«النسوية البيضاء»... دعوة ملحة لإعادة نظر جذرية

الناقدة الثقافية الأميركية كوا بيك تشن هجوماً عنيفاً على الحركة في الغرب

مظاهرة لحركة «أنا أيضاً»
مظاهرة لحركة «أنا أيضاً»
TT

«النسوية البيضاء»... دعوة ملحة لإعادة نظر جذرية

مظاهرة لحركة «أنا أيضاً»
مظاهرة لحركة «أنا أيضاً»

لو اكتفينا من المعرفة بما يُقدّم على وسائل الإعلام الغربيّة بشأن أوضاع النساء، لاعتبرنا العقد الماضي بمثابة عصر ذهبيّ، إذ هناك اليوم أعداد أكبر من النساء تتبوأ مختلف المواقع القياديّة في معظم الأنظمة السياسيّة الغربيّة، وترشحت سيّدة لمنصب رئيس الولايات المتحدّة قبل بضع سنوات، وتشغل سيّدة منصب نائب الرّئيس الحالي هناك، ناهيك من عجقة الوزيرات والنائبات والقاضيات والسفيرات في مختلف الدّول الأوروبيّة، مع نسب تمثيل لهنّ في الجامعات ووسائل الإعلام وبعض المهن ومجالس إدارة الشركات تعتبر الأعلى تاريخياً في العصور الحديثة. فإذا أضفنا لذلك تلك الثرثرة التي لا تنتهي في مؤتمرات تمكين المرأة، وسياسات «الكوتا» النسائيّة التي تفرضها بعض الجهات غير الحكوميّة، وقرقعة حراك الـ(MeToo#) في قلب هوليوود، لظننا أن شعار «المستقبل أنثى» قد تحقّق بالفعل، ولم يتبقَّ سوى أن نحتفل معاً بانتهاء معركة الحركة النسويّة -وهي التي انطلقت منذ مائة عام تقريباً- بالانتصار.
ولكن عن أي نساء نتحدّث؟
هذا السؤال تحديداً ما تجيب عنه الصحافيّة الناقدة الثقافيّة الأميركية كوا بيك، في كتابها الجديد «النسويّة البيضاء» (White Feminism) الذي أثار جدلاً في الأوساط الإعلاميّة والثقافيّة الأميركيّة منذ صدوره قبل أسابيع، وتشن فيه هجوماً مباشراً على الحركة النسويّة بالغرب، إذ تفكك ارتباطها الطبقي والعرقي بالمنظومة البطريركيّة القائمة، وتدعو النّساء المتمتعات بالامتيازات لإعادة نظر جذرية فيما انتهت إليه حركتهن: أقرب لعلامة تجاريّة أخرى من ترسانة أسلحة الرأسماليّة موجهة حصراً لاستقطاب هوى مجموعة مستهلكات من النساء الغربيّات ذوات البشرة البيضاء، المرتاحات اقتصادياً السّاعيات لإثبات وجودهّن، وتحقيق ذواتهن الفرديّة، في عالم كأنّه من صنع الرّجال، وعلى مقاسهم.
بطبيعة الحال، ليس مفهوم «النسويّة البيضاء» بحديث الولادة، وقد سبق أن طرحه باحثون وباحثات في معرض نصوص أكاديميّة منذ أكثر من عقد، لكن فرادة المؤلَف الذي نشرته بيك يضع المسألة في سياق نص قريب من الثقافة اليوميّة، بقلم إعلامية متميّزة عملت -وتعمل- في مواقع عدة لدى أهم بيوتات الصحافة التي تخاطب النساء الغربيّات (مجلّة فوغ، ومجلّة كوزموبوليتان، وموقع تشيزبيل الإلكتروني النّسوي، وغيرها)، ويعكس ملامح من تجربتها الشخصيّة، بصفتها أميركيّة ذات أصول مختلطة قُبلت بداية في قلب المنظومة الإعلاميّة استكمالاً للتنوّع الشكلي المحض الذي درجت المُؤسسات الغربيّة على استعراضه في السنوات الأخيرة عبر فرض كوتا (ربّما سريّة) لضمّ عدد محدود من أبناء الأقليّات العرقيّة إلى صفوفها، لكنّها سرعان ما وجدت أن كل محاولة منها لاقتراح مزيد من التغطيات حول حقوق عاملات المنازل مثلاً، أو كيف تعاني الأمهات العازبات من الفقر المحتّم، أو كيف تضاعفت أعداد النساء المسجونات من فئات عرقيّة أو إثنيّة معينة، انتهت دائماً إلى الاصطدام بنوع من جدار مصمت. لقد كان عليها أن تتعلّم أن مثل هذه الطروحات ليست قضايا نسويّة بالنسبة للمؤسسة الإعلاميّة الغربيّة.
النساء الأخريات
مفهوم «النسوية البيضاء» عند بيك يتجاوز كثيراً حدود الغلاف الوردي لحركة نسويّة في الغرب، كما قد يتبادر سريعاً إلى الذّهن، لتكون عندها بمثابة آيديولوجيا تامّة يمكن تتبّع نشأتها وتطوّرها عبر تاريخ الحركة النسوية في الولايات المتحدة، والغرب الأنغلوفوني عموماً. وتبشر هذه الآيديولوجيا بأهمية النّجاح الفردي للمرأة، وتصوّر المساواة، وإمكان أن تحققها النساء أساساً من خلال نجاحهن الشخصي المهني، وفرض وجودهن في هيكليات المؤسسات القائمة حصراً، ولو كان ذلك يتضمّن بحكم الواقع الموضوعي استغلال النساء الأخريات والفئات المهمّشة من المجتمع. فالغاية من «النسويّة البيضاء» ليست تغيير المنظومات المتقاطعة على اضطهاد المرأة -النظام البطريركي والرأسمالي والعنصري والاستعماري- بل النجاح من داخل تلك المنظومات تحديداً، وفي إطارها، وتكريساً لنفوذها. هذه الآيديولوجيا -تقول بيك- آيديولوجيا استبعادية في الأساس، لا تكتفي بمنع النّساء من خارج دائرة الامتياز (كنساء السّكان الأصليين، والأفرو-أميركيّات السود، والمهاجرات، والنساء الفقيرات) من التمتع بفوائد أي مكتسبات نسوية، بل تقبل تجنيدهن بطريقة أخرى لخدمة البيضاوات، ومنعهن من تحقيق وهم المساواة مع نظرائهن البيض، بصفتهن خادمات ومساعدات وأجيرات بلا حقوق، وبأدنى سعر بالسوق.
