معرض القاهرة للكتاب.. تراجع الإقبال على الكتب السياسية والدينية لصالح الرواية

الأسعار المخفضة وحفلات التوقيع سر نجاحه والكتب المزورة أقبح ما فيه

جانب من الحضور في إحدى الندوات
جانب من الحضور في إحدى الندوات
TT

معرض القاهرة للكتاب.. تراجع الإقبال على الكتب السياسية والدينية لصالح الرواية

جانب من الحضور في إحدى الندوات
جانب من الحضور في إحدى الندوات

تسير حليمة عبد الله الطالبة المبتعثة من المملكة العربية السعودية إلى أستراليا في أرض المعارض بمدينة نصر، محملة بعشرات الكتب والمراجع العلمية، بعد أن تحملت الانتظار ساعة كاملة حتى تتمكن من التجول بين أروقة معرض القاهرة الدولي للكتاب، وانتقاء قائمتها التي تعدها كل عام؛ حيث تحرص منذ طفولتها على اغتنام فرصة المعرض للحصول على أحدث الإصدارات، تقول: «أجد هنا تنوعا كبيرا في دور النشر العربية والأجنبية، وأيضا أحدث المراجع العلمية والأعمال الروائية للأدباء المصريين؛ لذا أحرص على زيارته وانتقي بعض الكتب كهدايا للأصدقاء الذين لا يستطيعون القدوم لمصر، لكن جولتي في المعرض هذا العام منهكة جدا بسبب الزحام والإقبال الكبير الذي لم أره في أي معرض من معارض العالم».
أما سامح صلاح (من مصر) الذي يحرص على اصطحاب أسرته سنويا لزيارة المعرض، فوقف أمام المقهى الثقافي مستعرضا على هاتفه الذكي مواعيد الندوات عبر تطبيق «عم أمين»، معبرا عن امتنانه بتنظيم المعرض هذا العام، خصوصا انتظام مواعيد الندوات وإقامتها في مواعيدها المحددة، إلا أنه لم يجد تغيرا كبيرا في أسعار الكتب عن أسعارها العادية بقية العام، عدا بعض العناوين التي وجد عليها تخفيضا جيدا، كما لاحظ تضاؤل مساحة بعض أجنحة المعرض، ومنها: جناح الجامعة الأميركية، و«الشروق»، و«مدبولي». ولاحظ اختفاء الحافلات التي كانت توفرها القوات المسلحة لتسهل عملية انتقال الجمهور، مما جعله لا يستكمل جولته.
ورغم غياب الفعاليات الفنية حدادا على خادم الحرمين الشريفين، والجنود المصريين الذين استشهدوا في العريش، فإنه بشكل عام توجد حالة من الإقبال والرضا عن المعرض بين الزوار، ورغم ساعات الانتظار الطويلة على البوابات لتشديد الإجراءات الأمنية فإن عددا كبيرا من الأسر المصرية انتهزت فرصة انعقاد المعرض المستمر حتى 12 فبراير (شباط)، ووجود مساحات خضراء لقضاء وقت ممتع في الهواء الطلق، خصوصا أنه يواكب إجازة منتصف العام الدراسي.
كان من اللافت أيضا هذا العام، وجود جنسيات كثيرة بين زوار المعرض غالبيتهم من إندونيسيا، وماليزيا، ونيجيريا، وموريتانيا، الذين يدرسون في جامعة الأزهر. وقد وجد القراء من مختلف الجنسيات هذا العام ما يشبع نهمهم من عناوين؛ حيث شاركت 26 دولة من مختلف أنحاء العالم، ولأول مرة شاركت 4 دول أفريقية، بمشاركة 850 ناشرا، منهم: 50 ناشرا أجنبيا، و250 ناشرا عربيا، و550 ناشرا مصريا، مما أعطى تنوعا محمودا.
