الحرف اليدوية في سوريا والمعارف التقليدية مهددة بالضياع

ملتقى دولي في بيروت برعاية «يونيسكو» للتباحث في كيفية حمايتها

حرفية يدوية سورية
حرفية يدوية سورية
TT

الحرف اليدوية في سوريا والمعارف التقليدية مهددة بالضياع

حرفية يدوية سورية
حرفية يدوية سورية

بعد كثير من الملتقيات والدورات الدولية التي انعقدت لحماية الآثار السورية في ظل الحرب والأزمة كتراث ثقافي مادي مهدد بالضياع والتدمير، تنظم المنظمة الدولية للثقافة والعلوم (يونيسكو) في مقرها بالعاصمة اللبنانية بيروت بين 9 و13 فبراير (شباط) الحالي الملتقى الدولي لحماية التراث الثقافي السوري اللامادي المهدد هو الآخر بالضياع والاندثار كمهن حرفية يدوية وتراث شفوي.
يقول الدكتور مأمون عبد الكريم مدير عام الآثار السورية لـ«الشرق الأوسط» عن هذا الملتقى: «سيجمع اللقاء المعنيين في مديرية الآثار والمتاحف والأمانة السورية للتنمية (وهي منظمة أهلية لا ربحية) في سوريا ووزارة الثقافة وجامعة دمشق وخبراء (يونيسكو) وغيرها من الفعاليات المهتمة بالتراث الثقافي اللامادي في سوريا، وسيتناول توثيق كل ما له علاقة بالتراث اللامادي السوري المهدد بالضياع والخسارة، فليس التراث المادي كآثار مهددا، بل حتى التراث اللامادي، فهناك كثير من أسواق المهن اليدوية احترقت، وأصحاب المهن تركوا أماكنهم إلى أماكن أخرى بحثا عن لقمة الخبز.
وإذا استمرت الأوضاع على ما هي عليه، فمن المحتمل أن نخسر كثيرا من المهن والحرف. من هنا كان الحرص الدولي في إطار مشروع الاهتمام بجانب الفن الشعبي والتراث اللامادي، وكيفية حصرها وتوثيقها وحمايتها، كما نفعل في حماية الآثار السورية. و«يونيسكو» مهتمة بالتراث المادي واللامادي وهناك خبراء دوليون لهم باع طويل عملوا في مناطق كثيرة في العالم، وهؤلاء سيساعدون السوريين على التوجه نحو المنحى الأفضل. وبالتالي هذه اللقاءات هي لقاء الخبرات وتصحيح المعلومات. التراث اللامادي جزء من التراث الإنساني وهذه مسؤولية دولية لحماية المهن وغيرها حتى لا يكون هناك ضياع. فما حصل في حلب أن أكثر من 1000 محل في الأسواق القديمة التراثية احترق، وهناك الكثير من أصحاب المهن هجروا من منازلهم ومصانع الحرف اليدوية دمرت وهُجر أصحابها وخسروا كل ما لديهم».
و كانت وزارة الثقافة السورية، وبالتعاون مع منظمات أهلية محلية قد أطلقت في ربيع العام الماضي، ومن خان أسعد باشا التاريخي في سوق البزورية بدمشق القديمة مشروع حصر وتوثيق التراث اللامادي في سوريا، بالتعاون مع «الجمعية السورية للثقافة والمعرفة» وبحضور ممثل منظمة التربية والثقافة والعلوم الدولية (يونيسكو) وبإشراف الفنان التشكيلي طلال معلا، وتضمن المشروع حصر مائة عنصر من عناصر التراث اللامادي في سوريا، وبناء قاعدة بيانات لحفظ بيانات الحصر، وموقع إنترنت تفاعلي للمشروع، وبناء قدرات في مجال حصر وتوثيق هذا التراث، بحيث تسمح هذه النتائج برفع المعرفة بالتراث اللامادي السوري وتوسيع المشاركة في جهود حصره وتوثيقه وصيانته ونشره.
الجمعية السورية للحرف تعمل هي أيضا على تنشيط وحماية الحرف اليدوية. وتوضح جاكلين كيكولو، وهي مشرفة على محلات «أبّهة» في سوق المهن اليدوية بدمشق: «الغاية من عملنا حاليا دعم وتوثيق الحرف اليدوية السورية التقليدية، لمنعها من الاندثار والمحافظة عليها، بل وتطوير بعضها مثلا تصنيع البسط كان يتم من خلال النول فقط، فقمنا ضمن المشروع بإعادة النول، ولكن بمنتجات يدوية جديدة غير البسط، كالحقائب وغيرها، بشكل يتناسب والعصر الحالي، وعملنا على احتضان بعض الحرفيين السوريين وتسويق منتجاتهم، وكذلك تأهيل حرفيين جدد من خلال ورشات تدريبية بالخياطة والأرابيسك وغيرها، وتأمين نقاط بيع محلية وخارجية لمنتجاتهم بالتنسيق مع الشركاء.
أما الباحث في مجال التراث اللامادي وأمين تحرير مجلة «الحرفيين السوريين» (محمد فياض الفياض)، فيتحدث عن واقع الحرف التقليدية كتراث لا مادي يجب حمايته والحفاظ عليه. يقول: «يرى باحثون ومتخصصون في هذا الحقل أن جزءا كبيرا من تراث سوريا غير المادي، والمعروف بالتراث الحي ما زال خارج دائرة التوثيق نظرا لقصور هذه الجهود، وعدم الدفع بها على نحو متسارع، الأمر الذي ينذر بتهديد حقيقي لهذه الذاكرة الحضارية الخصبة، حيث إن معظم هذه الموروثات ما زالت في طورها الشفاهي الآيل للزوال والاندثار بفعل عوامل وأسباب عدة».
ولذلك يأتي توثيق الحرف التقليدية من أشخاص وخامات وأدوات وبيئات وأنشطة ومهارات وابتكارات وما يرافق ذلك من قصص وحكايات وغناء وأمثال إسهاما في خلق نواة للتأطير والتكوين في مجال الصناعة التقليدية والمحافظة عليها من الزوال والضياع، كما تسهم في خلق نسيج إنتاجي مندمج ونموذجي يسهم في الحفاظ على بيئة كل حرفة من الحرف.
ونستطيع القول بأن الاستراتيجية المقبلة يجب أن تركز على أسس واضحة، وفي مقدمتها ضرورة البحث عن مقومات دعم قطاع الحرف التقليدية، من خلال ربط هذا القطاع بالسياسة الاقتصادية وبشكل جدي. ويقترح الفياض في هذا المجال عددا من الإجراءات لحماية التراث الثقافي اللامادي ومنها: وضع قوانين وتشريعات لحماية المعارف التقليدية والتراث الثقافي بشقيه المادي وغير المادي على المستوى المحلي تكون العامل الأساسي والمساعد في عملية التوثيق والصون والحماية، وإنشاء سجل وطني لحماية المعارف التقليدية، وأشكال التعبير الثقافي والموارد الوراثية مع الدعوة لضرورة التعاون بين المنظمات العالمية للملكية الفكرية (الوايبو) ويونيسكو فيما يتعلق بحماية وتوثيق التراث غير المادي والمعارف التقليدية، بما يضمن الحمايتين المعنوية والمادية معا.



نقد النقد بصفته خطاباً فلسفياً

باقر جاسم محمد
باقر جاسم محمد
TT

نقد النقد بصفته خطاباً فلسفياً

باقر جاسم محمد
باقر جاسم محمد

شهدت مرحلة ما بعد الحداثة صعودَ الكثير من المفاهيم والمصطلحات النقدية والثقافية والسوسيولوجية، ومنها مفهوم «نقد النقد» الذي أصبح إحدى أدوات التحليل والتفكيك والتشريح للعملية النقدية ذاتها.

وهناك حالياً، في المشهد النقدي والأكاديمي الحديث الكثير من المقاربات والمداخل والمناهج التي تناولت مفهوم «نقد النقد»، ونحن سنعمد في هذه القراءة إلى النظر لهذا المفهوم بوصفه خطاباً فلسفياً.

بدءاً، لا بد لنا ونحن نتحدث عن مفهوم «نقد النقد» (Metacriticism) من الوقوف قليلاً أمام مفهوم النقد ذاته قبل أن تستدرجنا البادئة «Meta» إلى معاينة مرآوية للذات أو الماهيات، أي الوصول إلى فضاء «نقد النقد» أو «ما وراء النقد».

أرسطو

من المعروف أن وظيفة النقد الأساسية هي محاولة وصف وتحليل وتقييم الأعمال والنصوص الإبداعية. وإذا ما كان النص الإبداعي يمثل لغة أولى، فإن النقد يمثل «لغة ثانية».

وكما يرى الناقد رينيه ويلبك في كتابه «مفاهيم نقدية»، فإن النقد الأدبي فنٌّ قائمٌ بذاته أو نوعٌ من الأنواع الأدبية، لكنه يشكك في كون النقد الأدبي فناً، ذلك أن هدف النقد هو المعرفة الفكرية وصولاً إلى معرفة منظمة تخص الأدب، أي إلى نظرية أدبية.

أما رولان بارت، من جهة أخرى، فيرى أن النقد خطابٌ حول خطاب، وهو قول ثانٍ أو لغة واصفة يمارس على قول أول.

