فريد رمضان... موهبة «أنسنة المرض»

«الكتابة العلاجية» في تجربة كاتب بحريني

فريد رمضان
فريد رمضان
TT

فريد رمضان... موهبة «أنسنة المرض»

فريد رمضان
فريد رمضان

علاقة السرد بالطب قديمة قِدم الحضارة الإنسانية، ذلك أن أسلافنا اكتشفوا أن للسرد القصصي (الشفاهي منه والمكتوب) قدرة عجيبة تشعرنا أننا في حال أفضل وتعزز عملية الاستشفاء. وهو ما رسخ السرد بوصفه حاجة إنسانية قبل كل شيء، لا مجرد نشاط فكري يُعنى بالإمتاع والترويح.
لعل من أقدم ما ذكر عن العلاج بالكتب في التاريخ المُدوَّن هو ما كُتب على باب أقدم مكتبة عرفها التاريخ؛ هنا بيتُ علاج الروح. ومنذ ذلك الحين والبشرية تجد في القراءة فسحة لعلاج النفس والجسد. ثالوث السرد والمرض و«البيبليوثيرابي» هو ما سنحاول مقاربته واستعراض نماذج من روايات وأعمال الكاتب والسيناريست البحريني فريد رمضان، الذي رحل قبل أشهر قليلة، وهو كاتب يمتلك وهجاً مميزاً في السرد ولغة قصصية لا تقل إدهاشا عن عوالمه المسكونة بالهويَّات... الهوياتُ التي أدخلنا فريد إلى عالمها عنوة لنتحسس ما يقال وما لا يقال متجاوزاً تابوهات كثيرة، ليس أقلها إشكالية «الأنا» و«الآخر».
ولا يخفى على كل من يقرأ لفريد رمضان معالم مشروعه السردي الذي يحتفي بالفسيفساء البشرية في مجتمع متعدد المشارب والأعراف كالمجتمع الخليجي عموماً، والبحريني خصوصاً.

المصطلح والمراحل
يُعرَّف «البيبليوثيرابي» على أنه أسلوب علاج إبداعي فني يتم فيه استخدام مواد قرائية مُختارة بعناية بهدف المساعدة على الاستشفاء النفسي أو البدني أو العاطفي، عن طريق شتى أنواع الكتابات، سواء كانت نثرية أو شعرية أو علمية.
وبالرجوع إلى مجمل أعمال الراحل فريد رمضان السردية، فإني أعتقد بوجود رابط وثيق يظل راسخاً بغض النظر عن تنوع الأعمال السردية في مواضيعها وحبكتها القصصية وتواريخ كتابتها. والمتلقي المتمعن في أعمال الراحل يجد أن لديه علاقة خاصة بسرد الأمراض الجسدية والنفسية للشخوص.
ومعرفته التفصيلية بدقائق كل مرض أو اضطراب يعاني منه أبطال سردياته تظهر جلياً في تركيزه على المعاناة الإنسانية مع المرض. فنجده يصف الحالة المرضية بدقة أشبه بالبحث الأكاديمي، ولكن في قالب درامي ويحبكها ببراعة ضمن النسيج القصصي بحيث يستطيع القارئ أن يتعاطف مع الشخصية، وأن يحس بخلجات المريض الجسدية والنفسية والسلوكية، حتى يُخيل إليه أنه يعيش نفس التجربة. هذه المقدرة الفائقة على الإيهام وتقمُّص مختلف الحالات المرضية هو برأيي ما يميز أعمال فريد الذي يُشعرك بأنك لست أمام مجرد مرض في كتاب علمي، بل أمام فنان يجتهد في البحث طبياً ونفسياً واجتماعياً ليتمكن من خلق ما أسميه «شخوصاً متعددة الأبعاد» قادرة على «أنسنة المرض» وجعله بؤرة تعاطف لا يلبث فريد أن «يحبكها» سردياً ضمن فسيفساء السرد.
وأنا هنا لست بمعرض التفكيك النقدي، بل في سياق البحث عن أنساق سردية يمكن أن ترسم ملامح تجربة جديرة بالدراسة والاهتمام من الناحية البيبليوثرابية. وأزعم أن هذا الانحياز للإنسان قبالة المرض هو نسق واضح في تجربة فريد في المجمل.
فمثلاً حينما يصف فريد رمضان معاناة «حسين» مع فقر الدم المنجلي، أو ما يعرف محلياً بالسكلر، في رواية «السوافح ماء النعيم»، أجدني لا شعورياً أحس بأوجاعه مع مرض غادر يتربص بفتى يافع لا يعرف من أين حلت عليه هذه الأوجاع التي تحيل حياته إلى سلسلة لا نهائية من العذابات والضعف والخوف من المجهول. ومع ذلك يتشبث حسين بالأمل ومحبة الحياة رغم كل التحديات
إن كل مقاربة سردية لمرض أو اختلال في الصحة هي خطوة كبيرة في المعركة مع المرض بدءاً من الاعتراف به وتفهم تفاصيله علمياً ونفسياً وانتهاءً باستعادة التوازن الجسدي والنفسي والاستشفاء.
إنني طبيباً كنت أظن كبقية زملائي أن لديّ خبرات طبية وإنسانية واسعة لا بأس بها عن مرض السكلر بحكم دراستي للمرض أكاديمياً ومعاينتي اللصيقة للمرضى وعلاجي لمئات من ضحايا هذا المرض على مدى أكثر من 25 عاماً بدءاً من كلية الطب ثم التخصص في قسم الباطنية في البحرين وبعدها التخصص والزمالة والعمل في الولايات المتحدة الأميركية، إلا أنني وجدت نفسي أستكشف تفاصيل إنسانية دقيقة لهذا المرض لم أكن لأجدها في المراجع الطبية أو الممارسة الإكلينيكية. وهذه المعرفة الحميمية بالسكلر ستظل تفتح أبواباً للأمل وتقدم الدعم النفسي والمعرفي للمرضى والطاقم الطبي على حد سواء...
ومن يعرف فريد رمضان شخصياً عن قرب، سيكتشف أن هذه الموهبة الاستثنائية في وصف مرض السكلر دفع ثمنها فريد غالياً. إذ إنه حين يكتب عن مرض كهذا فهو يستدعي تفاصيل المعاناة من واقع تجربته الشخصية مريضاً بالسكلر عانى منه طوال حياته واكتوى جسده بوهج الآلام المبرحة والتيه في التشخيص والعلاج، التي أخذت حيزاً كبيراً من وقت الراحل ووجدانه، وساهمت في تغيرات جذرية في حياته وقناعاته وانحيازاته والمعرفة الواعية وانعكاسات اللاوعي. كل ذلك استثمره فريد سردياً ببراعة للتخفيف عن ضحايا السكلر وعوائلهم.