أمام جناح سور الأزبكية الذي يضم باعة الكتب القديمة، تتراص أطنان من الكتب والمجلدات في مختلف المجالات والمراجع العلمية والتعليمية تعلوها لافتات ورقية بـ5 جنيهات، و10 جنيهات و20 جنيها، في انتظار من يفوز بها. تقف مي السلمي بعربة طفلها مكدسة الجزء السفلي منها بعشرات الكتب وتراجع بصعوبة وسط الزحام، قائمة طويلة من الكتب التي ترغب في شرائها كي تنافس أصدقاءها على موقع «جودريدز». تقول: «أستغل وقت انقطاعي عن العمل لرعاية طفلي، في القراءة، وأخوض مع صديقاتي تحدي (جودريدز) لهذا العام لقراءة 200 كتاب، وفي (سور الأزبكية) أجد ما أبحث عنه بأسعار زهيدة جدا؛ حيث قمت بشراء عدد من روايات نجيب محفوظ، والغيطاني، وإبراهيم عبد المجيد، سعر الرواية 5 جنيهات، وقصص لطفلي بجنيه واحد!
ووقف أحمد أنور، أحد الباعة بمكتبات «سور الأزبكية»، ينادي على الكتب والروايات ذات السعر الموحد لجذب الزائرين، وحول الإقبال الشديد على الكتب المخفضة، وهو يقول: «أمر طبيعي في ظل ارتفاع أسعار الكتب في دور النشر الكبرى، أن يعتبر المعرض فرصة لعشاق القراءة أن ينتقوا ما يريدون، ونحن نحرص على جمع أفضل ما لدينا من كتب لعرضها، خصوصا التي يسأل عنها زبائن السور طوال العام».
على الجهة الأخرى، أقامت وزارة الثقافة المصرية جناحا مخصصا لإصدارتها المختلفة بتخفيضات لأكثر من 50 في المائة، وهو ما لاقى إقبالا كبيرا من الجمهور وساهم في نفاد كثير من الكتب المتميزة. وكان من أبرز المعروضات: الأعمال الكاملة لرفاعة الطهطاوي التي تباع بـ10 جنيهات، وموسوعة مصر القديمة بـ10 جنيهات، ومجلد أطلس بـ40 جنيها، وعدد كبير من الكتب في النقد والأدب والمسرح والشعر والفن التشكيلي، سعر أي منها جنيه واحد.
وعلى الرغم من جهود الهيئة المصرية العامة للكتاب، فإنه كان من اللافت انتشار بيع الكتب المزورة بين بعض مكتبات «سور الأزبكية» رغم علمهم بوجود شرطة المصنفات، ولاحظنا إقبال عدد كبير من الشباب على الروايات الجديدة التي تم تزويرها، والتي تتصدر قوائم الأكثر مبيعا، ومنها: رواية «انحراف حاد» لأشرف الخمايسي، ورواية «أداجيو» لإبراهيم عبد المجيد، و«كلاب الراعي» لأشرف العشماوي، فضلا عن كتب يوسف زيدان، وترجمات مزورة لكتب جورج أورويل، ودان براون، وإيزابيل الليندي.
وتثير هذه الظاهرة الآخذة في التزايد غضب الناشرين. يقول مصطفى الفرماوي، مدير مكتبات دار الشروق، لـ«الشرق الأوسط»: «لا تزال ظاهرة تزوير الكتب تهدد صناعة النشر في مصر، وقد فاقت هذا العام كل الحدود، فقد وجدت بنفسي أحد أشهر مزوري الكتب في مصر يرتاد دور النشر ليشتري أحدث الإصدارات، بل ويقول للناشرين بكل تبجح لن أطبعها الآن!». وينتقد الفرماوي وجود كتب تروج للفكر التكفيري والجهادي ضمن معروضات «سور الأزبكية»، وهو ممنوع من قبل الدولة المصرية.
من جهة أخرى، يرى الفرماوي أن «المبيعات هذا العام أفضل من العام الماضي وما زال المعرض مستمرا، لا يمكن الحكم عليه بشكل شامل، وقد تأثرت المبيعات قليلا بعدم وجود وسيلة تنقل بين سرايات المعرض، وأيضا إهدار الوقت في الدخول عبر البوابات، واليوم الشتوي نهاره قصير، مما يؤثر بالطبع على نسبة المبيعات». وهو يعتقد أن السر في الإقبال الشبابي على المعرض يعود إلى «أن الشباب وجد من يكتب له، ووجد كثيرا من دور النشر الشابة».
ويذكر أن دار الشروق قدمت تخفيضات على إصدارتها تصل إلى 50 في المائة سواء في جناحها أو في كافة مكتباتها، مراعاة لمن لا يستطيع الوجود في المعرض، تشجيعا للشباب على اقتناء الكتب.