تؤكد بيك أن النسويّة البيضاء «حالة ذهنية»، وليست هوية عرقيّة معينة، وبالتالي هي ليست حكراً على النساء البيضاوات، ولا حتى على معشر النساء، بصفتهن نوعاً جندرياً، إذ إن أفراداً من خلفيات عرقية وإثنية متنوعة من كلا الجنسين قد يشتركوا في وعود «النسويّة البيضاء»، معتقدين بإمكان كسر اغترابهم عن ذواتهم من خلال الطموح الشخصي والتحسن الذاتيّ، وأنهّم إذا عملوا بجد بما فيه الكفاية في إطار المؤسسات القائمة فسيتمكنون من جني مكافآتها المزعومة.
وتتتبّع بيك بحذق كيف تم سبك هذي التناقضات في الحركة النسوية منذ أيّامها الأولى. لقد كانت النسويّة البيضاء حاضرة هناك بقوّة في واشنطن عام 1913، عندما فرض منظمو مسيرة دعم منح المرأة حق التصويت أن يقتصر حضور الأفرو-أميركيات السود على الصفوف الخلفيّة، خوفاً من أن يشوّه حضورهن في المقدّمة صورة الحركة النسويّة في ذهن المجتمع الأميركي. وكانت النسويّة البيضاء ذاتها هناك في العشرينيّات من القرن الماضي أيضاً، عندما رفضت النّسويات الأميركيات دعم نظيراتهّن نساء أميركا اللاتينية في معركتهن الوطنيّة ضد الإمبريالية. ومن الجلّي أن هذا النّهج ما زال –بشكل أو بآخر- مستمراً، ولا تجد عند تحليله إلى عوامله الأوّليّة ما يختلف بين ما كان يجري في 1921 وما هو جارٍ في 2021. وربّما لا توجد خلفية أكثر ملاءمة لنشر كتاب عن «النسويّة البيضاء» من الأزمة المجتمعيّة الحادة التي تسبب بها وباء «كوفيد-19» طوال أكثر من عام، والتي كشفت بشكل مؤلم عن إخفاقات الحركة النسويّة البيضاء في تحقيق أي شكل من أشكال العدالة الحقيقية للنساء. ففي الولايات المتحدة وبريطانيا، لم تشهد النساء السود والمهاجرات معدلات أعلى لفقدان الوظائف وانعدام الأمن الغذائي فحسب، بل رصدت إحصاءات رسميّة أن نسب إصابتهن بالمرض، وكذلك الوفيات الناتجة عنه، بقيت 4 مرّات أكثر من نظيراتهن البيضاوات، لا سيما أنهن بسبب غياب العدالة الاقتصاديّة يشغلن أغلبيّة الوظائف في الخطوط الأمامية لمواجهة الوباء، مما يزيد من فرص تعرض صحتهنّ وحياتهن للخطر.
مزيج غرائبي
يمزج كتاب «النسويّة البيضاء» بين النّقد الثقافي والتقرير الصحافيّ، وبين التتبّع التاريخي والمذكرات الشخصيّة. ولا شكّ أنّه سيُقرأ بشكل مختلف من قبل البيضاوات المستفيدات من الامتيازات وبقيّة النساء، لكنّه في نهاية المطاف يجمع القراءتين ليكون نوعاً من بيان تأسيسي (مانيفستو) لحركة نسائيّة في القرن الحادي والعشرين، تدعو فيه بيك النساء الليبراليّات لإعادة النّظر في امتيازاتهن الطبقيّة والعرقيّة، والانخراط الفاعل مع النساء من الفئات المجتمعيّة المتفاوتة على اختلاف الأصول والمنابت والثقافات والأعراق في العمل الجماعي المتضامن لهدم أصنام «النسوية البيضاء»، وبناء حركة نسويّة جديدة أكثر شمولاً ومصداقيّة مكانها.
ومع هذا المزيج الغرائبيّ، من التأثيرات السلبيّة للجائحة، والاستقطابات السياسيّة، واشتعال جذوة النضال التحرّري مجدداً في غير ما بلد (غربيّ)، كما في حراك «حياة السود مهمّة» والسترات الصفر، وامتداد الغضب إلى ميادين عواصم العالم الثالث، فليس هناك وقت أمثل من أيّامنا الرّاهنة لإطلاق نضال نسوي راديكالي عريض يستهدف تحقيق تغيير شامل ذي مغزى، ليس لحياة النساء البيضاوات فحسب، بل من أجل كل المهمشين. فلربما يكون المستقبل الأفضل الذي راوغنا كثيراً بالفعل أنثى.
* الكتاب: النسوية البيضاء (White Feminism).
* المؤلفة: كوا بيك.
* الناشر: سايمون وشوستر
 edition Simon & Schuster 1st)
(UK,2021.