دور مزدوج
كان فريد رمضان يمارس دوراً مزدوجاً؛ دور المريض الذي يكتب لقراء تتحول القراءة عندهم لأداة استشفاء، والدور الآخر هو دور تطبيب الذات Self - Healing حيث تكون الكتابة عن مرض السكلر الذي يعاني منه بحد ذاتها علاجاً، وهو ما يعرف طبياً بالكتابة العلاجية. ومن هنا، فإن الكتابة عن المعاناة الشخصية هي في جوهرها «فعل» «Action» بيبليوثيرابي موجه ضد المرض وليس مجرد «ردة فعل - Reaction» له. والكتابة عن المرض هي الخروج عن سيطرته والتحرر من ربقته والتسامي فوق الألم وصرخة احتجاج قبالة الصمت والقنوط والاستسلام للمرض.
في دراسة نشرت عام 2008 قام الباحثون بدراسة تأثير الكتابة العلاجية على مرض اضطراب ما بعد الصدمة PTSD واضطراب الإجهاد الحاد Acute stress Disorder وتم مقارنة مفعول الكتابة العلاجية المنظمة مع العلاج السلوكي المعرفي (cognitive behavioral therapy). وخلصت الدراسة إلى أن فعالية الكتابة العلاجية المنظمة توازي العلاج المعرفي السلوكي في تحسين أعراض القلق والاكتئاب وسلوكيات التجن.
أما عما إذا كان للبيبلوثيرابي مفعول طويل الأمد، فإن دراسة محكمة من فئة Systemic Review والتي راجعت 8 بحوث إكلينيكية أجريت على 1347 مريضاً، وجدت أن للبيبلوثرابي مفعولاً إيجابياً طويل الأمد في تحسين أعراض الاكتئاب، وهو ما يعزز من احتمالية تقليل العلاج الدوائي بمضادات الاكتئاب.
وفي ضوء ما سبق، يمكننا استنتاج أن تجربة الراحل فريد رمضان تعد من أغنى التجارب العربية من حيث تقديم أنساق سردية يمكن استثمارها علاجياً كنوع من البيليوثرابي.

