معظم النظريات النقدية الرومانسية، مثلاً، التي ترى أن الشعر هو تعبير عن الذات، وبعض النظريات التأويلية والنقدية الحديثة تؤكد ملكية المؤلف الشرعية للمعنى تمثل عملية البحث عن المعنى في الشعر، أو بشكل أدق المعنى الشعري، إشكالية كبيرة وخلافية في النقد الحديث. ترى أين يتموضع المعنى داخل القصيدة؟ وكيف يتسنى للقارئ التقاط هذا المعنى واقتناصه؟ يحاول الناقد الفرنسي رولان بارت الإجابة بصورة غير مباشرة عن مثل هذا التساؤل فهو يرى «إن المعنى ليس له معطىً في بداية النص، ولا في نهايته، وإنما يتم الإمساك به من خلال النص كله. (سيميولوجيا الشخصيات الروائية، فيليب هامون، ص88)
لو راجعنا مسيرة النقد الأدبي، لوجدنا أن المعنى عرضةً للتنازع من قبل ثلاث سلطات هي: سلطة المؤلف، وسلطة النص، وسلطة القارئ. وكل من هذه السلطات تزعم أنها صاحبة الحق الشرعي في امتلاكه والحديث باسمه.
فمعظم النظريات النقدية الرومانسية مثلاً، التي ترى أن الشعر هو تعبير عن الذات، وبعض النظريات التأويلية والنقدية الحديثة تؤكد ملكية المؤلف الشرعية للمعنى، بوصفه منتج النص الذي أودع فيه أسراره من خلال «قصدية» معينة.. وربما يمثل الناقد هيرش، أحد أبرز النقاد الحداثيين المدافعين عن حق حيازة المعنى من قبل المؤلف. وكما يبين الناقد وليم راي في كتابه «المعنى الأدبي من الظاهراتية إلى التفكيكية «أن هيرش يهدف إلى إعادة تثبيت معنى المؤلف على أنه مبدأ معياري، يعتمد عليه الجهد الجماعي للتأويل، وأن أفضل معيار يمكن اعتماده هو الفعل الأصلي الذي أراد به المؤلف معنى محدداً. (المعنى الأدبي من الظاهراتية إلى التفكيكية، وليم راي، ترجمة د. يوئيل يوسف عزيز، (بغداد، ص- 103 - 104 1987)
إلا أن أغلب الاتجاهات البنيوية كانت تميل إلى عد «النص» المالك الشرعي للمعنى، بعيداً عن سلطتي المؤلف والقارئ. فالنص الأدبي هو مستودع الأدبية والشعرية، وهو بالتالي المساحة الحرة التي يتحرك فيها المعنى الأدبي أو الشعري.
ومثل ظهور سلطة القراءة، بمثابة رد فعل ضد سلطة المؤلف. وعندما أعلن رولان بارت عن مفهوم «موت المؤلف» أشار إلى أن موت المؤلف يعني ميلاد سلطة القارئ: «إن ميلاد القارئ رهين إعلان موت المؤلف». (النقد والحقيقة، رولان بارت، ترجمة د.منذر عياشي، دمشق 2019 ص87)
ولا يمكن النظر إلى اتجاهات القراءة والتلقي بوصفها تمثل مدرسة واحدة منسجمة، بل هناك العديد من وجهات النظر تجاه فاعلية عملية القراءة، ومنها الانطلاق إلى درجة كبيرة من المنظور الفلسفي الفينوفيولوجي أو الظاهراتي الذي يركز على الفعل الذاتي للمتلقي. ويعد الألمانيان آيزر وياوس أبرز منظري اتجاهات القراءة والتلقي. وبشكل عام تؤمن مختلف هذه الاتجاهات بأن القارئ هو المنتج الحقيقي للمعنى.