مقالات ذات صلة

علي بن تميم: لا بدّ من الريادة في التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي

ثقافة وفنون جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024

علي بن تميم: لا بدّ من الريادة في التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي

في حوار «الشرق الأوسط» مع الدكتور علي بن تميم، رئيس «مركز أبوظبي للغة العربية»، في دائرة الثقافة والسياحة في أبوظبي، الذي يتبع له مشروع «كلمة» للترجمة....

ميرزا الخويلدي (الشارقة)
ثقافة وفنون مائة عام على صدور كتاب الريحاني «ملوك العرب» (دارة الملك عبد العزيز)

الرياض تحتفي بالريحاني وبكتابه «ملوك العرب» في مئويته الأولى

استعرض المشاركون في الندوة إسهامات الريحاني بوصفه كاتباً متعدد المجالات وأكدوا أهمية توثيق تاريخ المنطقة ومجتمعاتها.

عمر البدوي (الرياض)
ثقافة وفنون أمين الريحاني

«ملوك العرب» في مئويّته: مُعاصرنا أمين الريحاني

قيمة كتاب «ملوك العرب» كامنة في معاصرتها لحياتنا ولبعض أسئلتنا الحارقة رغم صدوره قبل قرن. ولربّما كانت قيمة الريحاني الأولى أنه لا يزال قادراً على أن يعاصرنا.

