الشارع الإسباني ينتظر ضبط الاشتراكيين للمعادلة الانفصالية في كاتالونيا

انتخابات الإقليم أرسلت رسائل متعددة لليمين واليسار

الشارع الإسباني ينتظر ضبط الاشتراكيين للمعادلة الانفصالية في كاتالونيا
TT

الشارع الإسباني ينتظر ضبط الاشتراكيين للمعادلة الانفصالية في كاتالونيا

الشارع الإسباني ينتظر ضبط الاشتراكيين للمعادلة الانفصالية في كاتالونيا

الانتخابات الإقليمية التي أجريت يوم الأحد الفائت في إقليم كاتالونيا، الذي تضبط تطورات حركته الانفصالية إيقاع المشهد السياسي الإسباني منذ خريف عام 2017، كانت أحدث الأدلّة على التحوّل السلبي الذي تغرق فيه إسبانيا اليوم.
إسبانيا التي كانت محطّ إعجاب لنهضتها الاقتصادية السريعة وقدوة في تجربتها الفريدة بالانتقال السلمي من الديكتاتورية إلى الديمقراطية والاستقرار السياسي الذي نعمت به خلال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن الماضي.
من ناحية ثانية، كانت كاتالونيا (بشمال شرقي البلاد) قد انتظرت حتى اللحظات الأخيرة من عملية فرز الأصوات، ليلة الأحد الماضي، لتعرف هوية الفائز في الانتخابات الإقليمية التي حلّ فيها الحزب الاشتراكي في المرتبة الأولى، وبذا تعادل مع حزب اليسار الجمهوري بعدد المقاعد في البرلمان (33 لكل منهما) لكن متقدّماً عليه بعدد الأصوات. وحلّ في المرتبة الثالثة، بفارق مقعد واحد عنهما، حزب «معاً لأجل كاتالونيا» الذي يتزّعمه الرئيس الأسبق للحكومة الإقليمية كارلي بوتشيمون، الفار من العدالة الإسبانية، بعد إدانته بالتمرّد في أعقاب المحاولة الانفصالية التي كانت بداية فصل جديد من الاضطرابات السياسية والاجتماعية، ما زالت إسبانيا تتخبّط فيه إلى اليوم، وتعيش على وقع تطوراته.
ولكن رغم فوز الاشتراكيين، الذين ضاعفوا عدد المقاعد التي حصلوا عليها في الانتخابات الأخيرة منذ ثلاث سنوات، فإنه من المستبعد جداً أن يتمكّنوا من تشكيل الحكومة الإقليمية الجديدة، والسبب أن القوى الانفصالية - اليسارية منها واليمينية - عزّزت الغالبية المطلقة التي كانت تملكها مجتمعة في البرلمان. وكانت هذه القوى قد تعاهدت في اتفاق خطي قبل الانتخابات على رفض التحالف مع الحزب الاشتراكي لتشكيل الحكومة الجديدة. ومن ثم، فور صدور النتائج النهائية للانتخابات، وتأكد حصول الأحزاب والقوى المطالبة بالاستقلال على أصوات أكثر من نصف الناخبين - وذلك للمرة الأولى منذ ظهور الحركة الانفصالية - توجّه رئيس الحكومة الإقليمية ومرشّح اليسار الجمهوري بيبي آراغونيس إلى رئيس الحكومة المركزية بيدرو سانتشيز قائلاً: «أزفت ساعة الحوار للاتفاق على صيغة استفتاء حول تقرير المصير وإيجاد حل للأزمة».