ومن الجانب الأخرى تعنى الدراسات الثقافية بتقديم تصور «أن المعنى، كما يشير (كريس باركر) في «معجم الدراسات الثقافية» يعد من أهم التصورات داخل الدراسات الثقافية، فالثقافة مؤسسة على مفاهيم خرائط المعنى، والمعنى المتشارك أو المتنازع عليه، كما ركزت هذه الدراسات على التقاطع بين السلطة والمعنى ومن ثم، فالأفكار المفتاحية مثل الآيديولوجيا والهيمنة والخطاب تعتمد بعض الشيء على مفهوم المعنى (معجم الدراسات الثقافية، كريس باركر، ترجمة جمال بلقاسم، منشورات رؤية القاهرة 2089. ص333) ومن جهة أخرى فإن ديريدا يذهب إلى أن المعنى لا يمكن العثور عليه في كلمة مفردة، أو عبارة واحدة، ولكن نتيجة مجموعة من العلاقات بين النصوص، وهذا ما يسمى بالتناص». (المصدر السابق ص335) ونجد ديريدا يشكك بثبات المعنى وأنه لا يوجد مصدر أولي للدلالة، ولا معنى شفافاً يمتلك حضوراً ذاتياً، بل بالأحرى، المعنى منزلق دائماً تحت سلسلة من الدوال المخلخلة لاستقراء المدلول، ومن ثم، يحاول ديريدا أن بفضح لا يقينية المعنى». (المصدر السابق 335)
وسبق للناقد (هيرش) وأن ميز بين مصطلحين أساسيين هما، مصطلح المعنى المتماهي مع هدف المؤلف القصدي، ومصطلح الدلالة المتماهي مع المعنى اللغوي الكلي للنص، ضمن علاقته بسياق أكبر. (حول التفكيكية، جوثان كولر». (بالإنجليزية، ص76)
ويقيم الناقد ميشيل ريفاتر بدوره تمييزاً آخر بين هذين المصطلحين المتقاربين، إذ أن مصطلح المعنى بالنسبة له يقتصر على المعلومات التي يبثها النص على صعيد المحاكاة، بينما تكمن الدلالة في النص. (سيميوطيقاً الشعر، دلالة القصيدة، ميشيل ريفاتير، ترجمة فريال جبور غزال، في «مدخل إلى السيميوطيقا»، إشراف سيزا قاسم ونصر حامد أبو زيد، القاهرة 1986 ص215)
ويميل الناقد العربي، بشكل عام، إلى تجنب إقصاء المعنى أو حصره داخل البنية اللغوية. إذ ينتقد الناقد سعيد يقطين قصور التحليل الشكلاني عن إقامة تحليل دلالي متكامل، لذا فهو يضع على عاتق سوسيولوجيا النص الأدبي مهمة الإجابة عن الأسئلة المتعلقة بالدلالة وإلى تجاوز وعي الستينات والمرحلة البنيوية التي لم يبق ما يسوغها، عملياً ونظرياً. (انفتاح النص الروائي، النص - السياق - سعيد يقطين، بيروت 1987.ص 34)
ومع أن الناقد كمال أبو ديب يؤكد انطلاقه من رؤيا بنيوية خاصة به، لكنه لم يقتصر على دلالة البنية اللغوية فقط، وإنما كان يدعم تأمله النقدي بأبعاد خارج نصية، تؤكد على الوظيفة المعرفية والاجتماعية للخطاب الشعري، وطور تصوراً خاصاً بذلك من خلال تأسيس ما أسماه «نظرية بنيوية للمضمون الشعري» (جدلية الخفاء والتجلي، كمال أبو ديب، بيروت 1979، ص279.)
والناقد حاتم الصكر، هو الآخر كان يحرص دائماً على تطوير منهج خاص به في قراءة الخطاب الشعري يقوم على آليات نظرية القراءة والتلقي، لكنه كان لا يهمل دور الشاعر في إنتاج الدلالة، ولا يسقط تأثير السياق الاجتماعي الخارجي. (الأصابع في موقد الشعر، مقترحات لقراءة القصيدة، حاتم الصكر، بغداد 1986 ص312)
ومن هنا نرى أن مفهوم «المعنى» أصبح الشغل الشاغل للنظرية النقدية، وقضية خلافية كبرى بسبب هذا التنازع بين أطراف عملية التواصل الأساسية: (الشاعر) بوصفه باثاً أو مرسلاً، و(القارئ) بوصفه متلقياً، و(النص) بوصفه بنية لسانية وسيميائية مشفرة تنطوي على مقومات الشعرية الداخلية. لذا فقد كان الدكتور عبد الله الغذامي على حق عندما أعلن في ندوة تفاعلية أقامتها معه مجلة «الأقلام» العراقية مؤخراً بأن مفهوم المعنى يمثل أخطر مؤسسة ثقافية في النقد الأدبي، وأنه يميل إليه أكثر من ميله إلى مفهوم مقارب آخر هو مفهوم «الحقيقة» الفلسفي. ومن المعروف أن مفهوم المعنى يتداخل مع مفهوم (الحقيقة) من جهة ومفهوم (الفهم) من جهة أخرى في الدراسات التأويلية (الهرمنيوطيقية) والفلسفية لدرجة كبيرة، ولذا فمن مصلحة النظرية النقدية الأدبية التركيز على مفهوم المعنى، وقرينه مفهوم الدلالة، وتجنب الانجرار إلى مفهوم الحقيقة الفلسفي الذي قد يقود إلى تأويلات ومتاهات ميتافيزيقية أو شكلانية لا نهاية لها.