حازم صاغيّة
كتب مختبر فلسطين... قنابل يدوية بدل البرتقالات

مختبر فلسطين... قنابل يدوية بدل البرتقالات

يتجاوز الصحافي أنتوني لونشتاين، الخطوط المحلية للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، في كتابه الاستقصائي «مختبر فلسطين: كيف تُصَدِّر إسرائيل تقنيات الاحتلال إلى العالم»

عبد الرحمن مظهر الهلّوش (دمشق)
كتب سردية ما بعد الثورات

سردية ما بعد الثورات

لا تؤجل الثورات الإفصاح عن نكباتها، هي جزء من حاضرها، وتوقها إلى التحقق، وتلافي تكرار ما جرى، بيد أنها سرعان ما تصطنع مآسيها الخاصة، المأخوذة برغبة الثأر

شرف الدين ماجدولين

مختبر فلسطين... قنابل يدوية بدل البرتقالات

مختبر فلسطين... قنابل يدوية بدل البرتقالات
TT

مختبر فلسطين... قنابل يدوية بدل البرتقالات

مختبر فلسطين... قنابل يدوية بدل البرتقالات

يتجاوز الصحافي اليهودي الأسترالي أنتوني لونشتاين، الخطوط المحلية للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، في كتابه الاستقصائي «مختبر فلسطين: كيف تُصَدِّر إسرائيل تقنيات الاحتلال إلى العالم» والذي صدر بطبعته الإنجليزية عن دار النشر البريطانية «فيرسو بوكس» (2023م)، مستعرضاً كيف يتردّد صدى التجارب الصهيونية على الفلسطينيين في ظلّ الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين منذ أكثر من 75 عاماً.

وفي النسخة العربية من الكتاب الصادرة حديثاً (2024م) عن الدار العربية للعلوم (ناشرون)، في بيروت، ترجمة د. عامر شيخوني، يتتبع لونشتاين بالإحصائيات والأدلة الاستقصائية تجارة السلاح الإسرائيلية وتصرّفاتها غير الأخلاقية باستخدام أدوات قَمعِها في فلسطين المحتلَّة من أجل الدعاية والتسويق لأسلحتها العسكرية والإلكترونية، وترجع أهمية هذا الكتاب إلى أنّه صادِر عن مؤلِّف يهودي امتلكَ هو وأسرته خلفية ثقافية يهودية وصهيونية، إلَّا أنّه تنبَّه إلى السلوك الاستيطاني الإسرائيلي منذ نشأته حتى الآن.

العنصرية الصريحة

يقول أنتوني لونشتاين الذي عَمِلَ مع صحف «نيويورك تايمز»، و«الغارديان»، و«بي بي سي»، و«واشنطن بوست»، و«ذي نيشن»، و«هآرتس». عندما بدأتُ الكتابة عن إسرائيل - فلسطين في أوائل العَقد الأول من هذا القَرن، كان ذلك في المراحل الأولى التي مارس فيها المشرفون رقابة الإنترنت ووسائل الإعلام الرئيسية، ونادراً ما أتاحوا المجال لسماع أصوات أكثر انتقاداً ضد الاحتلال الإسرائيلي. ويبيّن المؤلِّف بِأَنَّه وُلِدَ في بيت يهودي ليبرالي في مدينة ملبورن بأستراليا، ويضيف، حيث لم يكن تأييد إسرائيل واجباً دينياً، إلَّا أنّه كان متوقعاً بكلّ تأكيد. ويؤكد لونشتاين، نَجا جَدّي وجَدّتي من النازية في ألمانيا والنمسا في عام 1939م، وجاءوا لاجئين إلى أستراليا، ورغم أنهما لم يكونا من الصهاينة المتحمّسين، فقد كان من المعقول اعتبار إسرائيل مكاناً آمناً للشعب اليهودي فيما لو حدَثت أزمة أخرى لهم في المستقبل. ويلفت في مقدّمته للكتاب: سرعان ما أصبحتُ غير مرتاح مع العنصرية الصريحة التي سمعتُها ضد الفلسطينيين، وللتأييد الفوري لجميع أعمال إسرائيل. ويرى أنتوني لونشتاين أنّ السَّرد الطاغي لديهم كان يرتكز على الخوف؛ اليهود معرَّضون للهجمات دائماً، وإسرائيل هي الحلّ، وليس مهمّاً أن يعاني الفلسطينيون في سبيل أن يعيش اليهود في أمان. ويقول لونشتاين: «شعرتُ أنّ هذا الموقف يشبه درساً منحرفاً من دروس المَحرقة اليهودية (الهولوكوست). أصبحتُ الآن مواطناً أسترالياً وألمانياً لأنّ عائلتي هربت من أوروبا قبل الحرب العالمية الثانية. وأنا الآن يهودي مُلحِد».