صعود «فوكس» المتطرف يقلق اليمين المحافظ
إلى جانب الصعود القوي للاشتراكيين، الذين استعادوا موقع الصدارة في المشهد السياسي الكاتالوني، وتجاوز الانفصاليين عتبة الخمسين في المائة من الأصوات، أفرزت هذه الانتخابات مفاجآت أخرى أعمق تأثيراً في الوضع السياسي العام ويتوقع ألا يتأخر ظهور نتائجها. إذ تمكّن حزب «فوكس» اليميني المتطرف، الذي دخل بقوة إلى البرلمان الوطني للمرة الأولى في الانتخابات العامة الأخيرة، من الحصول على 11 مقعداً في البرلمان الكاتالوني ليحلّ في المرتبة الرابعة. في المقابل، أصيب حزب «مواطنون» الوسطي بهزيمة كبيرة؛ إذ خسر أكثر من نصف المقاعد التي حصل عليها في الانتخابات الأخيرة، وانهار الحزب الشعبي المحافظ الذي يقود المعارضة في البرلمان المركزي الإسباني في العاصمة مدريد... فلم يحصل سوى على ثلاثة مقاعد.
الآن، يخشى الحزب الشعبي، الذي يتناوب مع الحزب الاشتراكي على الحكم في إسبانيا منذ عودة الديمقراطية بعد وفاة الجنرال فرانشيسكو فرنكو، أن يكون الدخول القوي لمنافسه الرئيسي «فوكس» إلى البرلمان الكاتالوني بداية لصعوده النهائي إلى موقع الحزب اليميني الأول وتزعم المعارضة في البرلمان المركزي.
وحقاً، يدرك الجميع أن حضور «فوكس» بقوة في البرلمان الإقليمي من شأنه تأجيج المشاعر الإقليمية التي كانت تنمو إبان سنوات حكم اليمين المحافظ في مدريد، وتتغذّى من سياسة الرفض القاطع لفتح قنوات الحوار معها. وتجدر الإشارة أن التأييد الذي كانت تحظى به القوى الانفصالية منذ عشر سنوات ما كان يتجاوز الـ20 في المائة، وفق أفضل التقديرات.
على الضفة المقابلة، قطف رئيس الحكومة المركزية والزعيم الاشتراكي بيدرو سانتشيز قطف فوزاً شخصياً ثميناً كان بأمسّ الحاجة إليه داخل حزبه. ذلك أن بعض القياديين الاشتراكيين المنافسين له كانوا يعارضون رهانه على اختيار وزير الصحة السابق سالفادور إيليا لرئاسة اللائحة الاشتراكية، الذي أصرّ هو على أن يكون مرشّح الحزب وليس أمينه العام في كاتالونيا. ويرى المحللون أن النتائج التي جاءت أفضل بكثير حتى مما كان يتوقعه سانتشيز نفسه. وهي بالتالي، ستعزز موقعه في المفاوضات المقبلة مع حزب اليسار الجمهوري الكاتالوني الذي يوفّر لحكومته دعامة أساسية في البرلمان الوطني، الذي من المرجّح أن يتولّى رئاسة الحكومة الإقليمية الجديدة.
وكان الزعيم التاريخي لحزب اليسار الجمهوري أوريول جونكيراس، الذي يقضي عقوبة في السجن لمشاركته في قيادة الحركة الانفصالية، قد صرّح بعد صدور النتائج النهائية قائلاً: «نريد التحالف مع الذين يؤيدون الحكم الذاتي والعفو، ولا مجال للتحالف مع الحزب الاشتراكي الذي هو نقيضنا».

رهان على صفقة يسارية
ولكن رغم حرص زعيم اليسار الجمهوري على قطع الطريق بسرعة أمام احتمال قيام تحالف بين القوى اليسارية لتشكيل الحكومة الإقليمية المقبلة، تشعر أوساط الحزب الاشتراكي بالارتياح لتقدم اليسار الانفصالي، ولو بمقعد واحد، على الحزب الذي يتزعمه بوتشيمون، إذ إن هذا الواقع كافٍ لإقصاء هذا الأخير عن رئاسة الحكومة الإقليمية التي أطلقت شرارة الحركة الانفصالية عندما كان يتولاها. ويعود هذا الارتياح الاشتراكي إلى أن الحزب الذي يتزعمه بوتشيمون - الذي رأس الحكومات الإقليمية السابقة - يدعو إلى إعلان الاستقلال من طرف واحد ضد إرادة الأحزاب المركزية ومن دون التوافق معها، في حين يميل اليسار الجمهوري، الذي هو خصم عقائدي لبوتشيمون، إلى مخرج تفاوضي للأزمة عن طريق استفتاء يتمّ الاتفاق على صيغته وشروطه مع القوى والأحزاب الوطنية... أو في الأقل مع الحكومة المركزية. ويضاف إلى ما سبق أن كثيرين يعتبرون التصعيد الانفصالي الذي يقوده حزب بوتشيمون، بلا ضوابط، مجرّد هروب إلى الأمام، وستاراً من الدخان لتغطية فضائح الفساد التي راكمها هذه الحزب في السنوات الأخيرة، ودفعته إلى تغيير اسمه أكثر من مرة.
الجدير بالذكر، أن نسبة المشاركة في الانتخابات الإقليمية الكاتالونية لم تتجاوز 54 في المائة بحيث إن القوى الانفصالية التي حصلت على أكثر من نصف الأصوات خسرت 630 ألف صوت بالمقارنة مع نتائجها في الانتخابات الأخيرة. وتبيّن القراءة المتأنية لنتائج هذه الانتخابات أن عدد الذين صوّتوا بلغ 2.7 مليون مقابل 4.3 مليون في انتخابات العام 2017، أي بفارق أكثر من مليون ونصف المليون ناخب. وبناءً عليه، يستبعد الخبراء أن يكون هذا الفارق ناجماً عن تأثيرات جائحة «كوفيد - 19» فحسب، بل يرجّحون أن عدداً متزايداً من مؤيدي الحركة الانفصالية أو المتعاطفين معها يعتبر أن نسبة 50 في المائة من أصوات الناخبين ليست كافية لإعلان الاستقلال من طرف واحد... بل هي غير كافية حتى لتعديل نظام الحكم الذاتي.
ومن جهتها، تضغط القوى الاقتصادية في كاتالونيا حالياً «لتبريد» أجواء المواجهة السياسية مع مدريد، وتنفيس الاحتقان الاجتماعي الذي يشهده الإقليم منذ سنوات فيما صار يُطلق عليه «العقد الضائع». ولقد أطلق هذا اللقب وشاع لما تعرّض له القطاع الاقتصادي من خسائر بسبب قلة الاستقرار السياسي والتداعيات المؤذية للحركة الانفصالية. وما يستحق الإشارة إليه في هذا السياق أن عشرات الشركات والمؤسسات الإسبانية والدولية الكبرى، ومئات الشركات الصغيرة والمتوسطة، نقلت بالفعل مقرّاتها خارج كاتالونيا، ما أدى إلى تراجع الناتج القومي الإقليمي إلى المرتبة الثانية وراء العاصمة مدريد للمرة الأولى منذ ثلاثين سنة.