- كاتب وطبيب بحريني



الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة
TT

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

يُولي الكاتب والروائي الكويتي عبد الوهاب الحمادي التاريخ اهتماماً كبيراً فيُعيد تشكيل أسئلته وغرائبه في عالمه الأدبي، منقباً داخله عن الحكايات الناقصة وأصوات الهامش الغائبة، وهو ما يمكن استجلاؤه بوضوح في روايته الأحدث «سنة القطط السمان»، الصادرة أخيراً عن دار «الشروق» بالقاهرة. وكان قد صدر له من قبل عدد من الأعمال منها «دروب أندلسية»، و«الطير الأبابيل»، ورواية «لا تقصص رؤياك»، التي وصلت للقائمة الطويلة لجائزة «البوكر» العربية عام 2015.

هنا حوار معه حول روايته الجديدة واهتمامه بالتاريخ وأدب الرحلة:

> تُلازم بطل «سنة القطط السمان» نبرة تأنيب ومراجعة ذاتية مُتصلة، هل وجدت أن استخدام ضمير المخاطب يُعزز تلك النبرة النقدية في صوت البطل؟

- اعتماد الراوي المخاطب للتعبير عن البطل، كان خياراً صعباً، ترددت كثيراً قبل اعتماده لمعرفتي أن القارئ قد لا يستسيغه، لكن بعد أن جرى نهر الكتابة وتشكلت الشخصيات والمواقف وتعقّدت الحبكة، وجدت أن ضمير المخاطب استطاع تكوين شخصية خاصة بالبطل، وأكسبه حضوراً خاصاً، ذلك، بالإضافة إلى الراوي العليم وكل الأدوات السردية التي استخدمتها محاولاً إيصال ما أريده. ثم عاد الخوف من انطباعات القراء بعد صدور الرواية، وسرعان ما تبدد الخوف بعد ظهور المقالات المتعددة من القراء والنقاد التي أكرموني بها.

> بطل الرواية (مساعد) دائماً ما يصطحب معه «القاموس»... تبدو علاقته باللغة مهجوسة بالمراجعة بالتصويب فهو «يصحح كلمات أصحابه»، فلا تبدو اللغة مجرد أداة عمله مترجماً، ولكنها أوسع من هذا. حدثنا عن تلك الآصرة اللغوية.

- اللغة بطبيعتها انتماء وهُوية وانسجام مع محيط واسع، هل كان البطل يبحث عن انتماء عبر تصحيح كلمات أصحابه؟ أو إرجاعه كلمات إلى أصولها؟ ربما والإجابة الأكيدة عند القارئ لا شك. لكنها التقاطة جميلة منكِ، ومُعبرة، عن مساعد، بطل العمل الذي صرّح في أحد الفصول بأن الزمان لو كان هانئاً لألَّف قاموساً يتتبع فيه أصول الكلمات. القاموس قصة غرام بين الشخصية الرئيسة والكلمات ويحمله أغلب الرواية، قاموس يتوسّط لغتين، العربية والإنجليزية، كأنما هو نقطة تلاقي الشرق بالغرب.

> أود الاقتراب من تشريح العمل لخريطة المجتمع الكويتي والمعتمد البريطاني والوافدين، ما بين مسرح «سوق الخبازين» وساحة المسجد ومكتب المعتمد البريطاني. حدثنا عن عنايتك بالترسيم المكاني في الرواية لرصد الحالة الكويتية في ثلاثينات القرن الماضي.

- لن أقول جديداً إن قلت إن صورة الخليج في الذهنية العربية أقرب لصورة نمطية، قد تتفوق في أحيان كثيرة على الصورة النمطية الغربية تجاه العرب. وأسباب هذه النظرة طويلة ومتجذرة ولن أخوض فيها حفاظاً على الوقت والمساحة، لكن أجدني دونما وعي أصف ما كان آنذاك من مكان وأناس وأحداث، لتثبيت صورة مُغايرة عمّا يرد لأذهان من عنيت في أوّل الإجابة... هل أكتبها لهم ولهذا الغرض؟ بالطبع لا، ففي المقام الأول وصف المكان أداة من أدوات الكتابة تُغني العمل عبر التفاعلات مع شخصياته، ولولا خصوصية المكان لن تكون الشخصيات نفسها والعكس قد يكون صحيحاً، إذ كما أسلفت العلاقة تبادلية، وهو ما يصنع خصوصية مكان ما وخصوصية شخصياته، ومما ساعدني في ذلك، انغماسي في قراءة كتب تاريخ المنطقة بشكل عام والكويت بشكل خاص، وأفادتني كتب مثل: «معالم مدينة الكويت القديمة» الذي صدر حديثاً عن مركز البحوث والدراسات، وإصدار آخر هو «الأسواق القديمة في الكويت»، بالإضافة إلى مراسلات المعتمد البريطاني آنذاك. وفي النهاية مشاورة الأصدقاء الضليعين في تاريخ المنطقة وتفاصيله.

