أنفاق حزب الله.. الهجوم من تحت الأرض

استعملها لحماية مقاتليه وقواعد لصواريخه.. وممرات انتقال لنصر الله

أنفاق حزب الله.. الهجوم من تحت الأرض
TT

أنفاق حزب الله.. الهجوم من تحت الأرض

أنفاق حزب الله.. الهجوم من تحت الأرض

قبيل ساعات من هجوم حزب الله اللبناني على دورية إسرائيلية في مزارع شبعا اللبنانية المحتلة، ردا على الهجوم الإسرائيلي على موكب للحزب في منطقة القنيطرة السورية، كانت إسرائيل تطلق عملية بحث واسعة على طول خط الحدود المحاذي لمستوطنات الجليل الأعلى، بحثا عن أنفاق يحتمل أن يكون الحزب قد بناها عبر الحدود. وبعد العملية عادت عمليات التنقيب عن الأنفاق لتنطلق بزخم في أكثر من موقع قريب من الحدود اللبنانية، من دون أن تسفر عن نتائج واضحة.

رغم إصرار القيادة العسكرية الإسرائيلية على استبعاد هذا الاحتمال، فإنها استجابت لضغوطات سكان المستوطنات بعد أن تصاعدت شكواهم من «أصوات تحت الأرض» يعتقدون أنها ناجمة عن حفر الحزب أنفاقا تصل إلى ما تحت منازلهم. ففي ظل التفوق العسكري الإسرائيلي فوق الأرض (في الجو والبر والبحر) وجد حزب الله نفسه مضطرا للنزول تحت الأرض. ويقول مصدر لبناني إن الحزب بدأ النزول تحت الأرض دفاعيا، بمعنى السعي للاختفاء عن العين الإسرائيلية المتمثلة بسلاح الطيران ووسائل التجسس الحديثة، وذلك لحماية قواته ومعداته، أما في حال ثبت وجود أنفاق تمر عبر الحدود، فهو يكون قد انتقل إلى مرحلة الهجوم من تحت الأرض.
وتنطلق المخاوف الإسرائيلية من أنفاق حزب الله من 3 معطيات أساسية، أولها أن الحزب كشف في أكثر من مناسبة عن وجود أنفاق لديه، يستعملها لمواجهة الإسرائيليين، بعضها يتسع لسيارات وآليات ثقيلة، وصولا إلى الصواريخ البعيدة المدى التي يعتقد أنه يمتلكها، والتي لا يمكن أن يحتفظ بها فوق الأرض. أما المعطى الثاني، فهو أن حزب الله هو من درب حركتي حماس و«الجهاد الإسلامي» على حفر الأنفاق، ويقال إنه ساهم بتهريب آلات حفر إليهما استخدمت في بناء الأنفاق التي استعملت للتهريب تحت الحدود المصرية، وكذلك في الحفر تحت المواقع الإسرائيلية لتنفيذ عمليات هجومية كما حدث في حرب الصيف الماضي في قطاع غزة. وقالت الإذاعة الإسرائيلية أخيرا إن الأنفاق المكتشفة في غزة باتت تثير مخاوف من إمكانية حفر حزب الله أنفاقا تصل إلى المستوطنات لا سيما في ضوء إمكاناته المادية والتقنية التي تفوق بأضعاف إمكانات المقاومة الفلسطينية. أما المعطى الثالث، فهو تهديدات أمين عام حزب الله السيد حسن نصر الله الذي دعا في أكثر من مناسبة مقاتليه للاستعداد لاحتلال قرى الجليل، وهو ما لم يجد له السكان تفسيرا سوى أن الحزب قد حفر بالفعل أنفاقا تحت مستوطناتهم.