وحول تقييمه للمعرض، يرى الفرماوي أنه «أحسن معرض في الدنيا، ولا يوجد معرض في العالم به كثافة وتنوع جمهور معرض القاهرة»، مشيرا إلى أن «هناك قليلا من عدم التنظيم وعدم الرقابة على الناشرين، لكنها أقل من الأعوام الماضية وتغلبت الإيجابيات على السلبيات».
وكان من الكتب الأكثر مبيعا في جناح دار الشروق كتاب «في طريق الأذى» ليسرى فوده، و«داعش السكين التي تذبح الإسلام» لناجح إبراهيم، وروايات: بن سالم حميش «من ذكر وأنثى»، و«إيقاع» لوجدي الكومي، وأحمد خالد توفيق وروايته الجديدة «مثل إيكاروس»، وكتاب علي عزت بيجوفيتش «الإسلام بين الشرق والغرب»
كما يتفق معه مصطفى الشيخ، مدير دار آفاق للنشر والتوزيع بالقاهرة، في أن المعرض هذا العام حقق نجاحا كبيرا، ولفت إلى أن «الإقبال الجماهيري على المعرض كان إقبالا كبيرا فاق كل التوقعات، مما يؤكد أن مصر تسير نحو الاستقرار رغم كل ما يحدث»، موضحا أن «الإقبال أيام الإجازات الأسبوعية كان رهيبا». ويضيف: «هناك اجتهاد من قبل الناشرين المصريين؛ حيث توجد آلاف العناوين الجديدة التي تشبع كل الأذواق». ويلاحظ الشيخ تبدل ذائقة القراء قليلا من الكتب الخاصة بالثورة إلى كتب الشباب والكتب الخفيفة والروايات العربية والروايات المترجمة، وكتب التصوف.
ومن أحدث إصدارات دار آفاق التي لقيت إقبالا في المعرض: الأعمال الكاملة لعبده جبير، وكتاب ويليام رايش والتحليل النفسي، وروايات عادل أسعد الميري، و«مائة عام من العزلة» لماركيز، و«المملكة المحرمة» لجان جاكوب سلوروف، ورواية «العيش في مكان آخر» لمحمود عبد الوهاب، فضلا عن الكتب والمراجع العلمية.
وشهد المعرض هذا العام أيضا مشاركة عدد كبير من المثقفين والأدباء والكتاب في حفلات التوقيع والندوات واللقاءات اليومية، مما أعطى زخما للمعرض وجذب عددا كبيرا من الجمهور. وانصب النشاط الثقافي للمعرض على النقاش حول الوجوه المتعددة للإرهاب، وتجديد الخطاب الديني، ومناقشات للكتب التي صدرت في هذا الصدد، ومنها: «الإرهاب.. بذوره وبثوره» تألیف: د. هشام الحديدي، و«الإطاحة بحكم المرشد» تألیف: د. خلیل كلفت، و«اقتصادیات جماعة الإخوان في مصر والعالم» تألیف: د. عبد الخالق فاروق، وغيرها.
كما كان لافتا تعمد دور النشر على وضع الروايات التي تتحدث عن صعود التيار الديني أو الكتب الخاصة بالإسلام الوسطي، والإسلام السياسي، والفكر العلماني، والجماعات الإرهابية والفكر التكفيري، في واجهة العناوين التي تحاصر الزائر في معظم الأجنحة. وكان أبرزها كتب المفكر الراحل د. فرج فودة «نكون أو لا نكون»، و«الإرهاب»، و«النذير»، و«الملعوب»، و«قبل السقوط»، و«حوار حول العلمانية»، و«الحقيقة الغائبة»، التي طرحتها الهيئة العامة للكتاب.
وعلى عكس المتوقع، لم تختف من المعرض دور النشر الدينية أو التي تنتمي للتيار الإسلامي، فهي موجودة بمطبوعاتها بجوار خيمة ألمانيا، إلا أن الإقبال عليها كان أقل من دور النشر الأخرى. وكان من اللافت وجود عدد كبير من دور النشر الجديدة، من بينها: دار الربيع العربي، ودار الحياة، ودار دون، ودار كيان، وبيت الياسمين، ودار ذات، ودار سطور، بعناوين متنوعة مع حرص واضح على ترجمة الأدب العالمي.