> تتكشف ملامح شخصيات الرواية وأصواتها من المسافة التي تفصلهم من «الهندستاني»، ورغم أن الحدث المركزي في الرواية كان دائراً حول اللغط بشأن مطعمه، فإن حضوره ظلّ على مسافة، لماذا لم تمنحه صوتاً في الرواية؟

- في بداية كتابتي للرواية كان صوت الهندستاني حاضراً في الذهن والكتابة، ثم تقلّص ليكون مبثوثاً بصوته بين الفصول يتحدّث إلى (مساعد)، إلى أن اتخذت قراراً بحجبه كشخصية إلا على لسان الجميع، هل كنت أريده أن يكون أرضية للقصة تحرك الشخصيات والأحداث وفقاً لتفاعلاتها؟ ربما، لكنني فعلت ما أحسست أنه سيفيد الرواية ويجعل الحدث مركّزاً والأفكار متضافرة.

> استخدمت التقويم الزمني المحلي الكويتي «سنة الطفحة»، «سنة الهدامة»... كيف شكّلت تلك السنوات المتراوحة بين القحط والثروة لديك محطات تحريك لأحداث الرواية؟

- من المعروف أن العرب مثل كثير من الأمم تحفظ تاريخها بتسمية الأيام والأعوام، وأشهرها عام الفيل في التاريخ الإسلامي، الذي سبق زمن البعثة النبوية بقليل. واستطاع ذلك النهج عند المؤرخين والعامة أن يستمر وصولاً للعصر الحالي، عندما نقول عام أو سنة الاحتلال العراقي أو الغزو، سنة النكبة، سنة النكسة، سنة الكورونا إلى آخره. لذلك كنت محظوظاً عندما كانت لحظة الحدث الأساس في الرواية، حادثة المطعم، سنة مفصلية في تاريخ الكويت الحديث، لحظة بين بوار تجارة اللؤلؤ وإرهاصة اكتشاف النفط، وما لحقه من تبدّل نمط التجارة الكويتية تبدّلاً جذرياً، مما انعكس على طموحات الشباب المتعلم آنذاك، وما صاحبه من ثورة في وسائل المواصلات كالسيارة والطائرة والسفن الحديثة وهبوب رياح انتشار الطباعة في المنطقة، وبالتالي توفّر المجلات والكتب وارتفاع سقف الطموحات مما يجر الطموح والرغبة في التوسع، وبالتالي قد يجر الطمع. وهذا هو سياق فهم «مساعد» خلال أحداث الرواية، وربما ينطبق ذلك على أغلب الشخصيات التي وصفتها إحدى المقالات بمصطلح «الداروينية الاجتماعية».

> في «لا تقصص رؤياك» رسمت ملامح عنصرية داخل المجتمع الكويتي، ولكنها كانت تدور في زمن أحدث من «سنة القطط السمان». هل برأيك يظل الكاتب مسكوناً بأسئلة دائماً يبحث عنها عبر مشروعه حتى لو تنقّل بين الأزمنة الروائية؟

- سؤال رائع، بالفعل، يظل الكاتب في ظني مسكوناً بهواجس لا تُخرسها الكتابة، قد تخفف منها قليلاً، لكنها ما تلبث أن تتوهّج وتندلع في حريق وتبدأ كتابة جديدة. الأزمنة والأمكنة والشخصيات مجرد أعذار لكتابة الأسئلة المؤرقة والهموم الشخصية والعامة وأنصاف الإجابات على هيئة رواية.