ولم تتعاط السلطات الإسرائيلية، العسكرية والسياسية، في بداية الأمر مع الموضوع بجدية، مما دفع بالسكان إلى التعاقد مع مقاولين محليين للقيام بعمليات الحفر والتنقيب، ما اضطر الجيش إلى القيام بعمليات البحث الأخيرة التي استؤنفت بعد العملية العسكرية في شبعا من دون نتائج واضحة. وقال رئيس لجنة سكان مستوطنة زرعيت، يوسي أدوني، إن لجنة سكان المستوطنة اتخذت قرارا بهذا الخصوص وإنها بدأت الخطوات اللوجستية الأولى لبدء عمليات البحث عن الأنفاق وكشفها. وكان ضابط الهندسة الرئيسي في سلاح الهندسة بالجيش الإسرائيلي، العقيد أوشري لوجسي، قد نفى في مقابلة مع الإذاعة العسكرية، وجود أنفاق من لبنان إلى المستوطنات الإسرائيلية، مؤكدا أنه «وفقا للمعلومات المتوفرة لدي، فلا توجد أنفاق في الشمال، كما لا توجد بنية تحتية لسياج حدودي، خلافا للوضع في قطاع غزة». لكن سكان المستوطنات الحدودية وجهوا رسالة لقائد المنطقة الشمالية، يائير كوخافي، طالبوا فيها بلقائه والاستماع لشكاواهم وإلا فإنهم يعتزمون أخذ زمام المبادرة والبدء بعمليات البحث عن الأنفاق.
وقد تطرق وزير الدفاع الإسرائيلي موشيه يعلون لتجدد عمليات الحفر، التي يقوم بها الجيش الإسرائيلي على الحدود الشمالية بحثا عن «الأنفاق الهجومية» لحزب الله، بحسب زعمه، مؤكدا أن حزب الله «ليس بحاجة إلى هذه الأنفاق»، وأن طبيعة المنطقة تسمح له بالتسلل والدخول إلى «إسرائيل».
ورغم أن الجيش الإسرائيلي استخف بالمعلومات علنا، فإنه قدم أكثر من إشارة إلى جدية هذا الاحتمال، كان أوضحها قيامه منذ نحو شهرين بإخلاء موقع عسكري عند الحدود مع لبنان لشكه بوجود نفق تحته قد يسمح للحزب بتفجيره من تحت الأرض أو الخروج منه لمهاجمة الجنود. وقال الخبير بالشؤون العربية دورون بيسكين للإذاعة الإسرائيلية: «منذ عام 2006 هناك كثير من التقارير العلنية في وسائل الإعلام العربية وغيرها، تتحدث عن وجود أنفاق في جنوب لبنان، وحزب الله لم يحاول إخفاء أنه يوسع شبكة أنفاقه، وما هو معروف أنه من جنوب الليطاني وحتى الحدود الإسرائيلية توجد شبكة أنفاق تابعة لحزب الله، ونحن نتحدث عن أنفاق إذا ما قارناها بما يحدث في غزة، فإن الأمر يبدو كلعبة أطفال مقابل ما يوجد لدى حزب الله». وأضاف بيسكين: «أولا، وقبل كل شيء، فإن حزب الله هو من جلب أسلوب وتكتيك الأنفاق إلى منطقتنا، وحماس تعلمت هذا الأسلوب من حزب الله، فحزب الله منذ أواسط سنوات التسعينات يستخدم هذه الأنفاق، أي إن لديه خبرة أكثر من 20 سنة، وقد نقل هذه المعرفة لحماس عندما كانت العلاقات طيبة بين المنظمتين، فضلا عن أن الموارد المالية لدى حزب الله أكبر من موارد حماس، وتمويل الحزب يأتي من إيران إضافة إلى جهات إضافية تعمل في إيران لصالح حزب الله من أجل جمع الأموال، مما حول حزب الله إلى نوع من الإمبراطورية الاقتصادية في لبنان وخارجه، وهو منظمة تتداول المليارات في السنة بكل الطرق، أي إن حزب الله كانت لديه إمكانية الأنفاق، وما نعرفه أن هذه الأنفاق تصل إلى جنوب لبنان، ولكن هل تتجاوزه أم لا؟ نحن لا نعرف. أما في شرق لبنان على الحدود مع سوريا فحزب الله يستعين بشركات مقاولات لبنانية تستخدم آليات ثقيلة لبناء الأنفاق، أما على حدودنا، فالأمر ليس على هذا النحو».
ولفت بيسكين إلى أن «طبيعة الأرض في الشمال أصعب مقارنة بالأرض في غزة»، لكنه أبدى اعتقاده بأن حزب الله وجد لهذا أيضا حلا، فالحديث «لا يدور عن أنفاق لإطلاق الصواريخ بصورة أوتوماتيكية بتقنية إيرانية تصعب على سلاح الجو العمل ضدها، إنما نتحدث عن شبكة أنفاق يوجد فيها كل ما يلزم لمئات وربما لآلاف المقاتلين للبقاء مدة طويلة تحت الأرض».