فتاة العبّاسية في أحلام نجيب محفوظ

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ
TT

فتاة العبّاسية في أحلام نجيب محفوظ

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ

كان في حياة نجيب محفوظ قصة حب غريبة الشأن. قصة حب صامت ومن طرف واحد. حب عابدٍ مُتَوَلِّهٍ، خاشعٍ يرفع القرابين لإله لا يعلم حتى بوجوده. كمثل امتناننا للشمس كل صباح وهي لا تدري بوجودنا ولا نحن نتوقع منها ذلك. إلا أن الغرابة لا تتوقف عند هذا الحد. فهذا الحب الذي خبره محفوظ وهو صبي على عتبات المراهقة بقي معه طوال عمره المديد، وكان له أثر بليغ في قصصه ورواياته في كل مراحله الإبداعية، وحتى النهاية، حيث تتجلى تلك المحبوبة التي أسميها بـ«فتاة العباسية» تجلياً عظيماً في آخر أعماله إطلاقاً: «أحلام فترة النقاهة».

كان محفوظ يتحدَّث حديثاً مباشراً وإن كان نادراً عن تلك الفتاة ما بين الفينة والفينة، أذكر منه على سبيل التخصيص ما قاله في أحاديث سيرته الشخصية إلى رجاء النقاش والتي نُشرت بعنوان «نجيب محفوظ: صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته» (1998). ها هو يحكي القصة في اختصار: «في العباسية عشت أول قصة حب حقيقية في حياتي، وهي قصة غريبة ما زلت أشعر بالدهشة لغرابتها كلما مرت بذهني، وكنت أيامها على أعتاب مرحلة المراهقة (...) كنت ألعب كرة القدم في الشارع مع أصدقائي، وكان بيتها يطل على المكان الذي نلعب فيه. وأثناء اللعب شدني وجه ساحر لفتاة تطل من الشرفة. كنت في الثالثة عشرة من عمري، أما هي فكانت في العشرين، فتاة جميلة من أسرة معروفة في العباسية. رأيت وجهاً أشبه بلوحة (الجيوكاندا) التي تجذب الناظر إليها من اللحظة الأولى. ربما جذبني إليها بالإضافة إلى جمالها أنها كانت مختلفة عن كل البنات اللاتي عرفتهن قبلها. لم تكن فتاة تقليدية مثل بنات العباسية، بل كانت تميل إلى الطابع الأوروبي في مظهرها وتحركاتها، وهو طابع لم يكن مألوفا آنذاك... ظل حبي قائماً لهذه الفتاة الجميلة من بعيد ومن طرف واحد، ولم أجرؤ على محادثتها أو لفت انتباهها إلى حبي الصامت، واكتفيت منها بمجرد النظر (...) استمر الحب الصامت لمدة عام كامل. وكم كان حزني شديداً عندما تزوجت فتاتي وانتقلت إلى بيتها الجديد. كنت أعلم أن ارتباطي بها شبه مستحيل، رغم ذلك همت بها حباً (...) وصدمت لزواجها بشدة. انقطعت عني أخبارها، ومضت الأيام (...) إلا أن حبي لها لم يهدأ أبداً، وظلت آثاره عالقة بقلبي وذاكرتي (...) ولقد صورت قصتي مع تلك الفتاة في رواية (قصر الشوق) مع تعديلات تتفق مع الإطار العام الذي وضعته للرواية». (ص105 - 106).

كانت «قصر الشوق»، ثاني أجزاء «الثلاثية»، هي العمل الأكبر الذي تجلت فيه قصة الحب تلك وتجسدت فتاة العباسية في شخصية «عايدة شداد» وتجسد حب محفوظ لها في افتتان كمال عبد الجواد ابن التاجر البسيط بعايدة ابنة الباشا، قاطنة القصور. لكن حضور فتاة العباسية ملحوظ لمن يتقصَّاه في أعمال محفوظ منذ مجموعته القصصية الأولى «همس الجنون» في باكورة حياته فصاعداً، وقد رصدت ذلك في أحد فصول كتابي «استنطاق النص» (2006). أما آخر تجليات فتاة العباسية فكانت في آخر مراحل حياته، فالفتاة التي طاردت وعيه الظاهر طوال عمره، انتقلت إلى مطاردة وعيه الباطن أيضاً في الختام، كما نرى في «أحلام فترة النقاهة» الذي نُشر سنة 2005 قبيل رحيله. وقد أحصيتُ في كتاب الأحلام هذا وحده (ناهيك عن القسم الثاني منه الذي نُشر لاحقاً بعنوان «الأحلام الأخيرة» في 2015 بعد أن اكتشفت أسرته المزيد من نصوص الأحلام) - أحصيت 16 نصاً من مجموع 239. سأقتصر هنا على ثلاثة منها مع محاولة لتفسيرها.