هامش أمل رغم المأزق
للوهلة الأولى، لا تترك نتائج الانتخابات الإقليمية في كاتالونيا هامشاً كبيراً من الأمل أمام الذين يتوقون إلى خروج هذا الإقليم من الطريق المسدود الذي دخل فيه منذ سنوات؛ إذ إن القوى التي تطالب بالاستقلال قد عزّزت غالبيتها في البرلمان، وتاريخها الحديث ينذر بأسوأ الاحتمالات. إلا أن القراءة العميقة للمشهد السياسي الكاتالوني تفتح نوافذ صغيرة على الانفراج، واحتمالات تخفيف الاحتقان الذي بلغ منسوباً خطيراً في الفترة الأخيرة. وهو انفراج بات ضرورياً، وإن لم يكن كافياً، لمعالجة هذه الأزمة التي تكاد تكتسب طابعاً وجودياً عند الأطراف المتنازعة فيها.
فمن جهة، حصل اليسار الجمهوري، الذي يمثّل النسخة البراغماتية للمطلب الانفصالي، على موقع الصدارة للمرة الأولى داخل المشهد الاستقلالي. وعلى الضفة المقابلة، يتصدّر المشهد الحزب الاشتراكي الكاتالوني بقيادة زعامة جديدة منفتحة على الحوار ومدعومة من الحكومة الإسبانبة المركزية.
وصحيح أن الحزب الاشتراكي هو الذي حلّ أولاً في هذه الانتخابات، لكن اليسار الجمهوري هو الوحيد الذي يملك مركزية تتيح تشكيل حكومة قادرة على الحصول على الدعم الكافي داخل البرلمان، إما عبر التحالف مع القوى الانفصالية أو في ائتلاف يساري متعدد الصيغ. غير أنه في ضوء الحدّة التي اتسّم بها الخطاب السياسي إبان الحملة الانتخابية، والاتفاق الذي وقـّعته كل القوى الانفصالية لإقصاء الحزب الاشتراكي عن الحكومة، واقعان يرجّحان كفة تشكيل حكومة انفصالية.
أمر آخر يدخل في الحساب، هو أنه نظراً لصعوبة التحالف بين اليسار الجمهوري واتباع بوتشيمون - كما دلّت كل التجارب السابقة - ليس مستبعداً أن يشكّل اليسار الجمهوري وحده حكومة أقليّة في الإقليم تستند إلى غالبية يسارية في البرلمان لا تشارك في الحكومة. ويرى الذين يدفعون في هذا الاتجاه أن من شأن ذلك أن يمدّ حكومة سانتشيز بجرعة من الاستقرار بعدما تمكن الحزب الاشتراكي الكاتالوني من احتلال المرتبة الأولى، وقطف حليفه اليسار الجمهوري ثمرة سياسة اليد الممدودة إلى مدريد. إلا أن الاختلال الأخطر الذي أحدثته نتائج الانتخابات الإقليمية الكاتالونية يكمن اليوم - لا شك - على الضفة اليمينية من المشهدين السياسيين الإقليمي والوطني. ذلك أن الإهانة التي تعرّض لها الحزب الشعبي على يد اليمين المتطرف ستدفع قيادته، حتماً، إلى إعادة نظر جذرية في استراتيجيتها لإرساء قواعد مشروع جديد معتدل يطمح للعودة إلى الحكم في الانتخابات العامة المقبلة.
أيضاً، لا ريب في أن حزب «مواطنون» الذي مُني بهزيمة مدوّية أيضاً بعد النتائج الباهرة التي حققها في الانتخابات الإقليمية الأخيرة، سيجد نفسه مضطراً لمراجعة خطابه وطروحاته قبل أن يذوب في الأحزاب الأخرى. أما إذا قرر هذان الحزبان الجنوح نحو التطرّف في الملفّ الانفصالي من أجل تطويق «فوكس»، الذي يتمدّد على الصعيدين الإقليمي والوطني، فإن أبواب التصعيد السياسي والاجتماعي ستكون مفتوحة على أسوأ الاحتمالات التي قد توقظ أشباح الماضي غير البعيد... وهو ماضٍ ما زال يرخي بظلاله الثقيلة على المشهد الإسباني.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.