وفي المقابل، يؤكد الخبير العسكري اللبناني العميد المتقاعد نزار عبد القادر، أن كل ما يحكى عن أنفاق عابرة للحدود لحزب الله هو كلام غير منطقي ولا يمت إلى الواقع الجغرافي للمنطقة بصلة. ويقول لـ«الشرق الأوسط»: «حزب الله يتمنى أن يملك أنفاقا تمتد من داخل القرى اللبنانية لتصل إلى مقربة من مستعمرات الجليل، لكن هذا الأمر هو نوع من الخيال، ومن المستبعد أن ينفذ، نظرا إلى جغرافية المنطقة وطبيعة الأرض الوعرة والصخرية التي تتطلب جهودا هائلة وآلات خاصة لحفرها». وأضاف: «انطلاقا من هذا الواقع، أعتقد أن ما يملكه الحزب، هو عبارة عن أقبية وملاجئ ومخابئ للأسلحة ومراكز لهجماته ضد إسرائيل، وهذا أمر طبيعي. وإذا امتلك بعض الأنفاق، فإن طولها لن يتعدى المائة متر، وستكون موجودة على الحدود وداخل الأراضي اللبنانية يستخدمها مخابئ تحت الأرض وتصل بين بعض المواقع الاستراتيجية ومراكز الرمي».
ورأى عبد القادر أن «ما يحكى عن أنفاق من الممكن أن توجد في منطقة واحدة هي الوزاني ما بين مزارع شبعا والخط الأزرق، لكن هذا الموقع لا يعتبر خط التركيز الأساسي الذي يخدم جهود حزب الله العسكرية».
وأوضح بيسكين أنه «بالإضافة إلى منصات الإطلاق وغرف الحرب، هناك عيادات طبية وغرف طعام ومراحيض، أي كل ما يحتاجه مقاتلو الحزب مثل الإضاءة والاتصالات، ومن الصعب معرفة عمق هذه الأنفاق، لأن حزب الله لا ينشر تفاصيل، وما ينشره يعرف أن الاستخبارات الإسرائيلية وغيرها تتابعه، وهو لا يخشى من ذلك». ويرى بيسكين أنه «بما أن حزب الله لا يوجد لديه سلاح جو ولا يستطيع نقل قوات عبر الحدود، فإن حديثه عن السيطرة على الجليل يمكن أن يكون إشارة إلى تكتيك الأنفاق»، مشددا إلى أنه «يجب أخذ حزب الله بجدية في هذا السياق، ويجب في هذه الفترة القيام بتعزيز الجهد». وبشأن تقنيات العثور على الأنفاق، أشار إلى أنه «إذا كانت توجد مثل هذه الوسائل، فهي قيد التطوير».
وقد استفاد حزب الله من تجربة الأنفاق التي كان المقاتلون الفلسطينيون حفروها في جنوب لبنان، قبل اجتياح إسرائيل للجنوب عام 1982، وبدأ بالاعتماد على الأنفاق فعليا بعد سنوات قليلة من إطلاق عملياته العسكرية ضد إسرائيل، أي في التسعينات. ويقول مقاتل سابق في الحزب، كان شارك في العمليات العسكرية ضد إسرائيل في جنوب لبنان، إن طائرات الاستطلاع الإسرائيلية كانت تصور منطقة جبل مليتا (الذي بات الآن منتجعا سياحيا حربيا لحزب الله في الجنوب) يوميا، وتراقب ازدياد كمية الردم في مناطق الجبل، قبل أن تصل طائرات حربية وتقصف مواقع في الجبل قريبة من الردميات، في محاولة لإغلاق الأنفاق.
ونجحت التجربة في إخفاء مقاتلي الحزب عن شبكات الرصد الإسرائيلية في داخل الجبال الشاهقة في الجنوب، وإخفاء الأسلحة التي كان المقاتلون يستخدمونها، واتسعت التجربة حتى باتت على نطاق واسع، وظهرت في حرب يوليو (تموز) 2006 بين الحزب وإسرائيل؛ إذ سجلت تقارير تلفزيونية غربية في أحد أنفاق الحزب في الجنوب، بعد انقضاء الحرب، وظهرت في داخله مقومات العيش الطبيعي، مثل وجود مطبخ وحمامات وغرف تستخدم لأغراض عسكرية مربوطة بشبكة اتصالات مع القيادة.