سرديّة الجرح الفلسطيني

وعن زيارته الأولى إلى الشرق الأوسط، يصف لونشتاين المشهد الفلسطيني في الضفة الغربية، وغزة، والقدس الشرقية، بأنَّ إسرائيل تُضيّق الخناق الإسرائيلي المتزايد في فلسطين، ويذكر الكاتب: «عشتُ في حي الشيخ جرّاح في القدس الشرقية، وشاهدتُ الشرطة الإسرائيلية تُضايق وتُهين الفلسطينيين دائماً». وعن تأكيد عنصرية إسرائيل يستشهد المؤِّلف بنتائج استبيان أجري عام 2007. وافق من خلاله ربع الأميركان على أنّ إسرائيل هي دولة فصل عنصري. وأقرَّ بذلك ناشِر جريدة هآرتس، الصحيفة الصهيونية الأكثر تقدمية، حيث كتبَ عاموس شوكِن Amos Schoken سنة 2007: «دولة إسرائيل التي نتَجتْ عن الصهيونية، ليست دولة يهودية ديمقراطية، بل أصبحت دولة فَصل عنصري بكل وضوح وبساطة، يستطيع المرء أن يقول أشياء كثيرة عن ذلك، إلَّا أنّه لا يستطيع أن يقول إنّ إسرائيل تُحقّق الصهيونية في دولة يهودية وديمقراطية». ويشير الكاتب إلى أنَّ ادِّعاء إسرائيل بأنّها دولة ديمقراطية زاهرة في قلب الشرق الأوسط تَتحدّاه الوقائع على الأرض، حيث ما زال تقديم أي تقرير إخباري من فلسطين يُعَدّ تحدّياً صعباً.

الصهيونية... زهرة في بيت زجاجي

يتحدث المؤلِّف في كتابه عن المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد (1935 - 2003م)، حيث يقول: «تمتَّع سعيد برؤية واضحة للأصول الحقيقية للدولة اليهودية»، وكتبَ سعيد: «كانت الصهيونية زهرة، نبَتتْ في بيتٍ زجاجي في بيئة من القومية الأوروبية، ومعاداة السامية، والاستعمار، بينما نشأت الوطنية الفلسطينية من الموجة العارِمة للمشاعر العربية والإسلامية المعادية للاستعمار».

ويعقب لونشتاين على توصيف سعيد، بقولهِ هذا النوع من القومية المتطرّفة هو الذي تمّت الدعاية له على مدى أكثر من نصف قرن، ويرى لونشتاين أنَّ وضع إسرائيل كدولة إثنية قومية كان واضحاً منذ نشأتها في عام 1948، غير أنّ ذلك التوجّه أخذ دفعة قوية في القَرن الـ21. وكان بنيامين نتنياهو القائد الإسرائيلي الأكثر نجاحاً في السعي وراء هذه السياسة، حيث طوّرت إسرائيل صناعة عسكرية على مستوى عالميّ، وتمّت تجربة أسلحتها بشكلٍ مناسب على الفلسطينيين تحت الاحتلال - كما يشير لونشتاين - ثم تمّ تسويقها كأسلحة «تم اختبارها في ميدان القتال». وأضاف الكاتب أنّ شير هيفر Shir Hever هو واحدٌ من أكثر الخبراء تعمُّقاً في فهم النواحي الاقتصادية للاحتلال الإسرائيلي، قال لي: «إنَّ تجّار السلاح الإسرائيليين يَنشرون رسالة محدّدة تَعكس الممارسة الواقعية في قمع الفلسطينيين. وكان المختبر الفلسطيني علامة إسرائيلية مهمّة في بيع منتجاتها الأمنية. والإيمان بالاحتلال الدائم لأراضي فلسطين». وبصدد ذلك يقول الدكتور غسّان أبو ستّة في كتاب «سردية الجرح الفلسطيني»، (الريّس، 2020 ص 32)، إنَّ لحروب غزة «هدفاً تسويقيَّاً، لأنّ إسرائيل تُظهر في كلِّ حرب نوعاً جديداً من السلاح الذي تريد تسويقه؛ وللمثال، فإنّ الدرونز القاذف للصواريخ، أصبح بضاعة أساسيّة في تجارة السلاح الإسرائيلية». ويقول أنتوني لونشتاين: «أخبرني الصحافي الإسرائيلي جدعون ليفي Gideon Levy عن اجتماعٍ خاصٍّ حضَره رئيس الوزراء وهيئة التحرير لصحيفته هآرتس. استناداً إلى الألوان في خريطة رئيس الوزراء العالمية، كان العالم كلُّه في أيدينا تقريباً». ويُبيّنُ الكاتب أنّ إسرائيل لديها تجاوزات ومخالفات للقانون الدولي، وإنَّ الإسرائيليين لا يهتمّون لأي شيء. وبحسب المؤلف، فإنّ ميدان تدريبات إسرائيل هي فلسطين، حيث توجد بجوارها مباشرة أمة محتلَّة، توفّر لها ملايين البشر الخاضعين في مختبرٍ لتجريبِ أكثر وسائل السيطرة دقَّة ونجاحاً. ونتيجة لذلك بلغت مبيعات شركات السلاح الإسرائيلية نحو 77.2 مليار دولار.