> في روايتِك «ولا غالِب» تعرضت لحدث احتلال العراق للكويت عبر مدّ خيوط سردية مُتخيّلة تتواشج مع زمن سقوط الأندلس، هل كنت تبحث في عمق تلك الهزيمة التاريخية عن مرتكز لفهم فجيعة احتلال بلادك التي شهدتها في سنواتك المبكرة؟

- صحيح، كنت أفعل ما يمكّنني من فهم فجيعة هي الأقوى ليست في حياتي أو في تاريخ بلدي، بل هي الأكبر - برأيي - في المنطقة العربية، وتفوق برأيي النكسة، إذ إن حرب الأيام الستة كما تسمى في الغرب، كانت بين عدو واضح المعالم، ونظام عربي واضح، ولم تكن حرباً عربية - عربية، بل لا أجازف كثيراً إن سميتها: الحرب الأهلية العربية، حرب تبارت فيها الأنظمة والشعوب في الاستقطاب (مع أو ضد) والتعبير عن كل مخزونات المشاعر المتراكمة تجاه الآخر. في «ولا غالب» حاولت عبر الشخصيات الكويتية والمرشد الفلسطيني، واستغلال الحشد الأميركي لغزو العراق في عام القصة أواخر 2002. واختيار غرناطة الأندلس لتكون مكان الحدث، غرناطة الحاضر والماضي عبر التاريخ البديل، أن تشتعل المقارنة الفكرية بين القناعات، وجعل القارئ يناظرها عبر مفاهيمه ويجادل أفكاره كما فعلت أنا قبله أثناء الكتابة.

> تحتفظ كتب عبد الله عنان وشكيب أرسلان بمكانة خاصة لديك، حتى أنك أشرت لهما في مقدمة كتابك «دروب أندلسية». ما ملامح هذا «الهوى» الخاص الذي تتنسمه في تلك الكتابة المتراوحة بين الرحلة والتاريخ؟

- عندي هوى وهوس بالتاريخ القديم والحديث، وشغفت بالكتب التاريخية وأدين لها بالكثير، إذ لا يجاري مكانتها في نفسي شيء، وبالتالي إن جئنا للتاريخ الأندلسي سيكون لعنان تحديداً عامل فكري كبير مؤثر في نفسي، إذ، كيف استطاع ذلك المحامي غير المتخصص في التاريخ أن يراكم مجلدات تلك الموسوعة التي لم يجاوزها أحد منذ سبعين عاماً؟ كيف ترجم ونقل وقارن وحلل بذكاء نادر؟ وذلك انعكس في ذائقتي على صعيد الرواية قراءة وكتابة، ولا أخفي بالطبع تأثري بمسار وكتابات أمين معلوف بالدرجة الأولى ومن ثم غازي القصيبي، والطيب صالح، وفواز حداد، وبالطبع التجلي الروائي الأكبر عربياً وحتى عالمياً وهو نجيب محفوظ، صاحب الأثر الأهم في قناعاتي تجاه الحياة والكتابة.

> أنت مُحِب للسفر، هل ترافقك بين مشاهد المدن ومرافئها قصيدة «المدينة» لكفافيس، التي صدّرت بها روايتك الأخيرة، وما تعريفك الخاص لـ«المدينة التي تُلاحقك» بتعبير الشاعر اليوناني الراحل؟

- تطور السفر بالنسبة لي من خلال القراءة والكتابة، وتبعها تحويل كتابي الأول «دروب أندلسية» إلى رحلة تطوف إسبانيا، كان انبثاق تدشين مرحلة الرحلات الجماعية المهتمة باكتشاف العالم، عبر التعرف على تاريخه ومجتمعاته وحضاراته، وكنت محظوظاً مرّة أخرى لأن هذه الرحلات زادت معرفتي بالناس في البلدان المختلفة، بالإضافة لخبرات التعامل مع المشتركين المتحدرين من بلدان عدّة، كل ذلك منحني معرفة لا تشترى بمال ولا تعلّم في المدارس. وعندما واجهت قصيدة كفافيس وعدت إليها، وجدت أنها معبرة عن بطل رواية «سنة القطط السمان»، لكنها، ولأعترف، معبّرة عني في أحد معانيها، كما هي الحال في قصيدة محمود درويش «لا شيء يعجبني»، التي كانت تنافس كفافيس في تصدير الرواية حتى تفوقت قصيدة شاعر الإسكندرية وتصدّرت أولى عتبات النص الروائي. وسؤالي لكِ وللقراء: ألسنا كلنا ذلك الموجوع بمدينته؟ عندما وصفنا كفافيس: وما دمت قد خربت حياتك هنا، في هذا الركن الصغير، فهي خراب أينما كنت في الوجود!