وذكرت تقارير إسرائيلية بعد الحرب، أن حزب الله بدأ ببناء الشبكة في مناطق حدودية مع إسرائيل، منذ عام 2000، واستخدمها لإيواء مقاتليه، إلى جانب بناء مخازن متعددة للأسلحة شملت مخزونا هائلا من الصواريخ القصيرة والمتوسطة المدى، بالإضافة إلى صواريخ موجهة مضادة للدروع، ووجدت فيها أجهزة اتصالات وسلاح إشارة، إلى جانب الأعتدة العسكرية.
وذكرت صحيفة «يديعوت أحرونوت» الإسرائيلية في الصيف الماضي، أن أنفاق الحزب خضعت لعمليات تحديث وتطوير لافتين، بما يشمل توسعتها بصورة ملحوظة، إن لجهة التجهيزات أو لجهة المناطق التي تصل إليها. وأفادت بأن الأنفاق لم يعد استخدامها مقتصرا على تخزين الوسائل القتالية، بل باتت مصممة لتكون مراكز سيطرة وتحكم واستيعاب مئات المقاتلين، وبما يشمل مطابخ وحمامات وعيادات.
ويقدم حزب الله في نفق مليتا، نموذجا مصغرا عن أنفاقه المحتملة، يعرضه أمام زوار الموقع من العرب والأجانب. ويقول مسؤول لبناني على اتصال مع حزب الله إن الإسرائيليين أوفدوا كثيرا من الصحافيين الأجانب لزيارة الموقع وطرح أسئلة خاصة لمعرفة المزيد عن تقنية الحفر والتمويه التي يستخدمها الحزب. لكنه أشار في المقابل إلى أن الموقع المذكور هو مجرد «نسخة متخلفة» مقارنة بما يمتلكه الحزب الآن، مشيرا إلى أن أنفاق الحزب تُستخدم في الأساس مواقع لوجستية لحماية المقاتلين، وتخزين الغذاء والذخيرة، وتأمين مواقع لانطلاق الهجمات ضد الإسرائيليين إذا ما دخلوا الأراضي اللبنانية على غرار ما حصل في حرب عام 2006.
ولا تقتصر الشكاوى من الأصوات على الإسرائيليين، ففي القرى اللبنانية البقاعية، يذكر كثير من السكان أنهم يسمعون أصوات الحفر المكتومة ليلا، خصوصا في مناطق جبلية يعتقد أن الحزب يحفرها كمراكز لقوته الصاروخية البعيدة المدى التي يقال إن باستطاعتها تغطية كل المواقع الإسرائيلية. والأمر نفسه ينسحب على منطقة الضاحية الجنوبية لبيروت حيث معقل حزب الله؛ إذ أفيد بعد عام 2006 عن سماع أصوات حفر رتيبة في أكثر من منطقة تؤشر إلى عمليات حفر أنفاق محتملة. ويقول أحد السكان إن المنطقة التي كانت تسمع فيها هذه الأصوات حصلت فيها بعض الأشياء الغريبة، مثل جفاف بعض الآبار الارتوازية المحفورة، مما يؤشر إلى إصابتها بعمليات الحفر.
وكانت الأنفاق التي بناها حزب الله في الضاحية، واحدة من أبرز أسباب صموده فيها خلال الغارات الإسرائيلية. فتلفزيون «المنار» التابع للحزب استمر بالبث على الرغم من غارات إسرائيلية أنزلت المبنى إلى دون مستوى الأرض. وقد كشف مسؤولون في المنار لـ«الشرق الأوسط» بعد الحرب أن البث استمر من تحت الأرض لفترة، وأن الموظفين كانوا في المبنى لحظة قصفه وخرجوا منه عبر أنفاق بديلة قادتهم إلى مبان بعيدة عن مبنى المحطة.
كما استعمل الحزب الأنفاق لتمويه تحركات أمينه العام حسن نصر الله في أكثر من مناسبة، حيث تفيد بعض التقارير أن الحزب كان يمد أنفاقا تصل إلى ما تحت المنبر الذي يخطب منه نصر الله، وتمتد إلى ما تحت مبان مجاورة لاستعمالها طرق هروب في حال تعرضه لهجوم، أو طريقة تمويه خلال مغادرته أو وصوله إلى موقع الحدث الذي يشارك فيه.



هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
TT

هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)

يأتي فوز دونالد ترمب في انتخابات الرئاسة الأميركية وعودته الوشيكة إلى البيت الأبيض يوم يناير (كانون الثاني) 2025 نقطة تحوّل مهمة وسط اضطرابات غير عادية في النظام العالمي. وبديهي أن ولاية ترمب الثانية لا تشكّل أهمية كبرى في السياسة الداخلية الأميركية فحسب، بل ستؤثر إلى حد كبير أيضاً على الجغرافيا السياسية والاقتصاد في آسيا. وفي حين يتوقع المحللون أن يركز الرئيس السابق - العائد في البداية على معالجة القضايا الاقتصادية المحلية، فإن «إعادة ضبط» أجندة السياسة الخارجية لإدارته ستكون لها آثار وتداعيات في آسيا ومعظم مناطق العالم، وبالأخص في مجالات التجارة والبنية التحتية والأمن. وبالنسبة لكثيرين في آسيا، يظل السؤال المطروح هنا هو... هل سيعتمد في ولايته الجديدة إزاء كبرى قارات العالم، من حيث عدد السكان، تعاملاً مماثلاً لتعامله في ولايته الأولى... أم لا؟

توقَّع المحللون السياسيون منذ فترة أن تكون منطقة حوض المحيطين الهندي والهادئ في طليعة اهتمامات السياسة الخارجية عند إدارة الرئيس الأميركي السابق العائد دونالد ترمب. ومعلومٌ أن استراتيجية ترمب في فترة ولايته الأولى، إزاء حوض المحيطين الهندي والهادئ شددت على حماية المصالح الأميركية في الداخل. والمتوقع أن يظل هذا الأمر قائماً، ويرجح أن يؤثّر على نهج سياسته الخارجية تجاه المنطقة مع التركيز على دفع الازدهار الأميركي، والحفاظ على السلام من خلال القوة، وتعزيز نفوذ الولايات المتحدة.

منطقة حوض المحيطين الهندي والهادئ التي يقطن كياناتها نحو 65 في المائة من سكان العالم، تشكل راهناً نقطة محورية للاستراتيجية والتوترات الجيوسياسية، فهي موطن لثلاثة من أكبر الاقتصادات على مستوى العالم (الصين والهند واليابان) ولسبع من أكبر القوات العسكرية في العالم. ويضاف إلى ذلك أنها منطقة اقتصادية رئيسية تمثل 62 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي وتسهم بنسبة 46 في المائة من تجارة السلع العالمية.

3 محاور

ويرجّح فيفيك ميشرا، خبير السياسة الأميركية في «مؤسسة أوبزرفر للأبحاث»، أنه «في ولاية ترمب الثانية، ستوجّه استراتيجية واشنطن لهذه المنطقة عبر التركيز على ثلاثة محاور تعمل على ربط المجالات القارية والبحرية في حيّزها. وستكون العلاقات الأميركية - الصينية في نقطة مركز هذه المقاربة، مع توقع أن تعمل التوترات التجارية على دفع الديناميكيات الثنائية... إذ لا يزال موقف ترمب من الصين حازماً، ويهدف إلى موازنة نفوذها المتنامي في المجالين الاقتصادي والأمني على حد سواء».

إضافة إلى ما سبق، يرى ميشرا أن «لدى سياسة ترمب في حوض المحيطين الهندي والهادئ توقعات كبيرة من حلفاء أميركا الرئيسيين وشركائها في المنطقة، بما في ذلك اضطلاع الهند بدور أنشط في المحيط الهندي مع التزامات عسكرية أكبر من الحلفاء مثل اليابان وأستراليا». ويرجّح الخبير الهندي، كذلك، «أن تتضمن رؤية ترمب لحوض المحيطين الهندي والهادئ الجهود الرامية إلى إرساء الاستقرار في الشرق الأوسط، لا سيما من خلال تعزيز التجارة والاتصال مع المنطقة، لتعزيز ارتباطها بالمجال البحري لحوض المحيطين الهندي والهادئ».

الحالة الهندية

هناك الكثير من الأسباب التي تسعد حكومة ناريندرا مودي اليمينية في الهند بفوز ترمب. إذ تقف الهند اليوم شريكاً حيوياً واستثنائياً بشكل خاص في الاستراتيجيتين الإقليمية والدولية للرئيس الأميركي العائد. وعلى الصعيد الشخصي، سلَّط ترمب إبان حملته الانتخابية الضوء على علاقته القوية بمودي، الذي هنأه على الفور بفوزه في الانتخابات.