عالم قاسٍ... القنابل اليدوية بدلاً من البرتقالات

وعن الدَّور المركزي الذي تلعبه الأسلحة الإسرائيلية، يكتب الباحث حاييم بريشيثابنير في كتابه «جيشٌ لا مَثيل له»: «كيف صَنعَتْ قوات الدفاع الإسرائيلية دولَة، تخلَّى الاقتصاد عن البرتقالات، واستخدم القنابل اليدوية بدلاً منها». وذكر أنتوني لونشتاين أنَّ إسرائيل اشتغلت عن قرب مع واشنطن على مدى عقود، مثلاً: دعمَتْ إسرائيل الشرطة السرية في غواتيمالا، والسلفادور، وكوستاريكا أثناء الحرب الباردة، وسلّحت إسرائيل فرق الموت في كولومبيا حتى العَقد الأول من القَرن الـ21م، وكتب كارلوس كاستاينو، تاجر المخدرات السابق الذي ترأّس ميليشيا يمينيّة متطرّفة، مُفَسِّراً في مذكراته المجهولة الكاتب: «أنا أدينُ لإسرائيل بجزءٍ من وجودي وإنجازاتي البشرية والعسكرية. استنسَختُ مبدأ قوات الميليشيا من الإسرائيليين». وقد لخَّص الإسرائيلي إيتان ماك، محامي حقوق الإنسان: «لم يتغيّر الكثير في قطاع الدفاع الإسرائيلي على مَرّ العقود، وما زالت مصالحها، وعدم اهتمامها بحقوق الإنسان، وعدم محاسَبتها مستمرة».

الهيمنة العِرقية

يقول المؤلف إنَّ أبا الصهيونية ثيودور هرتسل (1860 - 1904م)، كتبَ في رسالته الشهيرة «الدولة اليهودية»: «في فلسطين، سنكون جزءاً من الجدار الأوروبي ضد آسيا، وسنعمل كَثَغرٍ أمامي للحضارة ضد البربرية». ويؤكد أنتوني لونشتاين قال لي في وطني والداي اليهوديان الليبراليان، إنَّ «اليهودَ هم شعبٌ مختار، ولديهم علاقة خاصّة مع الله والمجتمع». ويُبيّنُ الكاتب: هناك نظام يسمح بازدهار الهيمنة العرقية ضد غير اليهود، ويُبرِّرُ تجاهل حياتهم. وينتقد المؤلف موقف الرئيس الإسرائيلي الأسبق حاييم هيرتسوغ (1918 - 1997م)، الذي قال: «يجب أن نسترشد في علاقاتنا الدولية بالقاعدة الوحيدة التي أرشَدتْ حكومات إسرائيل منذ تأسيسها: هل هو أمرٌ جيدٌ لليهود». وعَدَّ أنتوني لونشتاين، ذلك: «بمثابة تبريرٍ لجميع أساليب التعاون الشنيع مع الأنظمة الشنيعة». ويُعلَّق المفكّر والأكاديمي الأميركي نعوم تشومسكي في كتابه «المثلّث المَصيري؛ الولايات المتحدة وإسرائيل والفلسطينيين»، إنَّ التركيز الوحيد على مصالح اليهود كان «حجَّة تَستندُ على نتائجَ تترتَّبُ على اليهود وليس على الشعب المَغلوب الذي حُذِفَتْ حقوقه وإراداته - في سلوكٍ غير مُستغرب بين الصهاينة الليبراليين، أو بين المثقفين الغربيين».