ويخلص بارت إلى القول إنه إذا لم يكن النقد سوى قول واصف، فذاك معناه أن مهمة النقد ليست مطلقاً اكتشاف الحقائق، وإنما الصلاحيات فقط. ويحاول بارت من جهة أخرى الإعلاء من شأن العملية النقدية، ويضعها في مصاف العملية الإبداعية، فهو يذهب إلى اعتبار النقد إبداعاً، مؤكداً أن إمكانات النقد الراهنة تتمثل في أن الناقد قد أصبح كاتباً بمعنى الكلمة، وأن النقد غدا من الضروري أن يُقرأ ككتابة. ومن جهة أخرى يرى تودوروف أن النقد ليس ملحقاً سطحياً للأدب، وإنما هو قرينه الضروري.

أما وظيفة نقد النقد، التي حددتها إلى حد كبير البادئة «ميتا»، فهي تشير إلى حالة انعكاسية نحو الذات، أي نحو النقد نفسه، مما يجعل نقد النقد محاولةً لفهم آليات ومناهج وماهيات ومفاهيم العملية النقدية. فنقد النقد إذ يساعدنا على فهم مبادئ النقد الأدبي، فإنه في الوقت ذاته ينطوي على مساءلة لفرضيات ومناهج النظريات النقدية التي تتمحور حول مفهوم النقد. وإذا افترضنا أن النص الأدبي يمثل لغة أولى والنقد لغة ثانية، فيمكن أن نقول، قياساً على ذلك، إن نقد النقد هو لغة ثالثة.

رولان بارت

ويذهب العالم اللساني سوريش رافال (Raval Suresh) في كتابه الموسوم «نقد النقد» (Metacricism) إلى أن مصطلح نقد النقد مرادف للفلسفة، لأنه عندما ينهمك النقاد بمشكلات النقد والنظرية النقدية، فإنهم يعكفون على تحليل النظريات الأدبية للآخرين وبيان نقاط القوة والمحدودية فيها.

ويعود رافال إلى الفيلسوف الألماني عمانوئيل كانت، لأنه يعتقد أن كانت والكانتيين الجدد يوفرون خلفية ضرورية لدراسة قضايا النقد الحديث.

وعلى صعيد النقد العربي الحديث، يرى الناقد الجزائري حمزة بو ساجية أن نقد النقد جاء للنظر في تراكمات المنظومة النقدية، لتجعل من النقد موضوعاً لها وتسائله وتفحصه من أجل تجديد وتحديث مرتكزاتها النظرية وآلياتها الإجرائية، ويرى أن أي دراسة تجعل من نقد النقد موضوعاً للدراسة فإنها يلزمها العمل على تفكيك ذلك الفكر أو النقد الأدبي، واعتماد طريقة لمساءلته من خلال مقاربة الخطابات النقدية، وتفكيكها، والكشف عن خلفياتها، والحفر في مضامينها، وطريقة عمل آلياتها.

كانت

ويشير الباحث إلى أن النقد يجد نفسه في مواجهة ذاته. فالنقد هو خطاب على خطاب. فعلى المشتغل بخطاب نقد النقد أن يكون ملاحقاً لآثار الأول في الثاني، وسيرورة الثاني من خلال الأول. فالخطاب النقدي يشتغل على الخطاب الأدبي، أما خطاب نقد النقد فمدار اشتغاله الخطاب النقدي نفسه.

ويذهب الناقد العراقي الراحل باقر جاسم محمد، في دراسته الأكاديمية، التي نشرتها مجلة «عالم الفكر» الكويتية، إلى أن مفهوم نقد النقد يفتقد إلى الدقة والوضوح، وأنه يظل في الغالب أسير مفهوم النقد ذاته. ولذا يقترح مجموعة من المقترحات البديلة، للنظر إليه في ضوء خصوصيته. كما يدعو إلى توظيف مصطلح «ميتا نقد» بدل مصطلح «نقد النقد».

فمصطلح «Metahistory» مثلاً الذي يبتدئ بــ«Meta» مع كلمة تاريخ هي، على وفق ما ذهب إليه الناقد نورثروب فراي، المرادف لمصطلح فلسفة التاريخ، الذي يشير إلى المبادئ التي تتحكم في معرفة أي وضع تاريخي، ويرى أن مثالاً واضحاً لذلك يتمثل في منظور ماركس لـ«ميتا التاريخ»، أو فلسفة التاريخ، وهو أن التاريخ بكليته هو تاريخ للصراع الطبقي.

فالبحث في «الميتا» أو «الما وراء» هو أساساً بحث في الماهيات أو في جوهر الأشياء، كما أن البحث في الماهيات هو جزء أساسي من التفكير الفلسفي منذ أفلاطون وأرسطو وحتى اليوم. إذ تحدد الماهية معالم الجوهر في المثالية الأفلاطونية، إذ تتسم الماهية بديمومتها وعدم قدرتها على التعبير وأبديتها، ووجودها في كل عالم ممكن.