وهنا يقول السفير الهندي السابق آرون كومار: «مع تأمين ترمب ولاية ثانية، تؤشر علاقته الوثيقة برئيس الوزراء مودي إلى مرحلة جديدة للعلاقات الهندية - الأميركية. ومع فوز مودي التاريخي بولاية ثالثة، ووعد ترمب بتعزيز العلاقات بين واشنطن ونيودلهي يُرتقب تكثّف الشراكة بينهما. وبالفعل، يتفّق موقف ترمب المتشدد من بكين مع الأهداف الاستراتيجية لنيودلهي؛ ولذا يُرجح أن يزيد الضغط على بكين وسط تراجع التصعيد على الحدود. ويضاف إلى ذلك، أن تدقيق ترمب في تصرفات باكستان بشأن الإرهاب قد يوسّع النفوذ الاستراتيجي الهندي في كشمير».

كومار يتوقع أيضاً «نمو التعاون في مجال الدفاع، لا سيما في أعقاب صفقة الطائرات المسيَّرة الضخمة التي بدأت خلال ولاية ترمب الأولى. ومع الأهداف المشتركة ضد العناصر المتطرّفة في كندا والولايات المتحدة، يمهّد تحالف مودي - ترمب المتجدّد الطريق للتقدم الاقتصادي والدفاعي والدبلوماسي... إذا منحت إدارة ترمب الأولوية للتعاون الدفاعي والتكنولوجي والفضائي مع الهند، وهي قطاعات أساسية تحتل مركزها في الطموحات الاستراتيجية لكلا البلدين». وما يُذكر أن ترمب أعرب عن نيته البناء على تاريخه السابق مع الهند، المتضمن بناء علاقات تجارية، وفتح المزيد من التكنولوجيا للشركات الهندية، وإتاحة المزيد من المعدات العسكرية الأميركية لقوات الدفاع الهندية. وبصفة خاصة، قد تتأكد العلاقات الدفاعية بين الهند والولايات المتحدة، في ظل قدر أعظم من العمل البيني المتبادل ودعم سلسلة الإمداد الدفاعية.

السياسة إزاء الصين

أما بالنسبة للصين، فيتوقع كثيرون استنساخ ترمب سياساته المتشددة السابقة، ويرى البعض أنه خلال ولايته الثانية يمتلك القدرة على قيادة مسار احتواء أوسع تجاه بكين. بدايةً، كما نتذكر، حمّل ترمب الحكومة الصينية مسؤولية جائحة «كوفيد - 19»، التي قتلت أكثر من مليون أميركي ودفعت الاقتصاد الأميركي إلى ركود عميق. وسواء عبر الإجراءات التجارية، أو العقوبات، أو المطالبة بالتعويضات، سيسعى الرئيس الأميركي العائد إلى «محاسبة» بكين على «الأضرار» المادية التي ألحقتها الجائحة بالولايات المتحدة والتي تقدَّر بنحو 18 تريليون دولار أميركي.

ووفقاً للمحلل الأمني الهندي سوشانت سارين، فإن دبلوماسية «الذئب المحارب» الصينية، ودعم بكين حرب موسكو في أوكرانيا، والقضايا المتزايدة ذات الصلة بالتجارة والتكنولوجيا وسلاسل التوريد، تشكل مصدر قلق كبيراً لحكومة ترمب الجديدة. ومن ثم، ستركز مقاربة الرئيس الأميركي تجاه الصين على الجانبين الاقتصادي والأمني، مع التأكيد على حاجة الولايات المتحدة إلى الحفاظ على قدرتها التنافسية في مجال التكنولوجيات الناشئة.

آسيا ... تنتظر مواقف ترمب بعد انتصاره الكبير (رويترز)

التجارة والاقتصاد

أما الخبير الاقتصادي سيدهارت باندي، فيرى أنه «يمكن القول إن التجارة هي القضية الأكثر أهمية في جدول أعمال السياسة الأميركية تجاه الصين... وقد تتصاعد الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين في ظل حكم ترمب».

وحقاً، في التقييم الصيني الحالي، يتوقع أن تشهد ولاية ترمب الثانية تشدداً أميركياً أكبر حيال بشأن العلاقات التجارية والاقتصادية الثنائية؛ ما يؤدي إلى مزيد من التنافر بين الاقتصادين. وللعلم، في وقت سابق من العام الحالي، وعد خطاب ترمب الانتخابي بتعرفات جمركية بنسبة 60 في المائة أو أعلى على جميع السلع الصينية، وتعرفات جمركية شاملة بنسبة 10 في المائة على السلع من جميع نقاط المنشأ. ومن ثم، يرجّح أيضاً أن تشجع هذه الاستراتيجية الشركات الأميركية على تنويع سلاسل التوريد الخاصة بها بعيداً عن الصين؛ ما قد يؤدي إلى تسريع الشراكات مع دول أخرى في منطقة المحيطين الهندي والهادئ».

