وفرض قيود على التأشيرات، فضلاً عن احتمال المزيد من التقلبات في أسواق صرف العملات الأجنبية. وثمة مخاوف أيضاً بشأن ارتفاع معدلات التضخم في الولايات المتحدة في أعقاب موقفها المالي والتخفيضات الأقل من جانب بنك الاحتياطي الفيدرالي، وهو ما قد يخلف تأثيراً غير مباشر على قرارات السياسة النقدية في بلدان أخرى بما في ذلك الهند.