هذا ويعدُّ أرسطو أول من استخدم مصطلحي «هيولي» و«صورة»، إذْ حسب أرسطو تمتلك جميع الكينونات جانبي المادة والصورة، وتمنح الصورة المعنية المفروضة، المادة هويتها، أي ماهيتها أو لبها، أو ما يجعل المادة مادة.

ويعدّ أفلاطون أحد أول «الماهويين» الذين افترضوا مفهوم الصور المثلى أو الكينونة المجردة التي تكون فيها المواضيع المنفردة مجرد نسخ طبق الأصل عن بعضها البعض.

هذا وتشمل «الماهوية»، أي فلسفة مسلّمة بأسبقية «الماهية»، أي عكس «الوجودية» التي تفترض الوجود، ولذا تتعارض «الماهوية الميتافيزقية» مع «الواقعية الوجودية».

ومن هنا ينبغي تناول الأنطولوجيا «الماهوية» من منظور ميتافيزيقي، ومن الضروري التوافق عند دلالة الهيولي. فالهيولي في ذاته لا صورة له ولا صفة، لذلك يحتاج إلى الصورة لكي تجعله يوصف ويظهر وتتحدد معالمه أو ماهيته.

ويشير الناقد سوريش رافال في كتابه «نقد النقد» إلى أن البادئة «Meta» من البادئات الشائعة الآن، في مرحلة ما بعد الحداثة. إذْ يرى رافال أن مصطلح «نقد النقد» هو إلى حدٍ كبير مرادف لمصطلح الفلسفة، وعندما ينهمك النقاد بالتحليل الفلسفي للنقد والنظرية النقدية فإنهم يقومون بعملية «نقد النقد».

ولذا فإن «نقد النقد» باختصار هو استقصاء حول فرضيات ومناهج النظريات النقدية وبالقضايا المتعلقة بالمواقف النقدية، ومنها فحص منطق البحث النقدي، بشكل خاص.

وفي مساجلة أخرى. يرى الناقد باري.أ. ويلسون في الموسوعة النظرية الأدبية أن «نقد النقد» في الاستعمال الراهن يقوم بفحص النظريات أو المداخل النقدية المؤدية إلى المعنى النصي، وعلاقات «المؤلف - النص - القارئ»، والمعايير التي ينبغي الحكم بها على النصوص والمنتجات الثقافية الأخرى، وأحياناً يُشار إلى «نقد النقد» بوصفه هرمنيوطيقا، أو بوصفه «ما وراء التفسير»، حيث تلعب قضايا التفسير دوراً رئيساً في «نقد النقد». ويرى الناقد أن من القضايا التي يقوم بها «نقد النقد» مسألة التركيز على المنهجية.

وظيفة النقد الأساسية هي محاولة وصف وتحليل وتقييم الأعمال والنصوص الإبداعية

ويذهب الناقد إلى أن أصول نقد النقد ترجع إلى الفكر اليوناني القديم، وابتدأ في زمن كان يتم فيه التشكيك في العقيدة الأولمبية التقليدية، أو نصوصها الداعمة مثل أشعار هوميروس وهسيود. وكان أفلاطون قد رفض في كتابه «الجمهورية» الكثير من الأدب اليوناني من زاوية نظر شبه أخلاقية وقيمية.

ويرى الناقد بري.ا. ويلسون أن المدخل الهرمنيوطيقي لنقد النقد، يؤكد تعدد التفسيرات بالنسبة للمفسرين، وعلى وفق المرحلة التاريخية التي يعيشون فيها.

وتذهب موسوعة النظرية الأدبية المعاصرة إلى أن «نقد النقد» هو خطاب نظري عن طبيعة وغايات النقد الأدبي، وأن مهمته هي الفحص النقدي للنقد، ومصطلحاته التقنية، وبنيته المنطقية، ومبادئه وافتراضاته الأساسية، وما يستتبع ذلك بنطاق أوسع، لخلق نظرية ثقافية.

وكما أشرنا تواً فإن أصول «نقد النقد» ترجع إلى الفكر اليوناني، عندما رفض أفلاطون في كتابه «الجمهورية» كثيراً من الأدب اليوناني الكلاسيكي.

وإذا ما كانت اتجاهات ما بعد الحداثة قد أبدت اهتماماً خاصاً بمفهوم نقد النقد، فإنها حاولت أن تضفي عليه مسحة فلسفية بسبب تركيزه على تفكيك الماهيات، وهو ما دفعنا في قراءتنا الحالية إلى تبني المقاربات التي تتعامل مع نقد النقد بوصفه خطاباً فلسفياً.