ما يستحق الإشارة هنا أن ترمب كان قد شن حرباً تجارية ضد الصين بدءاً من عام 2018، حين فرض رسوماً جمركية تصل إلى 25 في المائة على مجموعة من السلع الصينية. وبعدما كانت الصين عام 2016 الشريك التجاري الأول للولايات المتحدة، مع أكثر من 20 في المائة من الواردات الأميركية ونحو 16 في المائة من إجمالي التجارة الأميركية، فإنها تراجعت بحلول عام 2023 إلى المرتبة الثالثة، مع 13.9 في المائة من الواردات و11.3 في المائة من التجارة.

وبالتالي، من شأن هذا التحوّل منح مصداقية أكبر لتهديدات ترمب بإلغاء الوضع التجاري للدولة «الأكثر رعاية» المعطى للصين وفرض تعرفات جمركية واسعة النطاق. ومع أن هذه الإجراءات سترتب تكاليف اقتصادية للأميركيين، فإن نحو 80 في المائة من الأميركيين ينظرون إلى الصين نظرة سلبية.

يتوقع كثيرون استنساخ ترمب سياساته المتشددة السابقة إزاء الصين

الشق العسكري

من جهة ثانية، يتوقع أن يُنهي ترمب محاولات الشراكة الثنائية السابقة، بينما يعمل حلفاء الولايات المتحدة الآسيويون على تعزيز قدراتهم العسكرية والتعاون فيما بينهم. ومن شأن تحسين التحالفات والشراكات الإقليمية، بما في ذلك «ميثاق أستراليا وبريطانيا والولايات المتحدة»، وميثاق مجموعة «كواد» الرباعية (أستراليا والهند واليابان والولايات المتحدة)، وتحسين العلاقات بين اليابان وكوريا الجنوبية بشكل كبير، والتعاون المتزايد بين اليابان والفلبين، تعزيز موقف ترمب في وجه بكين.

شبه الجزيرة الكورية

فيما يخصّ الموضوع الكوري، يتكهن البعض بأن ترمب سيحاول إعادة التباحث مع كوريا الشمالية بشأن برامجها للأسلحة النووية والصواريخ الباليستية. وفي حين سيكون إشراك بيونغ يانغ في هذه القضايا بلا شك، حذراً وحصيفاً، فمن غير المستبعد أن تجد إدارة ترمب الثانية تكرار التباحث أكثر تعقيداً هذه المرة.

الصحافي مانيش تشيبر علَّق على هذا الأمر قائلاً إن «إدارة ترمب الأولى كانت لها مزايا عندما اتبعت الضغط الأقصى الأولي تجاه بيونغ يانغ، لكن هذا لن يتكرّر مع إدارة ترمب القادمة، خصوصاً أنه في الماضي كانت روسيا والصين متعاونتين في زيادة الضغوط على نظام كوريا الشمالية». بل، وضعف النفوذ التفاوضي لواشنطن في الوقت الذي قوي موقف كوريا الشمالية. ومنذ غزو روسيا لأوكرانيا وبعد لقاء الرئيس الكوري الشمالي كيم جونغ أون بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين في سبتمبر (أيلول) 2023، عمّقت موسكو وبيونغ يانغ التعاون في مجالات الاقتصاد والعلوم والتكنولوجيا.

الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ اون (رويترز)

مكاسب حربية لكوريا الشمالية

أيضاً، تشير التقديرات إلى أن كوريا الشمالية كسبت على الأرجح 4.3 مليار دولار من شحنات المدفعية إلى روسيا خلال الحرب وحدها، وقد تكسب أكثر من 21 مليون دولار شهرياً من نشر قواتها في روسيا. وفي المقابل، تستفيد من روسيا في توفير الأسلحة والقوات والتكنولوجيا لمساعدة برامج الصواريخ الكورية الشمالية. وتبعاً لمستوى الدعم الذي ترغب الصين وروسيا في تقديمه لكوريا الشمالية، قد تواجه إدارة ترمب القادمة بيونغ يانغ تحت ضغط دبلوماسي واقتصادي متناقص وهي مستمرة في تحسين برامج الأسلحة وتطويرها.