ها هو نص الحلم رقم 18: «تمَّ مجلسنا على الجانبين في القارب البخاري. بدا كل واحد وحده لا علاقة له بالآخرين. وجاء الملَّاح ودار الموتور. الملَّاح فتاة جميلة ارتعش لمرآها قلبي. أطلَّت من النافذة وأنا واقف تحت الشجرة، وكان الوقت بين الصبا ومطلع الشباب. وركَّزتُ عينَي في رأسها النبيل وهي تمرق بنا في النهر. وتتناغم خفقات قلبي مع دفقات النسيم. وفكَّرتُ أن أسير إليها لأرى كيف يكون استقبالها لي. لكني وجدت نفسي في شارعٍ شعبي لعله الغورية، وهو مكتظٌّ بالخلق في مولد الحسين، ولمحتها تشق طريقها بصعوبة عند أحد المنعطفات، فصممت على اللحاق بها. وحيَّا فريق من المنشدين الحسين الشهيد. وسرعان ما رجعتُ إلى مجلسي في القارب، وكان قد توغَّل في النهر شوطاً طويلاً. ونظرت إلى مكان القيادة فرأيتُ ملَّاحاً عجوزاً متجهِّم الوجه، ونظرتُ حولي لأسأل عن الجميلة الغائبة، ولكني لم أرَ إلا مقاعد خالية».

يستدعي هذا الحلم فتاة العباسية. تلك الفتاة التي كانت تطل من النافذة حيناً بينما يتأملها الفتى محفوظ المشدوه بجمالها من الطريق، أو التي تمر في عربة تجرها الخيل فيراها في نافذتها. أظن الرحلة في القارب هنا هي رحلة الحياة وكون الفتاة هي الملّاح في تلك الرحلة إشارة إلى كونها كانت منارة هادية للكاتب في حياته الإبداعية. تَحوُّل المشهد من القارب البخاري إلى شارع مكتظ، ليس مما يُستغرب في الأحلام لكن الفتاة تبقى مبتغاه. يقتفي أثرها حتى تختفي منه في الزحام، كما اختفت فتاة العباسية من حياته في صدر شبابه. كما أن الإشارة لمولد الحسين والمنشدين الذين يتغنون بمأساته وشهادته لعلها لا تخلو من إلماع إلى «استشهاد» الراوي في هذا الحب العصيّ. وعلى عادة الأحلام في تنقل مسارح الأحداث يعود المشهد من حي الحسين إلى القارب. وأظنه هذه المرة هو قارب الموت الذي يحمل الموتى إلى العالم السفلي كما في الأساطير القديمة. فالمقاعد التي كانت مشغولة في البداية صارت كلها خالية إلا من الراوي الذي يبدو أن دوره قد حان. كما أن الملاح لم يعد الفتاة الفاتنة وإنما عجوز متجهم الوجه يُذكّر بـ«شارون» ملّاح الأساطير الإغريقية الذي كان ينقل أرواح الموتى في قاربه إلى مملكة «هاديز» رب العالم السفلي. انقضت رحلة الحياة إذن، وها هو الراوي يشق طريقه إلى عالم الأموات حاملاً معه شوقه الدائم إلى الفتاة الجميلة التي لم تكن له في أي وقت من الأوقات، ولا حتى في الأحلام.

ننتقل الآن إلى الحلم رقم 83: «رأيت الكارِتَّة مقبلة حاملة فاتنة درب قرمز، ويجرها جواد مجنَّح. اتخذت مجلسي فيما وراءها، وفرَد الجواد جناحَيه فبدأت ترتفع حتى علونا الأسطح والمآذن، وفي ثوانٍ وصلنا قمة الهرم الأكبر، وأخذنا في عبوره على ارتفاع ذراع، فجازفتُ وقفزتُ إلى قمته وعيناي لا تتحوَّلان عن الفاتنة وهي تعلو وتصعد، والليل يهبط والظلام يسود، حتى استقرَّت كوكباً مضيئاً».