ويذكُر الصحافي ساشا بولاكوف - سورانسكي Sash Polakow – Suranksy في كتابه عن علاقة إسرائيل السريّة بنظام الفَصل العنصري في جنوب أفريقيا، «التحالف غير المنطوق» The Unspoken Alliance إذ «تدهوَرتْ صورة إسرائيل بأنّها دولة الناجين من المَحرقة المحتاجين للحماية، واتحدرتْ تدريجياً إلى صورة قزمٍ إمبريالي عميلٍ للغرب». ويقول المؤلف: «ابتعدت دول كثيرة من العالم الثالث عن إسرائيل، وفضلَّت إسرائيل سياسة الأمر الواقع القاسية، مُفضِّلَة مشاركة أغلب الطُّغاة قسوة في العالم». ويَطرحُ الأكاديمي الإسرائيلي نيفي غوردون Neve Gordon، الذي يُدرِّس القانون الدولي وحقوق الإنسان في جامعة الملكة ماري في لندن، تفسيراً أكثر تفصيلاً بشأن جاذبية إسرائيل بأنها: «دولة فَصل عنصري تَستحقُّ المقاطَعة».

دولة إسرائيل التي نتَجتْ عن الصهيونية، ليست دولة يهودية ديمقراطية، بل أصبحت دولة فَصل عنصري

لونشتاين

تدمير التراث الفلسطيني

كانت هناك أهوال معروفة وغير معروفة سَببتْها إسرائيل من خلال غزوها للبنان في صيف 1982. لعلّ أسوأها كانت مجزرة مخيمات اللاجئين في صبرا وشاتيلا ببيروت في سبتمبر (أيلول) 1982م، حيث قُتِلَ نحو 2522 مدنياً، ويلفت لونشتاين إلى أنَّ هناك أمراً أكثر أهمية يتعلَّق بوجود إسرائيل. ذَكَرَ الصحافي توماس فريدمان في كتابه عن الشرق الأوسط «من بيروت إلى القدس»، حكايةً تتعلَّق بمهمّة القوات الإسرائيلية الحقيقية في بيروت التي لم يُعترف بها: «كان هنالك هَدفان مُحددَّان اهتمّ بهما جيشُ شارون بشكلٍ خاص. كان الأول هو مركز أبحاث منظمة التحرير الفلسطينية في بيروت، حيث لم توجد أسلحة في ذلك المركز، ولا ذخائر، ولا مقاتلين». وبحسب الكاتب، إنما كان هناك شيءٌ أكثر خطورة - كُتبٌ عن فلسطين، سجلات قديمة، ووثائق أراضٍ تَعودُ لعائلات فلسطينية، وصُوَرٌ عن حياة العرب في فلسطين، وأهمّها خرائط عن فلسطين تعود للفترة قبل تأسيس إسرائيل عام 1948، عليها قرى عربية مسحت إسرائيل كثيراً منها بعد استيلائها على فلسطين. كان مركز الأبحاث مثل سفينة تضمُّ التراث الفلسطيني - بعض شهادات وجودِهم كأمّة. من ناحية معينة، كان ذلك ما أراد شارون الحصول عليه في بيروت.

ويرى لونشتاين ذلك التدمير الممنهج بأنّه رغبة التدمير العسكري للخَصم، وكذلك مَحو تاريخه وقدرته على تذكّر ما فَقَده.

وبحسب لونشتاين، تعمل إسرائيل، إمِّا لجعل العرب يَختفون، وإذا لم يَكنُ ذلك ممكناً، فجعلهم غير متساوين أملاً بأنهم سيُهاجرون باختيارهم سعياً وراء حياة أفضَل في مكان آخَر. ويعطي المؤلّف مثالاً على ما يجري في قطاع غزة من قتلٍ وحصارٍ وتدميرٍ منذ سنين مضت على أنّه المختبر النموذجي للعبقرية الإسرائيلية في السيطرة. وحسب توصيف الكاتب: «إنّه الحلم النهائي للإثنية القومية الذي يضع الفلسطينيين في سِجنٍ دائم».

مختبر فلسطين - كيف تُصَدِّر إسرائيل تقنيات الاحتلال للعالم

المؤلف: أنتوني لونشتاين

ترجمة: د. عامر شيخوني

الناشر: الدار العربية للعلوم ناشرون

بيروت، الطبعة الأولى، 2-4-2024

عدد الصفحات: 336 صفحة