أما عندما يتعلق الأمر بكوريا الجنوبية، فيلاحظ المحللون أن فصلاً جديداً مضطرباً قد يبدأ للتحالف الأميركي - الكوري الجنوبي مع عودة دونالد ترمب إلى البيت الأبيض. ويحذر المحللون من أن سياسة «جعل أميركا عظيمة مجدداً» التي ينتهجها الحزب الجمهوري قد تشكل مرة أخرى اختباراً صعباً للتحالف بين سيول وواشنطن الذي دام عقوداً من الزمان، مذكرين بالاضطرابات التي شهدها أثناء فترة ولايته السابقة من عام 2017 إلى عام 2021. ففي ولايته السابقة، طالب ترمب بزيادة كبيرة في المساهمة المالية لسيول في دعم القوات الأميركية في شبه الجزيرة الكورية. وأثناء حملته الانتخابية الحالية، وصف كوريا الجنوبية بأنها «آلة للمال» بينما يناقش مسألة تقاسم تكاليف الدفاع، وذكر أن موقفه بشأن القضية لا يزال ثابتاً. وفي سياق متصل، قال الصحافي الكوري الجنوبي لي هيو جين في مقال نشرته صحيفة «كوريان تايمز» إنه «مع تركيز الولايات المتحدة حالياً على المخاوف الدولية الرئيسية كالحرب في أوكرانيا والصراع في الشرق الأوسط، يشير بعض المحللين إلى أن أي تحولات جذرية في السياسة تجاه شبه الجزيرة الكورية في ظل إدارة ترمب قد تؤجل. لكن مع ذلك؛ ونظراً لنهج ترمب الذي غالباً يصعب التنبؤ به تجاه السياسة الخارجية، يمكن عكس هذه التوقعات».

حقائق

أميركا والهند... و«اتفاقية التجارة الحرة»

في كي فيجاياكومار، الخبير الاستثماري الهندي، يتوقع أن يعيد الرئيس الأميركي العائد دونالد ترمب النظر مجدداً بشأن المفاوضات حول «اتفاقية التجارة الحرة»، وكانت قد عُرفت مفاوضات مكثفة في الفترة 2019 - 2020 قبل أن يفقد السلطة، والتي لم يبدِ الرئيس السابق جو بايدن أي اهتمام باستكمالها.وعوضاً عن الضغط على نيودلهي بشأن خفض انبعاثات الكربون، «من المرجح أن يشجع ترمب الهند على شراء النفط والغاز الطبيعي المسال الأميركي، على غرار مذكرة التفاهم الخاصة بمصنع النفط والغاز الطبيعي المسال في لويزيانا لعام 2019، والتي كانت ستجلب 2.5 مليار دولار من الاستثمارات من شركة (بترونيت إنديا) إلى الولايات المتحدة، لكنها تأجلت لعام لاحق».ثم يضيف: «بوجود شخصيات مؤثرة مثل إيلون ماسك، الذي يدعو إلى الابتكار في التكنولوجيا والطاقة النظيفة، ليكون له صوت مسموع في دائرة ترمب، فإن التعاون بين الولايات المتحدة والهند في مجال التكنولوجيا يمكن أن يشهد تقدماً ملحوظاً. ومن شأن هذا التعاون دفع عجلة التقدم في مجالات مثل استكشاف الفضاء، والأمن السيبراني، والطاقة النظيفة؛ ما يزيد من ترسيخ مكانة الهند باعتبارها ثقلاً موازناً للصين في حوض المحيطين الهندي والهادئ».في المقابل، لا يتوقع معلقون آخرون أن يكون كل شيء على ما يرام؛ إذ تواجه الهند بعض التحديات المباشرة على الأقل، بما في ذلك فرض رسوم جمركية أعلى وفرض قيود على التأشيرات، فضلاً عن احتمال المزيد من التقلبات في أسواق صرف العملات الأجنبية. وثمة مخاوف أيضاً بشأن ارتفاع معدلات التضخم في الولايات المتحدة في أعقاب موقفها المالي والتخفيضات الأقل من جانب بنك الاحتياطي الفيدرالي، وهو ما قد يخلف تأثيراً غير مباشر على قرارات السياسة النقدية في بلدان أخرى بما في ذلك الهند.