هذا النص الغنائي الرهيف هو نموذج آخر للحنين لفاتنة الصبي المراهق محفوظ. فتاة العباسية التي كان يلمحها أحيانا تمرّ في «كارتّة» تجرها الخيل فلم تفارق خياله الغض مدى العمر. في هذا الحلم ينقلها محفوظ من العباسية حيث عرفها بعد أن انتقلت أسرته إلى العباسية في سن الثانية عشرة - ينقلها إلى درب قرمز في الجمالية حيث وُلد وعاش صباه الأول. وهي نقلة بارعة لا يقدر عليها سوى الأحلام، وكأنه يعود بها إلى السنوات الاثنتي عشرة من حياته التي خلت منها لكي تضفي عليها الشرعية وتضمها إلى بقية عمره التي قضاها في التعبُّد إليها. في هذا «الحلم» ينضم لها في عربتها، وهو ما لم يتسنَّ له في «العِلْم». كما أن حصان العربة في الواقع يترقَّى إلى جواد مجنَّح في الحلم، ولا غرابة في ذلك فالجميلة كانت دائماً مثالاً شاهقاً بعيد المنال بالنسبة له. وحتى في الحلم تبقى كذلك، فهي وإن سمحتْ له بالركوب معها، فإنه يكون «وراءها» وليس إلى جانبها. وحتى في الحلم هو يدرك تماماً أنه غير مؤهل للمضي معها في رحلتها، ولذلك يتحين الفرصة قافزاً من العربة إلى قمة الهرم الأكبر قبل أن تواصل العربة شق طريقها إلى مَراقٍ ليس هو أهلاً لها. حتى في الحلم تحتل فتاة العباسية مكانها نجماً مضيئاً بين النجوم ويبقى هو على الأرض يتطلع إليها في السماء. تماماً كما بقي يفعل طوال حياته.

نختم بالحلم رقم 84: «رأيتني في شارع الحب كما اعتدت أن أسميه في الشباب الأول. ورأيتني أهيم بين القصور والحدائق وعبير الزهور، ولكن أين قصر معبودتي؟ لم يبقَ منه أثر، وحل محله جامع جليل الأبعاد، رائع المعمار، ذو مئذنة هي غاية الطول والرشاقة. ودُهشت، وبينما أنا غارق في دهشتي انطلق الأذان داعياً إلى صلاة المغرب، دون تردُّد دخلت الجامع، وصلَّيت مع المصلِّين، ولمَّا ختمت الصلاة تباطأت كأنما لا أرغب في مغادرة المكان؛ لذلك كنت آخر الراحلين إلى الباب، وهناك اكتشفت أن حذائي قد فُقد، وأن علي أن أجد لنفسي مخرجاً».

هذا الحلم وثيق الصلة بسابقه رقم 83. المعبودة هنا هي المعبودة هناك. إلا أنه هنا يخلط بين واقع حياته الأولى وبين تجليات المعبودة في إنتاجه الأدبي. فالمعبودة الواقعية كانت عابرة في «كارتّة» أما المعبودة المطوَّرة فنياً فهي عايدة شداد، معبودة كمال عبد الجواد في «قصر الشوق»، والتي كانت من عائلة أرستقراطية من ساكني القصور. نعرف غرام محفوظ بتحولات الزمن، ومن هنا تحول القصر إلى جامع في الحلم. ولنلاحظ أن القصر لا يتحول إلى أي جامع، بل هو جامع من طبقة القصور، فهو «جليل الأبعاد»، «رائع المعمار» وله «مئذنة شاهقة». فهو مكان عبادة يليق بالمعبودة في تحوله الجديد كما في سابق عهده. وإسراع الراوي إلى دخول الجامع لدى سماعه الأذان هو فعل عبادة نحو المعبود القديم ساكن القصر بمقدار ما قد يكون فعل عبادة لرب الجامع. وإطالة المكث في الجامع حتى أن الراوي كان آخر المغادرين هو من رغبة التمسح بالموضع الذي كان سابقاً مقام المعبودة. إلا أنَّ الحلم ينتهي بمفاجأة هزلية حين يجد الراوي أن حذاءه قد سُرق عندما يقرر مغادرة الجامع. هذه نهاية واقعية عابثة لحلم مُغرِق في الرومانسية. ولعلها سخرية محفوظية ذاتية. فكما أن فتاة العباسية التي طاردت صورتها خياله طوال حياته كانت أشبه بالوهم، وكما أن كمال لم يعنِ يوماً شيئاً لمعبودته عايدة شداد، بل كان موضع سخريتها ووسيلة امتطتها لإثارة مشاعر الغيرة في مَن كانت تريده حقاً، كذلك قصر المعبودة وجامعها الشاهق وتعبُّده القديم المجدد عبر القصور والمساجد لا يتمخض إلا عن حذاء مسروق وعابد عاري القدمين لا يعرف كيف يدبر رحلة العودة من المحراب.