ومن المعروف أن هدف التأويل، في البداية، كان يتراوح بين محاولة استنطاق المعنى الذي يقوله المؤلف، وبين ما يفهمه القارئ. وكان هناك من يرى أن هدف التأويل يجب أن ينصب على النص ذاته. وللتخلص من مأزق التفسير الأحادي يقترح (غادامير) توظيف مفهوم «انصهار الآفاق «حيث ينصهر أفق عالم القارئ بأفق عالم الكاتب. (نظرية التأويل: الخطاب وفائض المعنى، بول ريكور، ترجمة سعيد الغانمي، بيروت، 2003، ص146)
وأشار الفيلسوف (دلثاي) إلى أن مفهوم الحلقة أو الدائرة الهيرمنيوطيقية يذهب إلى أن من أجل فهم أي وحدة لغوية، لا بد لنا وأن نتعامل مع هذه الأجزاء، وعندنا حس مسبق بالمعنى الكلي، لكننا لا نستطيع معرفة المعنى الكلي إلا من خلال معرفة مكونات أجزائه. (دليل الناقد الأدبي، د.ميجان الرويلي ود.سعد البازعي، المركز الثقافي العربي، بيروت 2007، ص89)
وللخروج من أزمة التنازع حول ملكية المعنى بين المؤلف والقارئ والنص، فقد سبق لي وأن اقترحت في ورقة نقدية تحت عنوان «من سلطة النص إلى سلطة القراءة» ألقيتها في إحدى دورات مهرجان المربد، ونشرت حينها في مجلة الأقلام العراقية في نهاية الثمانينات من القرن الماضي إلى تقديم قراءة نقدية شاملة للنص، وليست أحادية الجانب، قراءة توازن بين سلطة المؤلف وسلطة القارئ وسلطة النص فضلاً عن اعتماد شبكة العلاقات السياقية المقترنة بالنص بوصفه ظاهرة اجتماعية وتاريخية مشروطة. لكن علينا الاستدراك إلى أن الركون إلى أن تحقيق ذلك مرهون من خلال تحقيق مزاوجة خلاقة لأدوات التحليل النصي الداخلي، وآليات التحليل السياقي الخارجي، للوصول إلى قراءة شاملة للنص الأدبي أو للظاهرة الثقافية. (اللغة الثانية: في إشكالية المنهج والنظرية والمصطلح، في الخطاب النقدي العربي الحديث، فاضل ثامر، المركز الثقافي العربي، بيروت 1994، ص41 - 63)
ومن هنا يمكن القول بأن ميراث المعنى يظل هدفاً مركزياً تحاول مختلف السلطات الوصول إليه وامتلاكه، وأن الحديث عن انتفاء المعنى في النص الشعري، وعدم لزوميته، والزعم بوجود قصيدة اللامعنى، هو مجرد خيال بعيد عن الواقع، ذلك أن الإنسان بطبيعته يبحث عن المعنى الذي يحاول أن يتلمسه في كل مظهر نصي أو حياتي. فلا نص بلا معنى، ولا قصيدة بلا معنى ما، حتى وإن كان هذا المعنى، متشظياً أو شبحياً أو افتراضياً، أو قد يكتنفه الغموض والإبهام والغياب، حيث إن جدلية العلاقات بين العناصر الحضورية والغيابية في النص أو ما يسميها د.كمال أبو ديب بـ«جدلية الخفاء والتجلي» أو ما أسماها تودوروف ثنائية الحضور والغياب تؤكد حضور المعنى في النص الشعري بوصفه معنىً شعرياً خاصاً، يختلف جذرياً عن مفهوم المعنى في النص النثري.
إشكالية المعنى... بين المؤلف والنص والقارئ
عُرضة للتنازع من قبل 3 سلطات
إشكالية المعنى... بين المؤلف والنص والقارئ
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة